MICHEL VERRIER
تميل مدينة فان، القريبة من إيران، في
انحدارها البسيط صوب ضفاف البحيرة التي يمكن اعتبارها فعلاً بحراً صغيراً بمساحتها
البالغة 37000 كيلومتر مربع. ومنذ انتهاء المواجهات بين الجيش التركي وميليشيا حزب
العمال الكردستاني يمكن تلمس الانفراج في المنطقة التي تبقى مطوقة عسكريا في شكل
دقيق. وعلى ذلك يعلّق متهكماً السيد حمدي ديمير زعيم حزب "هادب" المقرب من الأكراد
والمهدد بالحل: “إن الجيش موجود هنا لأننا بكل بساطة أكراد وهذا غير مستحب “.
وتبدو على هذا الرجل الستيني هيئة الرجل الحكيم، ببدلته من ثلاث قطع وبكلامه البسيط
والقاطع.
ومن اصغر
قرية الى التجمعات الكبرى، ما من سطح بدون صحن لاقط، فالعائلات الكردية في شرق
تركيا تشاهد محطة "ميديا- تي في" التلفزيونية “ المقربة من حزب العمال الكردستاني
بحسب أنقرة. فأنقرة ربحت الجولة عسكرياً، إذ بعد توقيف زعيمهم السيد عبد الله أوج
ألان ودعوته الى وقف النار، لملم رجال حرب العصابات الذي سيطروا على الطرق الجبلية
منذ العام 1980، عدتهم وانكفأوا الى شمال العراق. لكن الدولة التركية خسرت الحرب
الاعلامية، معركة الشاشات، بعدما حاولت على مدى سنوات مصادرة الصحون اللاقطة،
فالجيش التركي يسيطر على الطرق لكن ليس على الموجات الهوائية.
وفي غرفة مزينة بالسجاد وبصور
الشخصيات الكردية، يشرب حوالى العشرة من الطلاب الأكراد، ذكوراً واناثاً، الشاي
ويستعيدون قصة تحركهم من أجل اللغة الكردية التي وصلت منذ الشتاء الماضي الى ثلاث
وخمسين جامعة. ويوضح حسين، وهو في العشرين من العمر: “مطلبنا محدد، نريد
الحصول على الحق في تعلم اللغة الكردية كلغة ثانية، كما يجري تعليم الانكليزية
والاسبانية والفارسية والعربية. وليس أننا نريد جعلها لغة التربية على حساب اللغة
التركية، فالحكومة هي التي تصوّر مطلبنا بهذا الشكل كي تفقدنا الصدقية. وقد جمعنا
في فان 2000 توقيع أردنا تقديمها الى رئيس الجامعة، لكنهم فرضوا علينا أن نقدمها
افرادياً."
وقد
صدرت العقوبة بعد شهرين: “إن حركتكم هي من حملات حزب العمال الكردستاني."
فسجن بعض الناشطين وطردوا من الجامعة. وبعد إضراب عن الطعام في شهر أيار/مايو، حوكم
بعضهم ودينوا في 18 آب/أغسطس امام محكمة الأمن في اسطنبول، مع ان البرلمان في أنقرة
كان في هذه الأثناء قد أقرّ حق تعلم اللغات "الأقلوية" حين صوّت في 3 آب/أغسطس على
سلسلة من الاجراءات التي توفق بين القوانين والدستور وبين "معايير كوبنهاغن"، وهي
المعايير التي يجب ان يأخذ بها البلد المرشح للانضمام الى الاتحاد الأوروبي. لكن مع
الاقرار، بحسب النص الرسمي، بتعليم "اللغات واللهجات التي يحكيها المواطنون
الأتراك،" تبقى اللغة الكردية موضوعاً محرّما وتبقى محظورة "ويجب ألا تناقض الدروس
المبادئ والدستور وقوانين الجمهورية التركية ولا أن تعرض وحدة البلد والأمة “.
وهذان تفصيلان يجعلان القوانين الجديدة كأنها لم تكن.
