ابراهيم تيروز
الحوار المتمدن-العدد: 3962 - 2013 / 1 / 4 - 08:33
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
ان المتتبع اليوم للشأن التربوي لايسعه الا أن يشعر بالأسى و الألم لما باتت المؤسسات التعليمية "الوطنية" تشهده من تزايد في وتيرة العنف بها، خاصة منه العنف الموجه ضد المدرسين. وكأن مدارسنا وثانوياتنا صارت بمثابة محميات حيث يمكن للمراهقين المندفعين نحو الجنوح أن يخوضوا بها مغامراتهم الأولى في عالم الاجرام و ممارسة العنف، أو كأن مدرسينا اصبحوا بشكل أو آخر الملاذ الاجتماعي لامتصاص العنف الزائد في المجتمع. بل و ربما يصح القول أن الأمر غدا كما لو أن بنية السلطة في مجتمعنا ارتضت أن يصبح المدرس متنفسا للعنف الاجتماعي الداخلي و في الآن نفسه أن يكون هو ذاته مضطرا الى التخلي عن رسالته التربوية الوطنية و مكتفيا بتأمين سلامته الشخصية و البدنية في ظل هذا العنف المتزايد من حوله. هذا العنف الذي يتأكد يوما بعد يوم أن المؤسسة التربوية صارت عاجزة عن مواجهته. فقد بات اذن من الواضح ان الوضع يقتضي مراجعة جذرية لهيكل و لبنية المؤسسة التعليمية.
منذ مدة ليست بالقصيرة و المشاكل الأمنية التي تعترض الاساتذة العاملين بالقطاع في تفاقم، سواء في علاقتهم بشرائح معينة من المتعلمين بأقسام الثانوي او في علاقتهم بمحيط بعض المؤسسات التعليمية. و الأدهى ان الاستاذ اصبح يمثل الحلقة الاضعف خاصة من الناحية القانونية و ذلك على اعتبار الحقوق التي يتمتع بها الطفل من جهة و بالنظر الى ان المدرس من جهة اخرى صاحب منصب شغل و غير قادر على المجازفة به لانجاز مهامه التربوية كاملة، فلا يكون امامه أحيانا كثيرة سوى ان يغض الطرف و ان يتلافى ايقاع نفسه في المشكلات و المطبات... لقد منعت منظومتنا المدرس من ممارسة العنف لكنها في المقابل لم توجد بعد البدائل المؤسسية الكفيلة بسد الفراغ و كبح انفلاتات المتعلمين. و يبدو ان مايتغافل عنه هنا هو ان عنف تلميذ واحد تجاه مدرس ما، يكافئ بلا شك العنف الموجه لتلاميذ مدرسة بالكامل, خاصة و ان مايطال المدرس من عنف سينعكس سلبا على عمله و علاقته بجميع الفصول التي يدرسها والتي سيدرسها في المستقبل, فأن يشتط مدرس ما في تعنيف بعض المتعلمين هو اخف ضررا بكثير على المتعلمين انفسهم من ان يتعرض مدرس واحد لتعنيف تلميذ من تلامذته. لهذا اعتقد ان الوزارة مدعوة أكثر من اي وقت مضى الى البحث عن سبل حقيقية للقضاء على هذه الآفة التي حولت الكثير من المؤسسات الى مايشبه الاصلاحيات لكن بدون رجال أمن حقيقيين يحرسونها…
ألم يعد مدرس اليوم يبحث عن سلامة يومه لا أقل ولا أكثر؟ أي صار يبحث كما يقول المثل الدارج "عن سلة بلا عنب" ؟ لقد كان التلاميذ بالأمس معصومين نسبيا من العنف ضد أساتذتهم بفضل تأصل مزيج من الاحترام والخوف فيهم. أما اليوم فالحبل متروكة على الغارب، إذ لا خوف ولا حياء، خاصة بعد أن تنصلنا من جزء ليس بالهين من رأسمالنا القيمي التقليدي، و دون أن نعوضه بما يملأ مكانه ويحول بين التلاميذ واستضعاف المدرسين، أي أن نعوضه بزاد معرفي يشدهم إلى الطريق السوي. كما تم التخلي عن السلطة العُرفية للأستاذ وما كانت ترتكز عليه من آليات عقابية، دون أن تعوض بهيكل مؤسسي يمنع هذه الانفلاتات، و التي تحول معها التلميذ من الضحية إلى جلاد للمدرس، و من ثمة لنفسه و لزملائه ولمجتمعه في نهاية المطاف. فبماذا عوضت المؤسسة التعليمية عنفها القديم المعتمد على الضرب؟ وهل التعويل على الخطاب الفكري ونظيره الوجداني كفيل بالحد من زحف العنف الحالي؟ وهل يمكن للمؤسسة أن تستغني عن العنف تماما؟ أم أن المؤسسة مجرد تحويل للعنف من طابعه الشخصي إلى طابعه المؤسسي؟ ألن يصنف أي اشتباك للتلميذ بالأستاذ بجريمة تبادل الضرب والجرح، وهي جريمة قد يصبح معها المسار المهني للمدرس على كف عفريت في ردهات المحاكم؟ أليست كفة التلميذ بهذا، باتت راجحة قانونيا في علاقته بالأستاذ ؟ ألن يخاف المدرس من عواقب هكذا حادثة وان كان هو الضحية ؟ وماذا عسى المدرسين أن يفعلوا في الثانويات التي تستقبل تلاميذ من الأحياء الحبلى بالعنف والإجرام والمخدرات ؟ ماهي الحماية الخاصة التي وفرتها لهم الوزارة لإنجاح مهمتهم؟
