أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - الدليل الصناعي وأساليب العلم والوجدان















المزيد.....

الدليل الصناعي وأساليب العلم والوجدان


يحيى محمد

الحوار المتمدن-العدد: 3955 - 2012 / 12 / 28 - 22:44
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إن من الجائز ترجيح العلم الوجداني التلقائي وتقديمه على العلم الممنطق الصناعي. وهو حكم نال قبولاً لدى عدد من المفكرين المسلمين. فقديماً ذهب إبن خلدون إلى أن بعض العلوم يمتلك من الموارد ما يترجح فيها الرؤية الوجدانية العادية على تلك التي تنطبع بطابع الدليل الصناعي، وبالتحديد أنه رجّح رؤية غير المختص على رؤية الفقيه المختص في معرفة شؤون الواقع وكيفية التعامل معه، كما في القضايا السياسية. فقد إعتبر العلماء أنهم معتادون على الغوص في المعاني وانتزاعها من المحسوسات ومن ثم تجريدها في الذهن بشكل أمور كلية عامة ومطلقة ثم تطبيقها على الوقائع الخارجية، أو أنهم يقيسون الأمور بما اعتادوه من القياس الفقهي المجرد في الذهن، لكن ما يجردونه لا يطابق الواقع، وهو ما جعلهم يقعون في كثرة الغلط حين ينظرون في السياسة بإعتبارها تحتاج إلى مراعاة هذا الواقع، والنظر في كل حالة جزئية بما يلائمها من الأحكام. وهو بهذا ينتصر لغير المختص الذي أطلق عليه ‹‹العامي سليم الطبع المتوسط الكيس››، إذ رأى أنه لقصور فكره عن الغوص في المعاني العميقة والتجريد، وعدم اعتياده لذلك فإنه يقتصر في كل مادة على حكمها، وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به دون أن يعدي حكمه بالقياس والتعميم، بل لا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه، كالسابح لا يفارق البر عند الموج كما يقول الشاعر:
فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل .
وحديثاً ذهب محمد عبده إلى أن اليقين الصادق لا يتوقف على البرهان ولا على التخصص، فإعتبر أن الأدلة العقلية كما وضعها المتكلمون وسبقهم إلى كثير منها الفلاسفة الاقدمون ‹‹قلما تخلص مقدماتها من خلل، أو تصح طرقها من علل، بل قد يبلغ أمي علم اليقين بنظرة صادقة في ذلك الكون الذي بين يديه، أو في نفسه إذا تجلت بغرائبها عليه، وقد رأينا من أولئك الأميين ما لا يلحقه في يقينه آلاف من أولئك المتفننين الذين أفنوا أوقاتهم في تنقيح المقدمات وبناء البراهين، وهم أسوأ حالاً من أدنى المقلدين›› .
وأحياناً يلجأ أصحاب التخصص إلى الأخذ بإعتباراتهم الوجدانية وسائر التأثيرات الثقافية والبيئية تلقائياً، وربما من غير وعي، حتى لو كان هذا على حساب الصنعة الإستدلالية. ومن ذلك ما تفرضه عليهم التأثيرات العرفية والمرتكزات العقلائية التي قد تؤدي دورها على حساب تلك الصنعة. وقد بات معلوماً ما لهذه العوامل من دور فاعل في الفكر العلمي، فأصبحنا نسمع عن عناصر الحدس والخيال والثقافة البيئية والأغراض الميتافيزيقية والنواحي الشخصية وغيرها من العوامل التي تدخل ضمن وشائج الذهنية العلمية التي يستحيل التخلص منها. فمثلاً يُعتقد بأن نظرية ميكانيكا الكم - أو الكوانتم - للفيزياء الذرية كانت إلى حد بعيد وليدة الهزيمة العسكرية الألمانية في الحرب العالمية الأولى . ومما ذكره المؤرخ بول فورمان بهذا الصدد: ‹‹إني مقتنع بأن حركة الاستغناء عن السببية في الفيزياء، التي انبثقت فجأة وازدهرت بشكل مرفه في ألمانيا بعد 1918، كانت في المقام الأول جهداً بذله علماء فيزياء ألمان لتكييف محتوى علمهم مع قيم محيطهم الثقافي›› .
