مشعل التمو
الحوار المتمدن-العدد: 1142 - 2005 / 3 / 20 - 13:42
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
بعد أن هاجمت جحافل بعض الطلبة المطعمين برجال الأمن , معتصمي قصر العدل في دمشق , أستغرب شابان في مقتبل العمر هذا الاعتصام والحدث ككل , ودفعهما الفضول للسؤال , فأجاب أحد المعتصمين , بأننا اعتصمنا للمطالبة بألغاء قانون الطوارىء , والسلطة لم تستطع تحمل ذلك , فسأل أحدهما الآخر , هل تعرف ما هي قانون الطوارىء , فأجاب الآخر بعفوية "" يمكن طوارىء الكهرباء """ ؟ .
أستقلت سوريا عن فرنسا في 1946 وفي جعبتها نواة مؤسسات جماعية , والكثير من الحريات العامة , ومستوى جيد من تعددية حزبية , والى آخر ما هنالك من مرتكزات بتاء المجتمع المدني والنظام السياسي المفتوح الخاضع لمنطق قبول الاختلاف والايمان بالتداول السلمي للسلطة , وكان يمكن أن تكون تلك المرتكزات بداية تكوين مجتمع حر , فيما لو سارت الأمور في مسار قانون التراكم التاريخي , لكن أجهاضه بالأنقلابات العسكرية أولاً , ومن ثم بالسيطرة المطلقة لحزب البعث , نسف لحظة التكوين تلك وأخرج المجتمع السوري , بشر وموارد من سياق التحول التراكمي الإيجابي , وزرع فيه كحصيلة تاريخية لمساره , تلازمات فكرية وأجتماعية وثقافية , لا مجتمعية , حيث أختزل المجال السياسي , وخنق المجال الاجتماعي , وعوم المجال الثقافي , ووطأ المجال الإنساني , وكل ذلك تم تحت يافطة الخصوصية القومية والثورجية , وهي التي لا زالت حتى اللحظة تسعى إلى إعادة إنتاج ذات الأنا الجمعية في مجالها الثقافي , لتعيد دورة أنتهاكها لكل المجالات الأخرى .
وسوريا أيضا من الدول التي ارتبط فيها النضال من أجل الاستقلال الوطني , بالنضال من أجل الديمقراطية , لكن الديمقراطية تلك لم تتجذر , وأنهارت تحت اقدام الشمولية , التي فشلت في تكريس أستقلالها الوطني , مثلما فشلت في مجالات التنمية الاقتصادية , وغاب بالتالي الوعي بالديمقراطية , ليحل بديلا عنه في عقل وسلوك أجيال متتابعة الوعي بتمجيد الشمولية , بحكم عموميتها وديمومة سيطرتها على المجتمع والدولة , وبحكم ايضا عدم وجود تعددية سياسية ناهيك عن القوانين والاحكام العرفية التي لم تختبر الاجيال الشبابية غيرها , فعندما تلتهم الدولة وتحل محلها سلطة حزب واحد , تتبعثر بنتيجة ممارستها , التكوينات الاجتماعية للمجتمع , ويصبح بالتالي القمع المتبادل هو الوضع السائد , وأن أختلفت نسبة هذا القمع بين هذا الطرف أو ذاك , فالأول مالك للسلطة والدولة ولا يعترف بوجود الآخر كأنسان , ويسعى دوما إلى تجريمه , بل ووسمه بالخيانة بمعنى التحريض على تصفيته , مثلما حدث في الأعتصام الاخير 1032005 عندما عبأ الطلبة لمواجهة المعتصمين سلميا , والفعل هذا يدفع بإتجاه تكسير الروابط والانتماء الوطني .
العلاقة الملموسة بين السلطة والمجتمع , هي بعد اربعون عاما من قانون الطوارىء , الذي يحاسب على النية وليس الفعل , وينسف بالتالي إسس التعايش السلمي , هي علاقة الجلاد بالسجين , وفي احسن الأحوال النأي الكامل عن الأحتكاك بالسلطة لذلك تصبح علاقة السلطة بالمجتمع , اما في تضاد وتنافر , أو لا مبالاة كاملة أو سبات خوف متفاوت , بحكم أن تدخل السلطة في المجتمع جعله ضعيفا , ممـزقة شبكة علاقاته الأجتماعية , غير قادر حتى على الاحساس بوجوده , بمعنى تم تدمير المجتمع كبنية فاعلة وكقوة محركة وصاحبة مصلحة حقيقية في التغيير , حتى وصلنا إلى مرحلة باتت فيها الدولة ضعيفة والمجتمع ضعيف أيضا , وهي مرحلة حرجة ومفصلية يغيب عنها محدداتها وموجبات نهوضها أو تقدمها أو قدرتها على المواجهة .