فلماذا لا يتم التفكير في احداث شرطة تربوية داخل المؤسسات الثانوية تتكفل بهذه المعضلة، و تكون لها الصلاحية في توسط العلاقة بين الاستيعاب التربوي الذي يقوم به اطر المؤسسة و المعالجة الامنية التي هي من اختصاص الشرطة و المحاكم, و هكذا يصبح قدر من الضبط الامني من صلاحيات المربين او بعضهم على الاقل، و يصبح للامن الوطني دور في الحقل التربوي. و بمعنى آخر يكون الأمن الوطني ممتدا داخل المؤسسة التربوية، و تكون المؤسسة التربوية ممتدة داخل الأمن الوطني، و هو ما سيغطي الفجوة القائمة بينهما.
لقد أصبح المتعلمون احرارا مما قد يصلهم من عنف بعض الاساتذة بدرجة كبيرة، لكن أصبح بعض التلاميذ في المقابل يتصرفون خارج اية ضوابط و معايير. و بدل ان تصبح اقسام التعليم الثانوي فضاء لتعميق التحصيل المعرفي و المهاري، اصبحت فضاء للانكفاء و النكوص نحو سلوكات صبيانية استعراضية و احيانا كثيرة انحرافية و خطيرة...
ولعل ما جعل معضلة الغش تستفحل إلى درجة كارثية هي هذه المعضلة الانكى و الاشد بأسا ، أي معضلة العنف التي باتت تتربص بأساتذة التعليم الإعدادي والثانوي خاصة.
ان الحاجة اليوم الى وظيفة أمنية توكل للمربي داخل مؤسسته التعليمية و في محيطها و بتكامل مع الو ظيفة الأم للامن الوطني صار من الضروري الاستجابة لها. و نقصد هنا بالضبط ان توكل لاطر الادارة التربوية و الحراسة العامة صلاحيات امنية كافية لضبط الامن في محيط و داخل المؤسسات التعليمية. ولنا هنا ان نتساءل لماذا توكل لرجال الأمن مثل هذه الصلاحية و هذه الثقة ولا تمنح لمن تتربى و تتخرج على يديه كافة أطر الدولة و موظفيها؟؟؟ لقد آلت الامور الى مستوى صار من الصعب التغاضي عنه, فمع مستوى التهديد الذي صار المدرس معرضا له خاصة في العلاقة مع المراهقين أصبح هذا الأخير في أحسن الأحوال تستنزفه مشكلات المتعلمين ذوي النزوعات الانحرافية و الشاذة و المتطرفة في الفصول الدراسية اكثر مما يسخر جهوده للاهتمام بعموم المتعلمين الراغبين في الدراسة و الطامحين الى غد مشرق. و لعل هذا ماجعل المؤسسة التعليمية عندنا مجرد "ماكينة" او آلية تدور في الفراغ و ذلك بالفعل ما يتأكد لا محالة مع استحضار واقع التسيب الذي باتت تعرفه الامتحانات الاشهادية بفعل هجمة تقنيات الاتصال المتروكة لضمائر المدرسين الواقعة تحت التهديد المباشر و بفعل تفاقم احداث العنف من جانب آخر. ناهيك عن التدفق الاخرق الذي تشجع عليه ما سميت زيفا بالخريطة المدرسية، و ناهيك عن ارتباط الترقي بالأقدمية أكثر منه بالمردودية و بالكفاءة, و عن طغيان التعليم الأدبي على نظيره العلمي و التقني و كأننا لازلنا في العصور الوسطى، و لعله لا شيء يفضح هذا الواقع الاخير أبلغ من الاشارة الى أن إحداث شعبة العلوم الانسانية بالثانوي التأهيلي كان على الاغلب لهذا الغرض اي للالتفاف على تسمية الشعبة و اظهار ان نسبة العلميين اكبر من الأدبيين. بهذا الشكل اصبح قطاع التعليم يخدم تعطيل الارادة الوطنية التواقة الى الكرامة و الحرية في ظل الاستقرار و الاستقلال الحقيقي عن دول الخارج, وصار ككثير من القطاعات في حاجة ماسة الى مراجعة محاوره و أعمدة بنيته الاستراتيجية و خاصة: الأمن –الامتحانات -الخريطة المدرسية -توزيع الشعب –الترقي-تصخم البرامج -الاكتظاظ...