ومن الناحية المبدئية أخذ الفكر العلمي يميل إلى الإعتراف بوجود التعقل والإستدلال من غير صرامة المنطق الصوري، بل وإعتبار أن من الممكن وجود هذا التعقل بكيفية صحيحة بلا منطق، كما هو صريح ما يقوله (جونسن ـ لايرد). وكذا ما صرح به (هلتون) من أنه ‹‹لا توجد طريقة مقعّدة، ولا نسق منطقي للإكتشاف، ولا تطور متصل بسيط. بل إن سيرورة الإكتشاف متنوعة بقدر ما تتنوع أمزجة العلماء›› . ومثل ذلك ما أكده العالم الفيزيائي (أرنست ماخ) من أن العملية الذهنية التي ينجز بها المرء مفاهيم جديدة ليست بسيطة، وإنما هي بالغة التعقيد. وهي عنده في المقام الأول ليست منطقية بالرغم من أنه يمكن إدخالها كروابط وسطى ومساعدة. فالمجهود الرئيسي الذي يؤدي إلى إكتشاف معرفة جديدة إنما يرجع إلى التجريد والخيال . وهو أمر يؤكد مقالة كارل بوبر من أنه لا يوجد منطق للإكتشاف، بل هناك منطق للإختبار والتحقيق فحسب. فأغلب الفيزيائيين وفلاسفة الفيزياء وجدوا أن العملية الكاملة للإكتشاف العلمي هي عملية شديدة الغموض وعميقة الإبهام . وعلى رأي فيلسوف العلم المعاصر (فيليب فرانك) أنه إذا درسنا بدقة كيف نعثر على مبادئ جديدة في العلم، يتضح لنا أن مبدءاً مثل قانون القصور الذاتي، أو مبدأ النسبية، لا يمكن اختراعهما بأي طريقة نظامية (إستدلالية أو إستقرائية)، ولكن يتم ذلك فقط بإستخدام القدرة الذاتية الاختراعية، وهي ما تسمى أيضاً الخيال وأحياناً الحدس، كالذي أكد عليه أينشتاين في إحدى محاضراته . وكان الأخير قد قال مرة: ‹‹إن الخيال أهم من المعرفة›› . وعليه تمّ الإعتراف بما يطلق عليه التجارب الخيالية غير الحقيقية كالتي زاولها أينشتاين في أغلب تصوراته الإبتكارية.
وفي هذا الإطار عُرف أن هناك صنفين من العلماء يمارسون الحدس الاستكشافي بشيء من الإختلاف: فهناك الصنف المحترز الذي يعمل بالاحتياط ولا يقبل تفسير الظاهرة موضع البحث إلا بعد وفرة عدد مقبول من القرائن. كذلك هناك الصنف المغامر الذي يتسرع إلى وضع الفروض التفسيرية ولو بحد ضئيل من الشواهد المؤيدة مع غياب المكذب. بل لقد وُصفت الطريقة العلمية في منهجها الحدسي بأنها عادة ما تمارس مغالطة منطقية؛ كتلك التي مُثلت بالقياس التالي:
إن الكلب هو حيوان لبون.
إن هذا الذي أمامي هو حيوان لبون.
إذاً إن هذا الحيوان هو كلب.
