عبدالوهاب حميد رشيد
الحوار المتمدن-العدد: 3945 - 2012 / 12 / 18 - 11:34
المحور:
الادارة و الاقتصاد
ترجمة:حسن عبدالله (و)عبدالوهاب حميد رشيد
الفصل التاسع
النشاط الاقتصادي والبيئة:
اقتصاد نشاط الأعمال النظيف
بول اِكنز، جامعة كيل/ إنجلترا
Paul Ekins, Keele University, England
مقدمة
الهدف من نشاط قطاع الأعمال هو خلق الثروة. وهذا يُفسر أحياناً كزيادة في قيمة الأسهم المملوكة. ومع ذلك، فالتراكم الخاص هذا لا يكون مبرراً من منظور اجتماعي أوسع إلاّ إذا أدخلَ في بنية تكاليفه وأسعاره أي تأثيرات اجتماعية وبيئية تنتج عن نشاط الأعمال.
هناك إدراك واسع بأن نشاط الأعمال ككل يولد تكاليف بيئية لا تنعكس على أسعار السوق، وبالتالي فإن هذه التكاليف هي مصدر لعدم الكفاءة الاقتصادية، يقود إلى خسارة في الرفاهية البشرية. وهكذا، فإن تقرير اللجنة العالمية للبيئة والتنمية، في الفصل المتعلق بالصناعة، يشير إلى: "من الواضح أنه لابد من تعزيز الإجراءات اللازمة للحد من التلوث الصناعي، والسيطرة عليه، والوقاية منه. وإذا لم يتحقق ذلك، فإن خطر التلوث على صحة الإنسان قد يتعذر تحمله في مدن معينة، ويتزايد تهديد الرفاهية… وإذا أريد للتنمية المستديمة أن تكون مستديمة على المدى الطويل، فلابد من تغيير جذري في نوعية تلك التنمية(1)."
هناك الآن إجماع مثير للإعجاب بأن حجم وشدة التحدي البيئي قد بلغا حداً يجعل، كما هو معتاد، استجابة النشاط الاقتصادي غير كافية، وربما مأساوية. ولذلك، فإن معهد الموارد العالمية WRI، بالتعاون مع كل من برامج التنمية والبيئة التابعة للأمم المتحدة، قد توصلَ إلى استنتاج، على أساس واحدة من أوسع قواعد البيانات البيئية في العالم، مفاده: إن "العالم لا يمضي نحو مستقبل مأمون حالياً، على العكس، فهو يمضي نحو مجموعة من الكوارث الإنسانية والبيئية المحتملة(2)."
في تصريح غير مسبوق للجمعية الملكية البريطانية United Kingdom Royal Society، بالاشتراك مع الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة U.S. National Academy of Sciences، في رسالتها لقمة ريو العام 1992 Rio Summit، قد استنتجت: "إن الاستهلاك غير المقَّيد للموارد لغرض الطاقة والأغراض الأخرى .. يمكن أن يقود إلى نتائج كارثية على البيئة العالمية. فبعض التغييرات البيئية يمكن أن تتسبّب في دمار غير قابل للإصلاح بالنسبة لقدرة الأرض على حفظ الحياة. إن مستقبل كوكبنا على المحك(3)."
إن شرطاً هاماً، بل شرطاً لا غنى عنه في الواقع، لمواجهة التحدي البيئي بنجاح هو تحويل طريقة إنتاج السلع والخدمات، تحويل نشاط الأعمال إلى "نشاط نظيف" clean business. وقد وصف تقرير Brundtland Report، وصفاً واسعاً، ذلك التحول باعتباره تطور الصناعات والعمليات الصناعية "التي هي أكثر كفاءة من ناحية استعمال الموارد، وتخلق أقل تلوث وضياع، وتعتمد على استعمال الموارد المتجددة، وليس غير المتجددة، وتقلّل إلى أدنى حد ممكن الآثار السلبية، التي يتعذر إصلاحها، على صحة الإنسان والبيئة(4)." ويقّدم هذا الفصل بعض الأفكار التي تبين كيف يمكن لقطاع الأعمال، وإلى أي حد ينبغي على قطاع الأعمال، أن يتحرك بهذا الاتجاه.
أبدأ بتقديم نموذج لخلق الثروة، قابل للتطبيق في قطاع الأعمال أو الاقتصاد الكلي بنفس الدرجة، وذلك لفهم حجم المساهمات التي تقدمها البيئة لنشاط الأعمال وللاقتصاد. ثم أضع هذه المساهمة في سياق مفهوم المحافظة على البيئة (أو الاستدامة البيئية) environmental sustainability، الناشئ، الذي بات مبدأ هاماً لتنظيم السياسة البيئية. ثم أبين كيف تشرع شركات الأعمال بمراقبة، وقياس، وتقرير، وتفسير الآثار المترتبة على البيئة، وهذا شرط مسبق للقدرة على معالجة هذه الآثار. ثم أناقش نطاق الجدوى المالية حالياً لتحرك قطاع الأعمال باتجاه المحافظة على البيئة، وأطرح نتائج بعض الدراسات التطبيقية التي تشير إلى إمكانية تحقيق تقدم كبير حقاً. وأخيراً، أطرح بعض التغييرات التي لا بد من إجرائها في المسار الحالي لشركات الأعمال بغية تشجيع المزيد من الشركات على السير بهذا الطريق وذلك من خلال التأكيد على أن شركات الأعمال التي تحافظ على البيئية هي الشركات الأكثر ربحية.
إن تحويل الإنتاج الصناعي إلى "نشاط اقتصادي نظيف"، وهي العملية التي تسمى "التحديث البيئي" ecological modernization، أحياناً، ليس عملاً سهلاً. وكما لاحظ مجلس النشاط الاقتصادي للتنمية المستديمة: "إن الحاجة للنمو الاقتصادي النظيف والمتكافئ تبقى هي الصعوبة الكبرى الوحيدة مع التحدي الأكبر للتنمية المستديمة. ومن المؤكد أن إثبات إمكانية هذا النمو هو أعظم اختبار بالنسبة لنشاط الأعمال والصناعة(5)." وهذا الفصل يبين كيف يمكن تحقيق هذا الاختبار بطريقة تستخلص أعظم فائدة من الفرص السانحة، كما أنه يشير إلى المشاكل أيضاً.
فهم خلق الثروة
تُوصف عملية خلق الثروة، على الأغلب الأعم، كعملية يتم فيها وضع الأنواع المختلفة من الأصول، أو رأس المال، معاً لإنتاج السلع والخدمات. ومن الواضح أن الطبيعة هي مصدر أحد أهم أنواع رأس المال، وهو النوع المعروف هنا برأس المال الايكولوجي أو رأس المال الطبيعي ecological or natural capital. والنموذج التالي يؤكد على دور هذا النوع من رأس المال بحيث يمكن بشكل أفضل فهم مكانة ومساهمة البيئة الطبيعية في نشاط الأعمال والاقتصاد.
يبين الشكل 9-1 أربعة أنواع من رأس المال: رأس المال الايكولوجي (أو الطبيعي)، ورأس المال البشري، ورأس المال الاجتماعي والتنظيمي، ورأس المال الصناعي. ينتج كل واحد من هذه الأنواع تدفقاً من "الخدمات" من البيئة (E)، ومن رأس المال البشري (L)، ومن رأس المال الاجتماعي/ التنظيمي (S)، ورأس المال المادي (K). وهذه الخدمات هي مدخلات inputs في العملية الإنتاجية، سويةً مع "المدخلات الوسيطة" intermediate inputs (M)، التي هي نواتج اقتصادية outputs تستعمل كمدخلات في عملية لاحقة.
يشكل رأس المال الصناعي السلعَ المادية- الأدوات، والآلات، والمباني، والبنية التحتية- التي تساهم في عملية الإنتاج، ولكنها لا تتجسد في الناتج، كما أنها " تُستهلك" عادةً في فترة أطول من سنة. وبخلاف ذلك، فإن السلع الوسيطة أما تتجسد في السلع المنتَجة (كالمعادن، والبلاستك، والمكونات) أو تستهلك حالاً في عملية الإنتاج (كالوقود). يشمل رأس المال البشري كل قدرات الأفراد على العمل؛ بينما يشكل رأس المال الاجتماعي والتنظيمي كل الشبكات والتنظيمات التي تُعبئ وتنسق مساهمات الأفراد.
