|
التفسير السسيولوجي لظاهرة الايمان بالله
أحمد القبانجي
الحوار المتمدن-العدد: 3940 - 2012 / 12 / 13 - 02:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ققد تقدم بهذا التحليل علماء الاجتماع الفرنسيين في اوائل القرن العشرين ومنهم «اميل دوركيم» وأتباعه. ويقوم هذا التحليل على اساس أن فكرة الالوهية وليدة روح المجتمع للتحكم في سلوك الافراد وأن الآلهة موجودات خيالية يخلقها المجتمع في ذهن الافراد لاستخدامها كأداة لتطبيع الافراد وتهذيب افكارهم وسلوكياتهم. وتدعى هذه النظرية بأن الافراد المتديّنين يشعرون بأنهم يقفون مقابل قدرة أعلى وراء الطبيعة تطلب منهم سلوكاً معيناً وتفرض عليهم قيم وتكاليف اخلاقية تجاه الآخرين. والحال أن هذه القدرة الغيبية ليست شيئاً وراء الطبيعة، بل هي طبيعة المجتمع وروحه المتشكلة من مجموع الافراد حيث توحي الى الافراد بأنها قدرة أعلى ولها صفات الوهية وتخلف تصوراً خاصاً في أذهانهم يتجلّى في فكرة الالوهية. ويرى دوركايم أن الشعور بالالوهية ـ الذي يشكل مصدر جميع اشكال التعلق بالمقدسات والوفاء لها ـ في الحقيقة ليس اكثر من انعكاس حاجة المجتمع لشدّ اعضائه ووفاء افراده له، ففي المجتمعات البدائية يقوى ويشتد الشعور بالولاء للقبيلة وحقها في الطاعة والتبعية المطلقة بالنسبة لافراد القبيلة، والرسوم والتقاليد والالزامات والمحرمات كلها عبارة عن أدوات لفرض شخصية القبيلة وحكومتها على الافراد مما يجعل منها امراً مقدساً يستوجب الخشوع والخضوع تجاهها بعنوان أنها قدرة غيبية اعلى. وفي المجتمعات المعاصرة تتجلى روح المجتمع هذه في زمان الحرب والدفاع حيث تسيطر على الافراد روح الوطنية وتدفعهم الى التضحية بأنفسهم في سبيلها. فنحن ـ كما ـ يقول دور كيم ـ كبشر نشعر في أعماق نفوسنا بالارتباط الاجتماعي مع مجتمعاتنا وعندما ننفصل عن المجتمع نشعر بالغربة والوحشة، فالانخراط في المجتمع هو العامل الاساس في نشاطنا وتوجيه سلوكياتنا ومن ذلك نشعر بأن أمراً قدسياً يربطنا مع سائر الافراد ويدعونا الى عبادته وتقديسه. فالدين عبارة عن عامل لشدّ الافراد وتنظيم عملية ارتباطهم مع بعضهم البعض. وعلى هذا الاساس فالدين أو الالوهية بمثابة حقيقة شاملة وعظيمة لشخصية المجتمع مقابل الافراد ممتدة بامتداد التاريخ البشري، وبالتالي فالانسان ومن أجل حفظ حياته الاجتماعية هو الذي خلق فكرة الالوهية في ذهنه لا أنها تحكي عن وجود موضوعي مقدس خارج ذهن الانسان.
المناقشة: من الواضح أن هذا التحليل السسيولوجي لظاهرة التدين والاعتقاد بالآلهة لا يمثل دليلاً منطقياً على المدعى. وهو عدم وجود الله، بل غاية ما يفيده تفسير علمي لهذه الظاهرة الاجتماعية حسب ادعاء علماء الاجتماع، ورغم ذلك فانه بالامكان تسجيل عدة ملاحظات حول هذا الدليل أو هذه النظرية التحليلية للاعتقاد بالله: 1 ـ إن هذه النظرية تفتقد في الاساس لاثباتات علمية على مستوى التجربة أو الاستقراء وغيرهما من ادوات الاثبات العلمي، ومعلوم أن كل نظرية لا تثبت نفسها وصحتها في سوق البحث العلمي تبقى مجرد احتمال لا يفيد علماً ولا يدفع غيره من الاحتمالات العلمية في تفسير هذه الظاهرة. والنتيجة أن هذه الفرضية حتى لو كانت مقبولة فهي لا تفيد في ردّ القول بوجود إله خالق لهذا العالم. أي أن كل فرضية تفسر ظاهرة معينة لا تمتد الى الجذور الفلسفية لهذه الظاهرة فعلى فرض قبولنا بأن منشأ الاعتقاد بالله في المجتمعات البشرية هو ما ذكر من روح المجتمع الاّ أن هذا لا يعني أن هذا العالم بما فيه من انسان وحيوان وكائنات اخرى ليس له خالق مدبّر. 2 ـ إن هذه النظرية عاجزة عن توضيح وتفسير الحركات الاصلاحية للمصلحين والحكماء والانبياء المخالفة للتيار السائد في المجتمع، فالنظرية