وخلال حوارنا تساءل محدّثونا عن التغير في
استراتيجيا حزب العمال الكردستاني. ومعظمهم كانوا قد تابعوا عبر محطة
“ميديا تي في “ مراحل التحول في الحزب المتمرد. انتهاء عصر حرب العصابات من أجل
اعتماد استراتيجيا لتحقيق الديموقراطية في الدول الأربع التي يعيش فيها الأكراد:
تركيا والعراق وسوريا وإيران. وما بات يلائمهم أكثر هو تأسيس مؤتمر كردستان من أجل
الديموقراطية (كادك). وعلى ذلك يعلق كمال، الغارق في قراءة الكتاب الذي وضعه السيد
أوج ألان في سجنه الانفرادي في جزيرة إيمالي: “إن العالم يتغير ويجب أن نواكب
عصرنا “.
وفي 20
حزيران/يونيو عام 2002، وبعد مضي ثلاث سنوات على انتهاء حرب العصابات، رفعت حال
الطوارىء التي كانت مطبقة منذ عشرات السنوات في المنطقة الكردية، وقد مددت لمدة
أربعة أشهر في مقاطعتي ديار بكر وسيرفان. لكن ليس هناك أي تغير ملموس. ففي بنغول
أجمعت نحو ثلاثين منظمة سياسية وجمعية ومنظمة غير حكومية في 2 تموز/يوليو على
النتيجة الآتية: “بالرغم من رفع حالة الطوارئ هنا منذ ثلاث سنوات فإن عملية
القمع تتواصل في حق المؤسسات والمنظمات الديموقراطية “.
وفي فان يصل معدل البطالة الى 80 في
المئة، فالقرويون الذين طردوا من الريف يتكدسون في مخيمات في المدن. ومن أصل 520
قرية دمرت في المنطقة بعد اتهامها بمساندة الميليشيا أعيدت 90 قرية فقط الى سكانها.
أما بالنسبة للباقين فإن أنقرة ترغب في إسكان المطرودين في مبان جديدة بنتها لتجمع
فيها قرى عدة، ودائماً بعيداً عن الأراضي التي كانوا يزرعونها من قبل. وهم يرفضون
ويبقون في المدينة عاطلين عن العمل وعاجزين عن مواصلة الزراعة وتربية المواشي، وهما
الموردان الأساسيان في المنطقة.
أما ميليشيات حرس القرى المؤلفة من القبائل الكردية التي ترضى
عنها انقرة والمكلفة مطاردة الثوار، فإنها لا تزال ناشطة حتى انها استولت أحياناً
على أراضي العائلات المهجرة مما زاد من استياء هذه الاخيرة.
وبعد عشرين سنة من الحرب وعشرات السنوات
من التعبئة العسكرية والوضع الخاص المفروض على المنطقة نشأ اخطبوط بيروقراطي عسكري
عششت فيه القبائل والمافيا. وبعد انتهاء حرب العصابات باتت العودة الى الوضع السابق
أمراً صعباً. فالحرّاس الأذناب لأنقرة يعارضون تسليم الأكراد أي سلطة في المنطقة
وتالياً اي مشاركة في السلطة المركزية في أنقرة في إطار مؤسسات الجمهورية التركية.
فهل ان الانتخابات المبكرة المنوي اجراؤها في تركيا في 3 تشرين الثاني/نوفمبر ستسمح
بتحقيق التوافق بين الغالبية التي يرغب فيها ناخبو شرق البلاد والغالبية المؤسساتية
في البرلمان؟ فحزب العدالة والتطور وحزب "ديهاب" المقرب من الأكراد الذي يواصل حملة
حزب "هاديب" المهدد بالحظر، كلها تحتل مرتبة متقدمة في استطلاعات الرأي مع انه تم
ابطال ترشيح العديد من مسؤوليها. وهذا التحالف يغضب في نوع خاص القيادة العسكرية
التركية التي لا تزال تحتفظ لنفسها بكل السلطة المؤسساتية.