رأس المال الايكولوجي نوع معقد يؤدي ثلاثة أنواع متميزة من الوظيفة البيئية، اثنان منهما على صلة مباشرة بعملية الإنتاج(6). النوع الأول هو تجهيز الموارد للإنتاج (E)، أي المواد الأولية التي تتحول إلى غذاء، وطاقة، ومعادن، وأخشاب، وما شابه. والنوع الثاني هو امتصاص فضلات الإنتاج wastes (W)، من كل عملية الإنتاج ومن التصرف بمواد الاستهلاك. وحينما تضيف هذه الفضلات إلى رصيد (أو مخزون stock) رأس المال الايكولوجي أو تحسّنه (من خلال إعادة استعمالها recycling أو تخصيب التربة بواسطة الحيوانات والدواجن، مثلاً)، فيمكن معاملتها كاستثمار في رأس المال هذا. ولكن الأكثر شيوعاً، حينما تقوم هذه الفضلات بتدمير التربة أو تلويثها أو تعريتها، مع الآثار السلبية على رأس المال الايكولوجي أو البشري أو الصناعي، فيمكن اعتبارها كعوامل للاستثمار السالب، أو الاندثار، أو اهتلاك رأس المال. وفي الحالتين، تساهم الفضلات في رأس المال على شكل آثار التغذية العكسية feedback effects، المبيَّنة في الشكل 9-1.
النوع الثالث من الوظيفة البيئية لا يساهم بعملية الإنتاج بصورة مباشرة، ولكنه يمثل أهم نوع بأشكال عدة لأنه يقدم السياق والشروط التي في إطارها تتحقق عملية الإنتاج أصلاً. إنه يشكل الخدمات البيئية الأساسية (ES)، بما في ذلك الخدمات الضرورية لدوام الحياة كتلك التي تخلق استقرار المناخ والنظام الايكولوجي ecosystem، والوقاية من الإشعاع فوق البنفسجي من طبقة الأزون، والخدمات المريحة كجمال البرية وبقية المناطق الطبيعية. هذه الخدمات تُنتج بشكل مباشر من قبل رأس المال الايكولوجي بمعزل عن نشاط الإنسان، ولكن النشاط الإنساني يمكنه بالتأكيد أن يؤثر (سلباً، في الغالب) على رأس المال الذي ينتجها وبالتالي على الخدمات التي يقدمها من خلال آثار التغذية العكسية على رأس المال، المذكورة قبل قليل.
يمكن تصنيف منتجات العملية الاقتصادية، في المقام الأول، كمنتجات "جيدة" Goods و "سيئة" Bads. الجيدة هي المنتجات المستهدفة من عملية الإنتاج، إضافة إلى أي وفورات خارجية إيجابية (الآثار العرضية) قد ترتبط بها. والمنتجات الجيدة هذه، بدورها، يمكن تقسيمها إلى سلع استهلاكية، وسلع استثمارية، وسلع وخدمات وسيطة. أما المنتجات السيئة، فهي الآثار السلبية لعملية الإنتاج، بما في ذلك اندثار رأس المال وفضلات التلوث وبقية الوفورات الخارجية السالبة التي تساهم في تدمير البيئة، والتأثيرات السلبية على صحة الإنسان، وما شابه. وما دامت المنتجات السيئة تملك أن تؤثر على رصيد (أو مخزون) رأس المال، فيمكن أن تُعامل كاستثمار سالب.
إن ضرورة توازن المادة/ الطاقة على أي من جانبيْ عملية الإنتاج تعني أن كل المادة والطاقة المستعملة كمدخلات يجب أن تظهر كمنتجات وتتجسد أما في المنتجات الجيدة أو ضمن المنتجات السيئة. ولذلك، في نهاية هذه العملية، فإن كل المدخلات السابقة تعود إلى البيئة، كرصيد من رأس المال الايكولوجي، حيث يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي، أو سلبي، أو محايد.
تتولد الرفاهية البشرية Human welfare، أو المنفعة utility كما يسميها الاقتصاديون، في عدة نقاط من العملية الشاملة لخلق الثروة. فهي تتولد من الاستهلاك (COu) ويمكنها أن تتولد من القيام بالعمل (Pu)؛ ومن البنى الاجتماعية والتنظيمية (SOu)؛ كما أنها دالة لرأس المال البشري نفسه (Hu)؛ والأهم بالنسبة لهذا الفصل، أنها تتأثر بنوعية البيئة الطبيعية (ESu) وبطبيعة ومستوى الفضلات (Wu).
شكل 1-9 الأرصدة، والتدفقات، والرفاهية في عملية الإنتاج
ملاحظة: تشير حروف-رموز الصندوق الأعلى إلى مصدر التدفق، بينما تشير حروف-رموز الصندوق الأسفل إلى الأثر المقصود.
أرصدة رأس المال، C التدفقات من رصيد رأس المال
EC رأس المال الايكولوجي E(الموارد) من EC
HC رأس المال البشري L(العمل) من HC
SOC رأس المال الاجتماعي/التنظيمي
MC رأس المال الصناعي K من MC
التدفقات الأخرى
Ees تدفقات الخدمات البيئية ( ES ) من رأس المال الايكولوجي EC
Ese آثار الخدمات البيئية (كالجو، مثلاً) على رأس المال الايكولوجي EC
M تدفقات السلع الوسيطة إلى عملية الإنتاج، P
Pc آثار الإنتاج P على المكونات المختلفة من رصيد رأس المال، C
Wc آثار الفضلات (التلوث) على رصيد رأس المال، C
Pu آثار عملية الإنتاج P على الرفاهية، U
Wu آثار التلوث على الرفاهية، U
Wes آثار التلوث على الخدمات البيئية، ES
Esu آثار الخدمات البيئية، ES، على الرفاهية، U
Cou آثار الاستهلاك، CO، على الرفاهية، U
Hu, Sou آثار رأس المال البشري ورأس المال الاجتماعي/التنظيمي على الرفاهية، U
Uh, Uso آثار الرفاهية، U، على رأس المال البشري ورأس المال الاجتماعي/التنظيمي
تؤثر الفضلات والتلوث، التي تنجم عن الإنتاج والاستهلاك، على المنفعة بصورة مباشرة (Wu كالقمامة المبعثرة والضوضاء) وبشكل رئيسي من خلال أثرها السلبي negative feedback على رصيد رأس المال البيئي والبشري والصناعي. هذه الآثار السلبية Wc يمكنها أن تخفض إنتاجية الموارد البيئية (من خلال التلوث، مثلاً) وتؤثر على رأس المال الايكولوجي الذي ينتج الخدمات البيئية (من خلال إحداث تغير في المناخ أو إلحاق الضرر بطبقة الأزون، مثلاً)؛ وهي تستطيع أن تدمر رأس المال البشري بالإضرار بالصحة؛ وإتلاف المباني (رأس المال الصناعي). كما يمكنها أيضاً أن تؤثر على الخدمات البيئية بشكل مباشر (Wes بواسطة تخفيض قيمة الجمال الطبيعي، مثلاً).
الشكل 9-1 يؤكد على آثار التغذية العكسية feedback effects. وهناك أثر لم تتم الإشارة إليه بعد، وهو العلاقة المشتركة بين رصيد رأس المال الايكولوجي (EC) والخدمات البيئية (ES) المتولدة منه. ففي ظل نظام ايكولوجي مستقر، تميل (EC) و (ES) نحو التوازن لصالحهما معاً symbiotically.
ومن خلال هذا النموذج، يمكن أن نصف بوضوح أكثر المزايا البيئية "لنشاط الأعمال النظيف" clean business. ومع ذلك، فمن الضروري أولاً أن نستكشف، باختصار، المفهوم الذي أصبح كمبدأ لتنظيم السياسة البيئية، مفهوم المحافظة على البيئة (أو، الاستدامة البيئية) environmental sustainability.
النشاط الاقتصادي والمحافظة على البيئة
يتمثل المعنى الأساسي للمحافظة (أو الاستدامة) في القدرة المتواصلة على الاستمرار إلى هذا الحد أو ذاك في المستقبل. وكما وردَ في المقدمة، من الواضح الآن أن الأنماط الحالية، الشاملة، للحياة لا تمتلك تلك القدرة أما لأنها تدمر الشروط البيئية الضرورية لاستمرارها، أو لأن آثارها البيئية سوف تتسّبب في إحداث تمزق اجتماعي غير مقبول أو تدمير الصحة العامة. والآثار البيئية المقصودة تتضمن تغير المناخ، واستنزاف الأوزون، والتحميض acidification، والتلوث السام، واستنزاف الموارد القابلة للتجدد (كالغابات، والتربة، ومواطن صيد الأسماك، والمياه، مثلاً)، والموارد غير القابلة للتجدد (كالوقود المستخرج من الأرض، مثلاً، fossil fuels) وانقراض الأنواع.
نمط الحياة way of life هو حزمة معقدة من القيم، والأهداف، والمؤسسات، والنشاطات، مع أبعاد أخلاقية، وبيئية، واقتصادية، واجتماعية. ورغم أن القلق الحالي على عدم المحافظة (أو، عدم الاستدامة) unsustainability له أساس ايكولوجي إلى حد بعيد، فمن الواضح أن الأوضاع الإنسانية أو أنماط الحياة يمكن أن لا تكون مستديمة لأسباب اجتماعية واقتصادية. الأسئلة الهامة هي: بالنسبة للبيئة، هل يمكن لمساهمتها في الرفاهية البشرية وفي الاقتصاد أن تكون مستديمة؟ وبالنسبة للاقتصاد، هل يمكن للمستوى الحالي من خلق الثروة أن يكون مستديماً؟ وبالنسبة للمجتمع، هل يمكن للتماسك الاجتماعي والأوضاع الاجتماعية الهامة أن تكون مستديمة؟ وفيما يلي، سنركز عل الأبعاد البيئية- الاقتصادية لموضوع الاستدامة.