اذا هناك اختلال كبير في المجتمع السوري , وزاده اختلالا الاحداث المتلاحقة التي تعصف بسوريا والمنطقة , وهي الاحداث التي ترتبط بالخارج ومدى قدرته على اعادة صياغة المنطقة , كما صاغها في بدايات القرن الماضي , وبالتالي ليس المطلوب هو الهروب إلى الأمام ودفن الرأس في الرمال , وأنما مواجهة استحقاقات المرحلة والعمل على تهيئة الداخل وتأطير تفاعلاته الايجابية , على أرضية استيعاب الاستراتيجية العالمية الجديدة والمبنية على ايجاد حواضن ديمقراطية تجفف منابع الارهاب وتقصي ثقافة الاستبداد وتدفع بالشعوب الى أمتلاك زمام مبادرتها , ولا يفيد في هذا المجال عقلية المناورة الالتفافية التي تتبعها السلطة السورية , فلا الخروج من لبنان سيوقف الضغوط الدولية , ولا لعبة مقايضة الأوراق الأقليمية سيعيد دورة الأستبداد , فما هو قادم لا يترك خيارا للمساومة , سوى خيار الداخل , خيار التغيير الداخلي , وهو الوحيد الذي يلوح في الأفق لأنقاذ سوريا كوطن وشعب .
ما حدث أمام قصر العدل وتاليا في ساحة المرجة ترك العديد من الدلالات , حيث يمكن القول بأن النضال من أجل الديمقراطية لم يعد داخليا صرفا , بعد نصف قرن من الأخفاق , بل أصبح يمتلك شئنا أم ابينا بعدا خارجيا مؤثرا ومحددا للكثير من توجهاته , حتى أن المرحلة نفسها تساهم في تحديد واستنباط المهمات الوطنية , المتعددة , داخليا وخارجيا , في مستواها السياسي المتجلية في الحرية والديمقراطية وتحرير الأرادة الوطنية من قوانبن الطوارىء , وبما يتوافق مع مستويات الارتباط الوطني ومكوناته القومية , وفي مستواها الأدواتي المجتمعي توفير أدوات قادرة على فعل التحقيق , بمعنى أمتلاك جعبة فكرية قادرة على تجديد ذاتها , حتى تستطيع الدفاع عن شعبها وكسر دوائر الرعب والخوف التي أحيط بها , وبالضد من ممرات الأختراق الأمني في المجتمع .
وتحقيق المهام في مستوياتها يتطلب قوى تمتلك قوة الفعل وليس النقل , بمشروع تغييري عصري , لا شعارات نارية متهالكة , بل مهام واضحة المعالم , متكاملة ومتناسبة الأبعاد , تهدف بداية إلى ردم الهوة أو أيجاد الحلقة المفقودة لديها , التي خلفها الأستبداد , والحلقة التي اعني لها جناحان , الأول , أمتلاك وعي ديمقراطي يقبل الأختلاف والتعدد , والثاني , فهم المزاج الجماهيري وآليات تأمين أحتياطي جماهيري يمكن أن يكون عامل ضغط على السلطة لتغيير سياستها أو الغاء بعض مرتكزاتها , وأعتقد أنه بدون توفر الجناحان ستبقى قراءة السلطة لفعاليات المعارضة في أدنى مستوياتها , خاصة واذا علمنا بأن هناك بعض القوى المعارضة " تُزايد " حتى على السلطة في بعض طروحاتها الخارجية , رغم فارق الفائدة المستوحاة للجانبين , وهذا التناغم يخلق في الشارع حالة من البلبلة والوهن ويضعف مصداقية العمل المعارض , وبالتالي يحدد خيارات مجتمعية , السلطة أقدر على الأستفادة منها لفارق الأمكانيات الضخم , بمعنى إيجاد تمايز يكون أكثر حرصا على الأرادة الوطنية , يدفع بإتجاه التناغم مع متطلبات الجماهير وتعبير عن المسكوت عنه لديهم , عبر التخلي أو الأقلال ما امكن من شعارات ومسميات مرحلة النهوض الثوري أو القوموي , والأتساق مع الواقع الداخلي السوري , المختلف راهنا في حراكه ومتطلباته ونوعية أهتماماته عن المرحلة التي أنتجت هذه القوى نفسها .
أن تسارع الأحداث وتنوعها وحجم أمواجها العاتية , من المفروض أن يدفع السلطة السورية إلى التصالح مع مجتمعها , فيما لو كانت القراءة سياسية , لكن أنعكاسات الفعل السلطوي في الواقع , والذي هو أنعكاس لمستوى الوعي بالحدث , يذهب في الأتجاه التقليدي المبني على تكريس ثقافة الخوف وحجب الفضاء المفتوح عن المجتمع , وهو أمر بات موضع التندر ليس أكثر , بحكم انتهاء فعالية هذا النوع من التعامل , فلم تعد الأنساق المغلقة ومنطقها العقائدي قادرة على أعادة أنتاج ذات الدوائر القمعية , حتى وأن كانت أحدى الخيارات التي من المرجح اللجوء لها .
أذا المسالة ليست في تحريض بعض الطلبة ورجال الأمن على أستخدام وسيلة بدائية , هي العصي لضرب معتصمي المعارضة , وانما تكمن المأساة في العقل الذي أنتجها , لما تحمله من معان سياسية ومجتمعية وأنسانية , وما تتركه من آثار اجتماعية خطيرة , وأخمن بأن طبيعة المُنتج الأمنية لم تترك له خيار القراءة السياسية الصحيحة , ولا تقدير كارثيتها , لذلك لا ريب بأننا سنشهد أبداعات قبلية أخرى ؟.
القامشلي 16/3/2005 كاتب وسياسي كوردي , ناشط في لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا
#مشعل_التمو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