يواصل جمهرة من الساسة والمثقفين العرب إطلاق صواريخ التخويف والتحذير من ترحيل النظام العراقي منذرين بالويل والثبور وعظائم الأمور. وكأننا بهؤلاء هم الأكثر حرصا على مصالح الشعب من قوى الشعب الوطنية على اختلاف اتجاهاتها. وآخر ذلك تحذيرات رئيس دولة عربية كبيرة من نشوب حرب أهلية عراقية طاحنة وانتشار الفوضى في المنطقة. وللتذكير فإن أكثر القيادات والأنظمة العربية أطلقت صرخات مماثلة بعد نجاح ثورة 14 تموز[ 1958 ]وتدخل "التقدمي" و"الرجعي" لإجهاض الثورة وإشعال الفتن والمؤامرات الدموية،متحالفين مع الولايات المتحدة نفسها حتى تم إسقاط الثورة على أيدي مجموع تلك القوى والأطراف. إن التاريخ سيشهد أن العرب قد غدروا بالعراقيين أكثر من مرة برغم كل التضحيات العراقية من أجل القضايا العربية.وفي حين يفخر التاريخ العراقي الحديث بأمثلة التضامن الفعلي والفعال مع الشعب الفلسطيني فإن الفلسطينيين اليوم يتجاهلون تماما مأساة الشعب العراقي تحت مخالب نظام دكتاتوري جائر لم يبق عائلة عراقية بلا ضحية، وأذل الكرامة، وأهان الشعب واحتقره. وبدلا من الشعور بالامتنان فإن القيادات والجماهير الفلسطينية ترفع صور جلادي شعبنا، بل وإن بعض قيادات العمليات الانتحارية تعمل أولا لمصلحة نظام صدام،بأمل تأجيل عملية إسقاطه.ولعل من المناسب التوجه إلى المتنبئين بالويل والثبور لسقوط النظام الدموي في بغداد بالعديد من الأسئلة: منها انه لو كان هو الحرص الحقيقي على العراق وشعبه لتنازلت بعض الدول العربية [ وهذا أقل الإيمان ]عن التعويضات الظالمة المفروضة على العراق، والتي حصدت بعضها منها لحد يومنا،حكومة ومؤسسات وشركات وأفرادا، أكثر من مليار ونصف المليار من الدولار !!أما ما هو أكثر إيضاحا لتفسير بعض أسباب المواقف العدائية لشعبنا ففي صفقات النفط المهرب وغير المهرب، وتصدير السلع الكاسدة و"البايظة" للعراق وتكديس مليارات تتزايد باستمرار. ومؤخرا طالبت شخصية مصرية من المحاكم بمحاكمة الساسة والمثقفين الذين تسلموا "مكافآت "سخية،نقدية وعينية من السلطة العراقية لتجيير المواقف والدعاية لصالحه.ولدينا مستندات بأسماء العشرات والعشرات من رجال الأعمال والمثقفين والساسة العرب [ومنهم فلسطينيون وإسلاميون ] ممن "قبضوا"بسخاء، فيما يعيش العراقي نصف معيشة بورقة التموين ،وأساتذة الجامعات والأدباء صاروا ما بين سواق تكسي أو باعة كتب على الأرض. ومخازن البيع في بغداد مليئة بجميع أنواع السلع الكمالية والضرورية، ومنها آخر موديلات السيارات والويسكي.لكن النخبة الحاكمة والحاشية وسائر المنتفعين من الحظر والنفط المهرب هم وحدهم المستفيدون.