الاستدامة الاقتصادية، على الأغلب الأعم، تُفسر كحالة لا تتدنى فيها الرفاهية الاقتصادية في المستقبل. وكما رأينا، فإن الرفاهية الاقتصادية تُشتق ، بين أمور أخرى، من الدخل والبيئة. البيئة تؤدي وظائف مختلفة، يساهم بعضها في الإنتاج، وبالتالي في الدخل، وتساهم الأخرى منها بشكل مباشر في الرفاهية. الدخل يتولد عن رصيد رأس المال، بما في ذلك رأس المال الصناعي والبشري والطبيعي. ويؤدي رأس المال الطبيعي، أيضاً، الوظائف البيئية التي تخلق الرفاهية. وحالة عدم تدني الرفاهية الاقتصادية تتطلب، على فرض بقاء الأشياء الأخرى على حالها، المحافظة على رصيد رأس المال(7).
وثمة قضية هامة هنا: هل أن الرصيد الكلي لرأس المال هو الذي ينبغي المحافظة عليه، مع إمكانية الإحلال substitution فيما بين مكوناته المختلفة؛ أم أن المكونات المحددة لرأس المال، وبخاصة رأس المال الطبيعي، غير قابلة للإحلال unsubstitutable- أي أنها تساهم بالرفاهية بطريقة فريدة بحيث أنها لا يمكن أن تُعوض بمكِّون آخر من رأس المال. شروط الاستدامة البيئية "الضعيفة" تنبع من الفهم بأن الرفاهية لا تعتمد عادةً على شكل محدد لرأس المال، ويمكن المحافظة عليها بواسطة إحلال رأس المال الصناعي محل رأس المال الطبيعي. الاستدامة "القوية" تنبع شروطها من فهم آخر وبمقتضاه تكون إمكانية إحلال رأس المال الصناعي محل رأس المال الطبيعي محدودة جدياً بسبب الخواص البيئية كعدم قابلية التحول irreversibility، وعدم التأكد، والمكِّونات "الحساسة" critical لرأس المال الطبيعي التي تساهم بالرفاهية بصورة فريدة(8). ومَنْ يعتبر رأس المال الطبيعي كمكِّمل لرأس المال الصناعي انما يضفي أهمية أكبر على هذا الأخير(9).
إلى حد ما، من الممكن النظر لعملية التصنيع كتطبيق لرأس المال البشري والاجتماعي على رأس المال الطبيعي لتحويلها إلى رأسمال صناعي man-made capital. ولكن من الواضح الآن أن قابلية الإحلال هذه غير كاملة. فإذا كانت عملية التنمية الحالية غير مستديمة، فلأنها تستنزف بعض المكونات الحساسة، غير القابلة للإحلال، من رصيد رأس المال الذي تعتمد عليه. وللحفاظ على رأس المال الطبيعي الحساس هذا، فلابد من تطبيق الشروط التالية إذا أريد استعمال البيئة على نحو مستديم:
1. لابد من الوقاية من عدم استقرار الأوضاع البيئية العالمية مثل أنماط المناخ وطبقات الأوزون. والأهم، ضمن هذه النقطة، هو المحافظة على التنوع الحيوي (أنظر الشرط الثاني)، والوقاية من تغير مناخ من خلال العمل على استقرار الغلاف الجوي والتركيز على البيوت الزجاجية القائمة على طاقة الغاز، وحماية طبقة الأوزون بإيقاف إطلاق المواد التي تستنزفها.
2. تنبغي حماية النظم الايكولوجية الهامة والخواص الايكولوجية للمحافظة على التنوع الحيوي. والأهمية، في هذا السياق، تأتي من الاعتراف ليس فقط بالقيمة الاستعمالية للأنواع الفردية individual species التي لم تقُدر حق قدرها لحد الآن، بل أيضاً بحقيقة أن التنوع الحيوي يشكل أساس الإنتاجية وسهولة تكيف النظم الايكولوجية.
3. يتوجب تجديد الموارد القابلة للتجديد من خلال صيانة خصوبة التربة، والدورات الكهرومائية، والغطاء النباتي الضروري، والتشديد الصارم على الطرق المستديمة للحصاد. وتتضمن النقطة الأخيرة وضع أساس لمعدلات الحصاد وفق التقديرات الأكثر محافظة للمستوى المتاح من الموارد كالأسماك، وضمان أن تصبح إعادة الغرس جزءً جوهرياً من بعض النشاطات كالغابات، واستعمال تقنيات للاستزراع والحصاد لا تضر النظام الايكولوجي المعني.
4. استنزاف الموارد غير القابلة للتجديد ينبغي أن يسعى للموازنة بين المحافظة على حد أدنى لمتوسط العمر المتوقع minimum life expectancy للمورد المعني مع تطوير البدائل له. وعند الوصول لذلك الحد الأدنى، فإن المحافظة عليه تعني أن استهلاك المورد لابد من ربطه باكتشافات جديدة له. وللمساعدة على تمويل البحث عن البدائل والانتقال الفعلي نحو البدائل المتجددة، فإن كل استنزاف للموارد غير القابلة للتجديد لابد أن يقترن بالمساهمة في إنشاء صندوق للتمويل. إن الخطط اللازمة لتحقيق كفاءة ودوام الموارد يمكن أن تضمن بأن سياسة الإصلاح repair، والتجديد reconditioning، وإعادة الاستعمال reuse، وإعادة المعالجة recycling ("التجديدات الأربعة" the four Rs) تقترب من حدود الكفاءة البيئية لتلك الموارد.
5. لا ينبغي للمواد المنبعثة نحو الهواء، والتربة، والمياه، أن تتجاوز قدرة التحمل القصوى critical load، أي قدرة الهواء والتربة والمياه على تبديد، وامتصاص، وتحييد، وإعادة معالجة recycling تلك المواد، ولا أن تؤدي إلى تركز السموم، المدمِّرة للحياة. إن تضافر وتعاون المواد الملوِّثة قد يصّعب تمييز وتحديد قدرات التحمل critical-loads. وعليه، فحالات عدم اليقين هذه تتطلب استعمال طريقة حذرة لتبني مقاييس السلامة في حدها الأدنى.
6. لابد من وقاية المناظر الطبيعية landscapes ذات الأهمية الإنسانية الخاصة أو الايكولوجية وذلك بسبب ندرتها، ونوعيتها الجمالية، أو دلالاتها الثقافية أو الروحية.
7. مخاطر الحوادث المدمِّرة للحياة بسبب نشاط الإنسان لابد من تقليلها للحد الأدنى. والتقنيات التي تهدد بتدمير النظام الايكولوجي لفترة طويلة ينبغي التخلص منها.
ومن الواضح أن هذه شروط عامة، وأن الشروط المحددة بالنسبة لشركات الأعمال الفردية لا يمكن ببساطة استخلاصها منها. ومع ذلك، تضع تلك الشروط إطاراً معينا يمكن من خلاله تعريف مميّزات النشاط النظيف clean business. فالنشاط يكون نظيفاً إذا كانت:
• المواد المنبعثة منه نحو الهواء والتربة والمياه مقبولة بالنسبة للحدود المحلية للنظام الايكولوجي والضعف الإنساني، وأن النشاط لا يخلق مساهمة غير متوازنة مع الانبعاثات الكلية التي يتخطى أثرها النطاق المحلي.
• أنه لا يستنزف مخزون الموارد التي تغذي عملية الإنتاج وذلك أما لأن الموارد قابلة للتجديد وأنها تتجدد أو لأنه يزيد كفاءة استخدام موارده غير القابلة للتجديد بمعدل أكبر من هبوط مخزون الموارد.
• لأن منتجاته وعملياته لا تستتبع أي مخاطر، حتى بمستوى مخفض جداً، من التأثيرات كبيرة الحجم أو السلبية التي يتعذر ردها عن الناس أو البيئة.
إن هذه الهموم تقع خارج نطاق النظم التقليدية لإدارة الأعمال. وقبل أن تبدأ الشركات بمواجهتها، ينبغي عليها قياس ومراقبة أدائها البيئي كما تفعل مع باقي نشاطاتها الأساسية.
قياس الأداء البيئي لشركات الأعمال
من وجهة نظر بيئية، المهم هو طبيعة وحجم الطاقة والموارد الطبيعية الأخرى التي يستعملها نشاط ما، والمواد المنبعثة منه للهواء والمياه والأرض؛ وما تستعمله منتجاته من طاقة ومواد طوال فترة حياتها النافعة؛ والآثار المترتبة على البيئة (كقابلية إعادة الاستعمال، وقابلية إعادة المعالجة، أو قابلية التفسخ، مثلاً) عند رمي المنتجات في نهاية حياتها. تشير قوانين المقياس الديناميكي للحرارة (حفظ المادة/ الطاقة، وقانون الفوضى entropy) إلى أن كل المادة/ الطاقة التي أخذت من البيئة على شكل "موارد"، تعود إليها أخيراً على شكل فضلات، وإن عملية تحويل الموارد إلى فضلات سوف تزيد بالضرورة من الفوضى الشاملة overall entropy (disorder) في النظام الذي تحدث فيه. الشكل 9.2 يقدم توضيحاً تخطيطياً لتحول المادة/ الطاقة إلى منتجات ومن ثم إلى فضلات. التأثيرات على البيئة ترتبط باستخراج المادة/ الطاقة وانبعاث الفضلات التي تنجم عن كل مرحلة.