فقد عُد هذا التصوير المتضمن للمغالطة المنطقية، يمثل بدقة ما عليه النظريات العلمية . فالمغالطات المنطقية التي تتجنبها الفلسفة تعتبر مفيدة للعلم تماماً. ومن ذلك أن التعميم القائل (كل غراب هو أسود) مما يعتمد عليه العلم وتتنكره الفلسفة. كما أن لنظرية الأوتار الفائقة مقياسين متكافئين لقياس المسافة رغم تعاكسهما، فلا يوجد فرق من الناحية الفيزيائية بين نصف قطر دائرة R، وأخرى نصف قطرها1/R ، رغم أن المسافتين مختلفتان كلياً، وذلك ضمن شروط محددة، وبحسب هذين المقياسين فإن الكون يمكن أن يكون أكبر من طول بلانك (6110 مرة)، كما يمكن أن يكون أصغر من طول بلانك (10-61 مرة)، وكلاهما صحيح رغم التناقض، لكنه تناقض يحل بطريقة المعيار المزدوج أو التناظر، فيُجعل أقل طول ممكن لنصف القطر R هو طول بلانك، أي (10-33 سم) ، لهذا لو تقلص الكون فسوف لا يتقلص أقل من هذا الطول . وأيضاً فإنه لدى نظرية الكوانتم فإن قياس العلاقة الرياضية بين موضع الجسيم (م) وحركته (ح) يختلف كلياً عما نألفه من مقاييس، فحاصل ضرب (م × ح) لا يساوي لدى الكوانتم حاصل ضرب (ح × م)، وبالتالي فإن: (م × ح) - (ح × م) لا يساوي صفراً).
كما عُرف بأن الإبداع العلمي يصادف أشخاصاً ذوي مواهب رغم أنه قد ينقصهم التخصص، أو على الأقل تنقصهم الدراسات النظامية الأكاديمية. ومن ذلك أن الفيزيائي الإنجليزي المعروف ميتشل فاراداي (1791-1867) كان يعتمد على بصيرته الخاصة أكثر مما تعلمه من معارف نظرية، فهو قد تعلّم بنفسه شيئاً من العلم دون أن يتلقى تعليماً نظامياً، وكانت تنقصه الخبرة الرياضية، لكنه كان يجهد في ابتكار عدد من التجارب مما جعله يصبح أبرز فيزيائي تجريبي خلال القرن التاسع عشر، فهو الذي مكّن ماكسويل فيما بعد من أن يستنتج معادلاته الرياضية لتوحيد الحقلين الكهربائي والمغناطيسي في كيان واحد ، والتي اعتمد عليها أينشتاين فيما بعد.
وأكثر من ذلك ما كان عليه ديفيد رييال (المولود عام 1935)، إذ كان مهتماً بظاهرة الإضطراب في تدفق السوائل رغم أنه لم يملك خبرة في هذا المجال، ومع ذلك فقد اكتشف مع عالم الرياضيات الدنماركي (فلوريس تاكنز) عام 1971 ما يطلق عليه (الجاذب الغريب) الذي يحتل مكانة مرموقة في علم الكايوس (الشواش). ومما قاله بهذا الصدد: ‹‹إن غير المختصين يكتشفون طرقاً جديدة دوماً.. لا توجد نظرية طبيعية عميقة عن الإضطراب.. الأسئلة التي يمكن طرحها عن تلك الظاهرة لها طابع عمومي، ولذا فإنها في متناول غير الاختصاصيين›› . ومعلوم أن الإضطراب هو من الظواهر المعقدة جداً، حتى قيل: ان الإضطراب هو مقبرة النظريات .
