|
إسرائيل تحتل الأرض التى ينسحب منها -التنابلة- العرب .. فى الهند
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1140 - 2005 / 3 / 17 - 12:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
سافرت إلى الهند حاملاً فى حقيبتى قدراً كبيراً من الاعجاب بالنجاحات التى حققتها هذه الدولة الآسيوية فى مشروع الاستقلال والتنمية والديموقراطية، وحاملاً أيضاً لسؤال كبير حائر عن أسباب التحول الهندى نحو إسرائيل فى السنوات الأخيرة. وزاد من إلحاح هذا السؤال ميراث هندى طويل ومشرف فى معاداة الصهيونية ومؤازرة الحقوق العربية. وهو ميراث يمكن تتبع بدايات وقائعه لدى زعيم الهند الأسطورى المهاتما غاندى الذى حاول مؤسسو الحركة الصهيونية انتزاع تعاطفه مع أهدافهم وسياساتهم فى فلسطين، فرد على هذه المحاولات المستميتة بعبارته التاريخية "إن فلسطين للفلسطينيين بالضبط مثلما أن بريطانيا للبريطانيين وفرنسا للفرنسيين". ولم تكن هذه مجرد عبارة "أخلاقية" عابرة، بل كانت مرتكزاً لموقف سياسى محدد المعالم وجد ترجمته فى معارضة الهند لقرار تقسيم فلسطين عام 1947. واستمر تأييد الهند للحقوق الوطنية الفلسطينية أحد "ثوابت" السياسة الهندية عقودا متصلة، بالتوازى مع الصداقة التاريخية بين بانى الهند الحديثة والمستقلة جواهر لال نهرو والزعيم المصري جمال عبد الناصر، والدور الكبير الذى لعبه الاثنان فى إرساء دعائم حركة عدم الانحياز وحركة باندونج اللتان كان لهما فعل السحر فى بلورة تيار كاسح يدعم حركات التحرر الوطنى فى بلدان العالم الثالث ويبتكر آليات غير مسبوقة للتعاون والحوار بين دول الجنوب فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وكان التأييد الهندى الحاسم لحركة التحرر الوطنى الفلسطينية غيض من هذا الفيض. وبعد نحو أربعة وأربعين عاماً على رفض الهند الاعتراف بقرار تقسيم فلسطين ، ورفض الاعتراف بإسرائيل التى انشئت بموجب هذا القرار ، جاءت اولى علامات "التحول الهندى" وتمثلت فى تصويت الهند عام 1991 فى الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح قرار جديد يلغى قراراً قديماً ومستقراً أعربت فيه الجماعة الدولية عن اقتناعها بمساواة الصهيونية بالعنصرية. وبعد أقل من سنة على التصويت الهندى لصالح قرار إلغاء مساواة الصهيونية بالعنصرية جاءت الخطوة الدبلوماسية المنسجمة مع هذا الموقف الفكرى والسياسى، ألا وهى الاعلان فى فبراير 1992 عن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين دلهى وتل أبيب. ومنذ ذلك الحين شهدت العلاقات الهندية – الإسرائيلية نشاطاً ملحوظاً على اكثر من مستوى. فلماذا حدث هذا التحول .. وإلى ماذا سيقود؟ هذا السؤال الذى شغلنى قبل سفرى إلى الهند .. يحتاج إلى إجابة شافية. وهذا ما يصعب الحصول عليه من خلال القنوات الرسمية لأننى أعلم أن الاجابة الوحيدة التى سيقدمها أى مسئول لن تتجاوز حدود الصياغات الدبلوماسية المهذبة والمنمقة من قبيل أن "علاقة الهند مع إسرائيل هى علاقة قائمة بذاتها ولا تقوم على حساب علاقات الهند بأى دولة أو منطقة أو قضية أخرى". لذلك فضلت أن أحمل السؤال وأطرحه على مفكرين ومحللينوسياسيين هنود يستطيعون ان يتحدثوا بحرية ودون حساسيات او حسابات دبلوماسية رسمية. وكانت الاجابات الرئيسية التى حصلت عليها من هذه الكوكبة تتلخص فيما يلى : أولاً : لا يفهم الهنود أن ننتقد نحن المصريين – والعرب – اعترافهم باسرائيل وإقامتهم علاقات