وفي هذا الاطار فإن مراجعة المحور الامني في ارتباط بمؤسساتنا التعليمية - والتي تقتضي ردم الفجوة بين الشرطة و المدرسة و تمكين بعض اطرها كالحراس العامين او النظار على الاقل من صلاحيات امنية- هي ماسيعيد الى مدارسنا الهيبة الضرورية لضمان الشروط الدنيا للعمل التربوي الحقيقي .
إن هذا التفاقم المهول لأحداث العنف الموجه للمربين و المدرسين، و المتلازم مع هذا الانحدار المذوي لمردودية منظومتنا التربوية -كيفا على الأقل ان لم يكن كما كذلك- ليدل بوضوح على أن نسقنا التربوي بات لا يخدم الا بشكل معاكس ارادتنا الوطنية النهضوية، مثلما هو حال و للاسف العديد من القطاعات الحيوية في بلدنا الحبيب هذا. فكما أن تدبير قطاع السكن يهيمن عليه توجه احتكاري هدفه اضطرار المواطن الى الاختيار بين شقق مضاعف سعرها الحقيقي مرات عديدة او البقاء رهينة لاستعباد الكراء او السكن غير اللائق؛ و كما أن قطاع الصحة يتحكم في ديناميته منطق خفي خلاصته اضطرار المواطن الى الاختيار بين التضحية اللامحدودة بمذخراته و مذخرات غيره في سبيل ولوج مستشفى خاص، وبين ولوج متاهات الانتظار و التوسل و تسول عطف جهة نافذة ما لبلوغ حقه في العلاج و التطبيب؛ و كما أن الجيش عندنا لا يبني سدودا ولا يعبد طرقا و انما هو منكفئ على ذاته رابض عند الحدود أو في الثكنات كقوة معطلة و كبنية لاشك مهددة نتيجة ذلك بآفات الفساد؛ و كما أن القطاع السجني عندنا يصير معه السجين و من وارئه معيليه -ان وجدوا- مضطرين الى مضاعفة "القفة" لضمان الحدود الدنيا من الآدمية له و الا فهو حتما خارج من هناك و قد تخلص الى الأبد من آخر نزوع له نحو البراءة و الآدمية, ( و الا فلماذا السجون عندنا بهذا الازدحام و القيمون عليها لا يفكرون في الاستعانة بهؤلاء السجناء لتوسيعها أوبناء غيرها أو يفكرون في الاستعانة بقوة الجيش لمثل هذا الغرض), و كما أن الأحزاب عندنا بات دورها ينحصر في اضطرار المواطن الى الاختيار بين العزوف عن الفعل السياسي و بين الانخراط في دوائر الزبونية والمحسوبية وخدمتها، او على الأقل في هدر الجهد و الوقت في ادارة ناعورة ما على الأغلب لاتسقي البقاع التي ينتمي اليها كمناضل عضوي, و كما أن " كما أن" صارت مع واقعنا القاتم هذا تدور في حلقة مفرغة الا من المرارة و الأسى، فكذلك قطاعنا التعليمي بات أشبه بمتاهة لتعطيل الارادة الوطنية النهضوية. و لا أدل على ذلك من السؤال الآتي: لماذا لا يضاعف هذا النسق التعليمي مرات عديدة تعداد خريجي الطب و التمريض في ظل النقص المهول و الحاصل فيما يتعلق بالأطر الطبية و في ظل الارتفاع الموجع لسعر الخدمة العلاجية (المتاحة بسلاسة و المضمونة الى حد معقول)، خاصة و ان جامعاتنا لاتكف عن تخريج طلبة وبكثافة و في شعب لم نعد نعرف ما الغاية منها في ضوء النسبة التي تمثلها علاقة بغيرها من الشعب.
#ابراهيم_تيروز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