كذلك فقد حاول الرياضي الفرنسي ـ الامريكي (ماندلبروت) أن يمرر أفكاره وسط المختصين، فقد كان كتابه (هندسة الفراكتال للطبيعة) والذي نشرت نسخته الأولى في فرنسا عام 1975، يحتوي على مسائل تتوزع على حقول كثيرة، يجمعها هندسة واحدة هي هندسة التكرار المتغير في الطبيعة والذي اطلق عليه ماندلبروت مصطلح (الفراكتال) عام 1975. فكل تفصيل صغير يحتوي على الكون كله، رغم أن له كونه الخاص المختلف، مما يعطي مزيجاً من التنوع والكلي في آن واحد . وقد ساد اجماع على قوة حدس ماندلبروت على التنبه إلى الإتجاه الذي تتقدم فيه علوم لم يدرسها جيداً، بدءاً من علم الزلازل ووصولاً إلى علم وظائف الأعضاء. لذا ضاق حتى معجبوه ذرعاً بذلك المزيج من التنوع والحدس الذَين يعطيانه الحق في الزعم بأنه سبق الجميع إلى إكتشاف أفكارهم. ولكونه غير مختص فقد لقي فيما بعد بعض الأسئلة الحرجة لا سيما من علماء الرياضيات الذين لم يعتبروه واحداً منهم، فمن بين هذه الأسئلة: ‹‹من أنتَ لتقول هذا الشيء بالنسبة للعلوم التي نعمل نحن في مجالها››. كذلك يأتي الرفض عبر السؤال عن العلاقة بين ما يطرحه ماندلبروت وبين العلوم التي ينتقدها. كما يسأل البعض عن علاقة الرياضيات التي يدعو إليها ماندلبروت بالرياضيات المقرّة أكاديمياً، ولماذا لم يتوصل علماء آخرون إليها؟. ولقد أدى ميل هذا الرجل غير المختص للإهتمام بتاريخ علم الرياضيات إلى عثوره على الكثير من الأفكار القيمة القديمة وشبه المنسية، مما أثار عليه اعتراضاً من نوع: ‹‹لماذا لم يتنبه المتخصصون في تلك الفروع من الرياضيات بتلك النظريات؛ ما دامت أمام عيونهم معظم الوقت؟›› . ومع أن ماندلبروت نفسه قد زعم بأنه لم يتعلم في تعليمه المدرسي الألف باء ولم يُلقّن أصول الحساب، لكن رغم كل ذلك فإن هذا الرجل غير المختص؛ أصبح بنظر صاحب كتاب (بنية الثورات العلمية) توماس كوين؛ واحداً من ستة عشر رجلاً قاموا بصنع تاريخ العلم عبر ثوراتهم العلمية المشهودة .
ومثال آخر يأتينا هذه المرة حول رجل بغّال استطاع ان يبلور بالتعاون مع العالم المشهور (إدوين هابل) نظرية هزت العالم في القرن العشرين وما زلت تعد من اعظم المسلمات الفيزيائية حتى يومنا هذا، وهي نظرية الانفجار العظيم (Big bang). تبدأ القصة بأنه في السنوات الأولى من القرن العشرين كان أضخم تلسكوب في العالم يُبنى على جبل ويلسون في لوس انجلس، وكان يجب نقل الاجزاء الكبيرة لهذا التلسكوب إلى قمة الجبل، وقد أُسندت المهمة إلى فرق البِغال. وهنا برز البغّال الشاب (ميلتون هوماسون) وهو يقود رتل البِغال في نقل المعدات المطلوبة، إلى جانب كونه بواباً وماسح أرض المرصد. ورغم أنه لم يتجاوز الصف الثامن في دراسته الرسمية لكنه كان ذكياً وفضولياً مما جعله يستقصي كل شيء عن المعدات التي ينقلها إلى الجبل. وفي إحدى الأُمسيات مرض راصد التلسكوب الليلي وطلب إلى هوماسون ان يحل مكانه، فأظهر الأخير مهارة واعتناءاً بالادوات سرعان ما جعلاه عامل تلسكوب دائم ومساعد راصد. وبعد الحرب العالمية الأولى جاء العالم المعروف (هابل) إلى مرصد جبل ويلسون فتعرف على هوماسون وجرت بينهما صداقة حميمة وعملا سوية رغم الفارق العلمي بين الرجلين، وسرعان ما تبين بأن هوماسون كان اقدر في الحصول على اطياف عالية النوعية للمجرات البعيدة من أيّ فلكي محترف في العالم كله، وأصبح عضواً أساسياً في الهيئة العاملة في المرصد، وتعلم الكثير من الأسس العلمية لعمله. والنتيجة هي أن هذين الرجلين قد دهشا حينما وجدا ان اطياف المجرات البعيدة تتغير نحو الأحمر، وأغرب من ذلك أن المجرات كلما كانت أبعد ازداد التغير في خطوطها الطيفية نحو الأحمر. وأصبح واضحاً بالتدريج ان هابل وهوماسون قد اكتشفا ما يعرف بنظرية الإنفجار العظيم . وهكذا أصبح البغّال عالماً كبيراً رغم عدم تخصصه.
