1
بعد منتصف ثمانينات القرن الماضي انقسمت أصوات ثقافية عراقية منفية تجاه إفرازات وتداعيات الحرب مع إيران وفرض بعض تلك الأصوات معادلة : مع الوطن أو مع الفرس!
وفي ظل هذه المعادلة تضاربت الآراء و ( التأويلات)والتوجهات ,معظمها افتقر إلى التساؤلات الجوهرية وانجرّ نحو ساحة الاتهامات المبطنة والمواقف النفعية , نفثت منها روائح المصالح الشخصية والعقائدية الضيقة , لتكرس بذلك (ثقافة) التخوين التي أنتجتها مكنة الاستبداد لتنتقل إلى ( معارضيها ) الذين صاروا يوزعون صكوك الوطنية المختومة بتوقيع من حوّل الوطن إلى عقار لنزواته المريضة.
وهؤلاء (المعارضة) وتحت يافطة الدفاع عن الوطن أو مقارعة الدكتاتورية وحروبها , صاروا يبررون الخطأ ويجملون الخطيئة , يسيئون للمشاعر ويشوهون الوعي ,فأحدهم ( كان قيادياً و منظراً في حزب قومي هرب منه إلى لندن وأعلن من هناك بأنه يقود النضال من خلال حزبه الوطني المعارض ) استبشر خيراً لأن عدي صدام حسين عين نفسه رئيساً للتجمع الثقافي العراقي , وحينما سألناه ولماذا هذا الاستبشار ؟
أجاب السيد المعارض :كونه ابن الرئيس لذلك يحقق للمثقفين كل آمالهم !,
والأخر ( كان صحفياً عتيقاً وعلى يسار اليسار والماركسيين ويقارع الأنظمة الدكتاتورية والإمبريالية بمقالاته النارية ) أظهر فرحته العارمة وكاد أن يردح "الجوبيه " لولا مشكلة في ظهره وهو يحلل ويفسر أهمية تجفيف الأهوار من أجل بناء المشاريع الإستراتيجية !!
وهناك ( مستشار إعلامي لصدام حسين سابقاً ومفكر عراقي لاحقاً) أصيب قلبه بالجلطة من شدة الحزن حينما أخبره ابنه البكر بتحرير مدينة (الفاو) ,ومجلة الثقافة الجديدة تصدرت بياتاً "يتفهم قرار خطوط الطول والعرض " دون أن يعنيه بأنه قرار ملغوم ,وأدباء وملحنون وكتاب يسوقون نتاجاتهم وأغنياتهم وقصائدهم الوطنية من إذاعة ( عراقية ) تبث من بؤرة المخابرات الأميركية وكاتب عراقي( روايته الأولى سرد لوقائع القمع والقتل والاستبداد ) ابتدع نظريته القائلة ؛ جميع أنظمة المنطقة دكتاتورية لذلك لابد أن نغض النظر عن دكتاتورية صدام الذي يتحدى الإمبريالي مع أنه يدرك في قرارة نفسه_ التي تعود إلى أيام الصراع ضد الجمود العقائدي _أن دكتاتورنا الوطني جاء عبر قطار البيت الأبيض .
هذه هي الوقائع المشينة لأطراف المعادلة البليدة والملغومة .
نفس المعادلة _ وان تغيرت مسمياتها و تنوعت أهداف أصحابها _تكررت مع عاصفة شوازسكوف وأم المعارك :أما مع صدام أو مع بوش الأب .
وتعاد وتسوق المعادلة ذاتها اليوم بصورة صارخة وضبابية والناطقين بها والمنقادين لها _ بمن فيهم ضحايا القمع السابقين _ يصوبون أقلامهم بلباقة إعلامية ديمقراطية جداً تجاهنا كي يقنعوننا بأن أمامنا خياران لا ثالث لهما: صدام حسين الذي احتفل بواحد وستين عاماً من عمره ولم ينسى أن يلبس (قاطه) الأبيض وهو يستعد لجدة المعارك …… أو بوش الابن البار لرعاة الحروب وشارون الكهل المنتفخ كجثة عفنة ووو أحمد الجلبي وحجاج البيت الأبيض ؟!!