وقد يكون من شأن التدخل العسكري الأميركي
ضد العراق المتوقع في هذا الخريف أو في الشتاء، أن يجمد الوضع في تركيا على أساس أن
الجيش سيعود عندذاك الى الواجهة. والخشية من تقسيم العراق وإعلان دولة كردية مستقلة
على حدوده يشكلان هاجساً فعلياً لأنقرة التي وضعت، خلال زيارة مساعد وزير الدفاع
الأميركي بول وولفوفيتز لها في 17 تموز/يوليو، أربعة شروط لمشاركتها في التدخل
"المحتوم" للولايات المتحدة، وهي: إعفاؤها من الديون العسكرية البالغة قيمتها أربعة
مليارات دولار ومنحها الاعتمادات الضرورية للتخفيف من الانعكاسات الاقتصادية
المحتملة عليها من جراء هذا التدخل، وضمان وحدة الأراضي العراقية، ورفض قيام
اي دولة كردية وحتى أي سلطة بسيطة للأكراد على منطقة كركوك، عاصمتهم التاريخية
الغنية بالنفط.
وفي
فان كان من شأن تمرد أكراد العراق في ربيع العام 1991، بعد انتهاء حرب الخليج، ثم
نزوحهم بالملايين في اتجاه الجبال أنه غيّر وجه المنطقة. ويتابع أكراد تركيا عن كثب
ما سيؤول اليه اختبار القوة بين واشنطن وبغداد. وما يراه السيد حمدي ديمير هو انه
"إذا كان التدخل الأميركي يهدف فقط الى إزاحة صدام لينصب مكانه ديكتاتوراً آخر، فإن
هذا التدخل سيكون سلبياً، أما إذا كان الهدف منه إيجاد حل ديموقراطي في بغداد،
فالأمر أفضل، وفي هذه الحال لا شيء نخشاه إذ ان اكراد العراق لن يفروا الى الجبال
سعياً الى ملاذٍ هنا..."
وغالباً ما يعيش الأكراد تاريخهم بالوكالة عبر الحدود التي
تفصل بينهم. فللعائلات والقبائل أهل وأقارب وراء كل جهة من الحدود. وهكذا نجد أن
شقيقةً وشقيقين للسيد ديمير يقيمون في إيران، وهذا وضع مألوف في المنطقة. ومع ذلك
فإن السيد ديمير يلفت الى أن "الحياة هناك أسهل بالنسبة اليهم إن على الصعيد
الاقتصادي او على الصعيد الثقافي، فهم يستطيعون التعبير بكل حرية عن ذواتهم كأكراد،
حتى انهم انتخبوا نواباً لهم في برلمان طهران."
“كردستان الشمالية “: هذه اللوحة على الطريق
الدائرية التي تلف وسط العاصمة الايرانية قد تبدو اسماً لغير مسمّى، الا ان لافتات
من هذا النوع لا يمكن تصورها في أنقرة حيث مجرد كلمة "كردستان" قد تسقط عليك غضب
القضاء.
في إيران
ما يزيد على 10 ملايين كردي من أصل 70 مليون نسمة. وهم صاروا يتمتعون بقسم مهم من
الحقوق الاساسية التي ظلت تركيا ترفض اعطاؤهم إياها حتى هذا الصيف. وعلى كل حال،
فإن المركز الثقافي الكردي في طهران قد نظم في 30 و31 أيار/مايو عام 2002 المؤتمر
العلمي الأول حول تعليم اللغة الكردية. واللافت أن احد المقربين من الرئيس محمد
خاتمي ممن شاركوا في الاجتماعات قد دعا المشاركين الى الشروع في وضع كتاب لتعليم
اللغة الكردية.
وقد
شدد السيد بحران فالادبايجي، مدير المركز، على ان “معركتنا تمتد من زمن بعيد،
فأكراد إيران أسسوا في العام 1945 جمهورية ماهاباد التي سحقتها بعد عام الحكومة
المركزية. ولقد شاركنا في الثورة على الشاه عام 1978 لكننا لم نعطَ في ذلك الحين
الحقوق التي كان من المفترض ان نحصل عليها." وفي تلك الحقبة تمكن مقاتلو الحزب
الكردستاني الديموقراطي في إيران بقيادة عبد الرحمن قاسملو من تحرير منطقتهم قبل أن
يلاحقوا ويهزموا عسكرياً على يد حراس الثورة من الباسداران.
