أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة - عبد الغني سلامه - دار الحنان .. (اللي بالعطيفية)















المزيد.....

دار الحنان .. (اللي بالعطيفية)


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 3946 - 2012 / 12 / 19 - 16:29
المحور: حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة
    


الصورة التي نُشرت على النت قبل سنوات، عن حضانة دار الحنان (اللي بالعطيفية) ليست دقيقة تماما، أرجوكم انتبهوا جيدا لما سأقوله: كنتُ حينها نحيفاً إلى درجة لا تُصدَّق، اليوم صرت سمينا ومحيط خصري يتجاوز المتر .. كنتُ مقيداً بالسلاسل مثل كلب، الآن أمشي في الشارع وأعربد فيه كما يحلو لي، ولا يجرؤ ابن كلب أن يضع عينه بعيني .. كنتُ ضحيةً مسكينة .. اليوم صرتُ أضحّي بعباد الله في كل عيد .. أرجوكم لا تكرهوني قبل أن تسمعوا قصتي ..

جندي المارينز الطيب، الذي سقاني يومها قنينة ماء كاملة، وابتسم لي بحنو ظاهر .. اختفت ابتسامته بمجرد أن أطفأ المصور كاميرته، طلبتُ منه أن يحضر لي ساندويتش هامبرغر من المطعم المجاور .. قال لي OK، سأعود بعد نصف ساعة، انتظرته ثلاثة سنوات ونصف ولم يأتي .. كم أنا أبله .. احتجت ثلاثة سنوات ونصف لأكتشف أنه كذاب !!

كنا حوالي عشرون طفلا، أعمارنا تتراوح من ثلاثة إلى خمسة عشر عاما، نصفنا أيتام، لا ندري إذا قُتل آباؤنا في الحرب، أم أنهم ماتوا لأنهم كرهوا الحياة !؟ خمسة منّا ليسوا أيتاماً تماما؛ فقد التقطهم الناس بالقرب من حاويات القمامة، أو على أبواب الجوامع .. لا يعرفون من هم آباؤهم، ولا أمهاتهم .. وهل هم على قيد الحياة ؟ أم هاجروا وتركوهم لمصائرهم ؟ والباقين كانوا معاقين، تخلت عنهم عوائلهم لأسباب مختلفة .. لم أقتنع بها، لكن آخرين كانوا يقولون دوما: "في زمن الحرب، كل شيء جائز".

أبو جاسم، مدير الدار، في الخمسينات من عمره، متجهم، عصبي، كان دوما يجلس على مكتبه الخشبي القذر، رأسه مائل للوراء، ويشخر بصوت عالي، كرشه يتدلى من تحت الطاولة، وإلى الخلف منه لوحة قديمة بإطار فضي باهت، عليها الآية الكريمة "وأَمَّا الْيَتِيـمَ فَلا تَقْهَرْ" .. لا أذكر أنه ابتسم يوما، كان طوال الليل يسهر مع الحراس الثلاثة، يشربون العرق، ويشتمون بعضهم بعضا، أحيانا يختفي لأسابيع ثم يعود كالضبع .. كان من النادر أن يتكلم مع أحد منا؛ ومع ذلك كنا نخاف منه. حين قُتل أمام الباب الخارجي للدار، فرح الأطفال وصفّقوا، أنا أشفقت عليه.

بالقرب من الدار، كان ثمة مطعم شعبي، تفوح منه روائح التمّن، والتشريب، واللحم المشوي، في الوقت الذي كنا نتضور فيه جوعا، إذْ كانت تمضي أياما متواصلة لا نذوق فيها لقمة واحدة. في الشتاء الذي سبق التقاط الصورة الشهيرة لنا، كنا نرتجف من البرد، دخلَ أربعة مسلّحين، نظروا إلينا بغضب، أخذوا فراشنا وخرجوا وهم يشتمون. في الصيف كنا ننام طيلة النهار، الحر لا يُطاق، في كل صيف كنا نخسر طفلين على الأقل، في الشتاء، العدد أكبر قليلا. "غفّوري" ابن الثمانية أعوام، لم يمت بسبب الحر أو البرد، مات في الربيع، من مرض خبيث لم أعرف اسمه، لم يأتي أحد لاستلام جثته .. لم يفكر أحد بدفنه .. أخرجه الحراس بعد ليلتين، وألقوه في الشارع ..