من البديهي القول، لغرض معرفة التأثير البيئي للنشاط الاقتصادي، أنه يجب قياس تدفق المادة/ الطاقة الناجم عن فعاليات هذا النشاط. فهناك مطلب قانوني متزايد لقياس التأثيرات التي تم الاعتراف بأنها خطيرة على البيئة. ومع ذلك، فهذا المطلب حالياً هو أقل مما ينبغي على النشاطات الاقتصادية بناءه من موازنات المادة/ الطاقة [أي جداول المدخلات (المواد الأولية والطاقة) والمخرجات (المنتجات)] لعملياتها، وأقل من أن يفسر الآثار البيئية الناجمة عن استعمال منتجات تلك النشاطات ورميها فيما بعد. ومع ذلك، فإذا أردنا أن نفهم ونتعامل بصورة فعالة مع تأثير النشاط الاقتصادي على البيئة، فإن تطوير هكذا نظام للمعلومات لا يمكن تجنبه.
إن الرغبة بقياس العمل البيئي للشركات، فوق ما هو مطلوب قانوناً، قد تم الاعتراف به من قبل عدد هام من الشركات كشرط مسبق ضروري للإدارة البيئية الفعالة، وهو يتجلى الآن في تزايد التقارير التطوعية للشركات في مجال البيئة. فلغاية العام 1993، نشرت أكثر من 100 شركة تقارير بيئية على أساس تطوعي(10). وهذا العدد يتزايد بسرعة وذلك، جزئياً على الأقل، بسبب تشجيع جمعيات الأعمال (بما في ذلك الغرفة العالمية للتجارة واتحاد الصناعة البريطاني)، وشبكات النشاط- البيئة (مثل مجلس النشاط العالمي للتنمية المستديمة)، واللجنة الأوروبية وجهازها التطوعي: الإدارة البيئية ونظام تدقيق الحسابات (EMAS). وبينما كانت التقارير البيئية الأولى للشركات وصفية وسردية، فهناك الآن اتجاه واضح نحو التقدير الكمي للتأثيرات البيئية.
من المهم مقارنة هذه الجهود الجديدة المتمثلة بالتقارير البيئية، والنظر إلى أين تقود هذه الجهود، بالعلاقة مع نظم الحسابات المالية التي طبقتها لإدارة نشاط الأعمال والاقتصاد. حسابات النشاط الاقتصادي مشابهة تماماً للموازنات الكلية. إذ يتم موازنة النقود التي تتدفق للنشاط مع النقود المتدفقة للخارج مع تأشير التغير في قيمة الأصول الجديدة. اقتصادياً، الحسابات الوطنية مبنية بشكل واضح على أساس جداول المدخل-المخرج بحيث يمكن تشخيص التفاعلات بين الصناعات مثلما يمكن تشخيص المنتجين وتركيب الطلب النهائي. وهناك محاولات لبناء حسابات اقتصادية-بيئية متكاملة على المستوى الوطني تستعمل نفس الأساليب بالنسبة للموارد البيئية(11). وإذا كان لابد حقاً من التحرك صوب الاستدامة البيئية، فربما ينبغي على الشركات أن تقدم للمجتمع تقارير مفصلة عن سلوكها في حقل البيئة بنفس الدرجة من الصرامة التي تنظر بها لحاملي أسهمها في تعاملهم مع نقودهم. ومن المؤكد أن هذه كانت وجهة النظر التي عبّرت عنها شركة Deloitte Touche Tohmatsu International التي عرّفت المرحلة الأخيرة في التقرير البيئي لشركات الأعمال بوصفه: "يقوم على الاستخدام الواسع للطرق الكمية كتقديرات دورة الحياة والموازنات الكلية.(12)"
وحالما يتم حساب التدفقات المادية من/ وإلى البيئة، يصبح من الممكن تصور أداء نشاط اقتصادي معين من ناحية الاستدامة. أولاً، المعلومات تمكن النشاط الاقتصادي من وضع أهداف لتحسين البيئة، التي فُهمت كمراحل هامة في تطور التقارير البيئية لشركات الأعمال(13). وأخيراً، إذا كانت الاستدامة هي الهدف، فإن أهداف التحسين يجب أن تتوافق مع معايير الاستدامة. يرى ر. غراي R. Gray و د. والترس D. Walters بأن "المنظمة التي تحرص وتحافظ على البيئة sustainable organization هي تلك التي تترك المحيط الحيوي في نهاية الفترة المحاسبية ليس أسوأ مما كان عليه في بدايتها(14)." ومن المهم إدراك أن معيار التلوث الصفري ليس هو نفسه معيار الانبعاث الصفري بسبب قدرة البيئة على امتصاص وتحييد كمية معينة من الفضلات، ولكنه معيار متطلب وهام، رغم ذلك.
وقد اقترح غراي والكُتاب المشاركون، أيضاً، أن يتم تعريف الإنفاق التقديري، الذي تحتاجه المنشأة لإصلاح أي ضرر بيئي وقعَ أثناء الفترة المحاسبية، والذي يسميه هؤلاء الكُتاب "تكلفة المحافظة على البيئة"sustainable cost، في حسابات الشركة كمقياس لمساهمة المنشأة في اندثار رأس المال الطبيعي، على غرار أرقام الاندثار بالنسبة لبقية أصول الشركة. ومع أن المهمة كبيرة وتبعث على التحدي عملياً، فإن هذا التقدير لـ "تكلفة الترميم والتجديد" restoration cost هو أيضاً الأسلوب الذي توصي به الأمم المتحدة كوسيلة لربط الحسابات المادية والنقدية على المستوى الوطني. فهو يقدم الفرصة الثمينة للتوصل، بطرح تكلفة الترميم والتجديد من الربح التشغيلي، إلى رقم "الربح المستديم"sustainable profit الذي يأخذ بنظر الاعتبار الضرر البيئي الناجم عن نشاطات الشركة.
شكل 2-9 المدخلات من المادة والطاقة في دورة حياة منتَج ما
وإضافة إلى تعريف وحساب تأثيراتها البيئية، فمن المهم بنفس الدرجة أن تعّرف أنشطة الأعمال وتحسب بصورة صحيحة الإنفاق البيئي الفعلي، سواء أكان ذلك للحد من التلوث، أو لتخفيض الموارد المستعملة، أو للمراقبة، أو لمراعاة التعليمات المعنية. فما لم تعرف المنشآت كم تدفع لمنع وقوع الضرر البيئي أو مراقبته، فأنها لن تتحمس للتحرك نحو المنتجات والعمليات الأقل إضراراً بالبيئة- وذلك يمكن أن يوفر لها المال. يدعو د. دتز D. Ditz و ج. رانغاناثان و ر. د. بانكس، في تقريرهما حول دراسة تسع حالات، خمس منها على منشآت كبيرة وأربع على منشآت متوسطة الحجم، لرؤية ما إذا كانت النفقات البيئية لهذه الشركات قد دُونت بصورة صحيحة في حساباتها الإدارية(15). وفي كل حالة، وجدَ الكُتاب أنها لم تكن صحيحة؛ لأن النفقات البيئية صُنفت، أحياناً، تحت عناوين غير بيئية، وأن النفقات البيئية الحقيقية كانت أكثر بكثير مما ظهرت في الحسابات، مبررِّة مالياً إجراءات التحسن البيئي التي لم تظهر سابقاً بشكل اقتصادي مقبول.
هذه الإجراءات المحاسبية المنقَحة سُميت تقييم التكلفة الكلية Total Cost Assessment (TCA)(16). يبين الجدول 9-1 تطبيق إجراءات (TCA) على استثمار لتحويل معدن مُذيب/ ثقيل إلى طبقة مائية/ ثقيلة غير معدنية في شركة للأغطية الورقية. يبين العمود الخاص بتحليل الشركة كيف أن نظام الحسابات التقليدي للشركة كان يقيّم تكاليف وعوائد المشروع. العمود (TCA) يتضمن التكاليف والعوائد التي حُسبت في تحليل الشركة تحت عناوين أخفتْ علاقتها بالمشروع. تضمنت هذه التكاليف والعوائد الخفية، أو غير المباشرة، تكاليف إدارة الفضلات، والمنافع (الطاقة، والماء، والمجاري)، معالجة التلوث/ بمراقبته وتذويبه، وتطبيق التعليمات. ويتضح بأن المشروع في ظل التقييم (TCA) أكثر ربحية مما باستعمال التحليل التقليدي للشركة.