لكن، كما في تركيا، فإن قسماً كبيراً من
الحركة الكردية الايرانية قرر التخلي نهائياً عن الكفاح المسلح. ويؤكد السيد
فالادبايجي: “إنها مسألة أجيال، واستراتيجيتنا الجديدة تأخذ في الاعتبار
التغيرات الجارية في العالم، من سقوط جدار برلين الى تفكك التكتلات الى العولمة
والانترنت. وهي تعتمد على الثقافة والافلام واللغة والسعي الى
الديموقراطية."
وبابتسامة يختصر بختيار، الشاب الكردي من سنندج الوضع قائلا: "الحرب مستمرة لكننا
استبدلنا القلم بالكلاشنكوف “. وهناك 22 نائباً يمثلون مواطنيهم في البرلمان في
طهران. وإذ انتخبوا كنواب مستقلين فهم لا يملكون حرية تشكيل حزب مقرب من الأكراد.
ويصر السيد فالادبايجي على القول: “لكننا نريد المشاركة في ممارسة السلطة
المركزية، ولن نقبل بأن نستبعد بعد الآن."
وهنا يتابعون باهتمام تجربة جيرانهم أكراد
العراق الأسياد في منطقة خاصة بهم. وهي تبدو في نظر اكراد إيران صورة مجددة عن
جمهورية ماهاباد. ويتشدد السيد فالادبايجي بالقول ان تدخل الولايات المتحدة لاطاحة
صدام حسين قد يمثل قبل كل شيء "إجراء احترازياً “، فنظام بغداد "قد فتك بإخوتنا من
دون أن يتورع عن استخدام أي وسيلة، وحتى الاسلحة الكيميائية. وما من شيء يؤكد انه
لن يكرر المحاولة “.
وسنندج الواقعة على بعد 250 كيلومتراً من طهران هي عاصمة
المنطقة الايرانية التي يطلق عليها رسمياً اسم كردستان. وامام مبنى ضخم من مباني
الباسداران يعترف كايفان، أحد الكوادر: “ليس هذا عالمنا لكن كان علينا أن
نتكيف." ووافقته الرأي زوجته التي تضع التشادور غصباً عنها. "لقد انفصل التشيكيون
والسلوفاك حبياً وتركوا بعضهم بعضاً بدون حرب. فلماذا نحن لا يحق لنا أن نفعل
مثلهم؟ نصوّت، نختار وهذا حق."
وما كان مفاجئاً هو قوة تظاهرات التأييد التي تجمعت هنا لدى
توقيف زعيم حزب العمال الكردستاني. ويروي شاب كردي: “في سنندج سقط ثلاثون
قتيلاً. فقد انحرفت التظاهرة عن مسيرها تحت ضغط الشباب الذين راحوا يرددون شعارات
مؤيدة لعبد الله أوج ألان، ثم واصلوا ذلك مطالبين بالحرية لأكراد إيران مهاجمين
حكومة طهران والجمهورية الاسلامية." وقد باح احد زملائه قائلاً: "قبل ان تذهب
الولايات المتحدة لقصف بغداد، فلتمر هنا أولاً وتلقي بعض القنابل على
نظامنا."
جبال جرداء وبلدات صغيرة منزوية جاداتها مزروعة بالنخيل وطرقاتها ضيقة. وكلما
اقتربت طريق كرمنشاه-بغداد من الحدود العراقية يبدو على جانبيها حطام الدبابات
والمدرعات من آثار الحرب الايرانية العراقية (1980 ـ 1988). ووراء الاسلاك الشائكة
وأكياس الرمل يقف جنود الحراسة على سلاحهم. وفي القصر في سنجي تفتح الحدود مع
العراق يومين في الاسبوع.
ومن الأعلام بلونيها الأخضر والأحمر الوردي، أعلام
الاتحاد الوطني الكردستاني، حزب السيد جلال طالباني التي قبلت عضويته أخيراً في
صفوف الاشتراكية الدولية، يتبين ان هذا الحزب موجود في كل مكان من هذه المنطقة في
شمال العراق. أما المنطقة الكردية المجاورة التي تتاخم تركيا وسوريا فهي خاضعة لحزب
السيد مسعود البرازاني، زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني. وقد عاد الهدوء ليعم
بعد سنوات المواجهة بين هذين الفصيلين. لقد كانت "حرباً انتحارية" سقط فيها حوالى
3000 قتيل. ويبقى سبب حركات الانشقاق التي قسمت كردستان المستقلة، بحسب السيد باران
صالح، رئيس الحكومة الاقليمية، ان الحزب الديموقراطي الكردستاني كان يجبي الرسوم
المالية على الحدود العراقية ـ التركية ويشرف بنفسه على توزيعها لمصلحة المنطقة.