***
واذا انتقلنا إلى علم الفقه سنجد أن المفكر محمد باقر الصدر يرجح أن تكون فتاوى الفقهاء حول موارد السلطنة (الناس مسلطون على أموالهم) قد جاءت بحسب ما تأثر به الفقهاء من إرتكازاتهم العقلائية أكثر مما تأثروا به من الصناعة الإستدلالية . وعلى رأيه أن هناك حالة نفسية عند الكثير من الفقهاء تمنعهم من إعمال الصنعة في مقام استنباط الحكم الشرعي لكثير من الموارد الفقهية، الأمر الذي دعاهم إلى التفتيش عن أساليب إستدلالية مستحدثة لتلائم تلك الحالة النفسية؛ كدعوى حجية الشهرة والإجماع المنقول وانجبار الخبر ووهنه تبعاً لعمل الأصحاب الأسلاف وإعراضهم.. ثم أن من القواعد التي اصطنعت لإيفاء تلك الحالة النفسية؛ مسألة الإرتكاز العقلائي في السيرة، إذ كلما بطلت تلك الدعاوى في أذهان الفقهاء فإنهم يعوضون الأمر في توسعتهم لدليل الإرتكاز العقلائي كي يفتوا بما يتفق والحالة النفسية التي هم عليها، بعيداً عن المألوف من الصنعة الفقهية المتوارثة . ومن وجهة نظر المفكر الصدر فإنه يتقبل الإطمئنان الناشئ عن هذه الحالة، ويرى أن حجية الإعتقاد غير متوقفة على الدليل؛ طالما أن العلم ذاته غير متوقف على البرهان والدليل، إذ قد يحدث بعلة تؤثر في النفس تكويناً بلا برهان .
مع ذلك فبإعتقاد تلميذه (كاظم الحائري) أن هذا الكلام إنما صدر عن السيد الصدر قبل استكشافه لمنطق الإحتمالات وما يؤول إليه الحساب الإحتمالي في المعرفة الموضوعية وإمكاناتها عند البحث والتفتيش العلمي، وبالتالي لا يخلو علم موضوعي في غير الضروريات من ذلك .
إلا أن ما يشكل عليه هو أن من القضايا ما تتحدد بالوجدان وإن لم يتمكن الإنسان من تقديم الدليل عليها، وبالتالي يصح له الإعتماد على قناعاته الوجدانية الكاشفة سواء إمتلك لذلك دليلاً أو لم يمتلك، وهو موضع إشتراك المختص وغيره. ومهما يكن فإن السيد الصدر في كتابه (دروس في علم الأصول) - وهو من الكتب المتأخرة - أقر بحجية القطع سواء كان القطع موضوعياً يستند إلى البديهة أو الدليل، أو كان ذاتياً لا يستند إلى ذلك مثلما يكثر لدى عوام الناس . وبهذا تكون الحجية عند الصدر ليست رهينة الدليل والبداهة فقط.
وما يجب أن يلاحظ بهذا الصدد هو أن هناك نقاط ضعف منهجية قد تتسرب إلى المختص فتجعل نتائجه أقل قبولاً من نتائج الوجدانيات العقلائية لغير المختصين. ومن ذلك ما سنذكره من هذين الإعتبارين:
1ـ قد يبتعد المختص عن المطلوب لكثرة إيغاله بقوالب الإستدلال، فكلما طال الإستدلال كلما زاد إحتمال الوقوع في الخطأ.
