|
في تحليل الخضوع للسلطة والدين .. مدخل سيكولوجي
عادل القلقيلي
الحوار المتمدن-العدد: 3964 - 2013 / 1 / 6 - 02:18
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا شك أن العلاقة بين الدين والسلطة ليست حديثة العهد، ولا تقتصر على الشكل الحالي المعروف للدول والنظم السياسية الحاكمة فيها، بل هي علاقة قديمة جداً، تعود إلى بداية نشوء المجتمعات البشرية نتيجة لعوامل عديدة يحاول المقال عمل مقاربة نفسية لها نظرا لأهيمتها البالغة وخصوصا في ظل ثورات الربيع العربي التي تشهد تحولا تاريخيا في شكل المجتمعات العربية وعلاقة الفرد بالسلطة الحاكمة في هذه الدول. بداية، لا بد من الإشارة إلى أن المقصود بالأديان في هذا المقال هو نمط معين منها وهي التي عرّفها "ايريك فروم" بـ "الاديان التسلطية"، حيث جوهرها هو الخضوع لقوة عليا، والفضيلة الأساسية فيها هي الطاعة، والخطيئة الكبرى هي العصيان (1). وينطلق فروم من هذا التصنيف إلى مفهوم أشمل للدين من حيث أنه عبادة أشكال متعددة من القوى العليا، فقد تكون هذه القوة المعبودة أحيانا "إنسانا مقدَّسا" يمثل رأس هرم السلطة الحاكمة في أغلب الاحيان، حيث يتحول هذا الانسان إلى رمز للقوة المطلقة التي تكافئ الناس وفق طاعتهم وولائهم وتعاقب بالمقابل على الحد الأدنى من المعارضة أو حتى التقصير في إبداء الولاء والطاعة.
ولفهم طبيعة هذه العلاقة بين الانسان ومعبوده، لا بد من البحث في أسباب لجوء الإنسان إلى هذه القوى العليا التي اخترعها بنفسه، ثم خضع لها بكامل إرادته، فقد وجد الإنسان نفسه منذ الأزل تائها على وجه الأرض، خائفا من غموض الطبيعة، باحثا عن حقيقة وجوده وبالتالي باحثا عن من يمتلك هذه الحقيقة ومرتبطا معه بعلاقة من الامتنان والتقدير والخضوع، ويقول "روسو" في ذلك: "إن من طبيعة النفس البشرية أن تحب ذاتها، فكيف لا تقدس تلقائيا من يرعاها ويسدي لها الخير؟!" (2)
باختصار، يمكن القول إن الإنسان يهرب من خطر الطبيعة الذي يهدد وجوده بإحدى طريقتين: عبادة اله كلي القدرة والذي بدوره يكافئ عبده بتأمين الحماية له، أما الطريقة الثانية فهي أن يخضع الإنسان لسلطة إنسان آخر يؤمـِّن أيضا له الحماية، حيث يمثل رمزا للقوة التي يستمدها باعتباره ممثلا لقوة مجموعة الأفراد الذين قاموا بتنصيبه زعيما عليهم، حيث اعتبر "لوبون" أنه بمجرد اجتماع عدد من الكائنات الحية (سواء كانوا حيوانات أو بشرا)، فإنهم يضعون أنفسهم بشكل غريزي تحت سلطة زعيم ما أو قائد محرِّك للجماهير (3) . يمثّـل هذا القائد، حسب فرويد، الأبَ البدائيَ مُهاب الجانب وهو المثال الأعلى للفرد، حيث يهيمن عليه بعد أن يحتل مكان مثال "الأنا" لديه، والجمهور يرغب على الدوام في أن تهيمن عليه قوة لا محدودة، وهو نهم أقصى النهم إلى هيبة السلطة (4).
وفي تفسيره للدين اعتبر فرويد أن الأب يشكل بالنسبة للطفل خطرا بحد ذاته، (ربما بسبب علاقته البدائية بالأم)، ولذلك فهو يوحي بالمهابة والخوف بقدر ما يوحي بالحنين والإعجاب، وتترك هذه الازدواجية بصمتها على الأديان كافة، فحين يدرك الطفل (وهو يشب و يترعرع) أنه مقضي عليه أن يبقى أبد حياته طفلا، وأنه لن يكون بمقدوره أبدا أن يستغني عن الحماية من القوى العليا و المجهولة، فإنه يضفي على هذه القوى قسمات وجه الأب، ويبتدع لنفسه آلهة يخشاها و يسعى إلى كسب عطفها ويعزو اليها مهمة حياته (5).