جدول 9-1 البيانات المالية لمشروع معين بحسب مقارنة التحليل التقليدي للشركة بتقييم التكلفة الكلية TCA
تحليل الشركة TCA الفرق
التكاليف الرأسمالية الكلية 623,809 653,809 6 %
الادخار السنوي BIT 118,112 216,874 84 %
القيمة الحالية الصافية، السنوات1-10 (98,829) 232,817 336 %
القيمة الحالية الصافية، السنوات1-15 13,932 428,040 2,972 %
العائد على الاستثمار، السنوات1-10 12 % 24 % 12 %
العائد على الاستثمار، السنوات1-15 16 % 27 % 13 %
فترة الاسترداد البسيطة (سنة) 5.3 3.0 -43 %
المصدر: T. Jackson, ed. , Clean Production Strategies: Developing Management in the industrial Economy (Boca Raton, Fla. : Lewis Publishers, 1993), 203.
تحريك نشاط الأعمال باتجاه المحافظة على البيئة
بالنسبة للشركات التي تطمح للتحرك باتجاه المحافظة على البيئة (أو الاستدامة البيئية) environmental sustainability، فإن المحاسبة والتقارير البيئتين هما وسيلتان فقط من بين عدة مبادرات إدارية ضرورية. والمبادرات الأخرى تتضمن تبني سياسة بيئية للشركات، استراتيجية بيئية وخطة عمل لتنفيذها، وتقرير ملائم حول المحصلة البيئية داخلياً وخارجياً. تتطلب العملية الشاملة لإدارة البيئة أن تكون متكاملة كما في الشكل 9- 3.
قد يحصل تصور بأن تطوير وتنفيذ هذا النظام الإداري للبيئة، الذي ينشد تحقيق أهداف التحسين البيئي بصورة مستمرة، سيكون مكلفاً ومدمراً للمنافسة. قد يكون ذلك صحيحاً. ومع ذلك، هناك أدلة قوية على أن الأمر ليس كذلك بالضرورة.
الموارد الطبيعية التي تستعمل في العمليات الاقتصادية ينبغي شرائها عادةً. والتخلص من الفضلات أثناء أو في نهاية العملية هو بمثابة فشل في استعمال المدخلات المشتراة بصورة منتجِة. الموارد الضائعة هي نقود ضائعة، أيضاً. وعلاوة على ذلك، فإن التخلص من الفضلات يستوجب دفع نقود في الغالب. وفي حين أن تكاليف إدارة الفضلات تكون حيوية عند تكون الفضلات، فهي تمثل أيضاً نقوداً ضائعة بمعنى أنها لا تضيف شيئاً للخدمة التي يقدمها المنتَج المعني. وأخيراً، حينما تكون المنتجات أو العمليات المعنية سامة أو خطيرة، فإنها تخضع لتعليمات وإجراءات قد يتطلب تطبيقها دفع نقود أيضاً. ولذلك، فإن نظم إدارة البيئة يمكن أن تتمخض بالفعل عن مدخرات صافية وتحسنٍ في المنافسة، حينما تقود إلى تغيرات في ممارسات الشركة التي توفر النقود بمقدار أكبر من تكلفة تنفيذ النظم الإدارية.
ويقدم ب. سمارت خمسة أسباب تفسر كيف أن تحرك المنشآت صوب "أكثر من تطبيق التعليمات" beyond compliance في أدائها البيئي يمكن أن يكون مفيداً لها(17).
1. الوقاية من التلوث من البداية يمكن أن توفر النقود في المواد وفي المعالجة للنهاية.
2. العمل الاختياري في الوقت الحاضر يمكن أن يقلل إلى أدنى حد مخاطر ومسئوليات المستقبل، ويغني عن وضع أجزاء جديدة، التي هي عملية مكلفة.
3. الشركات المتصدرة في تنفيذ التعليمات يمكن أن تحصل على موقع تنافسي ملائم بالنسبة للشركات التي تكابد وتتخلف في ذلك.
4. المنتجات والعمليات "الخضراء" الجديدة يمكن أن تزيد من إقبال المستهلكين وتفتح إمكانات جديدة أمام النشاط الاقتصادي.
5. السمعة الجيدة في حقل البيئة يمكن أن تحسن التعبئة العامة recruitment، وخُلق العاملين، ودعم المستثمر، وقبول المجتمع المضيف، وشعور الإدارة باحترام الذات.
ويقدم سمارت عدة أمثلة عن منشآت حققت منافع مالية، لتلك الأسباب، من المبادرات الإدارية البيئية التطوعية:
• بين عامي 1975 و 1992، وفرت شركة 3M أكثر من 530 مليون دولار من كل مشروعاتها في إطار برنامجها 3P (مدفوعات الوقاية من التلوث Pollution Prevention Pays)(18).
• لشعوره بالخطر بسبب كون منشأته تتصدر قائمة المواد السامة التي تصدرها الوكالة الأمريكية لحماية البيئة، فإن المدير التنفيذي الرئيسي لشركة Dupont أشار إلى أن الشركة باشرت برنامجاً طموحاً للتخلص من النفايات. "والنتيجة هي تدني المواد الملوِّثة للهواء بنسبة 80 % في عام واحد. استثمارنا لما يزيد قليلاً عن 250,000 دولار قاد إلى توفير بمقدار 400,000 دولار- وذلك بدلاً من استثمار 2 مليون دولار في شراء جهاز حرق الفضلات incinerator، الذي كان سيكّلف مليون دولار إضافي لصيانته وتشغيله(19).
شكل 3-9 مراحل متابعة العمل من أجل بيئة سليمة
المصدر: R. Gray, J. Bebbington, and D. Walters, Accounting for the Environment (London: Paul Chapman Publishing), 91.
• في ظل برنامجها للصهاريج المتكاملة، قامت شركة Chevron بتبديل كافة صهاريجها تحت الأرض بصهاريج زجاجية ليفية، رغم أن ذلك لم يكن مطلوباً بشكل ملح. ومع ذلك، فقد ذكر نائب رئيس شركة Chevron: "معالجة التلوث الناجم عن التسرب في أحد الصهاريج يمكن أن تكلف الشركة 250,000 أو أكثر. وإذا أمكن تفادي ذلك بإنفاق قدره 25,000- 50,000 دولار، فذلك عمل جدير بالتنفيذ(20)."
• طبقت شركة Pacific Gas and Electric برنامجاً حول كفاءة استعمال المستهلكين للطاقة الذي تضمنَ الاستثمار في المزيد من الاستخدام الكفء للطاقة من قبل المستهلكين والمشاركة في الوفر المالي المتحقق. وبفضل الإجراءات التي اتخذتها العام 1991، في ظل ذلك البرنامج، تدنت المواد المنبعثة من أوكسيد النتروجين بمقدار 445 طن، ومن أوكسيد الكبريت بمقدار 120 طن، ومن أول أوكسيد الكاربون بمقدار 340,000 طن، مما جعل الشركة تكسب 45.1 مليون دولار.
إن دراسات Smart حول "أكثر من تطبيق التعليمات" beyond compliance كانت لشركات أمريكية، ولكن نتائج مماثلة جداً توصلت إليها دراسة حديثة لشركات في المملكة المتحدة:
المنافع الرئيسة من الاستثمار في نظم الإنتاج الأنظف كانت: التوفير في التكاليف من خلال تحسن إدارة الفضلات، وتحسن تصور الجمهور للشركة وحوافز العاملين، وزيادة الربحية. ومن الممكن تحقيق توفيرات جوهرية من خلال نظم إدارة الطاقة وإجراء تعديلات بسيطة نسبياً على عمليات الإنتاج. وهناك مكاسب طويلة الأمد في عملية المنافسة كانت تتوقعها شركات كثيرة، وخاصة الشركات الكبيرة التي تملك استراتيجيات متقدمة لإدارة البيئة(21).
تعميم الممارسة البيئية الأفضل
في اقتصاد السوق، يعتبر نظام السعر الآلية الوحيدة الأهم لتخصيص الموارد. وعندما تتضمن الأسعار كافة تكاليف الإنتاج المعنية، وعلى فرض توافر الشروط الأساسية المفترضة للمنافسة السوقية، فإن نظام السعر سيؤمن تخصيصاً كفء للموارد (مع أنه ليس التخصيص المتساوي بالضرورة)، بمعنى التوصل إلى محصلة معينة يتعذر فيها أن يكون أي فرد في وضع أفضل دون أن يكون فرد آخر في وضع أسوأ.
ومع ذلك، فإن تأثيرات النشاط الاقتصادي على البيئة تتفادى عادةً آلية السعر، مؤثرةً على الأفراد غير المنخرطين بهذا النشاط ولا يستفيدون منه. إن هذا "الاستبعاد" externalization لبعض تكاليف الإنتاج والاستهلاك هو غير كفء وغير عادل معاً، ويوفر الأساس المنطقي للسياسة والتدخل الحكومي في حقل البيئة.
