|
في وقت الحصار والنكبات على العراق
ثائر البياتي
الحوار المتمدن-العدد: 3963 - 2013 / 1 / 5 - 15:30
المحور:
سيرة ذاتية
بعد غيابي عن العراق لأكثر من ثلاثة عقود وصلتني رسالة من صديق عزيزعليّ، مرفقة مع صور تضمني وبعض الأصدقاء، يعود تاريخها الى سبعينات القرن الماضي. التـَقـَطت ْ الصور على ضفاف نهر ديالى وفي بساتينها الخلابة، ورغم ضبابية الصور وفقدانها لبريقها ولمعانها، مـَيزت ُ نفسي والأصدقاء من حولي، فكأن عجلة الزمن أصبحت ْ تـُرجعني الى الوراء، فـَبـَدأت ْ أتعابي تـَتـَبدد وهمومي تزول، وها هو حلمي يتحقق اليوم في عودتي الى أيام شبابي وصبايّ، ولو لبرهة قصيرة، ولكن ما ان توغلت ُ في قراءة سطور الرسالة، حتى بدأ الأسى يعصرني والحزن ينتابني، فأحد الأصدقاء الذين ظهروا في هذه الصور قد قـُتـِل في أحد الحروب الهوجاء التي شنتْ في عهد النظام الدكتاتوري السابق والأخر تـَأسـَرَ والثالث دخل السجن، وأثنان هربا خارج الوطن، فلـمْ يـَبق َ ممن ظهروا في الصور ِ على قيد الحياة في العراق، غير صديقي الذي أرسل ليّ رسالته هذه. بدا ليّ صديقي وكأنه حـَي ٌ يرزق أتى من عالم الأموات. فيا ليتني لم ْ أقرأ رسالته ُ المثقلة بأوجاع ِ الحروب والمحملة بالآم الحصار والأحتلال، ويا ليتني لمْ أسمع بفقدان هؤلاء الأحبة والأصدقاء في تلك الظروف القاهرة. ولما أنتهيتُ من قرأة الرسالة، وانا لا زلت ُ مسترخ ٍ على سريري، بدأت الأفكار تتصارع أمامي وتتضارب في مخيلتي. كيف يا ترى أحوال مـَن ْ لم أسمع عن أخبارهم في هذه الرسالة؟ وهل انهم لا زالوا أحياء يرزقون؟ والسؤال الأكبر الذي بدأ يدور في فكري هو: ما الذي يجعل أبناء بلادي تعساء في حياتهم، يلاحقهم الظلم والطغيان والحرب والحصار والأحتلال في كل الأزمان؟ بسفرة أثيرية حـَلـَقـت ْ روحي في أعالي السماء، لتعبر البحار وتجتاز المحيطات، لتصل الى وطني العراق وهو في عهد الحصار، فمررت ُ فوق َ الصحارى والسهول والهضاب، أجتزت ُ قمم الجبال والوديان، شاهدتُ قصورا ً فارهة، ومبان ٍ شاهقة، سكانها من الأفاعي السامة والضباع المفترسة والذئاب الكاسرة، الذين هجموا علنا وخلسة على بلادي، فنفخوا السـُم َ في سمائها ووضعوا العلقم في طعامها، وَقــَطـَعوا الماء عن أرضها، وجعلوا من أبنائها أعداء يتقاتلون فيما بينهم، أو مهاجرين أذلاء، يعيشون غرباء في كل مدينة مررت في ربوعها. رأيت ُ طيورَ بلادي، هـَجـَرت ْ أوكارها، كئيبة ٌ، صامتة ٌ، أنهكها الجوع والعطش، تشكو حالها وبؤس زمانها، فـَتـَوقـَفت ْ روحي معها قليلا لتتأمل أحوالها، فـَعـَرفت ُ من