"حيدر" .. كان أكبرنا سناً، غافل الحراس ذات يوم وهرب، هام على وجهه في الشوارع، أكل مما تجود به الحاويات، نام في بيوت الدرج، وعلى أسطح العمارات، في البيوت المهجورة، سرق قميصا عن حبل غسيل، بعد أسبوع عثرت عليه الشرطة ممدداً على الرصيف، قادوه للمغفر، طلبوا هويته، ضحك بسخرية، بصق المحقق في وجهه، سلمه للجنود، بعد أن أنهكوه ضربا قال الضابط لهم: خذو ابن الحرام هذا .. وأرجعوه للملجأ .. بعدها أتوا بحارس آخر، ونسوا أن يحضروا وجبة العشاء ..

"مهدية عبد الخالق" موظفة في وزارة الشؤون الاجتماعية، عندما أتت لتفقدنا قلتُ لها بصوت مخنوق: أرجوكِ خذينا لبيتك .. ليلة واحدة فقط، نحن بردانين .. وجوعى .. نظرتْ لي باستغراب، وقالت: أنت شنو ؟ مخبّل !!

عندما بلغتُ الرابعة عشر، صرتُ أخجل من عريي .. رجوتُ الحراس أن يحضروا لي ملابس داخلية على الأقل .. عندما يأست، سألتهم باستغراب: لماذا تربطونا بالسلاسل ؟؟ ألا ترون أنا ضعاف، وإلى أين سنهرب ؟ أجابني أحدهم: كلما نفك قيودكم نراكم تتكومون فوق بعضكم على نفس السرير .. قلت له: حتى نشعر ببعض الدفء .. قال: بل أنتم سفلة، ولا تستحون !!!

في بعض الليالي، كان الحراس يأتون بفتيات من أعمار مختلفة، يأخذونهن للغرفة الداخلية .. يغلقون الباب .. بعد ربع ساعة يخرجن منهكات، محطمات .. الحراس على وجوههم نظرات التقزز .. ينفحونهن بعض المال، ثم يغادرن .. "رويدة" كانت من أكثر الزبائن ترددا .. في نهاية العشرينات من عمرها، وجهها مدور، هادئ، في عيناها دمعة ساخنة .. وحزن يكفي مدينة متوسطة الحجم .. اعتادت في كل مرة بعد أن ينهي الحراس مهمتهم معها .. أن تأخذ المال وتعود بعد قليل، ومعها ساندويشات كباب لجميع الأطفال .. في المرة الأخيرة .. خرجتْ، وعلى بعد أمتار قليلة أطلق عليها مجهولون النار، سقطت مضرجة بدمائها .. عندما عرفنا بمقتلها، بكينا بحرقة .. ضحك الحراس علينا .. تبكون على مومس يا كلاب !!

في أحد الأيام، دخل الدار مسلّحان ملتحيان، دفعا للحراس مبلغا سخيا .. أخذا "عليوه" قالا له: عمرك الآن عشر سنوات، ما رأيك أن نجعلها عشرون دفعة واحدة ؟ قال: كيف سأكبر بهذه السرعة ؟! قالا: مقابل هذه السنوات العشر ستعطينا بقية عمرك .. قال: وماذا سأستفيد ؟ قالا: ستأكل وجبة كباب ساخنة، وستنام على فراش وثير، ولن يربطك أحد بالسلاسل بعد اليوم .. قال مبتهجا: موافق .. ألبساه حزاما، وأوصلاه إلى السوق ..

في الأسبوع التالي جاء مسلحان آخران، نفحا الحراس مبلغا أكبر .. أخذا "علاء"، قالا له: صديقك الخائن "عليوه" فجَّـر نفسه في حيّكم، وقتل ثلاثة من جيرانك الطيبين .. سنعطيك حزاما آخر لتنتقم .. قال: لا تنسوا وجبة الكباب والفراش الوثير ..

بعدها، جاء للدار لصوص، زعماء عصابات، قوادين، سماسرة، مهربين، قادة ميليشيا، مرشحين للبرلمان، باحثين من كليات علم الاجتماع، أطباء نفسانيين، رجال دين، رسامين .. لم يأتي أحد من أهالينا .. كان الحراس يزدادون ثراء .. ونحن نزداد هزالا .. وننقص فرداً فردا .. أخيرا جاء جنود المارينز .. وجدونا بقايا بشر، لا نصلح إلا لالتقاط صورة ..

