واكب تأميم الحركة
النقابية فى مصر فى أواخر الخمسينات من قبل الدولة الرأسمالية أو بمعنى آخر النظام
الناصرى صدور عدد من القوانين التى تنظم علاقات العمل بين العمال وكل من الدولة
والقطاعين العام والخاص فضلا عن عدد من التشريعات التى تربط العمال بأجهزة الدولة
مثل شروط تمثيل العمال فى السلطة التشريعية والمحليات ومجالس إدارة شركات القطاع
العام والتى فى حقيقتها أقنعة زائفة تخفى حقيقة الموقف العدائى للدولة الرأسمالية
فى مصر للحركة العمالية الذى تمثل فى اضطهاد القيادات العمالية وسلب الحركة
العمالية استقلالها وقمع أى تحرك عمالى مستقل عن الدولة بدا من إعدام شهيدى الطبقة
العاملة خميس والبقرى إلى اقتحام مصنع الحديد والصلب بالدبابات فى أغسطس 1989 ومصرع
الشهيد عبد الحى . وقد حدث ما حدث فى الوقت الذى كان فيه اليسار التقليدى يتحالف مع
النظام الحاكم تحت حجة وطنيته فى الستينات والتحالف مع المعارضة البرجوازية الصغيرة
فى السبعينات ،وإلى الآن تحت حجة ضرورة التحالف الوطنى الواسع ضد الإمبريالية ومن
أجل الديمقراطية البرجوازية، وبالتالى تأجيل الصراع الطبقى لحين إشعار آخر ،وبصرف
النظر عن صحة هذه المبررات من عدمها ، فانه وفى نفس السياق سنجد إن نفس اليسار رسخ
فى أوساط الطبقة العاملة مفهوم النضال القانونى سواء فيما يتعلق بالقضايا الفردية
آو الجماعية بين العمال واصحاب الأعمال ،أو فيما يتعلق بالقضايا الجماعية والنقابية
لجماهير العمال أو هذا وهو الأهم والأخطر الرضوخ للعمل فى إطار الشرعية والقوانين
البرجوازية فيما يتعلق بمنظمات الطبقة العاملة من نقابات وجمعيات أو حتى الالتزام
بالشرعية فى إطار آليات الصراع الطبقى من اعتصامات واضطرابات
وأصبح من السهل بل والمرغوب فيه اللجوء للقضايا والاحترام الهائل
للشرعية والقوانين البرجوازية ، و الإجلال لكل مؤسسات العدالة من تشريع وقضاء
وتنفيذ وبالرغم من طول الإجراءات القضائية وبطئها حيث تجرى العدالة إن وجدت
كالسلحفاة ومع حركتها المضنية،والمكلفة سنجد فى النهاية وفى الغالب الأعم ظلم لا حد
له حيث لا ضمان حتى للحقوق الهامشية والوهمية والقليلة الممنوحة للعمال ،والتى
تضمنها قوانين العمل المختلفة فى ظل تدهور كافة مرافق الدولة.
وإذا كان النضال القانونى ، يتم من خلال قوانين وأجهزة لتطبيق تلك
القوانين ، فتعالوا بنا نرى حالة تلك القوانين وأجهزتها ،إن السلطة التشريعية التى
تسن القوانين هى سلطة بورجوازية معادية للعمال بطبيعتها ،ولا يجب أن تخدعنا خدعة
الديمقراطية البرلمانية أساسا ولا نسبة الخمسين فى المائة عمال وفلاحين حيث أن
هؤلاء الممثلين الوهميين للطبقة العاملة من حيث التعريف العلمى للطبقة ليسوا عمالا
حقيقيا فى غالبيتهم ، ومن حيث تعبيرهم عن المصالح العمالية ،وذلك هو الأهم ،أنهم
أبعد ما يكونوا عن ذلك .فهل يمكن لنا أن ننسى الحماس الهادر للسيد /راشد رئيس
الاتحاد العام لعمال مصر وعضو مجلس الشعب عن العمال فى تأييد قانون قطاع الأعمال
الذى حرم العمال من الكثير من المميزات التى كانوا يتمتعون بها فى القانون 48 لسنة
81 ، وهو فى ذلك شأنه شأن الكثير من هؤلاء الممثلين الذين يفتقدوا شرعية التفويض
والتمثيل .