لكن وبإشراف لندن
وواشنطن منذ العام 1998 تحققت المصالحة بين الحزبين، ففي 6 آب/أغسطس اجتمع وفدا
المنظمتين في كوازنجاق من أجل إعادة إحياء الجمعية الوطنية الكردية الموحدة
المنتخبة منذ العام 1992 . ثم في 7 أيلول/سبتمبر استقبل السيد برازاني في صلاح
الدين، معقله، السيد طالباني العائد من رحلة قادته الى واشنطن ولندن وأنقرة، حيث
شارك في اجتماعات المعارضة العراقية التي تضم تحديداً الأكراد والشيعة وضباط الجيش
العراقي الذين فروا من بلادهم في السنين العشر الأخيرة. وقد اتفق الرجلان على دعوة
البرلمان الكردي الى الاجتماع مجدداً في اربيل في 4 تشرين الأول/أكتوبر وعلى توحيد
مواقف حزبيهما حول مستقبل العراق والفيديرالية والديموقراطية وعلاقات بلدهم بالدول
المجاورة وعلى الساحة الدولية.
ذاك، وبحسب ما يؤكد السيد صالح، أن "الوضع الحالي
لكردستان العراقية يبقى موقتاً طالما أن نظام صدام حسين لا يزال حاكماً في بغداد،
وطالما أنه لم يحل مكانه حكم ديموقراطي يعترف به العراقيون ويشارك فيه الأكراد.
فالدولة العراقية الحالية تمثل الفشل الذريع والعرب يعرفون هذا وباتوا يطرحون منذ
الآن مسألة الحكم بمشاركة الأكراد."
السيد صالح، الأربعيني، ضخم الجثة، منكشف الجبهة، حيوي
وسخي، يقيم في وسط السليمانية في شارع صغير سدّ مدخلاه بعوائق حديدية مسننة، وتتولى
حراسته عناصر مسلحة من البيشميرغا. ففي آذار/مارس عام 2002 نجا من محاولة اغتيال
قتل فيها حراسه الشخصيون. وتصطف امام دارته مجموعة من جيبات الدفع الرباعي الجديدة
اللامعة والمتشابهة وذلك لدواعٍ أمنية، إذ عندما يتنقل لا أحد يعرف أبداً أي
الجيبات سيستقل.
وقد بات السيد صالح يرى نفسه داخلا بغداد ويرفض "هذه
السياسة الواقعية القصيرة النظر" القائلة بأن الأكراد يجازفون كثيراً إذا شاركوا في
التدخل الأميركي ضد نظام السيد صدام حسين. وبالتأكيد لا يعني الأمر المشاركة في "أي
مخطط أو مغامرة"، ولكن بعكس تحالف الشمال في أفغانستان قبل سقوط نظام “طالبان
“، فإن المنظمات الكردية تسيطر على ثلث البلاد تقريباً: "ففي العام 1991 كان عندنا
804 مدارس، وعندنا اليوم ما يزيد على 2700 منها. لقد بنينا خلال عشر سنين ضعفي ما
بني منها على مدى سبعة عقود. لقد تضاعف عندنا عدد الأطباء أربع مرات، ومستوى
المعيشة هنا هو أفضل بكثير مما هو عليه في المناطق التي تسيطر عليها بغداد."
ويضيف: “لا أحد يعيش في خشية دائمة من أن يوقظه رجال البوليس السري وهم
يطرقون بابه في ظلمة الليل."
في الساعة السادسة مساء تكتظ بالناس أرصفة السليمانية
وأزقة البازار(السوق العامة) التي تضيق بالسلع. وفي عمليات الصرف بالدولار تساوي
العملة العراقية في كردستان عشرة أضعاف العملة العراقية الرسمية المتداولة في
بغداد. ورجال الصيرفة كثر، كما تملك المدينة مصرفاً مركزياً لكنه ليس على علاقة
بالدوائر المصرفية الدولية.