ومع ذلك، سأشكر جندي المارينز "الكذاب" .. فلو قلت لكم هذا الكلام لما صدقتموني .. وقلتم ربما يبالغ .. لكن الصورة التي التقطها هذا الكذاب تفضح غفلتكم عنا، ودفاعكم الغبي عن الفاسدين .. حين اكتشَفَنا الجنود، دخلوا علينا مباغتةً .. كنا لثلاثة أيام خلَتْ بدون طعام، عراة تماما، كل طفل مقيد إلى سرير، وحتى هذا السرير بلا فرشة ولا غطاء، أنا كنتُ مربوطا بسلسة طولها أقل من طول المسطرة .. ممددا على أرض باردة صلبة .. كنا جميعا هياكل عظيمة .. نرتجف خوفا .. واهنين .. لا نقوى حتى على الوقوف .. الحراس الثلاثة هربوا .. المسؤولين تبادلوا الاتهامات بشأن الفضيحة .. المثقفين قالوا أن الصورة فيها مبالغة .. الصحف تسابقت على نشر الصورة ..

أخذونا للمستشفى، لأول مرة منذ سنوات تناولت وجبة كاملة .. وزعونا على حضانات أخرى .. فيها درجة أقل من القسوة. تفرقنا .. اختلفت مصائرنا .. شيء واحد سيجمعنا للأبد .. مقولة كنا نرددها دوما: الأطفال بحاجة لأب .. حتى لو كان أباً أخرق .. بحاجة لأم حتى لو كانت مثل "رويدة" .. بحاجة لبيت فيه تلفزيون .. وأغاني .. وصور قديمة .. وفرشاة أسنان .. بحاجة لمن يبتسم بوجههم صباحا .. لمن يوبخهم عندما يتأخرون ليلا ..

يعني باختصار: بحاجة ماسّة لأن تنتهي كل الحروب ..



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حروب غبية
- كيف يفكر العقل السياسي العربي ؟!
- وصف مختصر لمشهد مكثف
- في مفهوم توازن الرعب .. بين الفلسطينيين والإسرائيليين
- الحرب على غزة .. هزيمة أم نصر ؟
- الحرب على غزة .. قراءة من زوايا مختلفة .. الجزء 1
- كانَ وجْهُكِ ضَاحِكَ القَسَماتِ .. طَلْقُ .. ثم تغير المشهد ...
- كلمة للرئيس أبو مازن .. أرجوك إبق مصمما على موقفك
- الأطفال المجندون .. لا يعرفون العيد
- يكفي يا هنية - على هامش زيارة أمير قطر لغزة
- تجنيد الأطفال في إسرائيل
- أطفال طالبان
- قفزة فيليكس، والمفتول الفلسطيني وتحطيم الأرقام القياسية
- هل هؤلاء بشر !؟
- من بغداد إلى غزة .. حرب على الثقافة
- في ذكرى اتفاقية أوسلو - هل هنالك إمكانية لإلغائها ؟!
- 13 دقيقة هزت العالم الإسلامي .. هل يستحق الفلم كل هذه الضجة ...
- عن الربيع الفلسطيني - محاولة لفهم ما يجري الآن في فلسطين
- راشيل كوري تفضح الاحتلال مرتين
- هل حقا هبط الإنسان سطح القمر ؟! مع وفاة أرمسترونغ


المزيد.....




- الرئيس الإسرائيلي: إصدار الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق ...
- فلسطين تعلق على إصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ...
- أول تعليق من جالانت على قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار ...
- فلسطين ترحب بقرار المحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقا ...
- الرئيس الكولومبي: قرار الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو منطق ...
- الأمم المتحدة تعلق على مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة ا ...
- نشرة خاصة.. أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت من الجنائية الد ...
- ماذا يعني أمر اعتقال نتنياهو وجالانت ومن المخاطبون بالتنفيذ ...
- أول تعليق من أمريكا على إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغال ...
- الحكومة العراقية: إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتق ...


المزيد.....

- الإعاقة والاتحاد السوفياتي: التقدم والتراجع / كيث روزينثال
- اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة / الأمم المتحدة
- المعوقون في العراق -1- / لطيف الحبيب
- التوافق النفسي الاجتماعي لدى التلاميذ الماعقين جسمياً / مصطفى ساهي
- ثمتلات الجسد عند الفتاة المعاقة جسديا:دراسة استطلاعية للمنتم ... / شكري عبدالديم
- كتاب - تاملاتي الفكرية كانسان معاق / المهدي مالك
- فرص العمل وطاقات التوحدي اليافع / لطيف الحبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة - عبد الغني سلامه - دار الحنان .. (اللي بالعطيفية)