|
اليسار التونسي: صياغة البرنامج بين المعيقات والآفاق.
جبران أديب
الحوار المتمدن-العدد: 3956 - 2012 / 12 / 29 - 02:34
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
هل يتجاوز اليسار التونسي مِحنَه وقصورَه بإبداع؟ الحلقة السابعة- اليسار التونسي: صياغة البرنامج بين المعيقات والآفاق.
انتظمت أغلب فصائل اليسار الجذري وحركاته مؤخرا في الجبهة الشعبية، وهذا في حد ذاته تحقيق لحلم من أحلام اليسار، ونشرت نصا تأسيسيا وبيانات اطمأن لها اليساريون المشتتون بين أحزاب صغيرة ومجموعات مستقلة وأفراد اطمئنانا نسبيا، ولكنها لم تبلغ بهم بعد برد اليقين؛ فمازالت الرؤى غامضة، وصياغة البرنامج لم تكتمل بعد؛ فلماذا مازال اليسار مترددا في بلورة رؤيةٍ وبرنامجٍ رغم إفصاحه عن دفاعه عن الحريات السياسية والفكرية، وتبنيه للمكاسب التقدمية للمسار الإصلاحي والتحديثي في تونس منذ مرحلة النهضة في القرن التاسع عشر، وعن تبنيه لمبادئ الديمقراطية والتداول السلمي على الحكم، ودفاعه عن ركائز دولة القانون والمؤسسات من جهة، وانحيازه لقضايا المهمشين والمفقرين من جهة أخرى؟ لماذا لا نستطيع أن نلمس صفاءً وخلاصة تأليفية دقيقة وعميقة لكل تلك المقولات في خطاب الجبهة الشعبية؟ ولماذا نراها مازالت مشدودة بعض الانشداد إلى الماضي و إرثه وميكانيزمات أداء الفصائل والخطوط والأحزاب والحركات فيه؟ ولماذا مازلنا لا نرى تحديثا وعمقًا في أطروحات اليسار الفلسفيّة وتجديدًا في فكره السياسي؟ ولماذا لا نرى قوة استشراف استراتيجي وقدرة على توقع الأحداث وخاصة توقع صائب لتوجهات المنافسين والخصوم ومناوراتهم؟ من الواضح أن يسار الجبهة الشعبية التونسية يحتاج جرأة وجهودا كبيرة أولا –ويا للمفارقة - ليقنع نفسه "باختياراته" الجديدة فما بالك باقناع الجماهير بها؛ إذ بدا وكأنه يساير الأحداث ويتفاعل معها يوما بيوم دون أن يحدد البوصلة تحديدا دقيقا وأنىّ له ذلك! وكثيرا ما نرى اليسار يشتكي من حملات التشويه . وها هو "حمة الهمامي " الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية - وهو من أعرق وجوه اليسار الجذري التونسي ومن أكثرها شرعية نضالية وسجنية ومصداقية وصفات إيجابية – مازال بعد سنتين من الثورة ينتقد (في اللقاءات التلفزيونية والحوارات والندوات الصحفية)، إدعاء الخصوم بأن اليسار يطرح إلغاء الملكية الخاصة والفردية، ويخطط لتأميم الأرض، ويدعو إلى دكتاتورية البروليتاريا. ولكن أفلا يتساءل اليسار لماذا حصل ذلك من حكومة قايد السبسي ويحصل كذلك من حكومة الجبالي ويصدر حتى عن كثير من الفرقاء السياسيين بمن فيهم الوسطيين ؟ هل يفسر ذلك فقط بحملات التشويه المقصودة وغير المقصودة؟ وإذا كان ذلك فعلا، أفلا يكون للجبهة الشعبية "يد" في تلك القراءات والتأويلات حين يكون خطابها غير متلائم مع "برنامجها" الذي لم ينشر بعد، بل لم يصغ بعد!؟ وكيف ينقد اليسار (وكذلك كل التقدميين) الإسلاميين – عن حق – بسبب إزدواجية الخطاب ولا ينقد نفسه ولا يفعل شيئا واضحا لتحاشي أن يقذف بالتهمة نفسها؟ وما الذي ينوي اليسار فعله حتى يكف عن تلك الشكوى التي تبدو تظلمية مفتعلة (قد يطلق عليها الخصوم تهمة "دموع التماسيح"على سبيل المناورة والتخجيل والتبكيت)، وإلى متى يقف موقف الدفاع المحشور في الزاوية: يبرر به الخصومُ حملات التشويه التي يشنونها؟ ومتى يزيل كل دوافع سوء الفهم والغموض الذي قد "يغالط" حتى المناصرين والحلفاء الحاليين والمتوقَّعين؟ الواقع إن اليسار التونسي "معذور" لما أسلافنا ذكره في الحلقات السابقة حول تجربته وماضيه من جهة، وحول مصادره ومنابع فكره وما عاناه ومافتئ يعانيه من مآزق وانهيارات. ولكن عذره هذا يجب ألا يبقى أزليا. الجبهة الشعبية - إذن- مازالت في عتبة الطريق بل لعلها لم تنطلق بعد، وهي في حاجة ماسة وأكيدة وعاجلة أيضا لمناقشات عميقة وموسعة وضافية حتّى تلائم نسبيًّا بين الاتّجاهات اليسارية المختلفة التي تتشكّل منها، والتي تطرح أطروحات متباينة من قبيل "الثورة الاشتراكية" و "الثورة الوطنية الديمقراطية" و"الثورة الديمقراطية المعادية للإمبريالية" و "الثورة الشعبية " و "ثورة الشعب المسلح" و"ثورة الشعب طويلة الأمد" من جهة، هذا عدا توجهات الأحزاب الاشتراكية الوسطية ورؤى المجموعات والأحزاب ذات الميول القومية من جهة أخرى. كما أنها تحتاج لمناقشات عميقة بين مكوناتها لتحديد مقتضيات الفعل في المرحلة الحالية ما بعد 23 أكتوبر 2012 التي تبدو كأنها "المرحلة الثالثة السكوتية" للانتقال الديمقراطي الاضطراري لتقويم فشلها في الفوز في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011. والجبهة الشعبية ستضطر يوما ما - قد يكون متأخرا مرة أخرى – لمراجعة أوراقها في العمق وربما لإعادة التشكّل إذا لم تقم الآن بإعادة تقييم حقائق ثورة الشعب التونسي باعتبارها ثورة سياسية تحرريّة غير موسومة بميسم إديولوجيّ محدد، قام بها الشّعب بدون قيادة متجانسة، ولم تطرح الشّعارات الثورية المذكورة آنفا، ولم تقترب من تلك الشعرات كثيرا كما يحلو لليسار تخيُّله. إنّ ما يحصل غالبا هو أن المجموعات اليسارية - شديدة الحماس قوية الفاعلية آنيا وظرفيا - ترفع شعاراتها ويسايرها فيها جزء من الشعب مسايرة تحتاج إلى كثير من الضبط والتقويم، فتخال أن الشعب بأسره يتبناها. والحال أنه يجب التنبيه إلى أن الثورة التونسية اكتفت بالمطالبة بإسقاط الأسرة الحاكمة مع إنجاز مهمة حلّ حزبها الحاكم، ورفع شعار "شغل حرية كرامة وطنية"، والدعوة إلى القضاء على المحسوبية والمطالبة بمحاسبة الفاسدين ماليا وسياسيا. ولم تتجاوز مطالبُ الشعب هذا الحد تجاوزا منهجيا وعميقا ومجمع عليه. وإذا كان الإسلاميون الحاكمون قد اتّجهوا بالثورة اتجاها إيديولوجيا يخالف شعاراتها (وهذا ما بات الآن واضحا للعيان وليس بعده بيان، وأصبح معظم الشعب التونسي ينفر منه) فلا بد أيضا من تذكير الجبهة الشعبية (وحتى غيرها من الأحزاب كنداء تونس والتحالف الديمقراطي، والجمهوري، والمسار ، وبقية مكونات المشهد السياسي...)