المذكورة هي نظرية محافظة وتقرر أن المجتمع يوحي في أذهان أفراده بما من شأنه أن يشدّهم ويعمل على تطويعهم للارادة الكلية للمجتمع فاذا كان الله هو هذه الروح الاجتماعية المحافظة فيلزم أن يقف ضد اي حركة خارجة عن دائرة التكاتف الاجتماعي والحال أن التاريخ يشهد بأن الله كان مع الانبياء والمصلحين في حركاتهم ضد أقوامهم، بل أن جميع الانبياء طردوا من مجتمعاتهم ووقف كل مجتمع بشري موقفاً سلبياً من أية حركة من هذا القبيل الاّ أن حركة الانبياء استمرت حتى كتب لها النصر في كثير من المواقع، والأديان والوقائع التاريخية تؤكد وقوف الله مع هؤلاء الانبياء ضد أقوامهم. ومن هذا القبيل الحركات المناهضة للاستعمار وحقوق الانسان في المجتمعات التي تخوض حرباً استعمارية ضد المجتمعات المستضعفة كما هو الحال في التظاهرات المخالفة لحرب فيتنام في امريكا أو حركات حقوق الانسان في فرنسا التي وقفت مع الثورة الجزائرية أبان الاحتلال الفرنسي للجزائر. فاين كانت روح المجتمع التي تعمل على شدّ افراده وتطويعهم وتوحيدهم في كل من امريكا وفرنسا وموقفها من هؤلاء الأفراد الخارجين على إرادتها؟ والطريف أن الانبياء ورجال الاصلاح بعد طردهم من المجتمع يشعرون بأنهم أقرب الى الله من أي زمان مضى كما نقرأ ما حكاه القرآن عن الأنبياء ابراهيم وموسى ومحمد وما كانوا يتمتعون به من روحيات عالية لدى هجرتهم لأقوامهم ولكن وفقاً لهذه النظرية يجب أن يكون الخارج على المجتمع خارجاً على الله وبعيداً عن رحمته وعنايته!! 3 ـ إن هذه النظرية منقوضة بالكثير من الحالات الفردية في المجتمعات الحديثة التي ضعفت فيها روح الشدّ الاجتماعي وتعمقت فيها روح الفردية وطغت فيها كرامة الفرد واهميته على حساب الروح الاجتماعية ولكن رغم ذلك نلاحظ أن قوة الايمان بالله والاعتقاد به بقيت على حالها إن لم نقل أنها قد ازدادت وتعمقت وترسخت لدى بعض الافراد. وعلى عكس ما يشاهد من مظاهر الخلاعة والمجون والتكالب على الدنيا في المجتمعات المتقدمة فان هناك امتداد للدين والاعتقاد بالله في العمق العاطفي والوجداني في هذه المجتمعات، بل يمكن القول بأن مثل هذا الايمان أنقى وأقوى من ايمان الافراد في المجتمعات المتخلفة التي يتعرض أفرادها لضغوط ثقافية واجتماعية وعائلية تدفعهم الى اعتناق عقيدة معينة دون أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، فمثل هذه الضغوط لا تمارس في حق الافراد في المجتمعات المتقدمة، ولهذا كان الايمان بالله يمثل خياراً حراً للأفراد، والانسان المؤمن في مثل هذه المجتمعات يختار ايمانه بحرية مطلقة ويلتزم بما يفرضه عليه دينه باختياره، فمن الطبيعي أن يكون ايمانه هذا أفضل وأسلم من غيره ويكون التزامه الخلقي والديني ناقضاً للنظرية المذكورة بعد أن تحرر الأفراد من اعتقاد معين يفرض عليهم من المحيط والاسرة والمجتمع والحكومة ومن خارج ذواتهم وعقولهم! * * *
#أحمد_القبانجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التجربة الدينية للنبي
-
هل الدين معيار للعدالة أو العدالة معيار للدين؟
-
القراءة السطحية للنصوص
-
-لا للديمقراطية- هو الشعار الحقيقي للإسلام السياسي
-
صورة الله عند الفلاسفة
-
من انجازات النبي ... توحيد القبائل والشعوب
-
المنهج الجديد في تفسير النص
-
اسطورة الفيل وحرب أبرهة الحبشي
-
العلاقة المتبادلة بين الدين والأخلاق
-
من انجازات النبي ... تشكيل الدولة
-
مساهمات الفلاسفة في نشوء علم النفس
-
حقوق الانسان من منظور اسلامي
-
ابراهيم الخليل وإشكالية ذبح الابن
-
الوعد الالهي بالارض المقدسة
-
نقد الاعجاز البلاغي في القرآن
-
موقف الاسلام من المرأة
-
الفلسفة الوجودية
المزيد.....
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|