الشركات التي جرى استعراض تجاربها في إدارة البيئة بإيجاز هنا تبين مدى إمكانية تحسين الأداء البيئي بالنسبة لأهداف النشاط الاقتصادي المعتاد من خلال الالتزام الاختياري. إن ما تفعله يعادل قيامها طوعاً بتحمل وإدخال التكاليف البيئية ضمن تكاليفها internalization، وهي التكاليف التي كانت سابقاً تتفادى نظم الإدارة وبذلك تخفض رفاهية الآخرين. يبين درس تلك الحالات مدى قدرة تلك الشركات على تحويل إدخال التكاليف internalization إلى ميزة تنافسية لها لكي تبقى كشركات مربحة ضمن مسار اقتصادي ما يزال يسمح حالياً بالتملص من تحمل التكاليف أو استعبادها externalization.
ومع ذلك، فهناك إمكانية ضئيلة لتحقيق التحول الضروري نحو "النشاط الاقتصادي النظيف" من خلال العمل الاختياري فقط. فالشركات، التي تحدثنا عنها، لا تشكل غير أقلية صغيرة في قطاع الأعمال ككل. والغالبية لا تمضي في طريق التحسينات البيئية طوعاً. وفي الواقع، يشير آي. كريستيه و ه. رولف و ر. ليغارد إلى وجود رأي واسع الانتشار، بين الشركات البارزة بيئياً التي شملها المسح، مفاده أن "انتشار [نظم الإنتاج الأنظف] ترقيعي ومخيِّب للآمال، لحد الآن، رغم الأهمية الفائقة للانتقال للتنمية المستديمة، وحقيقة أن أساليب الإنتاج الأنظف تتيح إمكانية تكامل أهداف نشاط الأعمال مع حماية البيئة، وتَحمْل إمكانات جديدة كبرى للابتكار في حقل المنتجات والعملية الإنتاجية(22)." الانتشار بطيء وترقيعي لأسباب تنظيمية ونواقص السوق، وبخاصة في قطاع الأعمال الصغير. ولكن يُرجح أيضاً، في الأسواق التنافسية، إذا كانت فرصة استبعاد التكاليف متاحة. إن حدود مساحة baseline ربحية الشركات ستقررها إمكانية الاستفادة من تلك الفرصة. الشركات الاستثنائية فقط ستكون قادرة على المحافظة على الربحية بينما تقوم الشركات الأخرى باستبعاد التكاليف بشكل روتيني. إن الهدف من التدخل الحكومي في هذه الحالة هو تغيير قواعد التنافس بتقوية إدخال التكاليف البيئية بحيث يصبح لدى المنشآت التي تتحمل هذه التكاليف بأقصى كفاءة ميزةً تنافسية، وليس العكس.
ليس هذا هو مكان تقديم عرض تفصيلي للطرق الممكنة التي يمكن أن تستخدمها الحكومة لفرض إدخال التكاليف cost internalization. ت. جاكسون يدرج قائمة من الضوابط الحكومية regulatory programs؛ والأدوات الاقتصادية؛ والتدريب والمعلومات؛ بما في ذلك النظم الايكولوجية ecolabeling systems، والاتفاقات الطوعية مع القطاعات الصناعية (المدعومة، عادةً، بالتهديد بفرض القانون)؛ وفرض القانون عند وقوع الضرر البيئي؛ والإصرار على المكاشفة الكاملة(23). كما أن الحكومة، كمشترٍ كبير، يمكن أن تسعى لاستعمال قوتها بتطبيق الشروط البيئية على عقودها مع الشركات.
يوافق Jackson و Christie والكُتاب المشاركون على أن الضوابط الحكومية regulations هي العامل الأهم لتعزيز الإنتاج النظيف أو الأنظف. كما أن الضوابط الحكومية عموماً هي محل ترحيب من جانب المنشآت التي تتعهد ذاتياً بالإدارة البيئية الفعالة. وفي مقابلة مع قادة مسئولين عن البيئة، وُجد" أن الشركات المتجاوبة التي كانت تريد الأساليب الاختيارية بدلاً من التشريع هي شركات قليلة جداً: فهي تريد تطبيق المتطلبات البيئية على كل الشركات لتجنب مشكلة التعامل الانتهازي free-riding(24)." بينما هناك منشآت أخرى تميل لأن تكون في حالة توتر من الضوابط الصارمة لاعتقادها بأن ذلك يفرض تكاليف ويضر بالمنافسة في قطاع الأعمال. وقد تم نقل هذه المخاوف لرجال السياسة، الذين كانوا قلقين بدورهم من إغلاق شركات الأعمال، وإعادة توطينها، والبطالة.
وفي الواقع، ثمة دليل ضئيل على أن الضوابط البيئية، لحد الآن، قد أضرت بالمنافسة بأي شكل كان. فهناك ليس فقط التجارب التي أشرنا إليها سابقاً عن الشركات التي ذهبت أبعد من متطلبات الضوابط الحكومية وحسّنت وضعها التنافسي، بل أيضاً دراسات سعتْ، ولكن فشلتْ، لإيجاد دليل قوي على فقدان الميزة الاقتصادية بسبب الضوابط البيئية. وبمسح هذه الدراسات، تذكر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD: "إن تأثيرات التجارة والتنمية، التي تم قياسها تجريبياً، تافهة تقريباً(25). وبالمثل، فإن ر. دي. آندراكا و ك. ماك كريدي، من مجلس الأعمال للتنمية المستديمة، يستعبدان أن تتمكن الضوابط البيئية من الإضرار باقتصاد ما: "القلق على المحميات البيئية pollution havens، والشركات الانتهازية free riders، وخروج رأس المال والأعمال من البلدان بسبب الضوابط الصارمة، لا تقوم على أساس(26)." وبخلاف ذلك، فهما يؤكدان على المزايا التنافسية التي يمكن كسبها من الابتكار والكفاءة الايكولوجية بفضل الضوابط الصارمة والأسعار العالية للموارد البيئية.
م. بورتر درسَ بتفصيل العوامل التي تساهم، كما يبدو، في الميزة التنافسية. وليس لديه أي شك بشأن المزايا الكامنة للمقدرة التنافسية للشركات التي تندفع بنفسها، أو تدفعها الضوابط، نحو الأداء البيئي الأفضل:
الضوابط الصارمة لإنتاج منتجات أفضل، ولسلامة المنتجات، وللتأثير على البيئة، تساهم في الميزة التنافسية وتقوّيها. إنها تضغط على المنشآت لرفع مستوى النوعية، وتحسين التكنولوجيا، وتكوين مزايا في المناطق الهامة بالنسبة للمستهلكين (والهامة اجتماعياً). ومما له أهمية متميزة هي الضوابط الصارمة التي تستبق الإجراءات التي سوف تنتشر عالمياً. فهذه الضوابط تمنح المنشآت الوطنية بداية قوية لتطوير المنتجات والخدمات التي ستقَّيم في كل مكان. الاهتمامات الاجتماعية، كالبيئة، هي عوامل تبعث على التميز بدرجة متزايدة في الأسواق المتقدمة، وإن الضوابط تؤثر على ردود أفعال المنشآت الوطنية عليها… والمنشآت، كالحكومات، ميالةُ على الأغلب لرؤية التكلفة قصيرة الأجل للتعامل مع الضوابط الصارمة، وليس مزاياها الأطول أجلاً، كتشجيع الابتكار. المنشآت تشير إلى مثيلاتها الأجنبية بأن لديها ميزة التكلفة. وهذا التفكير يقوم على وجهة نظر ناقصة حول كيفية خلق وتعزيز الميزة التنافسية. إن بيع منتجات غير نوعية، وغير آمنة، ومضرة بالبيئة، ليس هو السبيل للميزة التنافسية الحقيقية في صناعات رفيعة وأقسام صناعية، وبخاصة في عالم يشهد تزايد الحساسية والقلق على البيئة في كل البلدان المتقدمة(27).
ليس من شك بأن صناعة حماية البيئة، التي برزت جزئياً على الأقل كنتيجة للضوابط البيئية، هي الآن قطاع صناعي كبير عن استحقاق؛ تبلغ قيمتها 70- 100 بليون دولار في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD وربما تزيد بنصف هذه القيمة على مستوى العالم(28). ليس من غير المعقول أن تكون للضوابط البيئية ميزة المحرِّك الأول، فتلك البلدان التي تطّور تقنيات جديدة كاستجابة مبكرة للضوابط المحلية الصارمة ستكون لها مكانة جيدة في الأسواق العالمية عند فرض تلك الضوابط في البلدان الأخرى. ويعطي Porter أمثلة من اليابان وألمانيا والولايات المتحدة وسويسرا التي استفادت كلها، في حالات مختلفة، من مزايا المحرك الأول مما أتاح لها تحسين أدائها الاقتصادي الوطني(29).