، بأن الثورة التونسية ثورة شعبية فوق الأحزاب. صحيح أنها ثورة تغلب عليها سمات "إيديولوجية" تقدمية وحداثية، ولكنها أيضا فوق الإيديولوجيات بصفتها الحزبية النسقية؛ فهي ليست ثورة بورقيبية ولا ماركسية ولا قومية ولا إسلامية، بل يمكنني أن أذهب إلى القول إنها ضد كل تلك الإيديولوجيات النسقية كلها، وإن لم يتم الإعلان عن ذلك لعدم وجود قيادة. هي ثورة يتبنى قسم كبير من شعبها الأفكار التحررية الديمقراطية الاجتماعية التي تبدو ثقافة مشتركة لدى أوسع فئاته، حتى وإن شارك فيها النقابيون والسياسيون بأطيافهم، وتحمّس فيها اليساريّون والقوميون أكثر من غيرهم، وانضم إليها الاشتراكيون الوسطيون، وشارك فيها حتى الليبراليون أيضا، وأسهموا فيها بقسط ما وإن كان محدوداً. ويلاحظ المراقبون أن الإسلاميين لم يشاركوا في الثورة إلا فرادى، ومن شاركوا منهم هم بعض القواعد المعدودين، في حين لاذ قادتهم - خاصة المتواجدون في تونس - بالصمت، وانبرى بعضهم يناشد بن علي "لإنقاذ البلاد كما أنقذها في السابع من نوفمبر 1987 " كما جاء على لسان أحد قيادييهم لإحدى الفضائيات العربية. ومن انضم إليها منهم كان ذلك في آخر اللحظات، بل ظلّ الكثير ين منهم مترددين حتى يوم الخامس عشر من يناير/ جانفي، متذرعين بدعوى أنهم كانت لهم "ظروف" يتعلّلون بها. وقد عذرهم الشعب، بل بلغ به التسامح أن تجاوز عن محاسبتهم على أخطاء العنف والتفجيرات في الماضي، وتفاعلت معهم النخبة السياسية الديمقراطية والحداثية وتفهمتهم لاسيما تلك التي اشتركت معها في حركة 18 أكتوبر 2005... وبُعَيْدَ تأكدهم من سقوط رأس النظام ، شرعوا في إجراء اتصالات هنا وهناك في الخارج منذ 17 من يناير/ جانفي تأكدت مؤشرات افتراقهم عن الاتجاه العام للثورة التونسية حين سافر وفدهم إلى أمريكا ولكنهم أسرُّوا سعيهم وكتموه إلى حين تأكدوا من قطف ثمار الثورة لصالحهم. ومن غرائب الأمور أن اليساريين اجتمعوا مع الإسلاميين في جبهة 14 جانفي ولجان حماية الثورة إلى أن ظهرت الهيئة العليا للإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي؛ فنحا كل طرف منهم منحى ما، وظلت سبل أطرافها تتقارب لتتباعد في مسار مضطرب تقريبا حتى الإعلان عن موعد انتخابات 23 أكتوبر 2011. وهذه المرحلة تحتاج إلى المراجعة والاستقراء بدقة وعمق حتى تستخلص منها الدروس. ولابد من التشديد على أن الثورة التونسية لم تدعُ إلى شيء مما يشكِّل مادة سياسية مكتملة وحقيقية تطابق البرامج التي يتبناها اليسار عادة، بل رأينا شعاراتها وإن كانت تلتقي مع شعارات اليسار بعض الالتقاء فإنه مجرد التقاء جزئي لا كل الالتقاء؛ ذلك أن الثورة التونسية "توافقية" بامتياز؛ تقترب من الفكر الإصلاحي الاجتماعي العميق ذي المضمون الحداثي التحرري وتقترب أيضا من أفكار اليسار الجذري، مع التوضيح أنها بعيدة بمسافة كبيرة عن أفكار أقصى اليسار الراديكالي (الذي فضل التموقع خارج الانتخابات وخارج المجلس التأسيسي وبعضه حتى خارج الجبهة الشعبية)، كما هي أيضا بعيدة عن أفكار حزب التحرير والمجموعات السلفية . إن الثورة لم تطالب بإنجاز المهمات التي نجدها مسطورة في أطروحة "الثورة الاشتراكية " أو "الثورة الديمقراطية المعادية للإمبريالية" أو أطروحة "الثورة الوطنية الديقراطية ذات الأفق الاشتراكي"...