كما لا يجب أن تخدعنا الحقوق الواردة فى
القوانين ، فقوانين العمل فى مصر ليس كما يتصور البعض تؤمن للعمال الكثير من الحقوق
أكثر مما تؤمنه الحركة النقابية للعمال فى أوربا ،وما أنتزعه العمال من امتيازات
بنضالهم البطولي ،فى المئتى عاما السابقة هنا وهناك، فقوانين العمل فى مصر تؤمن
حقوقا وهمية أو شكلية أو هامشية وكانت بمثابة الجزرة التى تم بها ترويضها لصالح
النظام البيروقراطى الاستبدادى لا غير ،برغم أن هذه الطبقة حصلت فى الكثير من
البلدان على أضعاف أضعافها من خلال النضال الجماعى المنظم وقوتها السياسية
والنقابية والاجتماعية المرتبطة بمدى قوة هذا التنظيم .ودون أن تفقد ما فقدته
الطبقة العاملة المصرية من حريات سياسية ونقابية .
وإليكم المثال التالى :- يشيع بين العمال فى مصر أن قوانين العمل
تحمى العامل من الفصل التعسفى ،إلا أنه فى الحقيقة ،أن القوانين لا تحمى العامل من
الفصل إلا فى حالة الفصل بسبب النشاط النقابى .فإذا ما تم فصل عامل من منشأة للقطاع
الخاص الذى ينظم علاقات العمل فيه القانون 137لسنة 1978، عليه أن يتظلم من قرار
الفصل خلال أسبوع من تاريخه لمكتب العمل،والذى يستدعى صاحب المنشأة لسؤاله فى سبب
الفصل ،ومحاولة حل الموضوع وديا ،فإذا ما تعذر إعادة العامل لعمله ،وتحقق لمكتب
العمل أن الفصل تم تعسفا ،أحال الموضوع للقضاء المستعجل للبت فى قرار الفصل ،وإذا
قرر القضاء وقف قرار الفصل وصرف الأجر أحال الدعوى لمحكمة الموضوع للبت فى قرار
الفصل والتعويض.
وهنا سنجد الآتى:-العامل لن يستطيع
إلا صرف أجور الشهور الأولى حتى تاريخ نظر الدعوى الموضوعية أما ما يلى ذلك فيوضع
فى خزانة المحكمة لحين البت فى الدعوى، وفى محكمة الموضوع لا يستطيع القاضى الحكم
بعودة العامل ،إلا إذا تيقن من أن الفصل تم بسبب النشاط النقابى ،وأما عن التعويض
فأنه يحسب على أساس الأجر الأساسى ومدة الخدمة ،ومن الخبرة العامة نلاحظ أن محكمة
أول درجة تبت فى هذه الدعوى فى فترة ما بين ثلاث إلى خمس سنوات ،ومن سنة إلى سنتين
فى محكمة الاستئناف ،وفى أحسن الأحوال إذا حكم للعامل بالتعويض عن الفصل ،فأن صاحب
العمل يستطيع الاستشكال فى التنفيذ لوقفه،والطعن فى الحكم بالنقض الذى ينظر الدعوى
بعد خمس سنوات من تاريخ تقديم الطعن ،وبالرغم من القاعدة القانونية العامة القاضية
بعدم إيقاف الطعن بالنقض لتنفيذ الحكم ،إلا أن صاحب العمل يستطيع طلب إيقاف الحكم
لعدم قدرة العامل على تقديم كفالة للتنفيذ ،وهكذا يظل العامل عشر سنوات من تاريخ
فصله فى أروقة المحاكم ،وراء تعويض يحسب على أساس أجره الأساسى ،وقد يحصل عليه أو
يموت من الجوع قبل الحصول عليه.
وإذا كانت القوانين
تحدد ساعات العمل بسبع ساعات،فأنها واقعيا تتجاوز ذلك وقد تصل لعشرة أو أثنتا عشر
ساعة يوميا لتعويض ضآلة الأجر الأساسى الذى يحسب على أساسه الأجر الكلى ،أو يضطر
العامل فى معظم الأحوال العمل أما لحساب نفسه أو حساب صاحب عما آخر ،حيث أن أجر
السبع ساعات سواء فى القطاع العام أو الخاص أو الحكومى لا يكفى لسد الاحتياجات
الضرورية للعامل وأسرته، طالما تتحدد الأجور بقوانين تصدرها الدولة وليس وفقا لحرية
التعاقد بين العمال وأصحاب العمل ،وفى ظل هشاشة الحركة النقابية وتأميمها.