دبلوماسية معها، فى حين أنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد قيام اكبر بلد عربى ، وهو مصر، بهذه الخطوات. بل أن مصر قد فعلتها عام 1978 ولم يفعلوها هم سوى عام 1992 اى بعدنا بحوالى أربعة عشر عاماً. فهل حلال عليكم ان تعترفوا بإسرائيل وتقيموا معها علاقات، باردة او ساخنة ، وحرام علينا نحن الهنود ان نحذو حذوكم، علماً بأنكم أصحاب القضية الأصليين؟! ثانياً: حدث "التحول" الهندى فى الموقف من الدولة اليهودية فى ظل صعود عالمى لـ "الأصولية" إلى ذرى غير مسبوقة. وينطبق ذلك على كل "الأصوليات" يهودية ومسيحية وإسلامية .. وهندوسية أيضاً. وكان من جراء تصاعد هذا التيار الأصولى داخل الهند تراجع التراث العلمانى الذى قاد لواءه حزب " المؤتمر" عقوداً متصلة . وتغير – بالتالى – الأساس الفكرى للنظر إلى الدولة اليهودية فى قطاع كبير من الطبقة السياسية الهندية .. بحيث ضاعت أصوات المعارضين لهذا التحول وكان منهم على سبيل المثال مانى شانكار النائب عن حزب المؤتمر الذى قال فى البرلمان وقتها " إن دولة اليهود يجب ان تقام فى نيويورك وليس فى فلسطين" لكن صيحته راحت أدراج الرياح بالطبع فى ضجيج الصخب الأصولى المتصاعد. ثالثاً : لم تتعامل إسرائيل مع قضية العلاقات مع الهند بعقلية بيروقراطية. بل انطلقت فى "هجومها" الدبلوماسى الكاسح صوب شبه القارة الهندية من إدراك استراتيجى وسياسى للأهمية المتعاظمة لـ "النمر" الهندى الصاعد كقوة اقليمية عظمى مرشحة كى تكون قوة عالمية. وترافق مع هذا الادراك تحرك عملى مكثف ومخطط وفعال، بدأ بتسيير خط جوى لطائرات "العال" الاسرائيلية بين تل أبيب ودلهى، واتصالات كثيفة مع كل الأحزاب والطوائف والجماعات الأثنية والديانات الهندية، وحملة علاقات عامة شرسة ولحوحة، ودعوة عناصر مؤثرة من النخبة الهندية لزيارة إسرائيل وإطلاعها على مراكز البحوث وكافة نواحى القوة فى الكيان الإسرائيلى. رابعاً: لم تتوقف الطموحات الإسرائيلية عند حدود هذه النواحى الشكلية بل بدأت بخطوات وآليات عملية من بينها إنشاء مركز مشترك للبحوث العلمية برأس مال متساو، وخطة محددة المعالم للعلاقات التجارية مع الهند وصلت قيمتها بعد أقل من عشر سنوات إلى أكثر من 2 مليار دولار ( قارن ذلك بإجمالى التبادل التجارى بين الهند ومصر الذى لم يتجاوز 830 مليون دولار بعد علاقات تاريخية يزيد عمرها عن نصف قرن!). خامساً: هذا التطور السريع فى العلاقات الهندية – الإسرائيلية يعزى أيضاً لأن إسرائيل كان لديها ما تقدمه لهند: بناء سور الكترونى فى كشمير، تطوير طائرات الميج، تطوير النظام الصاروخى، تزويد الهند بتكنولوجيا متقدمة فى المجالين العسكرى والمدنى على حد سواء، كما ان إسرائيل فتحت أسواقها أمام السلع الهندية – وفى مقدمتها السيارات. بينما تلكأنا نحن فى ذلك، حتى فى المجالات التى تتمتع فيها الهند بمزايا تنافسية نسبية ( منها مثلا اللحوم الهندية رخيصة السعر وعالية الجودة التى أغلقت مافيا اللحوم فى مصر الطريق أمامها بالضبة والمفتاح، وكذلك الحال بالنسبة للقمح، والبروتوكول الذى تم توقيعه بين جهات هندية وبين وزارة الزراعة فى مصر ولم يخرج أبداً من أدراج كبار صغار وصغار كبار موظفى هذه الوزارة التى كشف وزيرها الجديد النقاب عن إمبراطورية مروعة للفساد والافساد). سادساً: بينما وقفت الهند إلى جانب القضايا العربية عقوداً متصلة، شاء بعض العرب – وربما كثير منهم – الوقوف إلى جانب باكستان فيما يتعلق بقضية