كما ان الاعلام يتمتع بأجواء من الحرية، حيث نجد العديد
من الصحف المرتبطة بأحد الاحزاب والتي تملك في أغلب الأحيان أيضاً محطاتها
التلفزيونية واذاعاتها، ولذلك يبدو من المبكر الحديث عن صحافة مستقلة. لكن في إمكان
السكان أن يختاروا المحطة التي يرغبون في مشاهدتها وأن يجولوا في الانترنت
كما يحلو لهم. وتتوافر في السليمانية الصحافة المرتبطة بالحزب الديموقراطي
الكردستاني، الا أنه منذ الحرب بين الفصيلين لم يكن لحزب السيد برازاني تمثيل رسمي
في المناطق الخاضعة لسيطرة السيد طالباني، والعكس بالعكس.
وفي الشارع الرئيسي المفضي الى وسط
المدينة تنهض الفنادق والمطاعم بالقرب من المخازن حيث يباع الخمر بكل حرية. بعض
النسوة يضعن الحجاب الأسود فوق ثيابهن لكن الكثيرات يرتدين "الأزياء الغربية “.
فليس وضع الحجاب محظراً كما في تركيا وليس إلزامياً كما في إيران. ويؤكد السيد صالح
أن “الحريات الفردية تفرض نفسها، والقانون ينص عليها، وما من إيديولوجيا
رسمية تملي على أي كان طريقة عيشه." وقد منع تعدد الزوجات. ويشدد محدثنا على أن
جرائم الشرف، هذا التقليد الذي يسمح بأن تعدم العائلة النساء اللواتي لا يحترمن
ارتباطاتهن الزوجية، باتت محظرة "وتعرض فاعليها لأقصى العقوبات “. والسياسة نفسها
في هذه المسألة مطبقة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحزب الديموقراطي الكردستاني.
للتركمان
والاشوريين والمسيحيين الكلدان كما للأكراد اليزيديين مكانهم تحت الشمس ويستفيدون
من حقوقهم كأقليات اتنية او طائفية، وهذا شرط مسبق لأي تطور ديموقراطي. لكن في
منطقة حلبجة القريبة من الحدود الايرانية هناك مجموعات من أنصار الاسلام، على صلة
بتنظيم “القاعدة “، إذا ما أخذنا برواية السلطات الكردية المحلية(1)، قد
تجذرت في العديد من القرى، وهذا يشكل تهديداً سياسياً جدياً بالنسبة الى الحكومة
الاقليمية. فالحرية الفكرية والعلمانية التي اعتمدت في المنطقة وامكان الحصول على
الكحول او غياب الفرائض المتعلقة باللباس، قد يكونا موضع انتقاد من "الأصوليين"،
وفي نوع اخص في اوساط الطبقات الشعبية من السكان الذين لا يمكنهم اعتماد نمط الحياة
الغربية التي يفضلها الزعماء.
وبالعكس، ليس للاسلاميين في مبنى الجامعة أي نفوذ ظاهر.
فهنا يتابع الدراسة 6000 طالب وطالبة. وتعليم المواد العلمية يتم بالانكليزية اما
اللغة العربية فهي للمواد الأدبية وللتاريخ والجغرافيا. وفي المقابل ومنذ العام
1991 وسيطرة الأكراد على المنطقة، انتشر التعليم باللغة الكردية في الصفوف
الابتدائية والثانوية. وفي المؤسسة الجامعية التي تعنى بـ"علم اللغة الكردية" في
جامعة السليمانية يجري العمل على توحيد اللغة الكردية (2)، بحسب ما يوضح رئيس
الجامعة السيد كمال هـ. خوشناو: “وهناك تفكير في اعتماد الحرف اللاتيني الذي
يستعمله الأكراد أساساً في تركيا كي نتخلى عن الحرف العربي المستعمل حالياً في
العراق وإيران."