إن علاقة التماهي(6) بالأب هذه تمثل مدخلا لفهم علاقة الفرد بالسلطتين السياسية والدينية، حيث نلاحظ في المجتمعات المحكومة بنظام استبدادي أن الفرد يتماهى تماما بالطاغية الذي يعتبره مثالا للسلطة والقوة والحزم، تماما كما يتماهى المؤمن بالاله الذي يمثل بالنسبة له أيضا رمزا للحكمة والقدرة اللامحدودة والرحمة. وتتميز العلاقتان السابقتان دائما بثنائية الترغيب-الترهيب، فالفرد يخضع في كلا الحالتين لأوامر "معبوده" طمعاً بمكافآته وعطاياه وتقديم الحماية له من أعدائه ومن أخطار الطبيعة، كما أنه يمتنع عن نواهيه خوفا من العقوبة أو فقدان الأمن والحماية. وتزول شخصية الفرد تماما في الحالتين السابقتين حتى يصبح على استعداد للتضحية بنفسه و بغيره في سبيل "معبوده"، وتجد المقموع يبالغ في إبداء محبته لطاغيته إلى حد الوصول لدرجة من العشق، فيسبغ عليه صفات المحبوب و ينشد له أغاني الغزل وأبيات المديح بشكل يحاكي، إلى حد كبير، انتقال َ المؤمن بالله الى حالة من التصوف والنشوة في تمجيده والتلاشي أمام عظمته و الذوبان فيه.
وللحديث عن نتائج هذا الخضوع المطلق للسلطة على المجتمع، لابد من الإشارة بشكل أساسي إلى نتائجه على المرأة، ونستعين هنا بتحليل د.مصطفى حجازي في كتابه عن "التخلف الاجتماعي"، حيث اعتبر أن الرجل المقهور، ونتيجة لفقدان كرامته و إحساسه الدائم بالعار، فإنه يُسقِط هذا العار بشكل أساسي على المرأة التي يعتبرها موطن الضعف و العيب، فيربط شرفه و كرامته كلها بأمر جنسي ليس له أي مبرر من الناحية البيولوجية المحضة (اي الحياة الجنسية للمرأة)(7). نلاحظ ذلك ايضا في كثير من المجتمعات الدينية حيث يشعر الرجل بالعار نتيجة خطاياه ومعصيته لأوامر القوة العليا التي يعبدها، لكن هذا الشعور لا يمنعه من تكرار الخطيئة، بل يقوم بدلا عن ذلك بإسقاط عاره على المرأة التي يعتبرها موطن شرفه، وعورة يجب سترها، فينصِّب نفسه وصيا عليها، ما يبرر له تملكها وقمعها جسديا ونفسيا ً وفق ما تتيح له تعاليم دينه و قوانين الدولة. بالمقابل، فإن رد فعل المرأة يكون بشكل مشابه تماما لرد فعل الرجل على القهر السياسي والاجتماعي، أي أنها تتماهى أيضا مع القوة الذكورية المتسلطة، فينتهي بها الأمر وهي تشعر بالذنب والعار كونَها أنثى وتقتنع بدونيتها عن الرجل وعدم قدرتها على موازاته، وبدورها تقوم هي أيضا بإسقاط هذا القمع على من هم أضعف منها من بنات جنسها، وهكذا يدخل المجتمع في دوامة التخلف عبر سلسلة لا نهاية لها من إسقاطات القمع والاضطهاد بين الأفراد. إن معرفة سيكولوجية الإنسان المقهور تعتبر على قدر كبير من الأهمية في تفسير ظاهرة العنف الديني والتطرف الأصولي المنتشر في المجتمعات المتخلفة، حيث أن فشل تحقيق الذات يولد أشد المشاعر إيلاما للنفس، وأقلها قابلية للكبت والانكار، والتي بدورها تفجر عدوانية شديدة تزداد وطأتها تدريجيا حتى تصل إلى حد الإسقاط على الآخرين، حيث لا يستطيع المقهور تحمل كامل الذنب بمفرده فيحمّله للآخرين، وبذلك يحولهم إلى مصدر للعدوانية ما يبرر له فيما بعد الاعتداء عليهم، حيث يصبح هذا الاعتداء مشروعا ً بالنسبة له لأنه يتخذ طابع الدفاع عن النفس. (8)
إن الآثار السابقة الناتجة عن التخلف الديني ترتبط بعلاقة سببية مباشرة مع شتى السلبيات الأخرى التي تظهر في المجتمع المقهور سياسيا ً واجتماعيا، وقد اعتبر فرويد أن كبت التفكير النقدي للدين يؤدي إلى إفقار قدرة الإنسان النقدية في شتى مجالات الفكر، ولذلك تحرص الأنظمة القمعية دوما على تلقين أطفال المدارس مناهج تعليمية ترتكز على ايديولوجيا واحدة تؤطـّر تفكير الافراد وتمنع الاطّلاع على الثقافات الأخرى وتحتوي غالبا على منهج ديني واحد دون الأديان الأخرى، وهذا ما يجعل المجتمعات المتخلفة مغلقة على نفسها ثقافيا واجتماعيا، ينتقل فيها الدين من الآباء إلى الأبناء بطريقة شبه وراثية و يُـعـتَـبَر الحديث عنه من المحظورات كما يعتبر الخارج عن دين المجتمع مرتدا قد تصل عقوبته الى القتل أحيانا.
أخيرا ً، وبالعودة إلى نظرية فرويد عن "التثبيت الطفولي" لفكرة الأب، يمكننا القول بأن الثورة هي في الأساس تمرد ٌ على هذا التثبيت، فكما يتخلص الطفل من التماهي مع والده بالانتقال إلى منافسته أو حتى الرغبة في تملكه، كذلك فإن التمرد على الاضطهاد السياسي والديني يبدأ بالتخلص من التماهي مع الطاغية - الاله والاستقلال عنه ومن ثم الاستيلاء على السلطة التي تتمثل في هذا الاله وبالتالي تمثل ذات المتمرد الضائعة والمهدَدة مع انهيار السلطة السابقة، ولا شك أن هذا التمرد يسبقه فترة طويلة من التردد نتيجة الخوف من التحرر من السلطة الأبوية وما يترتب على الخروج المفاجئ من وصايته بما في ذلك فقدان الرعاية والحماية والمكافأة، ولعل ما يحدث في هذه الفترة يمكن أن يعين على تفسير بعض الحالات التي تحدث فيها بشكل مفاجئ وسريع عودة الانسان للخضوع الى السلطة السياسية والدينية وتمجيد رموزها بعد التمرد عليها والتحرر منها، حيث يحدث في هذه الحالات نكوصٌ (9) إلى مرحلة متأخرة من التماهي مع الاله أو الطاغية المعبود، وقد يعلل ذلك بمرحلة الفوضى المؤقتة التي يمر بها المتمرد وشعوره بالقلق وانعدام الأمن والخوف من المستقبل، تماما كما يحدث للطفل الذي يترك بيت أبيه ويواجه بمفرده صعوبة الحياة و قسوتها، ولكن غاية التطور الإنساني في النهاية هي أن يتغلب الإنسان على هذا "التثبيت الطفولي"، والانسانُ الذي يستطيع تحرير نفسه من سلطة التهديد أو الحماية هو وحده من يستطيع استخدام عقله بحرية وإدراك وجوده في الكون ووظيفته فيه.
الهوامش : (1) ايريك فروم، الدين والتحليل النفسي، (القاهرة:دار غريب،ط 1-1992)، ص 36 (2) جان جاك روسو، دين الفطرة، (الدار البيضاء:المركز الثقافي العربي، ط1-2012)، ص50 (3) غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، (دار الساقي، ط 1-1991)، ص 127 (4) سيجموند فرويد، علم نفس الجماهير،(بيروت:دار الطليعة، ط 1-2006)، ص 115 (5) سيجموند فرويد، مستقبل وهم، (بيروت:دار الطليعة، ط 4-1998)، ص 33 (6) تماهي Identification (7) د.مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي : مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، (الدار البيضاء:المركز الثقافي العربي، ط 9-2005)، ص47 (8) المصدر السابق، ص51،52 (9) نكوص (تـقهقر) Regression
#عادل_القلقيلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|