2ـ قد يفضي المنهج المتبع في التفكير إلى أن تكون نتائجه الظنية هي على خلاف ما يصدّق به الوجدان. مما قد يجعل الاستسلام إلى قرار هذا الأخير أقرب وأفضل تصديقاً من الإعتماد على الدليل الصناعي مهما كان دقيقاً ومنضبطاً، فالدقة والضبط ليسا كافيين في حد ذاتهما إذا ما أخذنا المنهج المعتمد بنظر الإعتبار. فالقياس المنطقي - مثلاً - هو صحيح ودقيق، لكنه لا يكشف في حد ذاته عن الواقع الموضوعي. فكيف إذا ما أعطى الدليل الصناعي نتائج هي من حيث الوجدان واضحة البطلان ؟!
ولا يقتصر تطبيق ما ذكرناه على الدراسات الإنسانية، وإنما يمتد أحياناً إلى العلوم الطبيعية. فهناك قضايا منهجية تتنافى والمشاهدة الوجدانية، مثلما هو الموقف من مبدأ الغرضية والحكمة الذي لا تقره هذه العلوم رغم أن الشواهد عليه لا تقبل العد والإحصاء. كذلك هناك قضايا مضمونية لا زال العلم يتقبلها مع أن بعضها واضح البطلان، والبعض الآخر فيه الكثير من الغموض والشكوك. ومن ذلك التفسير المادي لنشأة الحياة وتطورها إعتماداً على المصادفات العشوائية، وكذلك التسليم بنظرية التطور رغم أن الأدلة عليها ليست كافية لكثرة ما ينتابها من شكوك.
فهنا نجد أن الحجة الوجدانية لغير المختص هي أقوى إعتباراً من حجة أولئك المختصين الذين رضوا لأنفسهم أن يتبعوا النهج التعسفي من التفكير المادي الصرف.
هكذا ننتهي إلى أنه لا فرق في القضية الوجدانية بين أن تكون ملبّسة بالدليل العلمي أو عارية عنه، وبالتالي فإن صحة التصديق وقوته لا تتوقفان بالضرورة على الصياغة المنطقية للدليل. كذلك لا ضرورة تدعو لترجيح الدليل العلمي على ما يخالفه من القضية الوجدانية. فقد تكون هذه القضية أصح مما يقدم من تلك الملبسة بالدليل الصناعي ما لم يكتسب هذا الدليل صفة القوة الترجيحية من التصديق. ويظل التصديق في جميع الأحوال يعبّر عن حالة وجدانية نابعة عن البصيرة أو العقل الوجداني، وإلا أدى الأمر إلى تسلسل الأدلة إلى ما لا نهاية له.



#يحيى_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثلاث بنى عقلية منتجة: المثقف العلماني والديني والفقيه
- الفضاء الكوني والعلم المعاصر
- نظرية التجاوز المذهبي
- الفلسفة اليونانية والمصادر القديمة
- الإتجاهات الحديثة وتوظيف الواقع للفهم الديني
- أزمة الإجتهاد الشيعي
- الدليل الاستقرائي عند المفكر الصدر (قراءة نقدية)
- المعنى ومشكلة اللغة
- العرفاء والتنزلات الالهية للوجود
- جواب على سؤال مطروح
- المصلحة ودورها في التشريع
- الواقع وضبط الفتوى
- نظرية الطوفي والفكر الإمامي
- مقارنة بين علم الكلام والفقه
- القراءة الوجودية للنص والفهم السائب
- العقل والإجتهاد
- فهم النص ومعايير التحقيق (5)
- فهم النص ومعايير التحقيق (4)
- فهم النص ومعايير التحقيق (3)
- فهم النص ومعايير التحقيق (2)


المزيد.....




- 1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - يحيى محمد - الدليل الصناعي وأساليب العلم والوجدان