وهكذا نرى أنه حتى الحقوق البسيطة المقررة قانونا للعمال
نظريا،تصبح لا معنى لها عمليا غالبا ،ومن خلال الخبرة العامة والعملية لمجموعة من
أكبر المحامين المتخصصين فى القضايا العمالية نستخلص أن معظم الأحكام فى القضايا
العمالية وفى شتى درجات التقاضى تصدر فى غير صالح العمال .حيث لا يجب أن ننتظر من
القضاء فى الدولة الرأسمالية الانحياز للعمال ضد أصحاب الأعمال ،وهذا لا ينفى
بالطبع عدالة هذا القاضى أو ذاك ،أو نزاهة تلك الدائرة أو هذه،إلا أن كل هؤلاء هم
مجرد نقاط ضئيلة من النور فى البحر الهائل من الظلمة ،ويندرج هذا على الرقابة
القانونية على الأحكام من قبل محكمة النقض ،التى تأتى تفسيراتها غالبا منحازة
لأصحاب الأعمال سواء أكانت الدولة أم القطاع الخاص ،وبالطبع ينسحب انحياز القضاء ضد
العمال من قبل جهات التنفيذ أيضا،فكل سلطات الدولة البورجوازية هى أجهزة قمع وتضليل
للعمال ،هى أجهزة لحماية المصالح البورجوازية ،ولا يجب أن تتوقع الطبقة العاملة أى
خير من مثل هذه الأجهزة ،وهذا هو ما تدلل عليه هذه الخبرة التاريخية للطبقة العاملة
، فالسلطة البورجوازية عندما تمنح باليد اليمنى فأنها تسحب ما منعته باليد اليسرى
.أما ما ينتزعه العمال عبر نضالهم الجماعى المنظم فأنه يصعب انتزاعه منهم .
فالنضال القانونى من شأنه تشويه وعى الطبقة العاملة ،فبه
يترسخ فى وعيها وهم أنه من الممكن ومن خلال احترام الشرعية البورجوازية الحصول على
حقوق هامة لها،وأنه من الممكن للأجهزة البورجوازية أن تنحاز لهم ضد من تعبر عن
مصالحهم من الرأسماليين ،وأن الطبقة العاملة تستطيع من خلال هذه الشرعية أن تحرر
نفسها من القهر والاستغلال ،هذا التحرر المشروط بهدم هذه الشرعية فى النهاية،وإقامة
الشرعية الخاصة بها،عندما تتحرر من أى سلطة خارج تنظيماتها الحرة .
هذا الانغماس فى النضال القانونى هو مرض يصيب الطبقة العاملة ويفقدها
الكثير من القدرات النضالية ،حيث يحرمها من التدرب على مواجهة الدولة وأصحاب
الأعمال بشكل منظم لانتزاع مطالبها ،وتتعود وتستسهل اللجوء للمحاميين ليناضلوا بدلا
منها لانتزاع تلك المطالب بأسلحتهم الصدئة ،وعبر الطرق المملة فى المحاكم ،أنه مرض
يحرم الطبقة العاملة من خبرات الضغط على البورجوازية لانتزاع تلك المطالب ،خبرات
تحدى تلك البورجوازية وسلطتها وليس الاعتراف بسلطتها وتقديس قوانينها وعبادة
مؤسساتها ،والتعلق بشرعية حكمها،وبالطبع فأننا لسنا ندعو لامتناع الطبقة العاملة من
الاستفادة من أى إمكانية موجودة لدعم مصالحها وانتزاع مطالبها بما فيها اللجوء لرفع
الدعاوى القضائية ،فسوف يصبح هذا الامتناع المطلق مجرد عبث بلا شك بالنسبة للعمال
الأفراد فى منازعتهم الفردية ضد الدولة و أصحاب الأعمال ،كما هو عبث تماما أن تمتنع
الطبقة العاملة من الاستفادة من أى إمكانية موجودة فى الحريات السياسية والنقابية
فى الدولة البورجوازية ،كما أن العبث والخطورة يكمنان فى تركيز الطبقة العاملة على
الوسائل الشرعية والقانونية ،والتركيز على النضال البرلمانى والنقابى ،والركون
للإصلاحات التدريجية ،و الأسوأ بالطبع هو الانتظار فى سلبية لما تمنحه الدولة ،وهى
كلها أمور لا يمكن أن تأتى فى أفضل الأحوال إلا بإصلاحات طفيفة لتحسين شروط
الاستغلال الرأسمالى ولا يمكن لها أن تنهيه.