ويوضح السيد جلال طالباني قائلاً: “خلال سنوات
الحرب التي خضناها ومنذ ان اعتمدنا مجدداً حرب العصابات في الجبال في العام 1975،
كنا دائماً نقول: في السنة المقبلة سنكون في كركوك. ويتبين لنا في ما بعد أننا
أخطانا التقدير، لكني هذه المرة اعتقد اننا في السنة المقبلة سنكون في بغداد."
فبحسب زعيم
حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، فإن عصر صدام حسين يشارف نهايته. لكن إذا كانت
الولايات المتحدة قد قررت إطاحة نظام بغداد الا أنها لم تحدد بعد متى وكيف. ويشدد
الزعيم الكردي قائلاً: "وطالما ان هاتين المسألتين لم تحلا، لا يمكننا القول ما إذا
كنا نساند تدخلها “. ويضيف: “هناك قطيعة تامة بين صدام حسين والشعب العراقي،
وهو عاجز عن إبداء أي اشارة انفتاح. فلا الانترنت ولا الصحون اللاقطة مسموحة في
بغداد. وكلام الرئيس هو القانون حتى وإن كان يعاكس ما هو مكتوب في الدستور. إنها
ملكية الرعب والقوة بكل معنى الكلمة، وإذا لم توافقه الرأي فمصيرك الشنق." وهذا ما
اضطر ما بين ثلاثة وأربعة ملايين عراقي من الكوادر والعسكريين والمثقفين الى الفرار
من بلدهم طلباً للنجاة من الديكتاتورية.
ويرى السيد طالباني ان مستقبل العراق هو
رهن بإقامة جمهورية علمانية ديموقراطية وفيديرالية. "وإضافة الى ذلك نحن نرغب في ان
تقام هذه الدولة بطريقة سلمية عبر الحوار وعلى طريقة التحول التي جرت مثلاً في
أوروبا الشرقية." لقد جدد البرلمان في بغداد أخيراً للسيد صدام حسين مهماته كرئيس
للبلاد لولاية تمتد الى سبع سنوات. وستجري انتخابات مزيفة في 15 تشرين
الأول/اكتوبر، ويريد السيد طالباني ان يمنح النظام فرصة أخيرة مطلقاً دعوته الى
الرئيس العراقي "كي يضع حداً لنظام الحزب الواحد ويشكل حكومة تمثل مجمل الشعب
العراقي ويفتح الطريق أمام انتخابات حرة “. لكن إذا رفض العرض هذه المرة أيضاً "فلا
مفر من التدخل الأميركي “.
وقد يكون هذا التدخل في البداية عبارة عن حملة قصف جوي
تستهدف الركائز الأخيرة للنظام، مثل ثكن الحرس الجمهوري ومجموعات الحرس الشخصي
للسيد صدام حسين. ويرى السيد سعدي بيرا، مسؤول العلاقات الدولية في حزب الاتحاد
الوطني الكردستاني، أنه في "حال هذه الفرضية قد تصمد هذه القوات أسبوعين وحتى ثلاثة
على أبعد تقدير “. اما من جهة الجيش النظامي العراقي فإن الأوساط الكردية تعتقد أنه
لا يدافع عن النظام في مواجهة هجوم من واشنطن، وأنه سيشهد موجة من الفرار وتمرد
الفيالق التي هي اليوم اقوى بكثير مما كانت عليه لدى انتهاء حرب الخليج.
اما
المعارضة العراقية فترى أن إطاحة النظام ستعود عندها الى العراقيين، الأكراد
والعرب، وهي تؤكد انها تستطيع الاعتماد على 200000 مسلح على الأقل وتتمنى تفادي اي
عملية إنزال كبيرة لقوات اجنبية على ارضها. ويلاحظ السيد سعدي بيرا، الألماني
الجنسية الذي عاش خمسة عشر عاماً في النمسا، انه بعد إحكام السيطرة على العاصمة
وعلى المدن الرئيسية الكبرى "سيكون الوضع مشابهاً لما كان عليه الوضع في ألمانيا
بعد الحرب، ويجب ان ننطلق من مبدأ ان غالبية الأعضاء في حزب البعث ما كان في
امكانهم التخلص منه بطريقة أخرى وعلينا استلحاقهم مجدداً في إطار الشرعية الجديدة
التي سنقيمها."