كشمير، بل ودعم محاولات انفصال الكشميريين عن الهند، بما يتضمنه ذلك من تأييد علنى لـ "الأصوليين"، وهجوم سافر على الهند واتهامها بمعاداة الاسلام رغم ان الديموقراطية الهندية هى التى سمحت بأن يكون رئيس الجمهورية مسلماً فى بلد أغلبيته الساحقة من الهندوس، ورغم أن المساجد منتشرة فى المدن والقرى الهندية وحرية العبادة متاحة للجميع ( قارن ذلك بحظر إقامة معبد هندوسى واحد فى معظم البلاد العربية والإسلامية!) هذه الغصة التى يشعر بها الهنود من موقف بعض العرب المعادى لهم فى قضية كشمير دونما اعتبار لتأييد الهند للقضايا العربية ، يزيدها مرارة أن إسرائيل لعبت على هذا التناقض ووقفت بالمقابل فى صف الهند. سابعاً : رغم أهمية الدور الهندى فى السياسات الاقليمية والدولية، خاصة مع تطلعها للحصول على مقعد دائم فى مجلس الأمن، يتجاهل معظم المسئولين العرب زيارة شبه القارة الهندية وتنمية العلاقات معها رغم توجيه الدعوات الرسمية إليهم. وليس مفهوماً سبب هذه "العنجهية" العربية تجاه قوة اقليمية عظمى ناهيك عن أنها قوة صديقة. *** وليس المهم هو الموافقة او عدم الموافقة على هذه الملاحظات السبع السابقة، المهم حقاً هو ان نتفهم راى النخبة الهندية – بعيداً عن الكلام الدبلوماسى المنمق والأجوف – وان نحاول أن نتفهم أسباب تراجع أسهمنا فى شبه قارة كانت دائماً صديقة لنا ولقضايانا، وأسباب كسب إسرائيل أرض كانت مغلقة فى وجهها، وأن نحاول الاعتراف بنصيبنا من المسئولية عن ذلك ، والأهم أن نحاول انقاذ ما يمكن انقاذه. فالخشية كل الخشية – اذا استمر السلوك العربى على ما هو عليه من بلادة ونفاق وتناقض – أن يزداد الموقف سوءاً بيننا وبين هذا الظهير الأسيوى المهم الذى كان صديقاً حميماً، ويقف اليوم فى منطقة العلاقات الفاترة، ومن مصلحة خصومنا الذين يتربصون بنا الدوائر دفعه إلى منطقة العداء السافر. فهل نحقق لاعدائنا مرادهم بلامبالاتنا ووضع أيدينا فى المياه الباردة ووضع كل رهاناتنا على "الكويز" و "الحليف الاستراتيجى الأمريكى" .. ام نتحرك بجدية لاعادة التوازن إلى السياسة الخارجية العربية التى تفقد – بلا سبب موضوعى- حلفاء وأصدقاء تاريخيين؟ وهل تكون الذكرى الخمسين لتأسيس حركة باندونج – التى لعبت كل من الهند ومصر دوراً رائداً فى إنشائها – مناسبة لهذا التحرك المطلوب بالحاح .. اليوم قبل الغد؟
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوطن اكبر من الاقتصاد .. والمواطن ليس مجرد مستهلك
-
أحوال أكبر ديمقراطية في العالم
-
باب الشمس ) اهم من المكاتب الاعلامية .. ومقررات التاريخ المي
...
-
»ملاسنة« بين أصحاب المعالي
-
-يد- أبو الغيط.. و-جيب- السادات
-
! شعار البنوك المصرية : حسنة وأنا سيدك
-
لمن تدق الأجراس فى بلاد الرافدين؟
-
اغرب انتخابات فى التاريخ
-
!عـــدلى .. ولينين
-
برلمان العرب .. كوميديا سوداء
-
ديمقراطية .. خلف القضبان !
-
رجل الأعمال يحاور.. ورئيس التحرير يحمل مقص الرقيب
-
لا يموت الذئب .. ولا تفنى الغنم !
-
حرب عالمية ضد إرهاب الطبيعة
-
إعادة انتخاب بوش أخطر من انفلاق المحيط الهندى
-
!الأعمى الإنجليزى .. والمبصرون العرب
-
الإعلام.. قاطرة الاستثمار
-
! الحكم فى نزاع -جالاوى- و -ديلى تلجراف- .. يديننا
-
مفارقة -مادونا- الأمريكية .. و-وفاء- المصرية
-
بوش وشارون .. أسوا أعداء الاستثمار فى العالم العربى
المزيد.....
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|