إن ما
يجب أن نرفضه هو الاقتصار على النضال القانونى ،فيما يتعلق بالحقوق الجماعية ،وفيما
يتعلق بالقضايا الجماعية للعمال ،وهى الأمور التى لا يمكن حسمها لصالح الطبقة
العاملة إلا بالنضال الجماعى المنظم .إن الدافع وراء كتابة هذا المقال ،هى الرغبة
فى نقل خبرة لابد أن نأخذ منها العبر ، ينقلها محامى تخصص فى القضايا العمالية لمدة
ثمانى أعوام قبل أن يتوقف عن ممارسة المهنة ،وقد عمل فى أكبر مكتب محاماة متخصص فى
القضايا العمالية فى مصر لمدة ثلاث سنوات.
فى عام
1982 أضرب عمال شركة النقل الخفيف ،وتم نقل قيادات الإضراب ،وبدلا من أن يتخذ
العمال موقف جماعى فورى للمطالبة بعودة العمال المنقولين ،وهو الأمر الذى كان يجب
أن تدفع العمال له قيادات اليسار التقليدى، الذى وكالعادة تقاعست عنه تماما ،دون
حتى أن تختبر حتى إمكانية الفعل من عدمه ،وكالعادة أيضا لجأ العمال المنقولون
للقضاء ،وفى عام 1989 بعد سبع سنوات حصل العمال على حكم بالعودة إلا أن الشركة
استأنفت الحكم .ومرة أخرى صدر حكم بعودة عامل نقابى مفصول إلى عمله الأصلى ( الشركة
الأهلية للغزل والنسيج) بعد أربعة عشر عاما من قيادته إضراب فى هذه الشركة ،وفى عام
1986تم نقل عشرة عمال من شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى ،وصدر حكم بعودتهم
إلا أن الشركة حولت هذا الحكم إلى مجرد حبر على ورق إذ أعطت بعضهم إجازات مفتوحة
،ونقلت بعضهم لأعمال إدارية بعيدة عن التكتل العمالى.
وفى عام 1989 حدث اعتصام الحديد والصلب ،وتم نقل بعض قيادات الاعتصام
،وقد لجئوا إلى القضاء وحصلوا على أحكام بالعودة من محكمة أول درجة ،إلا أن معظم
الأحكام ألغيت استئنافيا . ومرة أخرى كان يجب على اليسار أن يحاول أن يدعوا العمال
داخل المصنع لاتخاذ موقف جماعى للمطالبة بعودة القيادات العمالية المنقولة،
وبالتالى استفادة العمال من خبرة الضغط لانتزاع المطالب ذات الصبغة السياسية ،وهو
الأمر الذى سيمنح العمال والقيادات العمالية روحا معنوية مرتفعة نابعة من إحساسهم
القوى بالتضامن ووحدتهم الجماعية ،وهو الأمر الذى كان سيحافظ على تواجد الطلائع
العمالية وسط قواعدها ،وهو التواجد الذى يضمن لهم الاستمرار فى حياتهم النقابية
والسياسية، فالطلائع العمالية كالسمك فى الماء،إذا خرج منه مات،وهو ما تدركه
البورجوازية جيدا عندما تنتزع هذه الطلائع من قواعدها مما يفقد القواعد
قيادتها،وتفقد الطلائع قدرتها على العمل ،وتذبل خبرتها ،وتصبح مجرد خبرة قديمة
وذكرى ميتة.فالكثير من القيادات العمالية تضطر بعد الفصل أو النقل التحول إما إلى
موظفين إداريين أو اللجوء للأعمال الحرفية والمشاريع البورجوازية الصغيرة،وبالتالى
تنفصل تماما عن قواعدها العمالية مما يدمر قدرتها النضالية ،أو يفقدها الحماس
للنضال .
وبالطبع نحن لا نستطيع إلقاء اللوم كله على
اليسار التقليدى فى هذا الشأن ،حيث يواجه اليسار ظروفا من الجذر والإحباط واليأس
والسلبية من جماهير العمال لاتخاذ موقف جماعى للتضامن مع زملائهم ،وبالتالى لا يمكن
فى هذه الحالة عمل أى شىْ ،ولكن يمكن توجيه اللوم فى حالة التكاسل عن الاستفادة من
حالة الحماس والمد العمالى الذى يعقب الكثير من الإضرابات ،والإدانة كل الإدانة
لمحاولة إحباط هذه الإمكانية