ياسر محمد أسكيف
الحوار المتمدن-العدد: 3948 - 2012 / 12 / 21 - 11:47
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
( ضع رأسك الرؤوس وقل يا قطّاع الرؤوس )
مثل لا ينمّ عن الإفراط في اليأس الذي يقود إلى منتهى الاستسلام فحسب , بل أجرؤ على القول بأنه يُفصح عن كمّ هائل من الحماقة , إن لم أقل الغباء , في التعاطي مع راهن على أنه الشكل الوحيد للوجود , ومع فعل تختصر فيه كلّ الممكنات , وتتماهى في تحققه كل الاحتمالات .
في مسار ( الثورة السورية ) , مع التأكيد , كما في غير مرّة , على أن الثورة لا تعني بالضرورة فعلا ً إيجابيا ً بالمعنى التاريخي , ينطبق المثل الذي أثبتناه بداية على البعض من الديموقراطيين السوريين في مجاراتهم للاستبداديين واللاديموقراطيين في سياساتهم وأفعالهم , فقط كي لا يتهموا بالبعد عن متن الثورة , وعدم الانخراط في الفعل الثوري . وتدفعهم هذه الحماقة المدمّرة إلى الدخول في تحالفات يدركون سلفا ً أنهم هامشيون , ومغلوب على أمرهم فيها , كي يدرأوا عن ذواتهم تهمة إضعاف الثورة . وتجنبا ً لهذه التهمة , أو أشباهها , يغضون الطرف تماما ً عن ممارسات لا إنسانية تقوم بها تيارات وجماعات مسلّحة , ويبررون مواقفهم هذه بالحرص على وحدة العمل الثوري , تماما ً كما يبررون تلك الممارسات على أنها أمر طبيعي ناتج عن وحشية النظام في مواجهة الثورة . أو أن النظام ذاته هو من ارتكبها , حتى ولو اعترفت بها تلك الجماعات .
إن هذا المبدأ الذي يعتمده أولئك الديموقراطيون يشير , أول ما يشير , إلى تجاهل , إن لم نقل جهل , بأبسط القواعد التي تقوم عليها التحالفات , ولكن أشدها دقة وصرامة , وهو تحديد التخوم جيّدا ً , وإبراز الحدود بالشكل الذي يجعل من تجاوزها أمرا ً صعبا ً , أو مفضوحا ً على الأقل . والتخوم التي أقصد , وأظنهم على دراية بذلك , ليست خطوطا ً في مخطّط عقاري , أو إمساك لحى وشوارب , بل هي إحياء في كل لحظة لنقاط الاختلاف والخلاف , وعدم التغاضي والسكوت عن الممارسات التي تتناقض مع أهدف التحالف وغاياته .
إن الضياع والتخبط الذي يعيشه الديموقراطيون يأتي من غياب المبدأ الذي يمكنه الجمع بين الرؤى النظرية , والمهمات الراهنة . أو كما كانت لغتهم حتى الأمس القريب بين المواقف الاستراتيجية والمواقف التكتيكية . وليس لدي من تفسير لهذا الغياب إلا المفاجأة . فقد كالنت مفاجأة مخيبة للأمل تلك التي استيقظوا عليها غداة اندلاع الحراك في سوريا , والذي كشف لهم كم أنهم غرباء عن حلمهم الذي بدا واقعا ً , وكم أنهم دون حيلة في الانخراط العضوي الفاعل فيه ( توجيها ً , أو تنظيما ً , أو حركة ) فقبلوا بالالتحاق حسب قوانين الحراك , التي جاءت ارتجالية ( وليست عفوية ) دون خطط أو استراتيجيات , بل أن هذه كانت تتوالد في اللحظة , على شكل تكتيكات تفرضها آليات القمع التي ووجهت بها , ومع تقدّم الحراك وانحرافه باتجاه حدّد مساره على غير رجعة , كان الديموقراطيون بمختلف أطيافهم قد اجتمعوا واستقروا على هدف واحد , وإن اختلفت الصياغات , هو الانتقال إلى سوريا ديموقراطية تعدّدية , غير أن الانحراف الذي اتخذه المسار نحو شكل وحيد للمواجهة والمجابهة ( العمل العسكري ) رفع نسبة العجز عند الديموقراطيين في التأثير على مجريات الحدث , وهذه حقيقة لم يقبلوها أيضا ً , وأقصد من الديموقراطيين هنا أولئك الذين رفعوا شعار اسقاط النظام كهدف أول , ومهما كانت النتائج . وعدم قبولهم لهذه الحقيقة جعلت منهم مجموعات نهارها يمحو كلام ليلها , وكأنما الحراك يخونهم بانقياده إلى أيديولوجيات نقيضة , وهم الذين كانوا المعارضين , الذين دفعوا أثمانا ً باهظة , في وقت كان الجميع فيه صامتا ً . ولكن حينما تحدّث الجميع فوجئوا بأنه لم يكن صوتهم , أو حتى لم يكن ما يذكّر به . ووجدوا أنفسهم أشبه ما يكونون بالثعلب الذي خدعه ظلّه , إذ ظن بأن ظله هو حجمه عند شروق الشمس , وبأنه ما من فريسة إلا بمتناول المخلب , وإذ حلّت الظهيرة العادلة , وبطل الظن , نهض مُنهكا ً ليبدأ سعيه . وحينما تحرّك فأر في الجوار تحفّز واستعدّ للانقضاض : خنزير بري !!! هذا هو طعامي المُفضّل .