2
ويحرضنا البعض _ ان لم يكن بسوء نية فبسوء تقدير _ على اختيار صدام نكاية ب ( المعارضة ) , خاصة وان المنصور بالله قد تغيرت ثقافته وكتب روايات ووو يمنح جميع رعاياه المنتشرين بين المحيط الهادر والى الخليج الثائر( اليورو )_من بركات النفط مقابل الغذاء _ فيما إذا اسموا أي مولود جديد لهم باسمه المبارك!!
ويدعونا آخرون إلى المساهمة في ( تأييد ) تمزيق ما تبقى من العراق وتحويل شعبه إلى جسد مثخن بالشلل والفوضى واليأس عبر دبابة أميركية مهمورة بنجمة داود ودائماً تحت حجة مضحكة : إسقاط الدكتاتورية وإقامة ديمقراطية ديناصورات السياسة والبنوك والمؤتمرات .
أليس هاذين الخيارين جحيميين بحق ؟
لماذا يحاصروننا بهما ويدفعوننا إلى حرائقهما ؟
آلا نملك خياراً آخر خارج الديمقراطية المعلبة والدكتاتورية المغفلة ؟
وإذا ابتعدنا عن _ولم نكلف أنفسنا ب _ سرد أهداف أصحاب الخيارين المعروفة والمخبأة , فإننا لا نستطيع الصمت أمام وقائع أصبحت صارخة وساطعة , فحرب الثماني السنوات أشعلت لحرق اقتصاد ومعارف وبشر البلدين ولتوسيع جغرافية أساطيل البترودولار.
لم تكن تلك المطحنة الدموية دفاعاً عن البوابة الشرقية ,بل حماية لبوابة القصر الجمهوري .
و 2 آب لم يكن انعطافه تاريخية مثلما نظرّ له أحد المفكرين القوميين _لحد الكشر _,انه اندفاعه هستيرية ألف إيقاعاتها هستيريو العالم الجديد وعزفها جنون عظمة أوهم نفسه قبل أن يوهم الآخرين بأنه بالمكوار _ وليس مكوار ثورة العشرين _ يستطيع أن يسقط طائرات الشبح وأن يرجع الفرع إلى الأصل ,لكنه ُارجع إلى نفق قصره بعد ما بصم بنعم على تفتيش حتى …………تحت خيمة العار .
وعاصفة ( هلوسة الإرهاب ) القادمة ليست من أجل ( تحرير العراق من الدكتاتورية ) مثلما ينعق حجاج مزرعة بوش وإنما لتعتيم وطن النخيل وتعمية أهله وتهميش وجودهم الإنساني والحضاري .
ما العمل ؟
ما الذي يمكن القيام به وشرارات العاصفة السوداء بدأت تلوح في الأفق ؟
أيكفى إصدار بيان وكتابة مقالات وإقامة ندوات ومعارض وأمسيات شعرية وغنائية وكرنفالات احتجاجية ؟
كل ذلك جيد وممكن لكن لابد أن يكون بعيداً عن المعادلة السابقة وقريباً من مواقف الباحث الراحل هادي العلوي حينما حلل وبعمق معرفي مدى خطورة التواطؤ الخارجي والداخلي على العراق في سلسلة من مقالات نشرتها مجلة فلسطينية وهذا ما فعله أدونيس في مقاله _السيف والصلاة _ المنشور
3
في جريدة القدس العربي وهذا ما قام به في الواقع الكاتب إبراهيم الحريري وهو يعلن إضرابه عن الطعام واحتجاجه ضد الذين كانوا يساهمون في تدمير العراق ويعتصم داخل كنيسة كندية .
ربما لا تبدو هذه المواقف العظيمة _ بحكم محدوديتها وبعثرتها _ مؤثرة ومثيرة لكن استخلاص الدروس منها والإهداء بها وتوسيع فضائها وتفعيل آثارها خطوة ضرورية وملحة في سبيل إسقاط المعادلة الكريهة السابقة وإعلان معادلة بسيطة :
أن أكون مع وطن ,,, أو لا أكون مع أوهام الدكتاتور المهزوم!!
أن أكون مع وطن ,,, أو لا أكون مع أحقاد رعاة الحروب!!
ذلك هو العراق .