حزنها ان أعشاشها تـَهـَدمت ْ، وَمـِنْ عـَطـَشـَها أدركت ُ أن أنهارَ بلادي جـَفتْ، وَمـِن ْ جوعها تيقنت ُ ان أسماكها نـَفـَقـت ْ، وَمـِن ْ صَمتها علمت ُ أنها حـَلت ْ في بلادٍ لا يجيدون َ لغتها، فـَنـَست ْ أغانيها وأناشيدها المحببة لتغدو لغة البكاء والحنين، فـَبكيت ُ لحالها وبكت ْ لحالي، حتى باشرتُ برحلتي. عند َ دخولي أجواء َ سماءَ بلادي، وجدت ُ أعمدة َ الدخان ِ تعالت ْ في قبابها، شاهدت ُ نهرَ ديالى قد هـَرِم َ وَشـَاخَ، قـَصـُرَ طوله ُ وانكمشَ عرضه ُ، فالحصار شمل َ أرجاءه ولم ْ يبق َ في ضفافه ماء ولا زرع، شاهدت أشجار النخيل فيه تتمايلُ وتتراقص، كأنها تـَستعطف ُ رب َ الكون ِ، عسى أن يرحم َ بحالها بقطرات ِ ماء ٍ عذبة تروي عطشها، ولـَمْ أجد أشجارَ الليمون ِ والبرتقال يانعة لأشم َ رائحة قداحها، ولا أزهارَ الأقحوان ِ والياسمين باسمة لأستنشق َ رحيقها الذي كان يملأ الأرض زهوا ً وجمالاً. رفعتُ يدي الى السماء ِ وناديت: يا إلهي، أين رحمتك وأحسانك؟ فها هو الحصارُ والدمارُ قائم ٌ في أنحاء بلادي والناس ان لم يموتوا جوعا ً ومرضا ً، فهم بحد ِالسيف ِ يـُقـتـَلون. أن كنتَ يا مولاي لا تسمع ُ دعوة الطير والشجر، فهل تنسى دعوة البشر؟ فلما تلاشت ْ دعواتي في أرجاء ِ السماء، وجهت ُ نظري الى الأرض ِ لأكرر دعواتي من جديد. فـَشَاهدت ُ عيونَ الأيتام ِ تتأملني، وعيونَ الأرامل ِ تناجيني وآهاتَ الجياع ِ والمظلومين تسترحمني. فـَتساءلتُ: لماذا الحصارُ قائمٌ في بلادي والمأساة مستمرة؟ فأجابني صـَوتٌ أثيري ٌ: ما مآساة بلادكم الا صورة من مآساة بلاد الشرق برمته، وما دموع ودماء أهلكم الا قطرات من دموع ودماء تلك الأوطان. بهذه الكلمات القصيرة العميقة ، تـَرآى ليَّ وكأن روح جبران خليل جبران تـَـقــَمـَصتْ في ذلك الصوت السماوي المنبعث، ولا غرابة بذلك، فجبران، الشاعر والفيلسوف، لـَم ْ يـَمت ْ، تـَحومُ روحه حولنا، يسكن في قلوبنا، هو خير لسان ٍ لآلامنا ومآساتنا الخرساء. وجدتها فرصة نادرة ان أشـَدد من عزمي وارفع من همتي لمواصلة تساؤلاتي، لأستزيد نورا ومعرفة. فـَوجهتُ نفسي نحو منبع الصوت وقلتُ: أنها لنكبة عظيمة. ولكن ما مصادر نكباتنا ومأساتنا؟ فأجابني مرة أخرى الصوتُ الأثيري : الجهل والتخلف وأوهام عقائدكم، منابع بؤسكم وسر شقائكم. إخترقت ْ هذه ِ الكلماتُ مسامعي كالنبال الموجهة، وإجتاحت ْ كياني كالزلازل المدوية، فأفقت ُ من غيبوبتي كالمجنون ونهضت ُ من مضجعي مرتعشا ً، مذهولا ً، كأن َ الصوت الأثيري أيقضني من نوم ٍ عميق وسبات أمتد لأكثر من ألف عام ٍ، وسط نهار شمسه مشرقة وسماءه صافية. وها أنا رجعت ُ من سفرتي الأثيرية الى أرضنا الطيبة، بكامل قواي العقلية، لأخاطبكم يا أهلي المساكين، بأسلوبٍ قلما سـَمعتموهُ من قبل وان وصل َ الى مسامعكم، حـَرَّفتم مقاصده وغـَيـَّرتم معانيه، لتبقوا على ما أنتم عليه من ضلال وضياع. فيا أحبتي إعلموا، ان الجهلَ والتخلفَ عدوكم الحقيقي يـَركنُ في ذواتكم، يـَتـَحكم ُ في عقولكم، يـَجعل ُ من وَضيعكم رفيعا ً، ومنْ بليدكم ْ ذكيا ًومِنْ ذليلكمْ المهزوم قائدا ً منتصرا، ومِنْ مـَعتوهـكم إماما ً دينيا ً مـُوَجـِها ً، تركعون َ له كالعبيد، تدقون له الطبول وتنفخون له الأبواق، تتوجونه ُ مـَلـِكـَا ً عليكم مـِنْ غـَير تاج، وأنتم جـُنده ُ وَحـَرسه ُ وسـَيفه ُ ورمـحه. أسيادكم أشدُ فتكا ً لأعراضكم وأكثرُ نهشا ً لأجسادكم، يـَسوقون َ بناتكم للبغاء ِ بفتوةٍ شرعية وأنتم ساكتون، يـَسرقون َ أموالكم وانتم فقراء، يأكلون َ طعامكم وأنتم جياع، يقودونَ شبابكم للموت ِ وأنتم شاكرون. حصاركم لم يكن واقعا ً ليعقبعه إحتلالكم، الا بعد ان أذلكمْ وأهانكمْ قائدكم الذي رفعتموه ُ على أكتافكم ووضعتموه ُ فوق رؤوسكم، ما جعلَ أعداؤكم أن يقولوا عن أحتلالاكم تحريراً، ولكنكم لستم أحرارا. فليس من محرر لكم سوى ذواتكم، ومفاتيحَ الجنة ِ التي وعـِدتم بها، لا تفتح أبواب حصاركم وأقفال أغلالاكم، بل أنتم تملكون مفاتيحها. فليكن قـَدَرَكم ومـَشيئتكم بعزمكم وقوتكم، وتوكلوا على أنفسكم، لا غيرها، لتحطموا قيودكم، لتخترقوا جدران ماضيكم واسوار معتقلاتكم، لتخرجوا من الظلمة الى النور، فتتحرر عقولكم من أوهامها وتتخلص أوطانكم من رجسها.
#ثائر_البياتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في رحيل الكاتب والصحفي صباح صادق كبوتة
-
العلاقات العربية التركية بين الماضي والحاضر
-
يا رئيس الوزراء العراقي مهلا ً في قراراتكم
-
من هم الذين يسيرون نحو الهاوية وهم نيام؟
-
تأمل في يوم -الغضب العراقي-
-
المرجو من السيد رئيس الوزراء العراقي إصدار قرار تجميد بيع وش
...
-
أرفعوا عبارة ألله أكبر من العلم العراقي
-
مجزرة كاتدرائية سيدة النجاة في بغداد
-
الدكتور كاظم حبيب في إنحيازه الأنساني والوطني للقوميات
-
الدكتور حكمت حكيم لم يمت
-
قانون الأنتخابات العراقية وأهمية المشاركة الواسعة في الأنتخا
...
-
الأنتخابات العراقية القادمة معركة وطنية فاصلة
-
قانون الأنتخابات العراقية وضرورة المشاركة في الأنتخابات القا
...
-
الديمقراطية والعلمانية
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|