ليس الأمر مجرّد عناد , كما يبدو في الممارسة السياسية لهؤلاء الديموقراطيين , بل هو نتيجة الهروب إلى الأمام الذي بدأوا بممارسته تزامنا ً مع يوميات ( الثورة ) واشتداد الأزمة السورية وتعقد مجرياتها . هذا الهروب , الذي يمكن نعته بالأخلاقي , وليس السياسي , اتخذ في محطات كثيرة طابع المزايدة الإعلامية على التيارات التي اختارت , وفي وقت مبكر من عمر الحراك , العمل المسلح وسيلة وحيدة لإسقاط النظام , وجعلت ل ( الثورة ) هدفا ً واحدا ً , وآلية واحدة لتحقيقه . لقد أُخِذ الديموقراطيون بكلامهم , حتى باتوا ظلا ً لحملة السلاح , وصدى لأصوات طلقاتهم , تحديدا ً في مسألتي ربط الانجاز الثوري برحيل الرئيس الأسد , ورفض الحوار مع أي من مكوّنات النظام مهما كان موقعه في مركز القرار . والغريب أنه في هاتين المسألتين كان الموقف الأمريكي الأوربي الخليجي لا يقلّ حدّة , بل يزيد , عن موقف المعارضة السورية , وبالتالي لم يعد الذي بين الديموقراطيين وغيرهم تحالفا ً , بل تماه لطرف بآخر . ولأن اللاديموقراطيين ( الإسلاميون بكافة أطيافهم ) يتمسكون بمواقفهم لأنها تتطابق مع رؤاهم الأيديولوجية , ولا تعني لهم ( الثورة ) سوى وصول مُظفّر إلى السلطة , بعيدا ً عن أي من التصوّرات والغايات التي أرادها الديموقراطيون لثورتهم , فانهم يصدّرون مواقفهم من دعم خارجي هائل , ومن انجازات عسكرية يحققونها على الأرض , مُضافا ً إلى ذلك جمهور كبير من المؤيدين . وأما بالنسبة للديموقراطيين , وتحديدا ً أولئك الذين قبلوا المشاركة في الائتلاف الوطني , أو الذين يدعمونه بشروط لا تقدّم ولا تؤخر , فانهم يدركون جيّدا ً بأن قبولهم هنا أو هناك , ما هو إلا عملية تجميلية تقتضيها ظروف محدّدة , ولا تستند إلى ضغط متولد بفعل التأثير على مجريات الواقع . انهم ببساطة متناهية يجملون صورة المفجوعين بإدراج أمريكا ل( جبهة النصرة ) على لوائح المنظمات الإرهابية . وفجيعتهم لها ما يبررها ما دام لهذه الجبهة حصّة الأسد من الفعل في مجريات ( الثورة ) التي تدعمها أمريكا بكل السبل , والتي كانت إلى الأمس القريب , كما كان الثوار يدّعون , من صنع النظام السوري . ولنذكّر هنا بتصريح الشيخ معاذ الخطيب , وبتصريح جماعة الإخوان المسلمين بشأن القرار الأمريكي حول جبهة النصرة .
أعتقد بأنه بعد كلّ ما سبق يمكنني القول بأنها ( ثورة ) مسبيّة , أو مخطوفة , أو مُرتهنة , وذاهبة إلى غير ما شاءت انطلاقتها , ولن تغيّر المحاباة , أو تبدّل التحالفات من واقع الأمر شيئا ً . والمطلوب هو إعادة الاعتبار للمهمات المُركبّة , قراءة , وممارسة , بعيدا ً عن الاصرار على أهداف الآخرين وخططهم , وبعيدا ً أيضا ً عن التهليل للاستبداديين بدعوى الشدّ من أزر ال(ثورة ) والمساهمة في التعجيل بإسقاط النظام .
#ياسر_محمد_أسكيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