إن للعراق قوى وطنية وأحزابا وساسة ومثقفين ذوي ماض مجيد وخبرة وكفاءة ، فليس هو أقل رجالا من البلدان العربية الأخرى ولا من البوسنة وكوسوفو وأفغانستان. ورغم بقاء خلافات إيديولوجية كبيرة في صفوف القوى الوطنية العراقية، فإنهم يجمعون على وجوب سقوط النظام القائم. وإذا كانت بعض هذه القوى السياسية لا تزال تشعر بالإحراج لإعلان بالقبول العون الخارجي في عملية التغيير، فإن الأكثرية ترى أن الوضع الدولي اليوم فريد ويجب استثماره لصالح تغيير كامل يكون عراقيا وبمشيئة العراقيين. والقوى السياسية العراقية ليست قبائل تتحارب بالسلاح وهي قادرة على كبح أي انفلات أمني وأية انتهاكات متوقعة بعد سقوط النظام. إن حوادث مؤلمة هنا وهناك متوقعة بعد كل تغيير سياسي جذري في أي بلد لم يمارس الديمقراطية ويئن تحت كابوس الاستبداد الدموي المطلق والشامل. غير أن الخطر يمكن تلافيه بتظافر الجهود الخيرة والنضج السياسي، وهذا ما لا تفتقر إليه الحركة الوطنية العراقية برغم بقاء سلبيات ونقاط ضعف مؤسفة فيها. إن ما يتجاهله المدافعون عن النظام العراقي تحت مختلف الواجهات هو أن شعبنا قد وصل إلى الامتلاء بالمرارة من النظام وصارت كراهيته ورفضه مزاجا عاما وهو يتقبل كل عون حقيقي لنجدته. وأظهر استطلاع أوربي ـ روسي ـ أمريكي بين العراقيين نشرت عنه منذ أيام الصحافة الألمانية، هذه الحقيقة، مؤكدا أن 90 بالمائة من الشعب العراقي سوف يستقبلون تغيير النظام بالزغاريد والزهور. وبينما يتخلى "الأقربون" عن شعبنا فكيف يرفض عون "الأكثر بعدا"؟! فليكتب الدعاة العرب للنظام ما يريدون ولينشروا كل يوم أكاذيب "الأخطار المؤكدة ": [حروب أهلية وتقسيم وطغيان الشيعة، الخ.]،وليتهموا قوى المعارضة الوطنية بالعمالة والقبول بتحويل بلدهم إلى " محمية أمريكية!!"، ولتنشر صحافتهم تقارير مفبركة يمليها إعلام النظام من بغداد تتحدث عن "التفاف الشعب حول قيادته "، وليكذب منهم من أراد حين يزعم أن "العراقيين "[لاحظ: "العراقيين"لا أثرياء الحظر وأزلام النظام] هم في مهرجانات وأعراس دائمة باذخة، وان النساء يعلنّ أنه لا داعي لرفع الحظر لأن الورقة التموينية هي كبرى النعم [ الله الله!]، وغير ذلك من بضاعة هذيان وقيء يروجها ويسوّقها مرتزقة ومنتفعون مغرضون، وأولئك المذعورون من أفق التحول الديمقراطي في العراق. فقد أسقط هؤلاء جميعا أنفسهم في مدار رفض الأكثرية من شعبنا لهم، وغضبه واحتقارها. إن العالم قد تغير ولم يعد من مكان للأنظمة الدكتاتورية الشمولية، لاسيما للحكام الذين يهدرون دماء أبناء الشعب في الحروب الداخلية والخارجية، ويصفّون الحريات، ويذبحون الأبرياء ويبيدونهم بالغازات السامة، وينهبون مال البلاد وثرواته، ويربطون بلادهم بقيود العقوبات الدولية التي تخل بالسيادة الوطنية، ويمنحون الجيش التركي منذ الثمانيات الماضية حق اجتياح أراضينا لمسافة أربعين كيلومترا، ويعتدون على الجيران، ويمارسون الإرهاب ويمولون الإرهابيين ويسلحونهم. إن للشعب العراقي حقه الكامل في العمل لإنقاذ نفسه وبلده من الظلم والقهر وحمامات الدم، وبناء حياة جديدة ديمقراطية آمنة، وإعادة بناء البلد، والتعايش مع الجيران، والقضاء التام على أسلحة الدمار الشامل.ومن حق شعبنا قبول كل عون خارجي يسهل نضاله من أجل هذه الأهداف الوطنية والديمقراطية. والعراقيون هم،وكما برهن تاريخهم، حريصون كل الحرص على استقلال بلادهم وسيادته الوطنية، ووحدة أراضيه في عراق ديمقراطي، موحد، مزدهر، وبلا عقوبات وحظر، وبلا حروب... وهو واصل لا محالة..!
كاتب عراقي يعيش في المنفى
خاص بأصداء