جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3954 - 2012 / 12 / 27 - 19:44
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
بالرغم من أن الشعور بالوحدة مرضٌ قاتل غير أننا في بعض الأحيان نكون محتاجين لهذا المرض المريب لكي يشفينا من مرضٍ نفسيٍ ثانٍ أكثر خطورة منه وبالرغم من أن الوحدة قاتلة للروح وتبعث على الجنون ومصدرا هاماً من مصادر تنشيف الدم وإحراق الأعصاب وإتلاف الذاكرة إلا أننا كبشر نشعرُ بين الفينة والأخرى بأننا نحتاج إلى هذه الوحدة ليجلس كل واحدٍ منا مع نفسه يراجع حساباته وأخطاءه وعثراته فيقوم بتقويم نفسه من جديد وتدقيق تصرفاته على مر الزمن ليكتشف نفسه من جديد من خلال سحر المكان والزمان الذي تنزوي فيه بعيدا عن الناس, وبعضنا أحيانا ييئس من البشر ويتخذ من الحيوانات أصدقاء له إيمانا بأن مجتمع الكلاب أفضل من مجتمعاتنا البشرية وبالرغم من أن الوحدة قاسية إلا أنها أحيانا هي الوحيدة التي تخرجنا من قسوة الحياة ومعامل ومصانع القهر فما أجمل أن تجلس لبرهةٍ من الزمن وحدك تكون فيه أنت الأول والأخير والحاكم والمحكوم تحكم على نفسك وتقسو عليها وأحيانا تنتصر لنفسك وتنتقم لنفسك من نفسك ولروحك من روحك ولقلبك من قلبك دون أن يكون معك أي إنسان أو أي سلاحٍ تدافع فيه عن نفسك ذلك أن الهدف الأول والأخير من الجلوس مع النفس هو محاسبتها ومراجعة كافة تصرفاتها,إن الإنسان مصدر قلق وإزعاج للإنسان الآخر ويتسبب للآخرين بالحزن وبالأسى خصوصا أولئك الذين نحبهم كثيرا وحين يبعدون عنا يصبحوا بالنسبة لنا مصدرا من مصادر دموعنا فلا داعي للأصحاب ولا داعي للأحباب لكي لا نحزن على فراق أي واحدٍ إذا قرر الرحيل عنا بإرادته أو بإرادة خارجة عن إرادته,وبالرغم من أن الإنسان كائن اجتماعي ولا يستطيع الاستغناء عن الجماعة إلا أن الإنسان في بعض الأحيان يكون بحاجة إلى الابتعاد عن الجماعة بقدر الممكن وبالرغم من أننا نستأنس بوجود الأهل والأقارب غير أننا غالبا ما نحاول الابتعاد عنهم قدر الممكن حين نختار مساكن نسكنها بعيدة كل البعد عنهم, إن الوحدة بالنسبة للإنسان مطلبا مهما لكي يمارس فيها الإنسان بعضا من تصوراته وأوهامه وغريزته أو فطرته التي فُطر عليها ومع أنني أنا شخصيا كائن اجتماعي بطبعي غير أنني اليوم عشت أجمل لحظات حياتي وأنا في البيت وحدي أتكلم مع نفسي ومع الجدران ومع أثاث المنزل والسقف والصور المعلقة على الحائط الذي سكنه أبي وجدي من خلال تعليق صورهم,ففي الوحدة والخلوة نراجع أنفسنا لنكتشف هل كنا نحن المخطئون مع أنفسنا أم الناسُ هم المخطئون معنا ومن المنصف جدا أن نعترف أمام الله وأمام أنفسنا بأن بعض الأخطاء التي نرتكبها في حياتنا نحن مصدرها وليس الناس لنضع اللوم على أنفسنا من قبل أن نلقي باللائمة على غيرنا من الناس, وما أجمل أن تكون مثلي في خلوتك تحكي مع نفسك وتثرثر مع نفسك وتعيش مع نفسك وكأنك مجنون يحاكي نفسه أو يحاكي الجدران.. وتمرض وتشفى وحدك دون أن تضطر لأخذ أي نوع من أنواع العقاقير... يومٌ مثل هذا اليوم خيرٌ من ألف سنة مع الناس,يوما واحدا تعيشه هكذا مع نفسك في خلوةٍ تفكر وتتأمل وتبني القصور في الهواء على رأس دبوس أو على كومة من الثلج الأبيض وتبني الشاليهات على كومة من الملح الذي سرعان ما يذوب وينكشف الذي تحته بسهولة,أو حتى على أرض زراعية ومن ثم تحتج عليها كونها مبنية على أرضٍ خصبةٍ للزراعة كان الأولى بك أن تزرعها وتملأها بالخضار بدل أن تملأ الإسمنت المسلح بقضبان الحديد...