ويؤكد السيد طالباني: “إذا تم القضاء على نظام صدام
حسين، فستعم الحرية والديموقراطية، وسيشارك الجميع في الانتخابات وعندها نقرر. اما
نحن فإن علاقات جيدة تربطنا بجميع الأحزاب، الشيوعي منها والسني والشيعي والناصري
والليبيرالي والديموقراطي. فحكومة بغداد هي التي تقسم الناس وتحرض بعضهم على بعض."
ولا يخشى
زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في اي شكل قيام منطقة اصولية في جنوب العراق،
"فالسيد محمد باقر الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة الاسلامية لن يرسل هؤلاء
الناس الى كردستان كي يقطعوا الحركة التجارية حيث تباع الكحول." وهو يبدو مؤيداً
لنظام برلماني. وعلى كل حال، فإن الشيعة جميعهم يبدون ابعد ما يكون عن الأصولية.
ويذكّر محدثنا بأن القوميين والحزب الشيوعي كانوا اقوياء جداً في المنطقة الشيعية
في جنوب العراق، وهو يستنتج قائلاً: “بالتأكيد ان الأكراد يحلمون دائماً
بكردستان موحدة، لكن هذا يعني عدم اخذ الواقع في الاعتبار، فمن اجل ذلك يجب تغيير
العراق وتركيا وإيران في آنٍ واحد. نحن الآن نحلم بعراق ديموقراطي، فلندع هذا الحلم
يتحقق اولاً."
إن صدمة من هذا النوع سوف تضع الدول المجاورة على المحك.
فوصول الاكراد الى السلطة في بغداد سيقوي عمليات المطالبة في إيران وتركيا. وإقامة
منطقة حكم ذاتي في إطار دولة فيديرالية عراقية ستصبح مرجعاً يُستند اليه. وهذا ما
تخشاه في الحقيقة أنقرة التي تدعي لنفسها الحق في النظر في تصور الدولة العراقية
الجديدة، وفي منطقة كركوك بنوع خاص، وذلك باسم الأقلية التركمانية التي تعيش فيها.
وما يلحظ في السليمانية هو أنه "سيكون من مسؤولية الولايات المتحدة تفادي خلق "قبرص
اخرى" في المنطقة “.
اما إيران فإنها من جهتها لا تأسف على نظام بغداد الذي
لقي دعما خفياً من الولايات المتحدة في الحرب التي مزقت البلدين على مدى عقد من
الزمن. وإذا كان الزعماء الايرانيون يقلقون من أن يكونوا الهدف التالي على اللائحة
الأميركية فإنهم يقيمون علاقات متواصلة مع الأكراد والشيعة الذين سيكون لهم وزنهم
في سياسة الحكومة الجديدة في بغداد. ثم ان السيد باقر الحكيم وجه مألوف في العاصمة
الايرانية حيث يقيم منذ الثمانينات.
أن عملية إحلال حكومة مكان نظام السيد صدام حسين، تكون
حليفة للولايات المتحدة ستشكل في المنطقة تتويجاً لعملية إعادة توزيع الأوراق التي
بدأت مع الحرب في أفغانستان. وعندذاك ستتحكم الولايات المتحدة فعلاً بمنابع النفط
العراقية مما سيحجم دور الحليف المميز الذي كانت تضطلع به السعودية حتى الان. وإن
توافق مصلحة واشنطن الاستراتيجية هذا مع سعيهم الخاص الى الديموقراطية هو الذي
يعزز، هذه المرة، لدى اكراد العراق الأمل في ألا يتم التخلي عنهم وسط المعمعة. فهل
هذا وهم ام حقيقة؟
--------------------------------------------------------------------------------
* صحافي، برلين.
1 احد زعمائها الملا كريكار اعتقل في هولندا في
شهر ايلول/سبتمبر 2002.
2 تتألف
اللغة الكردية من لهجتين رئيسيتين: الكرمانئي المنتشرة في اوساط اكراد تركيا وسوريا
وفي شمال المنطقة الكردية العراقية والسوراني الشائعة في ايران وفي شرق كردستان
العراقية.
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي
و مفهوم
العدد: تشرين الاول/اكتوبر 2002