حتى إذا كانت الضوابط عموماً ذات أثر اقتصادي حيادي، أو حتى إيجابي، إجمالاً، فهناك اتفاق واسع بين الاقتصاديين ومحلّلي السياسة بـأن هذه الضوابط هي طريقة أقل فعالية، لتحقيق العديد من الأهداف البيئية، من استعمال الأدوات الاقتصادية كالضريبة والرسوم على البيئة، والرخص التجارية، والحوافز المالية المباشرة للتحسين البيئي. فهناك أسباب عدة لكون فعاليتها أكبر:
• تحقيق المساواة في التكلفة الحدية لتخفيض التلوث بين المساهمين فيه بحيث إن كافة الخيارات الأرخص قد أخذت بالاعتبار ابتداءً.
• يمكن أن تكون فعالة مع المصادر غير الواضحة للتلوث، التي يصعب إخضاعها للضوابط، كما هي فعالة مع المصادر المعروفة point sources.
• لكونها تصبح جزءً من أسعار المنتجات، فإن الضرائب البيئية بشكل خاص تقدم حوافز للمستهلكين والمنتجين على حد سواء للابتعاد عن الاستهلاك الضار بيئياً.
• لأن الضرائب البيئية يدفعها جميع الأفراد (بخلاف الضوابط التي يمكن استعمالها مجاناً بمجرد تلبية المستلزمات التي تتطلبها الضوابط) فإنها تعطي الحافز للتحسين المستمر على كافة المستويات.
• من خلال تصاعد الإيراد، فإن الضرائب البيئية توفر وسائل منح إعانات مميَّزة earmarked subsidies، حيثما كان مناسباً، لتحقيق التحسين البيئي لأبعد مما يسمح به أثر السعر أو للتقليل من التشويه الناجم عن الضرائب في مكان آخر. وإذا كانت هذه هي ضرائب عمل، فالنتيجة يمكن أن تكون زيادة في التشغيل.
لقد تم استعمال مجموعة من الضرائب والرسوم البيئية في السنوات الأخيرة، وبخاصة في بلدان أوروبا الشمالية(30). ومع أن هذه الضرائب والرسوم البيئية سمحت للمجتمع ككل تحقيق الأهداف البيئية على أساس فعالية التكلفة أكثر من الاعتماد على الضوابط، ولكن الضرائب والرسوم البيئية تثير، بطريقة واحدة، القضايا الجدية للمنافسة أكثر من الضوابط بالنسبة للمنشآت التي هي في قطاعات ضارة بيئياً بشكل خاص. والسبب يعود، كما أشير سابقاً، إلى أن المنشآت، بعد تقيدها بالضوابط، يمكن أن تستعمل البيئة دون أن تدفع أكثر؛ بينما، في حالة الضرائب البيئية، تدفع المنشآت عن كل استعمال للبيئة، حتى الاستعمال الذي هو ضمن حدود الضوابط. طبعاً، وعلى فرض أن الإيرادات من الضرائب البيئية تُستعمل لتخفيض ضرائب أخرى مفروضة على النشاط الاقتصادي، فإن الآثار الكلية للضرائب على المنافسة في حقل النشاط الاقتصادي ستكون تافهة، وسيستفيد منها النشاط الاقتصادي النظيف.
وفي حين ليس هناك، كما هو الحال أيضاً مع الضوابط، أي دليل على أن للضرائب البيئية أثر سلبي على المنافسة، فإن معظم البلدان التي أدخلت هذه الضرائب سعت لتخفيض حتى مجرد احتمال هذا الأثر وذلك بمنح المنشآت أو القطاعات الضعيفة استثناءات أو تنازلات. وهذه تخفض من الكفاءة الاقتصادية للضريبة البيئية، ومن الميزة الاقتصادية التي يمكن جنيها من نظم الإنتاج النظيف. ومع ذلك، هناك رأي مفاده أن هذه الضرائب تكون مبررة إذا كانت تَحوْل دون إعادة توطن الشركات في بلدان ذات ضوابط بيئية أقل.
إن تجربة أوروبا الغربية في حقل فرض الضرائب البيئية يمكن أن تتطور في واحد من عدة اتجاهات مختلفة. فمن الواضح أن كثيراً من البلدان عازمة على المضي بمخططات أكثر طموحاً، ولكن ما يُرجَح أن تقوم بسنه بشكل أحادي يمكن أن تقيده المخاوف على المنافسة الوطنية وتشوهات سوق الاتحاد الأوروبي الواحدة. ومع ذلك، فإذا كان على الاتحاد الأوروبي أن يفرض حداً أدنى من الضرائب على الطاقة، كما اقترحت اللجنة الأوروبية مؤخراً، فإن مدى أوسع من الفرص سيتهيأ بالنسبة للابتكار والتجربة الأحادية، وربما يتم الشروع بتنفيذ بعض المخططات الطموحة أكثر. ولكن ما يزال غير واضح بعد ما إذا كان هذا المقترح أو أي مقترح آخر حول فرض الضرائب عموما على الطاقة في الاتحاد الأوروبي سيتم تنفيذه أم لا. وبالنسبة للوقت الحاضر، فالمؤكد، كما يبدو، هو فقط استمرار الحكومات بإدخال الضرائب البيئية بالتدريج، مدفوعةً بالمزيج الذي تقدمه هذه الضرائب، كما يبدو، أي سياسة بيئية فعالة تقوم على مبدأ التكلفة، ومصدر للإيراد الحكومي.
إن فرض الضرائب البيئية ليس هو الطريقة الوحيدة التي قد تجعل من أسعار السلع والخدمات تعكس التكاليف البيئية والمخاطر البيئية (التي ترتبط باحتمالات التكاليف البيئية في المستقبل). ثمة طريقتان هما محل اهتمام متزايد في السياسة البيئية، ولهما تأثير شديد على عمليات نشاط الأعمال، وهما تحديد مسئولية الشركات عن تأثير عملياتها على البيئة ومسئوليتها عن التخلص من منتجاتها.
المسئولية البيئية تشير إلى المسئولية القانونية للمنشأة عن أي تأثير لها على البيئة وبالتالي التزامها بدفع تعويض للأطراف المتضررة عن الضرر و/ أو أي ترميم وتجديد بيئي قد يكون ضرورياً. الاتجاه الحالي بعيد عن المسئولية القائمة على الخطأ fault-based liability ويتجه نحو المسئولية "المحددة" strict liability، التي تحُسب على المرتكب بغض النظر عن الخطأ. المسئولية البيئية المحددة طُبقت، لبعض الوقت، على نشاطات معينة في الولايات المتحدة، وقد كانت هناك نقاشات لسنوات في الاتحاد الأوروبي حول تعليمات محتملة في هذا الحقل، رغم عدم وجود نتيجة لحد الآن.
ومن حيث المبدأ، فإن المسئولية البيئية لابد أن تكون قابلة للتأمين، كبقية المخاطر، لتقوم بتحويل التكاليف البيئية المحتملة في المستقبل إلى تكاليف مالية حالية، ولتوفر بهذا الشكل حافزاً للمنشآت لتقليل مخاطرها، وبالتالي تقليل قسط التأمين إلى مستوى مقبول اجتماعياً. عملياً، فإن حالات عدم التأكد، المرتبطة بالتأثيرات البيئية وحجم التكاليف المحتملة، قد دفعت العديد من أصحاب التأمين للانسحاب من التوقيع على عقد المسئولية عن الضرر البيئي(31). إن عدم توفر التأمين، أو التأمين الغالي جداً، قد يؤدي إلى إبعاد المنتجين تماماً عن بعض حقول الأعمال. وحينما تتعلق المسئوليات البيئية المحتملة بنشاطات سابقة، كأرض ملوثة جداً، مثلاً، فهذا قد يقود إلى العجز عن إيجاد شركات خاصة، أو تمويل، سواء لإزالة التلوث أو لتطوير هذه المواقع. وهكذا، فمع أن المسئولية البيئية المحددة توفر حوافز قوية للمنتجين لإدارة وتخفيض مخاطرهم البيئية، فإن تأثيرها المحتمل على النشاطات المرغوبة ينبغي أيضاً وضعه في الذهن، والتحوط لها، عند إدخال التشريع حول المسئولية البيئية.
وتعمل مسئولية المنتجين، وهي الطريقة الثانية لإدخال التكاليف البيئية- تكاليف التخلص من النفايات بشكل خاص، في هذه الحالة- من خلال جعل المنتجين مسئولين عن التخلص من منتجاتهم عند نهاية فترة استعمالها. إن أول تطبيق لطريقة مسئولية المنتجين كان هو القانون الألماني للتعبئة والرزم للعام 1991، الذي تطلبَ من المنتجين استعادة رزم نفاياتهم وفوضّها لإعادة معالجة واستعمال حد أدنى منها. ومنذ ذلك الحين، فقد كانت هذه الطريقة، أو ستبقى، تتوسع لتشمل المواد الإلكترونية، والبطاريات، والسيارات(32). وعند مقارنتها بالاتجاه الحالي للتخلص من النفايات الذي بات مكلفاً أكثر بعد فرض الضرائب على رمي الفضلات وخضوعه للمزيد من الضوابط الصارمة الهادفة لزيادة حصة النفايات التي يعاد معالجتها واستعمالها، فإن تطبيق طريقة مسئولية المنتجين يتوقع أن تمارس تأثيراً قوياً على كل جانب من تطوير المنتجات، من لحظة تصميمها الأول ولغاية تسويقها.