وتبني كثيرا من المشاريع تكسب من وراءها ومن ثم تخسر وبعد ذلك تعود إلى نشاطك الذهني ثم تربح الكثير من الأفكار ثم تتخيل نفسك وقد تنازلت عن 75% من ثروتك لصالح الفقراء والجمعيات الخيرية وكل ذلك وأنت جالس مع نفسك تحاسبها وتحاسبك قبل أن يأتي عليك يوم يحاسبك فيها الناس أو الزمان حين ينقلب عليك برجاله, ما أجمل أن تسكن إلى نفسك ساعة من العمر أو ساعتين أو يوما كاملا صافِ الذهن وخالي البال تغلق هاتفك وتطفئ الأنوار وتسدل الستائر ومهما جاءك من ضيوف وضربوا الباب وجرس الباب تعمل نفسك وكأنك أطرم لم تسمع صوتا أو خطواتُ أقدامٍ على باب الدار, الناس والحديث معهم لا يجلب لك إلا وجع الرأس والقلب والتلبك المعوي في المخ,الناس يثيرون حولك كثيرا من الصخب والهوس ومعرفة الناس وكثرتهم حولك لا يجلب لك إلا المتاعب والقيل والقال والمشاكل التي ليس لها بداية أو نهاية,وها أنا أجرب اليوم الجلوس وحدي والناس في الشارع يصرخون على أسماء بعضهم فمنهم من يسمع ومنهم من يكون بعيدا هذا عدى أصوات ماتورات وعجلات السيارات في الخارج وكلها مزعجة أما أنا فاليوم لا أأبه بأي أحدٍ أجلس في البيت وحدي ممددا على الفراش ومتكأ على وسادتين وأحيانا ثلاثاً من الوسائد أتقلب مرة على جنبي اليمين متكئا عليهن وحين أشعر بالتعب أتكئ على جنبي اليسار وأحيانا آخذ غفوة لمدة من الزمن ومن ثم أصحو على صوت القطط خلف المنزل ومن ثم أعود لأجلس وحدي دون أن أحس ولا حتى بالضوء فكل شيء معتم وعقلي وقلبي وفكري كل ذلك ذهب في إجازة مع الريح لكي يستريح من قلمي ومن كتاباتي,وحدي في البيت تغمرني السعادة ومطمئن كثيرا على نفسي لا أحد يزعجني ولا أزعج أحدا أتأمل في سقف البيت وفي المروحة المعلقة في منتصف السقف وحين اشعر بالملل أفتح فمي للتثاؤب وأمدد يداي خلف رأسي ومن ثم آخذ نفسا عميقا وأخرجه من فمي بأعلى الصوت هكذا:آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه ويكادُ أن يسمعه كل من يمر من الشارع العام وعندها أشعر بأنني أخرج التعب من جسمي مع خروج صوت الهواء من رئتي,ومن بعد ذلك أشعر بالراحة والسكون والصمت من حولي يسود المكان نهاري يشبه ليلي وصحوتي تشبه نومي وحياتي تشبه مماتي ولا شيء حولي يتحرك إلا بعض الأخيلة والوساوس،أنا اليوم عرفت ما معنى قيمة الوحدة والخلوة إنها تريحك من كل شيء وخصوصا الخصام مع الناس فلا أتخاصم في خلوتي إلا مع نفسي ولا أتصالح في خلوتي إلا مع نفسي.
وحدي أنا في عالمي المجنون أو العاقل ولك أن تسميه ما شئت من المسميات,إنني أسكنُ في علمي الخاص وللناس عالمهم الآخر والنجوم التي فوق رأسي تختلف عن النجوم التي تعلو سماء الناس وكل شيء حولي ساكنٌ مثل سكوني وشاردٌ مثل شرودي حتى جهاز التلفاز فصلته من الكهرباء ليعيش هو الآخر في عالمه الخاص,وللناس دنيتهم التي يتقاتلون فيها على الدينار والدينارين وأنا وحدي في مملكتي لا أهتم بالدنانير ولا حتى بأغلى المجوهرات ثمنا في العالم, مرتاح جدا حتى لو جعت وأكلت كسرة خبزٍ يابسة وكل شيء في جسمي تم تعطيله وتجميده وأشعر بأعصابي وكأنها موضوعة في ثلاجة درجة حرارتها تحت الصفر بخمس درجات، عالمي الذي أعيش في داخله لا يشبه العوالم الأخرى وحياتي الخاصة لا تشبه حياة أغلب الناس وسري الكبير لا يسعه إلا صدري وحبي الكبير لا يسعه إلا قلبي وممتنٌ جدا للذين انسحبوا عبر كل تلك السنين من حياتي فالحياة بدون أصدقاء أفضل بكثيرٍ من الحياة مع الأصدقاء أنام مبكرا وأصحو مبكرا أتناول ملابسي وأدخل للاستحمام كالعادة في كل صباح ليلي طويل ونهاري قصير وحزني أطول من فصل الصيف وعقلي الكبير وضعته في دولاب الملابس حتى القراءة التي أحبها بجنون لم أعد أهتم فيها فأغلب الكتاب كاذبون يفعلون ما لا يكتبون ويكتبون ما لا يفعلونه ومبادئهم التي نشئوا عليها يبيعونها أمام أول صفقةٍ من صفقات العمر الرخيصة, أفضل شيء إذا أردت أن تعيش بسلام مع الناس أول شيء عليك فعله هو أن تعتزل الناس وتسكن في بيتك في إحدى زوايا المنزل وعليك أن تختار زاوية تجلس فيها كالزاوية التي شهدت أبي يعيش فيها منذ أن بدأت أعي الواقع إلى أن مات وعمري تقريبا 13 عاما فأنا ولدت سنة 71 ومات أبي سنة 1984م واليوم فهمت ما معنى أن تعيش في الزاوية بعيدا كل البعد عن وسط المنزل وما يحدث فيه من أحداث, أنا اليوم مرتاح جدا لأنني في البيت وحيدا شريدا كئيبا في بعض الأحيان وسعيدا في أغلب الأحيان.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