إلخ. ولئن وضعت المؤسساتِ الأمنية والقضائية والدستورية محلّ سؤال، ودعت إلى "تطهيرها" و إعادة هيكلتها، فإنها أشادت بدور الجيش التونسي وتوقفت عن مساءلته، ولم تطرح شيئا عن هيكلته في سبيل جعله جيشا شعبيا ثوريا كما قد يدعو إلى ذلك بعضهم . ولم تطرح الثورة مسألة التّبعية طرحا سياسيا واقتصاديا منهجيا، ولم تضع العلاقات الدّولية غير المتوازنة وإشكاليات الهيمنة الاقتصادية وتحديات العولمة وسطوة الرأسمالية ...إلخ، محلّ السؤال الفلسفي ةالسياسي، و إن كانت محلّ الاستشكال من جهة كون الشعب يدرك أن نظام "بن علي" قد خدم القوى الغربية واحتمى بها واستمد منها أسباب بقائه. ثم إن الثورة لم تفكر من قريب أو من بعيد بأي صيغة من الصيغ فيما يسميه أقصى اليسار الراديكالي ثورة الشعب طويلة الأمد حتى لو كانت ثورة سلمية! ولا أراها ستتبنى أي مشروع في المدى المنظور وحتى المتوسط يمكن أن يغير الملكية الفردية خاصة للأرض، ولا غيرها من دعائم الاقتصاد "ماقبل – الاشتراكي" أيا كانت قراءة طبيعة المجتمع حسب توصيفات اليسار على اختلاف فصائله المتدرجة في الراديكالية. فهل يراجع اليسار فلسفته وبرامجه؟ وهل يدرك اليسار دروس التاريخ؟ إنّ الدرس الأبرز - في الثورة التونسية ثم في الانتخابات التونسية الماضية – هو طريق اكتشاف الحقيقة الميدانية، طريق الواقع لا الوهم، طريق الإنصات إلى الشعب التونسي لا الذات وإدراك رؤاه وأحلامه بشكل فعلي وانتهاج طريق العمل الميداني الملموس لاستمالته وإقناعه ببرنامج مناسب. وتلك هي أيضا طريق فهم المنافس وإدراك آليات خطابه واتجاهاته وتوقع تكتيكاته. ولئن نجحت النهضة في توظيف البعد الديني قبيل الانتخابات وبعيدها بقليل (ينظر مقالات العربي بن ثائر في موقع الأوان أون لاين وخاصة الخطاب الإسلاموي الواقع والممارسة، ومقالات بيرم ناجي ومصطفى القلعي مثلا في موقع الحوار المتمدن)، فقد اهترأ هذا الخطاب شيئا فشيئا واكتشف التونسيون زيفها بسبب فشلها في تحقيق وعودها، وبفضل جهود معارضيها والمجتمع المدني في بيان تهافت خطابها. ولئن حاولت أيضا استثمار الظاهرة السلفية من داخل النهضة ومن خارجها في إخافة المعارضين وجس نبض مدى قوة الحس المدني لدى الشعب التونسي أم هشاشته، فقد انقلب السحر على الساحر. ولئن حاولت النهضة أيضا تأثيم الاحتجاجات الاجتماعية دينيا (وخطاب نائبها وأمينها العام الأسبق الصادق شورو في المجلس التأسيسي عندما استشهد بآية الحرابة خير دليل) فقد تقبّلها معظم الشعب التونسي بالاستنكار الشديد والإدانة المطلقة. ولئن مالت إلى العدول عن التأثيم الديني لتلك الاحتجاجات إلى التجريم القانوني والأخلاقي، كما حصل في سيدي بوزيد في الصائفة