|
من المفهوم العامّي للهوية المتعددة إلى المفهوم العلمي للهوية الواحدة
محمد بودهان
الحوار المتمدن-العدد: 3960 - 2013 / 1 / 2 - 12:52
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
مقدمة: يمكن القول إنه منذ الاستقلال إلى حدود ثمانينيات القرن الماضي، كانت الهوية "العربية" الواحدة والوحيدة للمغرب، تعتبر، وخصوصا على المستوى السياسي والرسمي، بديهية لا تثير نقاشا ولا تساؤلا ككل البديهيات. بل حتى الإسلام عندما كان يستحضر كمكوّن لهوية المغرب، فذلك للتأكيد على عروبة هذا البلد باعتبار الإسلام، كما هو مفهوم هوياتيا وممارس سياسيا بالمغرب، جزءا من العروبة، مرادفا ومكمّلا لها. ولهذا كان الكلام عن هوية متعددة المكونات للمغرب مرفوضا ومشبوها، لأنه كان يُفهم ويُؤول على أنه دعوة إلى التجزئة والتقسيم. أما اليوم، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، وبعد أن ظهرت الأمازيغية كقضية زعزعت الكثير من البديهيات الكاذبة، لم يعد أحد يستطيع الاستمرار في الدفاع عن "عروبة" المغرب الصافية والخالصة. فبدأنا نسمع عن "الهوية المتعددة " للمغرب، بناء على تعدد المكونات العرقية المفترضة لسكانه، ذوي الأصول الأمازيغية واليهودية والعربية والأندلسية والإفريقية والزنجية.... وإذا كانت الحركة الأمازيغية هي السباقة إلى طرح مسألة التعدد الهوياتي بالمغرب من خلال رفعها لشعار "الوحدة في التنوع"، بهدف الاعتراف بـ"المكون" الأمازيغي ضمن العناصر المشكلة للهوية الوطنية، فاللافت، والمفِارق في نفس الوقت، أن الذين يروجون اليوم لخطاب الهوية المتعددة للمغرب، هم أولئك الذين كانوا بالأمس يرفضون أي اعتراف بالأمازيغية كعنصر مكون لهوية المغاربة، ويدافعون عن هوية واحدة هي الهوية العربية، معتبرين الأمازيغية مجرد إرث استعماري ونزعة انفصالية تهدد الوحدة الوطنية. وهكذا أصبح مفهوم "الهوية المتعددة" يشكل بدوره نوعا من البديهيات التي لا تثير نقاشا ولا اعتراضا، لأن الاعتراض على هذا المفهوم يعني الاعتراض على ما هو ديموقراطي على اعتبار أن التعدد من مميزات الديموقراطية، ويعني رفض الآخر وعدم الاعتراف به، ويعبر عن موقف منغلق وغير متسامح، يعادي الاختلاف والتنوع. فتم الانتقال من "بديهية" تقرر أن هوية المغرب عربية وواحدة لا تعدد فيها، إلى "بديهية" أخرى مناقضة تقول بأن هوية المغرب متعددة ومتنوعة. وهو ما أكد عليه وكرّسه دستور فاتح يوليوز 2011 الذي جاء في تصديره: «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية». المفهوم العامّي للهوية المتعددة: إذا كان الدستور الجديد (دستور فاتح يوليوز 2011) قد نص على الهوية المتعددة للمغرب، فذلك لأن هذا المفهوم، كما ذكرنا، فرض نفسه كبديهية لا يمكن مناقشتها أو التشكيك فيها فبالأحرى إنكارها، لأن مثل هذا الإنكار يعني إنكارا لحقيقة بديهية تدرك كمعطى مباشر، وذلك سواء: ـ على المستوى الفردي حيث إن كل مغربي يشعر أنه مغربي ومسلم وإفريقي وعربي أو أمازيغي، وريفي أو سوسي أو فاسي، ناظوري أو رباطي أو بيضاوي...إلخ. وهو ما يبرز "تعددا" "حقيقيا" في الانتماء لدى كل مغربي. ـ أو على المستوى الجماعي حيث إن الشعب المغربي يتشكل من أصول عرقية متعددة، أمازيغية وعربية وأندلسية وإفريقية وعبرية ومتوسطية، فضلا عن انتمائه الإسلامي. مفهوم الهوية المتعددة يفرض إذن نفسه كبديهية يقينية، وحقيقة ثابتة، ومعطى ملموس، حاضر، واضح وبارز يكاد يفقأ العين. وأين المشكلة في هذا المفهوم؟ المشكلة في بداهته كحقيقة ثابتة لا نقاش فيها ولا جدال. ولماذا تشكل هذه البداهة مشكلة؟ لأن تاريخ العلم علّمنا أن ما يبدو لنا بديهيا ويقينيا ندركه إدراكا مباشرا، هو ما يمنعنا من معرفة حقيقة الأشياء والظواهر، ويشكل "عائقا إبستمولوجيا" ـ بتعبير "كاسطون باشلار" ـ لهذه المعرفة. وهكذا ظل الإنسان لآلاف من السنين وهو يعتقد جازما أن الشمس صغيرة ومتحركة، وأن الأرض مسطّحة وثابتة، لأن هذا ما كان يدركه كمعطى حسي مباشر، وبالتالي كشيء بديهي لا يمكن إنكاره أو التشكيك فيه مثلما لا يمكن إنكار أو التشكيك في كوننا مغاربة ومسلمين وأفارقة وأمازيغيين وعربا ودكاليين وريفيين، إلى غير ذلك من العناصر المتنوعة التي تؤكد هويتنا "المتعددة" كمعطى بديهي بداهة صغر قرص الشمس وحركتها، وسطحية الأرض وثباتها. ولأن هذا المفهوم ـ الهوية المتعددة ـ يبدو معطى مباشرا ويقينيا وبديهيا كما رأينا، فهو إذن شائع ومتداول، ليس لدى المثقفين والمتعلمين فحسب، بل حتى في أوساط غير المتعلمين من العامة والأميين. وهو ما يجعل منه مفهوما عامّيا بعيدا كل البعد عن المفاهيم العلمية التي يكون تداولها مقصورا على الأوساط العلمية. وبالتالي فهو مفهوم ينتمي إلى المعرفة العامّية ـ وليس إلى المعرفة العلمية ـ التي يكوّنها الإنسان العامّي وغير المتعلم عن مجموعة من الظواهر الطبيعية والاجتماعية*. هذا المفهوم العامّي يتصور الهوية إذن كإضافات عددية لعناصر تُجمّع بطريقة ميكانيكية، يكون اختيارها وتحديد عددها اعتباطيين ومزاجيين، لا يخضعان لمعيار محدد يبرر هذا العدد وهذا الصنف من العناصر بالضبط دون عدد آخر وصنف آخر. المفهوم العلمي للهوية: وكما أن المعرفة العلمية لم تتأسس، بشروطها ومناهجها، إلا بعد القطيعة النهائية مع المعرفة العامّية حول الظواهر الطبيعية، التي (المعرفة العامّية) كانت تشكل عائقا أمام تكوّن المعرفة العلمية الحقة، فكذلك لا يمكننا بناء فهم سليم وعلمي للهوية إلا إذا قطعنا مع مختلف التصورات العامّية حول هذا المفهوم. وهذا يقتضي منا الالتزام بالخطوات المنهجية العلمية التالية: أولا: تحديد موضوع ومجال الهوية: فكما أن من شروط المنهج العلمي البدء بتحديد الظاهرة موضوع الدراسة وحصر مجالها الذي تنتمي إليه (ظواهر فزيائية، بيولوجية، فلكية، اجتماعية، تاريخية...)، فكذلك ينبغي، قبل مناقشة مسألة الهوية، تحديد مجال استعمال هذا المفهوم وتمييزه عن المجالات الأخرى التي يستعمل فيها بمعانٍ ودلالات أخرى مختلفة تبعا لاختلاف مجال الاستعمال، خصوصا أن هذا المفهوم متعدد المجالات والاستعمالات، مما قد يسهل معه الوقوع في الخلط والالتباس. فهو مفهوم يستعمل في الفلسفة والمنطق والرياضيات وعلم النفس بمعانٍ خاصة مختلفة باختلاف هذه المجالات. ولأن مجال مناقشتنا للهوية، هنا، يخص الشعوب والأمم والأقطار، فلا يتعلق الأمر إذن لا بالمفهوم الفلسفي للهوية، ولا بمفهوم الهوية الشخصية للأفراد، ولا بمفهوم الهوية العرقية للجماعات الإثنية كالقبيلة والعشيرة، ولا بمفهوم الهوية الإقليمية للجهات والمناطق كالريف وسوس والصحراء ودكالة...، ولا حتى بمفهوم الهوية الثقافية كأنماط جماعية من السلوكات والممارسات والعادات والمعتقدات... وإنما يتعلق الأمر بالهوية الوطنية للشعوب كأمم وكأقطار وكدول، مثل المغرب، كأمة وكشعب وكقطر وكدولة على الخصوص. وأشدد هنا على مفهوم الدولة لأنه ظل دائما غائبا بصفة مطلقة من كل النقاشات حول الهوية بالمغرب، مما جعل هذه النقاشات تنصب على ما هو فلسفي، أو شخصي وفردي، أو إثني وعرقي، أو إقليمي وجهوي، وهو ما يعتبر خروجا عن الموضوع الذي هو هوية الدولة التي تعكس هوية الشعب وتمثّل هوية الأرض التي تسود عليها. يتعلق الأمر إذن، في هذه المناقشة للهوية، بهوية الدولة ومكوناتها من أرض وشعب وسلطة تنتمي جميعها إلى هوية واحدة يمثلها ويعبر عنها انتماء الدولة. وهنا تظهر، في علاقتها بالدولة، أهمية وخطورة مسألة الهوية. وهي الأهمية الغائبة في الهوية الشخصية للأفراد، وفي هوية الجماعات العرقية والإثنية، وفي هوية المناطق والجهات. ولهذا فإن الذين يرون أن إثارة موضوع الهوية هو مجرد مضيعة للوقت، الذي كان ينبغي أن يخصص لمناقشة القضايا التي تهم المغاربة مثل قضايا التنمية والتعليم والديموقراطية والحكامة السياسية والصحراء المغربية، بدل مناقشة موضوعات يعتبرونها تافهة وغير مجدية من قبيل هذا عربي وهذا أمازيغي، هم على صواب. نعم هم على صواب إذا كنا نتصور، وهو ما ينطلقون منه في حكمهم على تفاهة الموضوع، الهويةَ كخاصية تهم الأفراد والجماعات العرقية الصغيرة إثنيا وترابيا. لكن لو كانوا يتبنون تصورا آخر للهوية يربطها، ليس بالأفراد والمجموعات الصغيرة، بل بالأمة والشعب والدولة التي تمثل هذه الأمة وهذا الشعب، لاعتبروا مناقشتها موضوعا ذا أهمية بالغة قد تفوق أهمية موضوعات مثل قضايا التنمية والتعليم والديموقراطية والحكامة السياسية والصحراء المغربية. لماذا تصبح الهوية قضية هامة وخطيرة جدا عندما نربطها بالدولة؟ لأن الهوية، على مستوى الدولة، الممثلة للشعب والأمة، تترجَم إلى قرارات سياسية تهم مصير هذا الشعب وهذه الأمة. فانضمام المغرب مثلا إلى جامعة الدول العربية، أو سياسة التعريب التي نهجها منذ الاستقلال، أو الاحتفاء برموز تاريخية معينة مثل الاحتفال بالذكرى 1200 لتأسيس فاس، كلها قرارات سياسية اتخذت بناء على تصور معيّن لهوية المغرب كدولة وقطر وشعب. فمثلا لماذا يُحتفى بإدريس الأول والثاني ولا يحتفى بـ"يوغرطا" مع أن هذا الأخير كان وطنيا صادقا قاوم بشراسة الاحتلال الروماني لشمال إفريقيا؟ السبب هو فهم معيّن للهوية، يدخل ضمن هذا الفهم إدريس الأول والثاني ويستبعد منه "يوغورطا". بل لماذا يحتفل بذكرى الإدريسيْن ولا يحتفل بذكرى طارق بن زياد رغم أن الأوليْن لم يفتحا أندلسا ولا حاربا كفارا ولا أحرقا سفنا ولا ألقيا خطبة؟ السبب دائما هو فهم خاص للهوية المغربية، وهو فهم ينسحب كذلك على الرموز التاريخية والثقافية للمغرب. واليوم هناك اعتراف بالأمازيغية كهوية، وترسيم دستوري لها كلغة. وهو قرار سياسي ناتج كذلك عن تصور جديد لهوية المغرب. وفي فرنسا، وكثير من الدول الأوروبية، هناك اليوم (نحن في أواخر 2012) تشديد في قوانين الهجرة وإقامة المهاجرين. وهي قرارات سياسية ناتجة عن تصور خاص لمفهوم الهوية الوطنية الذي أصبح موضوعا سياسيا بامتياز فرض نفسه على كل السياسيين ويحتل مكانة هامة في برامج الأحزاب السياسية. ثانيا: تعريف الهوية: بعد تحديدنا لمجال الهوية الذي ينصب على الدولة بمكوناتها من شعب وأرض وسلطة، يبقى علينا الآن، حتى نكون علميين في مقاربتنا، أن نحدد مفهوم الهوية، أي أن نعرّف هذا المفهوم. فالملاحظ أن مصدر التباين في المواقف حول الهوية، ناتج، فضلا عن الخلط بين الدلالات المختلفة للمفهوم باختلاف مجالات استعماله كما رأينا، عن غياب تعريف للهوية يسمح لنا بمعرفة أي العناصر، العرق أو الدين أو الأرض أو اللغة أو التعدد...، تدخل ضمن هذا التعريف، وهي العناصر التي تشكل موضوع الاختلاف بين المواقف لأن كل موقف ينطلق من فهم خاص وذاتي للهوية دون تحديد مسبق، عام وموضوعي للمفهوم. فما الهوية؟ وما تعريفها؟ 1 ـ المعنى الاشتقاقي: مفهوم "هوية" كلمة حديثة في اللغة العربية، وهي اسم مصاغ انطلاقا من الضمير المنفصل "هو" Lui. وهذا المفهوم ترجمة حرفية للفظ الأجنبي الأوروبي ذي الأصل اللاتيني Identité الذي صيغ بدوره، كاسم Substantif، من الكلمة اللاتينية Idem،التي تعني "هو نفسه، هو هو، نفس الشيء". كلمة "هوية" تؤدي إذن نفس المعنى الاشتقاقي والدلالي لكلمة Identité. لهذا فأنا أفضل أن نتبع نفس الطريقة في نحت مفهوم "هوية" في الأمازيغية: ننطلق من الضمير المنفصل "هو" Netta، ثم نصوغ منه اسم: Tanttit، فيكون لدينا مفهوم "هوية" يتوفر على نفس العناصر الاشتقاقية والدلالية لمفهوم "هوية" في أصله الأوروبي اللاتيني، بدلا من لفظ Tamagit المستعمل للدلالة على "الهوية" في الأمازيغية. 2 ـ المعنى الاصطلاحي: في هذا المفهوم ـ هوية ـ، لا يختلف كثيرا المعنى الاشتقاقي عن المدلول الاصطلاحي Terminologique. فبناء على المعنى الاشتقاقي والدلالي لهذا اللفظ ـ هوية ـ المصاغ من الأصل اللاتيني Idem: "هو هو، هو نفسه"، فإن "هوية" الشيء تعني اصطلاحا أن يكون ذلك الشيء هو ذلك الشيء، أن يكون هو هو نفسه. فالهوية هنا تعني تحصيلا للحاصل، ذلك الشيء هو ذلك الشيء: هوية هذا القلم الذي أمسكه بيدي هي أن هذا القلم هو هذا القلم نفسه، إنه هو هو. هوية الشعب الفرنسي هي أن يكون شعبا فرنسيا، أن يكون هو هو نفسه، أي أن يكون فرنسيا. هوية الشعب الأمازيغي كذلك هي أن يكون هو هو نفسه، أي شعبا أمازيغيا. هوية الشعب العربي ـ نفس الشيء ـ هي أن يكون هو هو نفسه، أي شعبا عربيا. إذن، "الهوية"، ولكونها تحصيلا للحاصل كما في هذه الأمثلة، فهي تتحدد بالعنصرين التاليين: ـ عنصر "المطابقة"، أي مطابقة الشيء لذاته: هوية هذا القلم هي أن يكون هو هو نفسه، أي مطابقا لذاته؛ هوية الشعب الفرنسي هي أن يكون هو هو نفسه، أي مطابقا لخصوصيته الفرنسية؛ هوية الشعب المغربي هي أن يكون هو هو نفسه، أي مطابقا لخصوصيته المغربية؛ هوية الشعب العربي هي أن يكون هو هو نفسه، أي مطابقا لخصوصيته العربية؛ هوية الشعب الصيني هي أن يكون هو هو نفسه، أي مطابقا لخصوصيته الصينية…إلخ. إذن العنصر الأول الذي يدخل في تعريف وتحديد مفهوم "الهوية" هو عنصر "المطابقة". ـ عنصر الاختلاف: لكن عندما أقول "بأن هذا القلم هو هذا القلم" (المطابقة)، فمعنى هذا أن هذا القلم ليس قلما آخر… "فالشعب الفرنسي هو الشعب الفرنسي" معناه أن الشعب الفرنسي ليس هو الشعب الياباني أو العربي أو الألماني أو الصيني.. ولا أي شعب آخر. وهكذا تتحدد "الهوية" بعنصر ثانٍ هو عنصر "الاختلاف". فالشعب الفرنسي هو الشعب الفرنسي (المطابقة) لأنه ليس شعبا آخر (الاختلاف) غير الشعب الفرنسي نفسه. فـ"المطابقة" تفترض، إذن، "الاختلاف". فالمطابق لذاته هو المختلف والمتميز عن غيره. فهوية أي شعب تتحدد بمطابقته لخصوصيته، وباختلافه وتميزه عن هويات الشعوب الأخرى. من هذه التوضيحات يمكن أن نستنتج التعريف التالي للهوية عندما يتعلق الأمر بهوية الشعوب كأمم وأقطار ودول كما سبق بيان ذلك: «إنها مجموع الخصائص الملازمة لشعب ما، والتي ينفرد بها وحده (عنصر المطابقة)، وبها يختلف ويتميز عن كل الشعوب الأخرى (عنصر الاختلاف)» ولتلخيص هذا التعريف نقول إن الهوية تعني الخصوصية (عنصر المطابقة) والتميز (عنصر الاختلاف). فلنحتفظ بهذين العنصرين (الخصوصية والتميز) لأننا سنحتاج إليهما في ما يلي من التحليل. ثالثا: مكونات الهوية: إذا كانت الهوية تعني الخصوصية والتميز، فما الذي يعطي للشعوب هذه الخصوصية وهذا التميز؟ أي ما الذي يعطيها هويتها؟ بعبارة أخرى: من أين تستمد هذه الشعوب هويتها؟ أو ما هي مكونات الهوية ومحدداتها؟ إذا أردنا أن نكون علميين كما أعلنا ذلك في عنوان هذه الفقرة (المفهوم العلمي للهوية)، فيجب، كما في العلم، أن نخلص إلى نتائج حول مفهوم الهوية تتوفر فيها الشروط العلمية التالية: ـ أن تكون هذه النتائج عامة، بمعنى أنها لا تصدق على حالة المغرب فحسب، بل تصدق على هويات كل الشعوب والدول، كما هو شأن الحقائق العلمية التي من شروطها أن تكون صادقة بالنسبة لمجموع الظواهر المنتمية إلى صنف معين. فقانون الجاذبية مثلا لا ينطبق فقط على التفاحة التي انطلق منها "نيوتن" في اكتشافه لهذا القانون كما تقول الحكاية المعروفة، بل ينطبق على كل الأجسام. ـ أن تكون موضوعية، أي مستقلة عن ذواتنا ورغباتنا وأهوائنا واختياراتنا. فـ"الحديد يتمدد بالحرارة" حقيقة علمية لأنها مستقلة عن رغبتنا في أن يتمدد أو لا يتمدد الحديد. ونذكّر هنا أن الاختلافات في المواقف حول إشكالية الهوية ترجع إلى أن كل صاحب موقف ينظر إلى الهوية، ليس كما هي في الواقع، بل كما يريدها أن تكون. وهذا موقف ذاتي وبالتالي غير علمي وغير موضوعي. ـ أن نتوصل إلى هذه النتائج، العامة والموضوعية، بالاعتماد، كما في المعرفة العلمية دائما، على منهج علمي دقيق، وليس استنادا إلى المزاج والانطباع والرغبة كما في المعرفة العامية التي سبق أن شرحناها. ما هو هذا المنهج العلمي؟ إنه المنهج الاستقرائي الذي تعتمده العلوم في اكتشاف وصياغة القوانين التي تحكم الظواهر موضوع البحث والدراسة. ويتلخص هذا المنهج في الانطلاق من ملاحظة عدد محدود من الظواهر، المنتمية إلى نفس الصنف والمشتركة بالتالي في نفس الخصائص، كحالات فردية وجزئية، ثم استخلاص القانون العام الذي يحكم كل الظواهر الأخرى التي تنتمي إلى نفس الصنف وذلك بتعميم النتائج المتوصل إليها، كما في حال التحقق التجريبي من الفرضيات، إلى كل الظواهر الأخرى المتماثلة في خصائصها. والظواهر التي تعنينا هنا، والتي سنفحصها كحالات فردية لنستخلص منها القانون العام الذي يسري على كل الحالات الأخرى، هي هويات الشعوب والدول الممثلة لهذه الشعوب. فلنتأمل مثلا حالة الصين، ونطرح سؤالنا: ما الذي يعطي للصين، كأمة وشعب ودولة، خصوصيتها وتميزها، أي من أين تستمد هويتها؟ سنلاحظ أن الخصوصية الملازمة للشعب الصيني، والتي تخصه هو وحده (عنصر المطابقة)، وبها يتميز عن باقي شعوب الدنيا (عنصر الاختلاف) تتمثل في: أ ـ موطنه الجغرافي الخاص به دون غيره من الشعوب، أي أرضه المعروفة بالصين. وهنا يجب التمييز جيدا بين "الموطن الجغرافي" و"الأصل الجغرافي". فهذا الأخير لا يتطابق بالضرورة مع الأول، لأنه قد يعني أرضا أخرى غير أرض "الموطن"، والتي (الأرض الأخرى) من الممكن أن يكون الشعب المعني قد هاجر منها، لأسباب تاريخية، قبل أن يستقر به "الترحال" بالموطن المعروف أنه أرض خاصة به. فلا يهم إذن أن هذا "الأصل" الجغرافي معروف أو غير معروف، كهجرات الشعوب ما قبل التاريخ التي لا نعرف عنها الشيء الكثير. ولهذا نعني بالموطن "محل الإقامة الدائم والقار". وعندما نقول "الدائم والقار"، فمعنى ذلك أنه من الممكن أن تكون هناك "مواطن" سابقة مؤقتة وغير قارة. ب ـ لغته الصينية التي ينفرد بها عن كل الشعوب الأخرى. ولا يهم أن هذه اللغة الصينية قد تنتشر لدى شعوب أخرى تتعلمها وتستعملها، أو أن الشعب الصيني نفسه يتعلم لغات أخرى ويستعملها، وإنما المهم أن هذه اللغة هي لغة صينية ترتبط بأرض الصين والشعب الصيني. نفس الشيء إذا أخذنا حالة الشعب العربي، كأمة وكدول، سنلاحظ أن الخصوصية الملازمة للعروبة، والتي تخص الشعب العربي وحده وبها يتميز عن باقي الشعوب الأخرى هي: أ ـ موطنه الخاص به بشبه الجزبرة العربية ب ـ لغته العربية التي ينفرد بها عن كل الشعوب الأخرى. والخصوصية الملازمة كذلك للشعب الياباني هي: أ ـ أرض اليابان التي هي موطن للشعب الياباني دون سواه من الشعوب الأخرى. ب ـ لغته اليابانية التي ينفرد بها عن كل الشعوب الأخرى. ونفس الشيء فيما يتعلق بالخصوصية الملازمة للشعب الإيراني، والتي بها ينفرد ويتميز عن الشعوب الأخرى. هذه الخصوصية هي: أ ـ بلاده الفارسية التي هي الموطن الجغرافي للشعب الإيراني دون سواه من الشعوب الأخرى. ب ـ اللغة الفارسية الخاصة بالشعب الإيراني وحده دون الشعوب الأخرى. ويمكن أن نستقرئ كل الشعوب والدول الأخرى، فسنقف دائما على نفس النتيجة، وهي أن ما يعطي لهذه الدول والشعوب خصوصيتها الهوياتية الخاصة بها، والتي تميزها عن باقي الشعوب الأخرى، هي دائما موطنها ولغتها. النتيجة إذن أن هاتين الخاصيتين (الموطن واللغة) الملازمتين لكل شعب من الشعوب، واللتين تعطيانه هويته الخاصة التي ينفرد بها عن باقي الشعوب الأخرى، تشكلان قاعدة عامة تسري على هويات كل شعوب الدنيا. ويستحيل أن نجد مثالا مضادا واحدا ينفي هذه القاعدة أو يدحضها. الهوية بين الأرض واللغة: إذا كانت هوية الشعوب تتحدد بالأرض واللغة كمكّونين حصريين رئيسيين لهذه الهوية، كما رأينا وشرحنا، فما هي "نسبة" كل منهما في تشكيل هذه الهوية؟ أي ما دور ووزن كل منهما في هذه الهوية؟ هل دوراهما متساويان أم أن أحدهما أكبر وأهم من الآخر؟ 1 ـ الأرض واللغة في مطالب الحركة الأمازيغية: عندما نتأمل مطالب الحركة الأمازيغية، نلاحظ أن المطلب اللغوي يطغى بشكل لافت على كل المطالب الأخرى مثل الاعتراف بالهوية الأمازيغية للمغرب، إعادة كتابة تاريخ المغرب، اعتماد الأعراف الأمازيغية كمصدر للتشريع، وقف نزع الأراضي من أصحابها الأمازيغيين، تنمية "المناطق الأمازيغية"... بل إن الكثير من المطالب الأمازيغية ترتد إلى ـ وتتفرع عن ـ المطلب اللغوي لأن الاستجابة لها تمر عبر الاستجابة لهذا المطلب اللغوي، مثل المطالبة بإدماج الأمازيغية في التعليم وفي الإعلام وفي القضاء وفي الإدارة، هذا الإدماج الذي يتحقق باستعمال اللغة الأمازيغية في التعليم وفي الإعلام وفي القضاء وفي الإدارة، وهو ما يعني أن هذا المطلب لغوي رغم أنه يتعلق بقطاع الإعلام أو الإدارة أو القضاء. وحتى مطلب الترسيم الدستوري للغة الأمازيغية، والذي كان يمثّل، قبل دستور 2011، أعلى سقف "سياسي" للمطالب الأمازيغية، ليس سوى وسيلة لتوفير الحماية القانونية للغة الأمازيغية وضمان استعمالها في مؤسسات الدولة. هذه الأولوية للغة في مطالب الحركة الأمازيغية تجعل مفهوم الهوية يكاد يختلط بمفهوم اللغة عند هذه الحركة، إذ تصبح المطالبة بالاعتراف بالهوية الأمازيغية لا تعني شيئا آخر غير الاعتراف باللغة الأمازيغية. لماذا تعطي الحركة الأمازيغية دورا أكبر لعنصر اللغة الذي تجعل منه العامل الحاسم والمحدد للهوية فيما يتعلق بالأمازيغية؟ ليس لأن اللغة هي العنصر الأهم في تحديد الهوية، ولا بسبب سياسة التعريب التي تقصي اللغة الأمازيغية، كما يعتقد الكثيرون. وإنما لأن العنصر الوحيد، من العناصر المكونة للهوية، الذي تبقى للأمازيغيين من هويتهم الأمازيغية هو عنصر اللغة الأمازيغية، إذ لم تعد لهم دولة أمازيغية ولا أرض أمازيغية (وهي الأهم في الهوية) بعد أن أصبح المغرب بلدا "عربيا" وجزءا من "الوطن العربي"، ولا شعب أمازيغي بعد أن حوّل التعريب هذا الشعب الأمازيغي إلى شعب "عربي"، ولا حتى الأسماء الأمازيغية بعد أن أصبح عدد من ضباط الحالة المدنية يمنعون تسجيل الأسماء الأمازيغية. الشيء الوحيد الذي لا زال يربطهم بهويتهم الأمازيغية ويذكّرهم بها ويدلّ عليها هو اللغة الأمازيغية التي لا زالوا يستعملونها ويتحدثون بها. ومن هنا نفهم لماذا تكاد اللغة الأمازيغية أن تكون مرادفا للهوية الأمازيغية في مطالب الحركة الأمازيغية، لأنها (اللغة) هي كل ما تبقى للأمازيغيين من هذه الهوية. لكن هذا التركيز على اللغة، والتعامل معها كما لو كانت هي كل الهوية، قد يساهم في إضعاف هذه الهوية وضياعها في النهاية. لماذا؟ لأن الهوية تمثّلها، في كل بلدان العالم، الدولةُ التي تمارس سيادتها باسم الانتماء إلى هوية الأرض التي تسود عليها، كما سنشرح ذلك لاحقا. وبالتالي فإن المطالبة باسترداد الهوية الأمازيغية لا ينفصل عن المطالبة بإقامة دولة أمازيغية، بالمفهوم الترابي كما سنوضح فيما بعد. النتيجة أن المطالبة بالاعتراف باللغة الأمازيغية والنهوض بها ورد الاعتبار لها، هو مطلب جزئي ولسني لن يغير شيئا من هوية الدولة، التي تبقى عربية في هويتها وانتمائها حتى عندما تستجيب هذه الدولة لكل مطالب الحركة الأمازيغية التي تخص اللغة الأمازيغية. فحتى على فرض أن الأمازيغية أصبحت، كما تطالب بذلك الحركة الأمازيغية، لغة رسمية (وهي كذلك في دستور 2011) ومستعلمة في التعليم والإدارة والقضاء وكل مؤسسات الدولة، إلا أن ذلك سيكون دائما في إطار دولة ذات هوية عربية واحدة، تعترف بالتعدد اللغوي الموجود لديها، وهو ما سيستمر معه الإقصاء السياسي ـ وليس اللغوي ـ للأمازيغية. لهذا يجب على الحركة الأمازيغية أن تنتقل من المطلب اللسني إلى المطالبة بالدولة الأمازيغية ـ بالمفهوم الترابي دائما وليس العرقي ـ التي ستُسترجع معها الهوية الأمازيغية كاملة وبكل عناصر ها ومكوناتها الترابية واللغوية. 2 ـ العلاقة بين الأرض واللغة: بعد هذا التوضيح للعلاقة الخاصة للحركة الأمازيغية، وللأمازيغيين بصفة عامة، باللغة الأمازيغية، نعود إلى تحليل العلاقة العامة والعادية بين الأرض واللغة كما هي محددة في الأسئلة التي طرحناها أعلاه. عندما نتأمل العلاقة بين الأرض واللغة، سنتوصل إلى أن اللغة لا تكتسب أهميتها كعنصر في تحديد الهوية إلا لأنها هي نفسها تستمد وجودها وهويتها واسمها من الأرض التي نشأت بها وتنتمي إليها. فنحن نعرف مثلا أن اللغة اليابانية ليست هي اللغة الصينية، وأن هذه الأخيرة ليست هي اللغة الهندية، كما أن هذه ليست هي اللغة الفارسية، ودون أن نعرف شيئا عن الاختلافات بين الأنظمة النحوية والاشتقاقية والمعجمية لهذه اللغات الأربع، هذه الاختلافات التي قد تفسر أن هذه لغة صينية وتلك يابانية أو فارسية أو هندية. فعلى أي أساس نميز إذن بين هذه اللغات التي نجهل خصائصها النحوية والمعجمية؟ نميز بينها، ليس على أساس خصائصها الداخلية كلغات، بل على أساس انتماءاتها الترابية إلى أرض الصين أو الهند أو فارس أو اليابان. فاللغة الصينية ليست تلك اللغة التي تتميز بسمات خاصة بها كلغة صينية، وإنما، بكل بساطة، هي لغة أرض الصين بغض النظر عن خصائصها النحوية والاشتقاقية والمعجمية التي تميزها كلغة صينية. وكذلك الأمر بالنسبة لجميع اللغات التي تتمايز بعضها عن بعض بانتماءاتها الترابية التي تستمد منها وجودها وهويتها وأسماءها. ولهذا فهي تسمى بأسماء الأراضي التي نشأت فيها. وبالتالي فهويتها هي نفسها تابعة لهوية الأرض التي ظهرت بها هذه اللغات. وهكذا تكون الأرض هي الأصل واللغة هي الفرع في تحديدهما للهوية دون أن ينتقص هذا الدور "الفرعي" للغة شيئا من أهميتها أو يجعلها عنصرا بسيطا وثانويا، بل تبقى دائما وجها آخر للهوية لكن شريطة ارتباطها بالأرض التي هي مهد تلك اللغة وموطنها. فالأرض، كمكون للهوية، عنصر مستقل وموضوعي في حين أن اللغة عنصر فرعي وتابع. ومن جهة أخرى، إن الشعوب لا تملك إلا أرضا واحدة هي التي تنتمي إليها وتستمد منها هويتها. لكن يمكن لتلك الشعوب أن تستعمل لغات أخرى بجانب لغتها الهوياتية. بل قد نجد شعوبا، كالهند والسينيغال مثلا، تستعمل لغات أجنبية عنها كلغات رسمية للدولة وللسلطة دون أن يكون لذلك أي تأثير على هويتها التي تبقى هي هوية الأرض التي تنتمي إليها تلك الشعوب التي تستعمل تلك اللغات الأجنبية. كل هذا يبيّن أن الأرض، كمكون للهوية، عنصر ثابت قار ـ أو على الأقل لا يتغير بنفس السهولة التي تتغير بها اللغة ـ وواحد، في حين أن اللغة هي موضوع للتغير والتعدد والتطور. الهوية ارتباط فيزيقي ووجداني بالأرض: واضح من التحليل السابق أن الهوية لا يمكن إلا أن تكون واحدة وليست متعددة، كما أنه لا علاقة لها بالعرق ولا بالأصل السلالي والإثني، بل هي مستمدة من الأرض التي تمنح هويتها للإنسان الذي يعيش فوقها كما فعل أجداده السابقون. ولهذا غالبا ما نلاحظ، ما عدا عند الشعوب التي تعرضت لغزو نتج عنه إطلاق تسميات جديدة على بلدانها كما هو شأن البلاد الأمازيغية بشمال إفريقيا، أن اسم الأرض التي يعيش فوقها شعب ما، هو نفسه الاسم الذي يحمله ذلك الشعب، وهو نفسه الاسم الذي تحمله اللغة التي يتكلمها ذلك الشعب كما سبقت الإشارة: فالشعب الياباني يسمى باسم أرضه اليابانية، ويتكلم لغة تحمل اسم الأرض اليابانية، وهي اللغة اليابانية. والشعب الفرنسي يسمى باسم أرضه الفرنسية، ويتكلم لغة تحمل اسم الأرض الفرنسية، وهي اللغة الفرنسية. والشعب الصيني يسمى باسم أرضه الصينية، ويتكلم لغة تحمل اسم الأرض الصينية، وهي اللغة الصينية. والشعب التركي يسمى باسم أرضه التركية، ويتكلم لغة تحمل اسم الأرض التركية، وهي اللغة التركية. وهلم جرا... وهذا ما يؤكد أن هوية أرض الأجداد (هوية صينية، فارسية، تركية، أفغانية، أمازيغية، عربية...) هي التي تمنح السكان الذين يعيشون فوقها كورثة لأولئك الأجداد، انتماءهم الهوياتي المستمد من هوية تلك الأرض. واستقرارهم وعيشهم المشترك فوق أرض الأجداد تلك، تنتج عنهما لغة مشتركة يتواصلون بها تكون خاصة بسكان تلك الأرض التي تستمد منها تلك اللغة هويتها هي كذلك كما سبق أن شرحنا، بجانب ما يؤدي إليه ذلك الاستقرار والعيش المشترك فوق تلك الأرض من ظهور ثقافة ومعتقدات وعادات وفنون تشكل قيما مشتركة لسكان تلك الأرض. هكذا تكون الهوية ارتباطا فيزيقيا ـ وليس فقط وجدانيا ـ مباشرا بأرض الأجداد، ارتباطا ذا عمق وجذور يتمثلان في الأجداد السابقين الذين سكنوا تلك الأرض. وليس المهم، لقيام ارتباط فيزيقي مباشر وعميق وذي جذور بالأرض، عدد الأجيال من الأجداد الذين سكنوا هذه الأرض ولا المدة الزمنية لاستقراهم بها، بل المهم أن يكون هناك مثل هذا الارتباط ولو تعلق الأمر بجيلين أو ثلاثة وبقرن أو نصف قرن، لأن المهم هو استقرار هؤلاء الأجداد على وجه الدوام والبقاء بالأرض مصدر الهوية. وهذا أحد الفوارق بين الهوية والجنسية التي يمكن للإنسان أن يكتسبها دون أن يكون له أجداد يحملون تلك الجنسية. لا يمكن إذن أن يكون هناك تعدد في الهوية الواحدة، وإنما قد يكون هناك تعدد في الهويات، بالجمع، داخل وطن واحد يتوزع إلى مناطق تشكل، بناء على العناصر المشكلة للهوية كما ذكرناها أعلاه، هويات متمايزة ذات حدود ترابية ولسنية (العنصران المحددان للهوية كما رأينا). هوية المغرب هوية أمازيغية واحدة وليست متعددة: أعرف أن القول بوحدة الهوية، وبأن هوية الأمازيغيين بشمال إفريقيا هوية أمازيغية واحدة لا كثرة فيها ولا تعدد، قول يثير رفضا واعتراضا لدى الكثيرين، لأنهم يساوون بين القول بوحدة الهوية والقول بالنقاء العرقي مع أن الأمر ليس كذلك. فوحدة الهوية ليست هي النقاء العرقي الذي لا وجود له بصورة كاملة حتى عند الجماعات المغلقة التي تمارس الزواج الداخلي Endogamie، فبالأحرى أن يكون هناك نقاء عرقي في مجتمعات ـ كالمجتمع الأمازيغي ـ مفتوحة، عرفت طيلة تاريخها الهجرات والغزو والاستعمار. فالمعروف أن ظواهر الهجرة والغزو والاستعمار لا تؤدي إلى تعدد في الهوية بناء على ما قد تؤدي إليه من تعدد عرقي. فهناك حالات ثلاث قد تنتج عن الاختلاط بين الشعوب بفعل الهجرات أو الغزو أو الاستعمار: 1 ـ إما أن يقضى الشعب الغازي أو المستعمِر على الشعب الأصلي بالإبادة والقتل، وبالتالي تموت هويته وتزول نهائيا، وتحل محلها هوية الشعب الغازي المستعمِر الذي يجعل من الأرض التي غزاها امتدادا جغرافيا وهوياتيا لموطنه الأصلي، كما حصل في أميريكا الشمالية على الخصوص، حيث اختفت ـ تقريبا ـ الهوية الأصلية للهنود الحمر وبرزت مكانها الهوية الأميركية ذات الأصل الأوروبي. وهذا ما لا ينطبق على الشعب الأمازيغي الذي لم يسبق لأي شعب أن أباده أو قضى عليه. 2 ـ وإما أن يؤدي الاختلاط الناتج عن الهجرات والغزو والاستعمار إلى تعدد حقيقي في الهويات ببلد ما، نتيجة الاستقرار النهائي والدائم للمهاجرين أو الغزاة بجزء معلوم من ذلك البلد، ولكن لا يؤدي إلى تعدد في الهوية الواحدة. وهذا ما نلاحظه مثلا في سويسرا وبلجيكا والعراق وإسبانيا. ففي سويسرا هناك أربع هويات متمايزة داخل بلد واحد: الهوية الألمانية، الهوية الفرنسية، الهوية الإيطالية والهوية الرومانشية. هناك إذن هويات قائمة بذاتها مستقلة بعضها عن بعض داخل بلد واحد، وليست هناك هوية متعددة بأربعة مضامين. وفي "بلجيكا" نجد هويتين مختلفتين ومتمايزتين هما الهوية "الفالونية" في الجنوب والهوية "الفلامانية" في الشمال، ولكن لا نجد هوية واحدة متعددة. ونجد كذلك في العراق (ما بعد صدام) هويتين متمايزتين هما الهوية العربية في الجنوب والهوية الكردية في الشمال. وفي إسبانيا نجد هويات متمايزة بعضها عن بعض كذلك، ومتواجدة جنبا إلى جنب داخل نفس البلد الذي هو إسبانيا: الهوية الكطالانية؛ الباسكية؛ الفشتالية؛ الكاليسية والأمازيغية (سكان جزر الكناري). فإسبانيا تضم إذن خمس هويات تشكل كل واحدة منها هوية قائمة بذاتها، ولا تضم هوية متعددة، لأن الهوية المتعددة لا وجود لها لتنافي هذا الوجود مع مفهومها وخصائصها، وبالتالي فالقول بهوية متعددة كالقول بمثلث مربع الأضلاع. فالهوية إما أن تكون واحدة أو لا تكون. في البلدان التي تعرف تعددا في الهويات (وليس في الهوية الواحدة)، نلاحظ إذن أن هذه الأخيرة تتمايز بعضها عن بعض، كما في الأمثلة التي ذكرنا، بحدودها الترابية (المكون الترابي الأول للهوية كما سبق أن شرحنا) واللسنية (المكون اللغوي الثاني للهوية). أما المغرب فهو ذو هوية واحدة، ولا تنطبق عليه حالة الهويات المتعددة كما في الأمثلة السابقة، لأنه لا توجد به أية هوية لها حدودها الترابية واللسنية التي تميزها عن هويات أخرى داخل نفس البلد الذي هو المغرب، كأن تكون هناك أرض عربية وأخرى أمازيغية حتى يصحّ الكلام عن وجود هويتين عربية وأمازيغية. 