الاستنتاج
انطلق هذا الفصل من إدراك إن التنمية المستديمة sustainable development باتت هدفاً أساسياً للسياسة الحكومية بدرجة متزايدة، وأن التحول العام للنشاط الاقتصادي إلى نشاط نظيف هو أمر ضروري ومُلح للتنمية المستديمة.
والمنشآت التي تساهم في الأهداف الوطنية للتنمية المستديمة بحاجة، قبل كل شيء، لنظام لإدارة البيئة لغرض قياس ومراقبة آثار التنمية على البيئة. العديد من هذه النظم متاح حالياً، وقد اُستخدم بصورة متزايدة من قبل الشركات التي أصدرت تقارير عن هذه النظم. ويوجد الآن دليل قوي على أن ترتيبات تبني نظام للإدارة البيئية والاستعمال الأكفأ للموارد التي يقود إليه ذلك النظام يمكن أن تؤدي إلى مدخرات مالية صافية. والشركات الأساسية التي تستعمل نظم الإدارة البيئية والحسابية لتحقيق النشاط الاقتصادي النظيف يمكن أن توفر المال وتكسب الميزة التنافسية من وراء ذلك.
ولكن رغم هذه المدخرات المحتملة، فإن انتشار طرق الإنتاج النظيف بطئ، وسيبقى كذلك ما لم تكن هناك سياسة حكومية حازمة. هناك اتفاق عام، داخل قطاع الأعمال وخارجه، على أن التشريع ضروري ومرغوب فيه إذا أريد متابعة الأهداف البيئية الطموحة. ولحد الآن، فإن الضوابط الحكومية government regulations كانت الأداة الرئيسة لتحسين النوعية البيئية. ومع ذلك، فإن الأهداف البيئية ذاتها يمكن تحقيقها بفعالية أكثر من ناحية التكلفة، مع حوافز أكثر لتحقيق الابتكار اللازم لطرق الإنتاج الأنظف، إذا تم استعمال الأدوات الأخرى للسياسة، بما في ذلك الضرائب البيئية.
ولأن هذه الأدوات تسمح بتخفيض ضرائب أخرى على نشاط الأعمال، فإن الضرائب البيئية لها فائدة خاصة بالنسبة للنشاط الاقتصادي النظيف. ومن دون فرض ضرائب على المنتجات والعمليات الضارة بالبيئة، أو من دون استخدام بعض الأدوات الأخرى التي تضمن أن تعكس آليةُ السعر الفوائدَ البيئية من النشاط النظيف، فمن الصعب تصور أن يصبح النشاط النظيف على العموم تنافسياً، وناجحاً تجارياً، أكثر من النشاط الذي يمكنه تخفيض تكاليفه عن طريق إهمال العناية البيئية المماثلة. ومع ذلك، فحينما يتم فرض الضرائب البيئية بطريقة ما بحيث يتم تخفيض ضرائب أخرى على النشاط الاقتصادي، فإن الوضع التنافسي العام للاقتصاد يمكن أن يتحسن. ورغم أنه قد تكون هناك مبادلة (أو موازنة) بين البيئة وأداء القطاعات الضارة بيئياً environmentally intensive sectors، فلا يوجد دليل على أن الأمر كذلك بالنسبة للاقتصاد ككل. على العكس، فربما يقود التحول الضريبي، من عوامل الإنتاج الأخرى إلى استعمال الموارد الطبيعية، إلى زيادات متواضعة في التشغيل والإنتاج.
بات النشاط الاقتصادي النظيف ضرورة بيئية ملحة ويمكن أن يكون مربحاً. وإن النمو السريع لقطاع النشاط البيئي أصبح يشكل فرصة كبرى للنشاط الاقتصادي. ويمكن للصياغة الجيدة للسياسة البيئية أن تخلق المنافع الاقتصادية والبيئية على حد سواء. ومن الواضح إن هذا المزيج لا يجعل من تحقيق التنمية المستديمة أمراً بسيطاً. ولكنه يجعل منها أمراً مجدياً، على أقل تقدير.
الهوامش
1. World Commission on Environment and Development (WCED), Our Common Future (The Brundtland Report) (New York: Oxford University Press, 1987), 211, 213.
2. World Resources Institute, With United Nations DP and United Nations EP, World Resources, 1992-93 (New
York: Oxford University Press, 1992), 2.
3. Royal Society and National Academy of Sciences, Population Growth: Resource Consumption and Sustainable World (New York: National Academy of Sciences, 1992), 2, 4.
4. WCED, Our Common Future, 213.
5. S. Schmidheiny, with the Business Council for Sustainable Development, Changing Course: A Global Business Perspective on Development and the Environment ( Cambridge, Mass.:MIT Press, 1992), 9.
6. D. Pearce and R. K. Turner, Economics of Natural Resources and the Environment (Hemel Hemstead: Harvester Wheatsheaf, 1990), 9.
7. J. Pezzey, Sustainable Development Concepts: An Economic Analysis, World Bank Environment Paper 2(Washington, D. C.: World Bank, 1992), 14ff.
8. D. Pearce and G. Arkinson, Are National Economies Sustainable?: Measuring Sustainable Development, CSERGE Discussion Paper GEC 92-11 (London:University College, 1992); K. Turner,’ Speculations on Weak and Strong Sustainability, CSERGE Working Paper GEC 92-26 (Norwich: Unversity of East Angolia/CSERGe, 1992).
9. H. Daly, From Empty World to Full World Economics, in R, Goodland, H. Daly, and S. El Serafy, eds., Population, Technology and Lifestyle: The Transition to Sustainability (Washington, D. C. : Island Press, 1992), 27ff.
10. J. Elkington and N. Robins, The Corporate Environmental Report, Discussion Paper (London: New Economics Foundation, 1993), 5.
(11) أنظر، مثلاً، United Nations, SNA Draft Handbook on Integrated Environmental and Economic Accounting, Provisional Version (New York: UN Statistical Office, 1992).
12. Deloite Touche Tohmatsu International (DTTI), International Institute for Sustainable Development, and Sustainability, Coming Clean: Corporate Environmental Reporting (London: DTTI, 1993), 9.
13. DTTI et al., Coming Clean, 60-61. R. Gray, J. Bebbington, and D. Walters, Accounting for the Environment (London: Paul Chapman Publishing, 1993), 73.
14. Gray et al., A Accounting for the Environment, 273.
15. D. Ditz, J. Ranganathan, and R. D. Banks, Green Ledgers: Studies in Corporate Environmental Accounting (Washington, D. C. : World Resources Institute, 1995).
16. T. Jackson, ed., Clean Production Strategy: Developing Preventive Environmental Management in the Industrial Economy (Boca Raton, Fla.: Lewis Publishers, 1993), 200ff.
17. B. Smart, ed., Beyond Compliance: A New Industry View of the Environment (Washington, D. C.: World Resources Institute, 1992), 3.
18. Ibid., 13.
19. Ibid., 191.
20. Ibid., 103.
21. I. ChristieH. Rolfe, and R. Legard, Cleaner Production in Industry: Integration Business Goals and Environmental Management (London: Policy Studies Institute, 1995), xi.
22. Ibid., 216.
23. Jackson, Clean Production Strategies, 301ff.
24. Christie et al., Cleaner Production in Industry, 218.
25. Organization for Economic Cooperation and Development (OECD), Implementation Strategies for Environmental Taxes (Paris: OECD, 1996), 45.
26. R. De Andraca and K. McCready, Internalizing Environmental Costs to promote Eco-Efficiency (Geneva: Business Council for Sustainable Development, 1994(, 70.
27. M. Porter, The Competitive Advantage of Nations (New York: Free Press/Macmilan, 1990), 647-648.
28. OECD, The State of Environment (Paris: OECD, 1991), 198; Business International, Managing the Environment: The Greening of European Business (London: Business International, 1990), 157.
29. Porter, The Competitive Advantage of Nations, 648-649.
(30) للحصول على مسح، أنظر: OECD, Environmental Taxes I OECD Countries (Paris: OECD, 1995).
31. P. Simmons and J. Cowell, Liability for the Environment, in Jackson, ed., Clean Production Strategies, 345-364, 356.
32. F. Meyer-Krahmer,’ Industrial Innovation Strategies: New Concepts and Ex Experience- Towards on Environmentally Sustainable Industrial Economy, Paper prepared for the Six Countries Program Workshop "Innovation and Sustainable Development- Lessons for Innovation Policies?" mimeo., Fraunhofer Institut, Karlsruhe, November 1996, 8.
اقتصاد القرن الحادي والعشرين: الآفاق الاقتصادية- الاجتماعية لعالم متغير، تحرير
وليام اي. هلال (و) كينيث ب، تايلور، ترجمة: د. حسن عبدالله بدر (و) د. عبدالوهاب حميد رشيد،
المنظمة العربية للترجمة- بيروت- ISBN: ISBN 978-91-633-2084-2
#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