الماضية وسليانة في الأيام الحالية، متذرعة بالمصلحة الوطنية وبالأعذار الاقتصادية والظرفية العامة لانكماش الاستثمار ، رامية التهم جزافا يمينا وشمالا غير مستثنية الاتحاد واليسار كالعادة، فقد باءت أيضا بالفشل الذريع؛ لانعدام ثقة المفقّرين وعامة الشعب في خطابها الذي يتناقض مع أفعالها بل ها هي الآن تحشر نفسها في الزاوية أمام مدّ جماهيري متعاظم يهزّ أركانها هزا، حتى أن حليفها الرئيس المرزوقي اعترف ضمنيا بالفشل وحمل نفسه والحكومة والمجلس التأسيسي المسؤولية، بل رجع إلى المقترحات الأولى التي قدمتها المعارضة بعيْد الانتخابات (من قبيل تشكيل حكومة تقنية مصغرة على قاعدة الكفاءة لا على القاعدة البائسة لتجربة المحاصصة الحزبية والولاء). فشلت النهضة في كل شيء تقريبا ولكنها مازالت فتية ولن تلقي السلاح. وأعتقد أنها –بمعية بعض الأحلاف القدامى أو الجدد- ستركز قبيل الانتخابات على تغيير خطابها بدرجة كبيرة ظاهريا دون المساس بجوهر دغمائيتها وإيديولوجيتها البائدة: • في خصوص الخطاب اليساري: سيسحبون مقومات خطاب أقصى اليسار الراديكالي ليعمموها على اليسار الوسطي والراديكالي في حملة تشويه ستتركز هذه المرة لا على الجانب الديني العقدي بل على اتهام اليسار ب"اشتراكية الفقر"، و العمل على "الانعزال عن المجتمع الدولي " و تكريس التطرف" و الدعوة إلى "دكتاتورية البروليتاريا" عبر "التطاحن الطبقي"....إلخ. • سيدرك الإسلاميون أن الناس سيقيمونهم هذه المرة كحاكمين لا كمحكومين كما كان الأمر في المرة السابقة، وسيتذكرون أخطاءهم والخلل الذي قادوا البلاد إليه أكثر مما سيتذكرون خلل من سبقهم؛ لذلك سيكون خطابهم في المرة القادمة يبدو "إيجابي" النزعة، فلن يركزوا على العامل العقدي (الكفار –العلمانيون-اللائكيون- الملحدون- الماسونيون –التغريبيون ...) في المرة القادمة إلا في حدود دنيا لإدراكهم أنه قد اهترأ، وربما سيكفون عن تشويه أعراض اليسار ؛ لعلمهم أن اليسار نجح شيئا فشيئا في الاقتراب من الجماهير والاتصال بها وتبني معاناتها، وأن الناس في احتكاكهم باليسار يوميا أدركوا حقيقة نظافة يد معظم اليساريين وسلامة أعراضهم، بل ينتظر أن يركزوا على العامل الديني الأخلاقي "الإيجابي" وخاصة الجانب الاجتماعي؛ إذ سيخرجون العطايا مخرج التّراحم، والهبات مخرج الهدايا بين الأحباء، والرشاوي الانتخابية مخرج مساعدة الفقير والتعاون مع الضعيف وإيثار ذي الفاقة وإغاثة الملهوف...إلخ. • كما سيتلاعبون بمفهوم "إصلاح التعليم" للخروج من "الأزمة الأخلاقية" باعتماد التعليم "الديني" وسيدعون أنه لن يكون متعارضا مع التعليم المدني أو بديلا له، بل سيحاججون بأنه مدخل "حضاري" سيكون مهذبا ومصلحا لمسيرة التعليم الرسمي الذي يدّعون أنه "يفتقر " إلى "القاعدة الدينية الأخلاقية الحضارية". • كما قد يركزون على إحياء مؤسسات من قبيل مؤسسة الأوقاف و مؤسسة الزكاة وديوان المظالم و مؤسسة الحسبة. وهذه الأخيرة سيدعون أنها ستنهض في المرحلة القادمة – بـ "الأمر بالمعروف" دون التطرق كثيرا إلى "النهي عن المنكر "خاصة عند احتدام المنافسة الانتخابية. • سيرفعون شعار الانتماء الوطني الجامع وأن الإسلام الذي يمثلونه هو خيمة "الأمة" التي يستظل في ظلها الجميع. • سيبررون الأخطاء السابقة بهشاشة تجربة التحالف وتعثرها، وصعوبات "سنة أولى ديمقراطية" . • قد يعمدون إلى تحميل أطراف منهم أو من حلفائهم مسؤولية الارتباك والتقهقر والخوف والتراجع عن بعض المظاهر المدنية وسوء الاختيارات الاقتصادية. • سيحاولون تمرير الإدعاء بأنهم استفادوا من أخطاء تجربة الحكم في شيء من النقد التبريري الذي لن يمس جوهر أطروحاتهم. • قد يتخلّصون من الوجوه التجمعية التي استفادوا منها في المناصب العليا –بانتهازية متبادلة – في المرحلة الحالية. • سيركزون على بعض إجراءات العدالة الانتقالية التي قد يشرعون فيها، وسيضخمونها معتبرينها إنجازات كبيرة. • سيستثمرون قانون "تحصين" الثورة الذي من المنتظر تمريره في المجلس التأسيسي. • سيفرزون أكثر فأكثر الدساترة والتجمعيين الموالين لهم، والدساترة والتجمعيين المعارضين وسيتهمون المعارضة – أيا كانت- بموالاة التجمعيين. ولن يتوقفوا في الوقت نفسه على إعادة رسكلة وجوه تجمعية أخرى لم تهترئ بعد في المرحلة الحالية. وسيركزون مرة أخرى على إعادة استقطاب أنصار التجمع وقواعده انتخابيا. • سيستمر تكليف "لجان حماية الثورة" بالهرسلة على كل المستويات، وإذا تمكن المجتمع المدني من حلها بحكم قضائي فسيعملون على إعادة تشكيلها بصورة من الصور. • سيستشهدون بمواقف أوروبية وأمريكية وإقليمية وتصريحات لسياسيين "كبار" تؤكد أنهم يمثلون الإسلام "الحداثي" المتوافق مع الشرعية والقوانين الدولية. • قد يراهنون على مشاريع "كبيرة" يتم الشروع فيها لتحسين البنية الأساسية لاسيما الطرقات مثلا، و"مشاريع " اقتصادية متوسطة قد تسند لأطراف استثمارية داخلية أو تعطى لبعض الدول الإقليمية مقابل ضمان بعض نسب التشغيل. • سيركزون على "الاستثمار" الإعلامي للشوط الذي تمّ قطعه في مجال التفاوض والحوار على المستوى الإقليمي والدولي إن مع البنك الدولي أو مع الاتحاد الأوروبي أو الشريك الأمريكي أو مع تركيا وقطر ، قبل ان تظهر نتائجه السيئة لاحقا على الاقتصاد. • قد يعودون إلى المراهنة على المشاريع المشتركة مع ليبيا وفرص التشغيل التي قد تمنحها، خاصة إذا تحسن الإطار الأمني العام فيها. • قد يعقدون بعض الاتفاقات في خصوص هجرة موسعة بعض الشيء لليد العاملة الكفأة والموظفين خاصة مع بعض بلدان الخليج كالسعودية وقطر، وربما أيضا مع بعض البلدان الأوروبية. • سيراهنون على إعادة الاستثمار الخارجي ولو بشروط سيئة لأن نتائجه لن تظهر بصفة مباشرة. • وسيراهنون على إنهاء دستور ذي صبغة مدنية ظاهرة وإن كان ملغوما، وسيعملون على الاقتراب التكتيكي اكثر فأكثر من الخطاب المدني، وسيحاولون البروز كما لو كانوا يحيون تجربة 18 أكتوبر 2005 بحلفاء قدامى أو جدد على يمينهم ويسارهم ولن يعدموا المتهافتين.