3 ـ وإما أن لا يكون للاختلاط الناتج عن الهجرات والغزو والاستعمار تأثير يذكر على الهوية الأصلية للشعوب التي تعرضت لتلك الهجرات أو ذلك الغزو والاستعمار، مثل الشعب العربي الذي حكمه الأتراك لأزيد من ثمانية قرون دون أن يؤدي ذلك إلى أدنى تأثير على الهوية العربية لتصبح هوية متعددة: عربية وتركية. بل لقد بقيت هوية عربية واحدة رغم ما قد يحمله الدم العربي من "جينات" تركية بفعل المصاهرة الناتجة عن الاختلاط بين الشعبين لمدة طويلة، كما أن الهوية الإيبيرية بإسبانيا هي واحدة رغم ما قد يحتوي عليه دم الشعب الإسباني من عناصر جينية عربية بفعل تواجد العرب بهذه الأرض لما يقارب تسعة قرون. وهذه الحالة الثالثة تنطبق، بصورة أصدق وأوضح، على الهوية الأمازيغية لسكان شمال إفريقيا. فقد وفدت على هذه البلاد شعوب مختلفة (غازية ومستعمرة ومهاجرة ومتاجرة..) من يهود وفينيقيين ورومان ووندال وعرب وأتراك وفرنسيين وإسبان.. ومع ذلك فإن هوية الشعب الأمازيغي بقيت واحدة ولم تصبح متعددة بتعدد هذه الشعوب، رغم أن الدم الأمازيغي قد يحمل بالتأكيد، عبر التزاوج والمصاهرة، جزءا من جينات هذه الشعوب التي خالطها الأمازيغيون في فترات من تاريخهم. أما العدد القليل من العرب الذين استقروا بشمال إفريقيا، فقد اندمج حفدتهم بالسكان الأصليين وتبنوا هويتهم وأصبحوا جزءا منهم، كما يحصل لكل من يهاجر إلى بلد ويستقر به بصفة نهائية: فبعد ثلاثة أو أربعة أجيال، أو أكثر، يصير الأبناء المنحدرون منه جزءا من السكان الأصليين، في هويتهم وانتمائهم، بعد أن أصبحت لهم هم كذلك ـ مثل السكان الأصليين ـ جذور (أجداد) بهذه الأرض، والتي (الجذور) تمنحهم الانتماء الهوياتي لهذه الأرض. ونوضّح أن لفظ "أجداد"، كما هو مستعمل في هذا التحليل لموضوع الهوية، لا علاقة له بالتصور العرقي للهوية، والذي يربطها بالأصل العرقي للأجداد. فلفظ "الأجداد"، في هذا الاستعمال، له وظيفة "ترابية" تعني المدة الكافية (عدد الأجيال) التي يصبح بعدها أحفاد من هاجر إلى بلد جديد، منتمين ترابيا وهوياتيا، مثلهم مثل السكان "الأصليين"، إلى هوية ذلك البلد الذي استقر به "جدهم" عندما كان مجرد مهاجر لا ينتمي هوياتيا بعدُ إلى تلك الأرض. ويجدر التذكير، هنا، بأن عدد العرب الذين استقروا بالمغرب أقل كثيرا ممن استقروا منهم ببلاد بفارس، نظرا للقرب الجغرافي لهذا البلد من موطن العرب الذي انطلقت منه الفتوحات. ومع ذلك فليس هناك من يقول بأن الهوية الإيرانية هوية متعددة: عربية وفارسية. فالهوية الأمازيغية، إذن، هوية واحدة، لا تعدد في أصلها ومضمونها الهوياتيي ـ وليس العرقي ـ الأمازيغي الصرف، مثله في ذلك مثل الشعب العربي نفسه، أو الفارسي أو الإسباني بمنطقة الأندلس… فهذه الشعوب عرفت غزوا واستعمارا وهجرات دون أن يؤدي ذلك إلى تعدد في هويتها. لا توجد إذن بالمغرب هوية عربية وأندلسية بجانب الهوية الأمازيغية، كما رسّم ذلك دستور 2011 الجديد، لأنه لا توجد لدينا هويات متعددة ومتمايزة قائمة بذاتها كما في بعض الدول الأخرى كما أشرنا وشرحنا. فمثلا في إسبانيا، الهوية الكطالانية معروفة بمنطقتها الجغرافية ولغتها الكطالانية، والهوية الباسكية معروفة كذلك بحدودها الترابية ولغتها الباسكية. لهذا نقول بأن إسبانيا تتشكل من هويات متعددة، ولكن ليس من هوية واحدة متعددة. أما بالمغرب، فأين توجد الهوية العربية بعنصريها الترابي واللغوي مجتمعين؟ فلا توجد بالمغرب منطقة عربية بسكان عرب ولغة عربية حتى نقول بأن هناك هويتين بالمغرب. فالعنصر العربي، إذا كان هناك من وجود لهذا العنصر، ذاب في الهوية الأمازيغية الأصلية وأصبح جزءا منها. أما من ينجح في تقديم الدليل على أنه عربي الهوية والانتماء، فسيكون قد قدم الدليل على أنه أجنبي ويجب التعامل معه على هذا الأساس، مثل أي شخص يقدم أوراقا تثبت أنه فرنسي أو ألماني أو روسي... أما إذا كان الأمر يتعلق بالأصل العرقي ـ والذي لا علاقة له بالهوية كما سبقت الإشارة وكما سنوضّح في ما بعد ـ العربي، الحقيقي أو المفترض، فالتعبير الصحيح والمنطقي هو أن يقول من يدعي هذا الأصل العرقي العربي بـ"أنه أمازيغي من أصول عربية"، للتمييز بين الانتماء الهوياتي والنسب العرقي، كما هي القاعدة في كل البلدان: فالرئيس الأميريكي الحالي (2012) "باراك أوباما" يقول بأنه أميريكي من أصول كينية (من كينيا)، ولكن لا يقول بأنه "كيني". وكذلك الرئيس الفرنسي السابق (نحن في أواخر 2012) "نيكولا ساركوزي" يقول بأنه فرنسي من أصول مجَرية (هنغارية) ولكن لا يقول بأنه "مجَري"، علما بأن النسب العرقي (الكيني والمجَري) لهذين المستشهَدين بهما ثابت ومؤكد، في حين لا يستطيع أي مغربي أن يثبت النسب العربي الذي يدعيه، والذي هو في الغالب نسب مفترض ومنتَحل لما له من وظيفة سياسية ودينية واجتماعية مرتبطة بهيمنة العروبة العرقية بالمغرب. هناك من يعترض: وأين توجد كذلك الهوية الأمازيغية بحدودها الترابية ولغتها الأمازيغية؟ لا حاجة للإجابة عن هذا السؤال لإثبات أن هوية المغرب أمازيغية. لماذا؟ لأن الأصل في سكان المغرب أنهم أمازيغيون وهويتهم أمازيغية، وعلى من يدعي العكس أن يثبت ذلك. مثلما أن لا حاجة لتقديم الدليل على أن هوية سكان جنوب إسبانيا (منطقة الأندلس) هوية إسبانية لأن الأصل في سكان هذه المنطقة أنهم إسبانيون رغم ما قد يجري في عروقهم من دم عربي وأمازيغي نتيجة أكثر من ثمانية قرون من احتلال هذه المنطقة من طرف المسلمين، لأن الانتماء العرقي لا تأثير له، كما شرحنا، على وحدة الهوية. الهوية والعرق: لقد قلنا بأن العرق ليس عنصرا في تحديد الهوية. وهو ما يتعارض مع قناعات رسّختها الثقافة العربية التي يحتل فيها العرق والنسب مكانة كبيرة وبارزة. وفي الحقيقة، إذا كانت الهوية لا تنفصل، في التصور العام الشائع لهذا المفهوم لدى الكثير من المثقفين المغاربة، عن الأصل العرقي والانتماء الإثني، فذلك لأن الثقافة المهيمنة بالمغرب هي ثقافة عروبية تعتبر العرق هو المحدد الأول، إن لم يكن الوحيد، للهوية. ومن جهة أخرى، يجب الاعتراف بأن العرق يلعب دورا لا يستهان به في التاريخ كسبب يفسر بعض أحداثه ومجرياته. وهو شيء نلمسه بسهولة في أن الكثير من الدول التي صنعت التاريخ قامت على العرق، كما أن الكثير من الملكيات العصرية، مثلما كان الأمر في القديم، هي ملكيات وراثية يقوم فيها توريث الحكم على قاعدة العرق والنسب. فكيف يعقل استبعاد العرق في تحديد الهوية إذا كانت له مثل هذه الأهمية والتأثير في السياسة والتاريخ الذي تصنعه تلك السياسة؟ لأن النقاء العرقي الكامل، أي الذي يمتد إلى عشرات الأجيال، لا وجود له بشكل مؤكد كما سبقت الإشارة. وحتى على فرض أنه موجود، فلا يمكن التحقق منه علميا وموضوعيا. فمن يستطيع أن يثبت بالمغرب أنه عربي أو أمازيغي مائة في المائة من الناحية العرقية؟ وإذا تزوج أمازيغي عربية، فماذا ستكون هوية أولادهما؟ هل ستكون أمازيغية أم عربية؟ لحل هذا الإشكال الذي يطرحه التصور العرقي للهوية، يقول أصحاب هذا التصور بأن هوية الأولاد الذين ينجبهم مثل هذا الزواج "المختلط" ستكون "متعددة"، أي أمازيغية وعربية. وهذا هو المأزق الذي يؤدي إليه المفهوم العرقي للهوية: فالعرق، بما أنه متعدد بسبب الاختلاط الناتج عن التزاوج والتصاهر، فإن ما ينتج عنه من "هويات" سيكون متعددا بتعدد الأعراق التي شكلت هذه "الهويات" تاريخيا. وهذا الفهم العرقي التعددي للهوية يلغي في الحقيقة مفهوم الهوية نفسه، لأن عدد هذه "الهويات"، ذات الأصل العرقي، سيصبح مماثلا لعدد العائلات والعشائر والقبائل والبطون التي ستقدر بالمئات، بل بالآلاف، وهو ما ينفي وجود هوية واحدة وقارة للشعب المعني. فضلا على أن الدولة، كما سبقت الإشارة، يجب منطقيا أن تعكس في هويتها هذا "التعدد" الهوياتي لتكون دولة أمازيغية عربية يهودية أندلسية صحراوية زنجية فاسية ريفية سوسية فينقية رومانية بونيقية وندالية إفريقية...