خلاصة: على اليسار الاستعداد لهذا الخطاب النهضاوي الوهمي الملغوم، و تجهيز عدته الفكرية والمنهجية لما هو أعوص.... وعليه العمل على ضمان العوامل المهمة لإحباط تأثيره، و التهيؤ لما هو أخطر، والعمل –بالتالي- على توفير الوسائل الأساسية (وسائل الاتصال السمعية والبصرية والمقروءة من إذاعات وقنوات تلفزيونية وجرائد ومجلات ومواقع إلكترونية – مراكز الدراسات والبحوث- مؤتمرات الحوار – ندوات لبحث المتغيرات ومناقشة المستجدات – لجان عمل مدربة على التعامل المنهجي والفني مع الفيسبوك وتويتر وكل شبكات التواصل الاجتماعي...إلخ) . و تهيئة ما يستلزم ذلك من تمويلات وعقد التحالفات للانتصار على الخصوم. ولن يكون ذلك إلا بالنزول عند واقع الجماهير ، وفهم شعارات ثورتها، والوقوف في المرحلة الحالية عند إدراك حقيقة مطالبها. وقد فات اليسار شيء كثير من ذلك في الانتخابات الماضية، وها هو يستدرك شيئا منها لكن ببطء وضبابية أحيانا؛ فأحرى به مراجعة الذات ونقدها جذريا وبالتفصيل، وبكثير من المرونة والصبر والعقلانية والإطلاع على المستجدات ومواكبة تطورات الفكر اليساري وبناء تحالفات وعلاقات دولية واسعة ومتينة، حتى لا تفوته التواريخ المفتاحية القادمة مرة أخرى رغم حماس قواعده وعطائها غير المحدود . لقد قيل على سبيل التشبيه وتوظيف المثل الشعبي: " اليسار كالشهيلي، ينضج الثمرات ليقطفها غيره" فهل يكف اليسار عن حالات الاندهاش والصدمة بعد ظهور النتائج التي كانت غالبا عكس توقعاته؟ وهل سيتجاوز الحماس الظرفي والمناسباتي بالعمل –من الآن – ليلا نهارا على استقطاب كل فرد في الشعب التونسي ومحاولة إقناعه ؟ هل يجد التحالفات المناسبة للمرحلة الحالية؟ وهل يكف عن التخلي عن ثمارات نضاله ليقطفها منافسوه و عن تقديم جواهر جهوده على طبق من ذهب ليستمتع بها الآخرون؟
#جبران_أديب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الخطاب اليساري التونسي الحالي
-
تفاعلات انتخابات 23 أكتوبر 2011 ومطبّات الآتي
-
هل يتجاوز اليسار التونسي مِحنَه وقصورَه بإبداع؟ الحلقة الراب
...
-
النخبة اليسارية التونسية ماقبل الثورة
-
الحلقة الثانية - ملامح اليسار العالمي ما بعد انهيار المعكسر
...
-
هل يتجاوز اليسار التونسي مِحنَه وقصورَه بإبداع؟ الحلقة الأول
...
المزيد.....
-
لبنان: غارة مسيّرة إسرائيلية تودي بحياة صيادين على شاطئ صور
...
-
-لا تخافوا وكونوا صريحين-.. ميركل ترفع معنويات الساسة في مخا
...
-
-بلومبيرغ-: إدارة بايدن مقيدة في زيادة دعم كييف رغم رغبتها ا
...
-
متى تشكل حرقة المعدة خطورة؟
-
العراق يخشى التعرض لمصير لبنان
-
مقلوب الرهان على ATACMS وStorm Shadow
-
وزارة العدل الأمريكية والبنتاغون يدمران الأدلة التي تدينهما
...
-
لماذا تراجع زيلينسكي عن استعادة القرم بالقوة؟
-
ليندا مكمان مديرة مصارعة رشحها ترامب لوزارة التعليم
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|