، وكذلك فرنسية إسبانية ألمانية سويدية أميريكية كندية إيطالية... إلخ، لأن هناك مغاربة تزوجوا أجنبيات من هذه البلدان وأصبحت هوية أولادهم، حسب هذا المنطق العرقي التعددي، تحمل في جزء منها هوية هذه البلدان. هكذا نلغي الهوية عندما نريد ردها إلى العرق، الذي هو بطبيعته متنوع ومتغير ومتعدد الأصول بسبب اختلاط الأنساب الذي يفرضه التزاوج والهجرة والتنقل عبر الحدود. إذن، إذا لم يكن هناك نقاء عرقي صافٍ، فعلى أي أساس نقول بأن هوية المغرب والمغاربة هوية أمازيغية؟ على أساس أن أرض المغرب كانت دائما، ولا تزال، أرضا أمازيغية. فكل من ينتمي إلى هذه الأرض الأمازيغية، بغض النظر عن أصوله العرقية، فهو إذن أمازيغي الهوية، كما هو الحال بالنسبة لكل بلدان المعمور حيث تتحدد هوية شعوبها بانتمائهم الترابي ـ وليس العرقي ـ إلى تلك البلدان. ولنا أمثلة ـ كما سبق الاستشهاد بذلك ـ من الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي ذي الأصول العرقية الهنغارية كما هو معروف، لكن الفرنسيين انتخبوه رئيسا عليهم في 2007 لأنه أصبح فرنسي الهوية مثلهم بحكم انتمائه الترابي إلى الأرض الفرنسية، والذي (الانتماء) لا علاقة له بانتمائه العرقي الهنغاري. ونفس الشيء فيما يخص رئيس الولايات المتحدة "باراك أوباما"، ذا الأصول العرقية الكينية، والتي لا علاقة لها بانتمائه الترابي لأرض أميريكا، المحدد لهويته الأميريكية التي على أساسها انتخبه الشعب الأميريكي رئيسا له في الرابع من نونبر 2008. التنوع والتعدد في اللغة والثقافة، وليس في الهوية التي هي واحدة: وتبيان أن المغرب ذو هوية أمازيغية واحدة، لا ينفي وجود تعدد لغوي وثقافي وعرقي وحتى ديني، كما في كل بلدان العالم. ففي فرنسا مثلا، هناك تعدد لغوي يتمثل في تدريس عدد من اللغات الأجنبية بما فيها اللغة العربية والأمازيغية، بالإضافة إلى استعمال مجموعة من اللغات، من غير الفرنسية، من طرف الجاليات المهاجرة المقيمة بفرنسا، كما أن هناك تعددا ثقافيا يميز الحقل الثقافي بفرنسا المنفتحة على كل ثقافات العالم بما فيها الثقافة العربية. وهناك أيضا تنوع عرقي تجسّده الأصول الإثنية المختلفة للشعب الفرنسي. لكن كل هذا التعدد والتنوع على مستوى اللغة والثقافة والعرق والدين، لا يمس وحدة هوية فرنسا، النابعة من الأرض الفرنسية، والتي هي دائما هوية واحدة لا تعدد فيها ولا تنوع. بل إن التنوع اللغوي والثقافي والعرقي والديني بفرنسا، هو في خدمة وحدة الهوية الفرنسية، التابعة للأرض الفرنسية، والتي تغتني بهذا التنوع دون أن تفقد شيئا من وحدتها. وهذا ما نجده في كل البلدان التي تعرف تنوعا لغويا وثقافيا وعرقيا ودينيا لكن في إطار هوية واحدة، مستمدة من هوية الأرض. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه وضع التنوع اللغوي والثقافي والعرقي بالمغرب: أن يكون في خدمة الهوية الأمازيغية الواحدة للمغرب. نعم إذن للتعدد اللغوي والعرقي بالمغرب، نعم للتنوع الثقافي والديني، ولكن كل ذلك في إطار وحدة الهوية الأمازيغية الواحدة للمغرب، المستمدة من هوية الأرض الأمازيغية لهذا البلد. الهوية والجنسية: قد يبدو للوهلة الأولى أن الهوية هي الجنسية، وأنهما اسمان لمسمى واحد ما دام أن الذي ينتمي هوياتيا إلى دولة ما فهو يحمل في نفس الوقت جنسية هذه الدولة. لكن عندما نحلل مفهوم الجنسية، سنلاحظ أنه يختلف كثيرا عن مفهوم الهوية، وأنهما لا يتطابقان إلا نادرا واستثناء. فالجنسية هي رابطة قانونية وسياسية بين الفرد والدولة التي ينتمي إليها كمواطن. أما الهوية فهي رابطة "ترابية" بين الفرد والأرض التي ينتمي إليها كموطن دائم له. ولهذا، فحتى عندما يكون هناك "تطابق"، في الحالات النادرة، بين الهوية والجنسية، يبقى أن الشخص قد يكتسب ـ في الحالة التي يسمح فيها قانون بلده الأصلي بذلك مثل المغرب ـ، بجانب جنسيته الأصلية التي قد لا تختلف في هذه الحالة عن الهوية، جنسية أخرى يسري عليها قانون الدولة المانحة لتلك الجنسية عندما يكون موجودا ببلدها، مثله في ذلك مثل كل مواطني هذا البلد. أما الهوية فهي لا تُكتسب لأنها واحدة كما سبق أن رأينا. فلا يمكن للشخص أن تكون له هويتان مثلما يمكن أن تكون له جنسيتان. وهذا ما يفسر أن الكثير من المغاربيين الحاصلين على الجنسية الفرنسية مثلا، هم ضحايا سلوكات عنصرية لأن هويتهم ليست فرنسية رغم أن جنسيتهم فرنسية. أحفادهم فقط من الجيل الرابع أو الخامس، أو أكثر، يمكن أن يكونوا ذوي هوية فرنسية. ومن جهة أخرى ـ وهذا هو الفرق الأهم بين الجنسية والهوية ـ، إن الهوية قد تتسع لتشمل أكثر من جنسية واحدة، كما قد تضيق لتندرج أكثر من هوية واحدة تحت نفس الجنسية. فالهوية العربية مثلا تضم جنسيات متعددة مثل السعودية واليمنية والإماراتية والكويتية والقطرية والأردنية...، والهوية الأمازيغية تضم كذلك الجنسية المغربية والجزائرية والليبية...، والهوية الجرمانية تضم أيضا الجنسية الألمانية والجنسية النمساوية... إلخ. كما نجد العكس كذلك في حالة الجنسية الإسبانية التي تندرج ضمنها الهوية الفشتالية والكطلانية والباسكية والكاليسية، وفي حالة الجنسية العراقية التي تشمل الهوية العربية والهوية الكردية، وفي حالة الجنسية البلجيكية التي تضم كذلك الهوية الفلامانية والهوية الفالونية... إلخ. فالفرق في هذه الحالات والأمثلة بين الجنسية والهوية واضح: فأن يكون الشخص سعوديا في جنسيته فهو بالضرورة عربي في هويته، لكن أن يكون عربيا في هويته فلا يعني ذلك أنه سعودي في جنسيته، بل قد يكون يمنيا أو كويتيا أو قطريا أو أردنيا... إلخ. كما أن المغربي الجنسية هو بالضروري أمازيغي الهوية، لكن أمازيغي الهوية ليس بالضرورة مغربي الجنسية، فقد يكون جزائريا أو ليبيا أو حتى مصريا. فالهوية، لأسباب تطور تاريخي، ولأنها مرتبطة بالأرض ونابعة منها كما شرحنا، قد تنقسم إلى كيانات سياسية مستقلة بجنسيات قُطْرية ووطنية مختلفة، لكن مع بقاء هوية هذه الكيانات واحدة (موطن أصلي واحد ولغة واحدة). كما أن هويات متعددة، بحدودها الترابية واللسنية، قد تشكل كيانا سياسيا واحدا بجنسية قُطْرية وطنية واحدة، كحالة إسبانيا أو العراق أو بلجيكا أو سويسرا مثلا. الهوية بين الانتماء الأمازيغي والانتماء المغربي: هناك من يقول، كما نسمع ونقرأ ذلك دائما، ولتجاوز كل المشاكل والحساسيات والصراعات التي يخلقها ربط المغرب بالانتماء الأمازيغي أو العربي: "يجب أن نكون لا أمازيغيين ولا عربا، بل فقط مغاربة في هويتنا، وانتهى الأمر". رغم أن الانتماء إلى المغرب لا يعني الانتماء الهوياتي كما سبق أن شرحنا بخصوص التمييز بين الجنسية والهوية، إلا أنه من الممكن أن نقبل هذه "التخريجة" لو أن المغرب أصبح، لأسباب تطور تاريخي، ذا هوية واحدة تتطابق وتجتمع فيها الهوية الأمازيغية والجنسية القُطرية الوطنية، مثل حالة إيران التي تحمل هذا الاسم كدلالة على جنسيتها القُطرية الوطنية، والذي يحيل كذلك، دون لبس أو تأويل، على الهوية الفارسية للدولة الإيرانية، والتي هي هوية أرض بلاد فارس كما هو معروف. فلو أن المغرب هو حقا ذو هوية "مغربية" مستقلة وقائمة بذاتها، وليس مجرد انتماء إلى جنسية قُطرية (قُطر المغرب) تنتمي بدررها هوياتيا إلى العروبة، لما كان عضوا ـ أو لانسحب منها ـ بجامعة الدول العربية التي هي تجمّع يضم جنسيات مختلفة لكن شريطة انتمائها إلى الهوية العربية بمفهومها العرقي، ولما كانت الدولة المغربية تعتبر نفسها جزءا من الوطن "العربي" تنتمي إلى مجموعة الدول العربية بالمفهوم الهوياتي. فأين هو التميز الهوياتي (لنتذكر أن الهوية تميز) للمغرب عندما تكون هويته مستمدة من العروبة؟ إذن هذا الكلام ـ الاكتفاء بالانتماء إلى المغرب وليس إلى الأمازيغية ولا العروبة ـ لا يرمي إلى الاعتراف بالمغرب كهوية قائمة بذاتها مستقلة عن الهوية العربية، بل يهدف إلى محاصرة الأمازيغية ومنع مطالبها الهوياتية ليبقى الانتماء الهوياتي العربي للمغرب هو وحده السائد والمشروع. نلاحظ، في حالة التطابق بين الهوية والجنسية بالنسبة للدول التي تحمل اسما واحدا هو اسمها القُطري والهوياتي في نفس الوقت، مثل اليابان والصين وفرنسا والهند، أن هذا الاسم يدل دائما على الأرض واللغة (المكونان الأساسيان للهوية كما سبق بيان ذلك)، والشعب الذي يتكلم هذه اللغة ويسكن هذه الأرض. فأسماء اليابان والصين والهند وفرنسا مثلا تعني أسماء لأرض هذه البلدان، وأسماء للغات هذه البلدان ولشعوبها في نفس الوقت كما سبق أن شرحنا ذلك سابقا. أما لفظ "المغرب" فلا يدل على الهوية الأمازيغية لأرض تامازغا لشمال إفريقيا، ولا على اللغة الأمازيغية، ولا على الشعب الأمازيغي الذي يسكن هذه الأرض ويتحدث هذه اللغة. "المغرب" إذن تسمية أجنبية عن هوية الأرض وشعبها ولغتها، لأنها من وضع أجانب غرباء عن هذا الأرض ولغتها وشعبها. وبالتالي فلا معنى لكلمة "مغرب" إلا لدى هؤلاء الأجانب، التي تعني في لغتهم "جهة غروب الشمس" بالنسبة لموقعهم الجغرافي بجهة المشرق، والتي كانوا يقصدون بها، ليس المغرب الحالي بدلالته القُطرية، بل كل شمال إفريقيا حيث تغرب الشمس بالنسبة لهم من موقعهم في المشرق. أما الاسم الذي كان يطلق على المغرب كقُطْر ودولة، فهو اسم "مراكش" الذي هو اسم أمازيغي مركب يقال إنه يعني "أرض الله". ولأنه اسم أمازيغي فهو يتضمن دلالة هوياتية تدل على لغة السكان لأنه لفظ أمازيغي، وعلى أرضهم حيث يشير الجزء الأول من الاسم المركب، "أمور"، إلى الأرض، عكس كلمة "مغرب" التي لا تدل لا على أرض شمال إفريقيا الأمازيغية، ولا على لغتها الأمازيغية، ولا على سكانها الأمازيغيين. مما ينفي عن هذه الكلمة ـ المغرب ـ أي ارتباط بهوية الأرض الأمازيغية للمغرب. وتجدر الإشارة إلى أن الاسم الأجنبي للمغرب في اللغات الأوربية {Maroc (français), Marokas (lituanien) Marocco (italien), Marrocos (portugais), Morocco (anglais), Marokko (allemand), Marruecos (espagnol), Mapokko (russe), Maroko (estonien)}، والذي هو مجرد تكييف للفظ "مراكش" مع النطق المحلي لهذه اللغات، لا زال يحتفظ دائما بالعناصر اللغوية الأمازيغية ذات الدلالة الهوياتية الأمازيغية كما شرحنا ذلك أعلاه. كل هذا يعني أن اسم "المغرب" ليس هو اسمه الهوياتي وإلا لكان حاضرا في الاستعمالات الأجنبية بعد تكييفها مع النطق الأجنبي لتلك الاستعمالات. فكيف ومتى ولماذا أصبح قُطْر "مراكش" يحمل اسم المغرب؟ إن فرنسا هي التي ألغت التسمية الأصلية، مراكش، التي كان يعرف بها المغرب، وفرضت هذا الاسم العربي الأخير كجزء من التعريب السياسي الذي شرعت فيه منذ احتلالها للمغرب في 1912. فحتى يكون المغرب دولة عربية ينبغي أن يكون اسمه عربيا. في الحقيقة لقد خلقت فرنسا الدولة العربية الجديدة في المغرب بكل عناصرها "العربية"، بدءا من اسم المغرب، ونقل عاصمته من فاس التي كانت عاصمة لدولة مراكش، إلى الرباط التي أصبحت عاصمة لدولة المغرب العربية، ثم خلق منصب ملك على رأس الدولة بوظائف وسلطات سياسية جديدة موسعة، بعد أن كانت دولة مراكش الأمازيغية يحكمها سلطان بوظائف وسلطات غير التي أصبح يتوفر عليها الملك في دولة فرنسا العربية. وأخيرا، وحتى تكتمل الدولة العربية الجديدة التي أسستها فرنسا بالمغرب، خلقت لهذه الدولة العربية الجديدة علما وطنيا بنجمة خماسية بعد أن كان العلم الوطني لدولة مراكش الأمازيغية يحمل نجمة سداسية، ووضعت لها نشيدها الوطني الذي اختاره لها "ليوطي". واضح أن كل هذه التغييرات التي أدخلتها فرنسا على دولة مراكش الأمازيغية، كانت ترمي إلى استبدال هذه الدولة الأمازيغية بدولة المغرب العربية الجديدة ذات الأصل الفرنسي. النتيجة أن استعادة الهوية الأمازيغية للدولة بالمغرب، لا بد أن يشمل كذلك استعادة الاسم الأمازيغي للمغرب حتى يكون منسجما مع الهوية الأمازيغية لأرض المغرب. وذلك: ـ إما بتسمية المغرب "تامازغا" حتى يكون الاسم يدل على هوية الأرض واللغة والشعب والدولة: الأرض الأمازيغية واللغة الأمازيغية والشعب الأمازيغي للدولة الأمازيغية. وفي هذه الحالة سيكون المغرب هو "تامازغا الغربية" تمييزا له عن بلدان "تامازغا" الأخرى كالجزائر وتونس وليبيا. ـ وإما بالاحتفاظ باسم "المغرب" بعد أن يصبح، بتدخل للإرادة السياسية للدولة التي تكون أمازيغية في هويتها تبعا للأرض الأمازيغية التي تسود عليها هذه الدولة، مطابقا في دلالته القُطْرية الوطنية لمضمونه الهوياتي الأمازيغي الذي سيعني الأرض الأمازيغية للمغرب، مثلما نجد في الدول التي تحمل اسما قُطريا وطنيا مختلفا عن اسم الانتماء الهوياتي، لكن ذلك الاسم القُطْري يحيل على هوية الدولة النابعة من هوية الأرض التي تحمل اسما هوياتيا مختلفا عن الاسم القُطري الوطني، كما في حالة "بريطانيا" كاسم قُطري يحيل على الاسم الهوياتي الذي هو"إنجلترا"، أو "إيران" كاسم قُطري يحيل على الاسم الهوياتي الذي هو "فارس"، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. الهوية والدين: لقد حصرنا مكونات الهوية في الأرض اللغة، مع استبعاد للدين من ضمن هذه المكونات. أعرف أن القول بأن الدين ليس من مكونات هوية الشعوب والدول قد يثير استغراب ورفض الكثيرين، وخصوصا عندما يكون هذا الدين هو الإسلام الذي يمارسه قرابة مليار ونصف مليار مسلم في العالم، والذي هو دين ذو بعد كوني موجه إلى كل العالمين. فكيف لدين عالمي لا يكون جزءا من هوية الشعب المغربي الذي يؤمن بهذا الدين ويمارسه؟ ما علينا للإجابة عن هذا السؤال إلا الرجوع إلى تعريفنا للهوية: مجموع الخصائص الملازمة لشعب ما ينفرد بها وحده، والتي بها يختلف ويتميز عن باقي الشعوب الأخرى. فهل الإسلام خاصية ينفرد بها المغاربة دون سواهم؟ هل الإسلام هو ما يميز المغاربة عن غيرهم من الشعوب الأخرى؟ هل الإسلام ملازم للمغاربة، منذ أن كانوا وحيثما كانوا، كالموطن واللغة؟ طبعا لا، لأن الإسلام خاصية يشترك فيها مع المغاربة عشرات الشعوب الأخرى (أزيد من مليار مسلم). فالإسلام، إذن، ليس هوية لأي شعب من الشعوب المسلمة، بما فيهم الشعب العربي: الإسلام ليس خاصا بالشعب العربي ولا الشعب الأمازيغي ولا بأي شعب آخر. فالشعب العربي مثلا كان موجودا بهويته العربية، بركنيها الترابي واللغوي، قبل أن يظهر الإسلام، كما أننا نجد ضمن العرب مسلمسن وغير مسلمين. فالإسلام، كعقيدة، مستقل إذن عن الهوية، لأن الدين ليس من الثوابت والشروط الملازمة لهوية شعب ما، والتي ينفرد بها عن الشعوب الأخرى، وإنما هو من المتغيرات التي تنضاف إلى الهوية، والقابلة للتحول والتغير حسب الظروف والعصور والتاريخ، كما يشهد على ذلك تاريخ الأمم والشعوب في علاقتها بالدين، بما في ذلك العرب والأمازيغ. بل إن اعتبار الإسلام هوية للمغرب قد ينتج عنه تناقض مربك: فسيترتب عن ذلك أن إيران، أو أية دولة إسلامية أخرى، إما أنها ليست مسلمة لأن الإسلام خصوصية مغربية، أو أنها جزء من المغرب لأنها تشترك معه في هذه الخصوصية. وهذا غير معقول طبعا. نعم يمكن للإسلام، مثلما هو دين للدولة ولشعبها، أن يكون مرجعية لهما يستمدان منه القوانين والتشريعات، لكن دون أن يعني ذلك أنه يشكل هويتهما. فالذين يعتبرون الإسلام هوية الإنسان المسلم، إما أنهم لا يفهمون معنى "الهوية" ـ وهذا هو الغالب ـ أو لا يعون حقيقة الإسلام كدين كوني. فالقول بأن الإسلام هوية يتعارض مع اعتباره دينا كونيا، ويجعله دينا "محليا" مرتبطا بهذه الهوية المحلية أو تلك، مثل الديانة اليهودية.. أجل، الديانة اليهودية هي فعلا مكون ثابت وجوهري يدخل في تشكيل الهوية اليهودية: فالدين اليهودي، منذ ظهوره إلى اليوم، هو دين خاص باليهود وملازم لهم ويتميزون به عن الشعوب الأخرى، وليس من مبادئ هذا الدين العمل على نشره بين الشعوب الأخرى ذات الهويات المختلفة. فهو إذن جزء جوهري في الهوية اليهودية. ولأنه دين "هوياتي" فهو دين "محلي" وخاص، وليس دينا كونيا وعاما يتوجه إلى كل البشر باختلاف انتماءاتهم وهوياتهم، كما هو شأن الدين الإسلامي. الهوية والدولة: إذا كنا قد أفردنا هذه الفقرة خصيصا للعلاقة بين الدولة والهوية، رغم إشاراتنا المتعددة لهذه العلاقة، فليس ذلك من باب التكرار العقيم والممل، بل بسبب أهمية هذه العلاقة وما يلفّها من لبس كبير لدى الحركة الأمازيغية، وهو ما نتوخى، في هذه الفقرة، رفعه وتبديده بتحديد وتوضيح طبيعة العلاقة بين الدولة والهوية. إذا كانت الأرض، كما سبق بيان ذلك، هي التي تحدد هوية الشعب الذي يعيش فيها وينتمي إليها، وإذا كانت هذه الأرض، كما هو معروف، ركنا ماديا لوجود الدولة التي تحكم هذا الشعب، فالنتيجة أن هوية هذه الدولة تابعة لهوية هذه الأرض ونابعة منها، عاكسة لها وناطقة باسمها. وبالتالي فلا يمكن تصور هوية الدولة مختلفةً عن هوية الأرض التي تنتمي إليها وتسود عليها هذه الدولة إلا، في حالة الاستعمار، حيث تكون الدولة المستعمِرة (بكسر الميم) أجنبية عن الأرض التي تحتلها وتستعمرها. وبما أنه لا توجد دولة بلا أرض تسود عليها وتنتمي إليها، فإن الأرض والهوية والدولة مفاهيم تشكل، في ما يخص هوية الشعوب كالشعب الأمازيغي، وحدةً لا يمكن الفصل بين عناصرها الثلاثة لأنها، كلها، تعبير عن مفهوم الأرض التي تمنح هويتها لكل من الشعب والدولة التي تمثّل ذلك الشعب في تلك الأرض. ولهذا فإن موضوع الهوية الأمازيغية هنا، في إطار القضية الأمازيغية، وكما سبق التأكيد على ذلك، لا علاقة له بهوية الأفراد بالمفهوم السيكولوجي والفلسفي، ولا بهوية الجماعات بمفهوم الانتماء العرقي، ولا بهوية المنطقة بمفهوم الوحدة الترابية للجهة.. وإنما يتعلق الأمر بهوية الدولة التي تضم كل الأفراد وكل الجماعات وكل المناطق المنضوية كلها ـ الأفراد والجماعات والمناطق ـ تحت سيادتها السياسية والهوياتية. وهو ما يعني أن كل من يخضع لسلطة هذه الدولة فهو تابع بالضرورة لهويتها التي تستمدها من الأرض التي هي موطن للجميع (الأفراد والجماعات والمناطق)، باستثناء حالات تعدد الهويات ـ وليس التعدد في الهوية الواحدة الذي لا وجود له ـ ذات الحدود الترابية واللسنية الواضحة والمتمايزة داخل الدولة الواحدة، كما سبق أن رأينا ذلك وشرحناه. إذن مفهوم الهوية، ولأنه مرتبط بالأرض ومستمد منها وتعبير عن الانتماء إليها، فهو لا ينفصل عن مفهوم الدولة التي لا وجود لها إلا بوجود أرض تنتمي إليها وتمارس عليها سيادتها باسم هذا الانتماء. فهوية الدولة إذن، هي العنوان الكبير المعبر عن هوية الأرض والوطن والشعب، والمرآة العاكسة لهذه الهوية. ولهذا نجد أن اسم الدولة، في غالبية الأحوال العادية، هو نفسه اسم الأرض التي تنتمي إليها هذه الدولة، والتي (الأرض) تعطي هذه الأخيرة هويتها التي هي بالتبعية هوية شعبها، مثل: الصين، الهند، فرنسا، اليابان، فيتنام، تركيا، أندونيسا، الدانمارك... إلخ. فموضوع الهوية، كما في حالة القضية الأمازيغية، لا يحيل إذن على أي مضمون سيكولوجي أو عرقي، بل هو ذو مضمون ترابي سياسي لارتباطه بالدولة التي تمارس سيادتها السياسية على أرضها باسم الانتماء إلى هذه الأرض، إلا في حالة الاستعمار كما سبقت الإشارة. فلا معنى إذن للمطالبة باستعادة الهوية الأمازيغية خارج المطالبة باستعادة السيادة الأمازيغية على الأرض الأمازيغية للمغرب، متمثّلة (السيادة) في دولة أمازيغية. ونذكّر، بالنسبة للذين لم يتتبعوا كتاباتنا ومناقشاتنا حول مفهوم الهوية، أن الدولة الأمازيغية المعنية هنا، كما هو الشأن لدى جميع دول العالم، لا علاقة لها بأي محتوى عرقي وإثني، بل هي ذات مضمون ترابي يحيل على الأرض التي تنتمي إليها هذه الدولة، وتمارس عليها سيادتها باسم هذا الانتماء الترابي وليس العرقي. بناء على هذا المفهوم السياسي للهوية، المرتبط مباشرة بمفهوم الدولة، ندرك الطريق الخطأ الذي سارت فيه الحركة الأمازيغية منذ نشأتها، عندما ظلت دائما تطالب برد الاعتبار إلى الهوية الأمازيغية كلغة وكثقافة وكتاريخ وكاعتراف بالأمازيغيين وكعناية خاصة بـ"المناطق" الأمازيغية...، لكن مع سكوتها عن المطالبة بدولة أمازيغية تكون هي الترجمة التامة لاستعادة الهوية الأمازيغية كاملة، ما دام أن المغرب أرض أمازيغية ينبغي، تبعا لذلك، أن تكون الدولة التي تسود على هذه الأرض أمازيغية، تتطابق (لنتذكر أن الهوية تعني المطابقة) هويتها مع هوية أرضها الأمازيغية التي تمارس عليها سيادتها باسم الانتماء إليها. ولهذا فإن إعادة تمزيغ السلطة السياسية بالمغرب، أي تمزيغ الحكم والدولة، هوياتيا وليس عرقيا، هو تصحيح لوضع شاذ، ومصالحة بين الأرض والسلطة، بين الشعب والدولة، حتى تكون تلك الدولة منتمية إلى ذلك الشعب، وذلك الشعب منتميا إلى تلك الدولة لاشتراكهما في نفس الهوية التي هي الهوية الأمازيغية للأرض الأمازيغية للمغرب. وغياب مطلب الدولة الأمازيغية، بمفهومها الترابي دائما، لدى الحركة الأمازيغية، يجعل كل مطالبها الأخرى ذات مضمون عرقي صراعي (أمازيغي/عربي، مناطق أمازيغية/مناطق عربية، لغة أمازيغية/لغة عربية، شعب أصلي/شعب وافد...) غير مفيد على مستوى الدفاع عن الهوية الأمازيغية كهوية للأرض الأمازيغية ولكل من ينتمي إلى هذه الأرض، بغض النظر عن أصوله العرقية والإثنية. هذا الموقف، للحركة الأمازيغية من مسألة الهوية، ناتج عن تبنيها للمفهوم العروبي للهوية، والذي لم تستطع هذه الحركة التخلص منه بعدُ، والذي هو مفهوم عرقي يربط الهوية بالنسب والأصل والدم. وهذا التوجه "العرقي" للحركة الأمازيغية، في فهمها للهوية الأمازيغية والدفاع عنها، هو ما يريده خصوم الأمازيغية، لأن ذلك يوفر لهم الدليل للقول بأن هذه الحركة حركة عنصرية تريد تقسيم المغرب إلى عرب وأمازيغ على أسس عرقية وإثنية. ولتصحيح هذا الطريق الخطأ الذي لا تزال الحركة الأمازيغية سائرة فيه، ينبغي الانتقال من المطالب التي تقوم على التقابل بين "الأمازيغي" و"العربي" داخل المغرب، إلى المطالبة بالدولة الأمازيغية ذات الهوية الأمازيغية المستمدة من الأرض الأمازيغية للمغرب، والتي يسكنها شعب بهوية أمازيغية تبعا لأرضه الأمازيغية بغض النظر عن الأصول العرقية لمكونات هذا الشعب، والتي هي أصلا مختلفة ومتنوعة فيها ما هو عربي ويهودي وفينيقي ورماني وأندلسي... بجانب ما هو أمازيغي. الهوية في الدستور الجديد (يتبع) *انتشار هذا المفهوم العامّي لدى الكثير من المثقفين لا ينتقص شيئا من مستواهم الفكري والعلمي. والدليل على ذلك أن أمين معلوف، الكاتب والمفكر المعروف وعضو الأكاديمية الفرنسية، يتبنى نفس التصور العامّي التعددي للهوية في كتابه "الهويات القاتلة" (ترجمة د.نبيل محسن، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، دمشق، 1999).
#محمد_بودهان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اللغة العربية أو -المعشوقة- التي لا يرغب أي من عشاقها في الز
...
-
وما ذا بعد إقرار اللغة الأمازيغية في -ويندوز 8-؟
-
التعريب والهوية بالمغرب
-
-الفانطاسمات- اللسنية حول الأمازيغية بالمغرب
-
الأساطير المؤسسة للعروبة العرقية بالمغرب
-
متى سيتصرف حكام تامازغا، من أبناء المهاجرين العرب، مثل الرئي
...
-
-اتحاد المغرب العربي- أم الاتحاد ضد الأمازيغية؟
-
هل الأمازيغية ملك لكل المغاربة أم أن كل المغاربة ملك للأمازي
...
-
من أجل ثوابت جديدة للدولة بالمغرب: الأمازيغية والإسلام بدل ا
...
-
لماذا صُنّف المغرب في مؤخرة الدول العربية على مستوى التعليم؟
-
»الشذوذ الجنسي« الحقيقي هو الذي تمارسه الدولة بالمغرب
-
التهويد بفلسطين والتعريب بالمغرب: وجهان لسياسة عنصرية واحدة
-
من أجل إسلام مستقل عن العروبة بالمغرب
-
دعاة التعريب أو المشركون الجدد
-
من أجل دولة أمازيغية الهوية بالمغرب
-
هل تختلف القومية العربية عن الحركة الصهيونية؟
-
الأمازيغية بين الوعي الإيديولوجي الزائف واستعادة الذاكرة الج
...
-
علي صدقي أزايكو، المفكر الذي جاء قبل زمانه*
-
عندما تُوظّف فلسطين لاستكمال تعريب المغاربة
-
الثقافة السياسية -للظهير البربري- وأسباب التخلف السياسي والا
...
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|