|
لا للتعسّف الإداري*
فتحي الحبوبي
الحوار المتمدن-العدد: 3939 - 2012 / 12 / 12 - 02:12
المحور:
الادارة و الاقتصاد
في توضيحه العاشر الذي عنوانه (في البحث عن الحقيقة)، قال "نيكولاس مالبرانش" Nicolas Malebranche: "عندما يفضل أحدهم حياة حصانه على حياة حوذيه(سائق حصانه)، فإنّ لديه أسبابه ، ولكنّها أسباب خاصّة تثير الرّعب في كل رجل عاقل. إنّها في الأصل، أسباب ليست معقولة، لأنّها لا تتّفق مع سيادة العقل (...) مما لا شك فيه، أنّ السخافة الناجمة عن هذه المقولة هي بداهة صارخة. لكن إذا كان هذا النمط من التفكير يتجاوز الإطار الفردي ليصبح السلوك المميز لمجموعة من الأفراد أو لإدارة غير نزيهة أو لعلّها عديمة الكفاءة، فإنّ رعب الأفراد العاقلين الذي تحدّث عنه مالبرانش"Malebranche ، يصبح مستشريا و يغدو السخف شائعا ، سواء بالنسبة للإدارة أو بالنسبة للمواطنين، بمن في ذلك الموظفين ذاتهم صلب إداراتهم. و معلوم أن الإدارة ،وهي المحور الرئيسي لقيادة الدولة، تستمد مبرّر وجودها وشرعيتها من قدرتها على ضمان- ضد أي تعسف- مهمّات الخدمات العموميّة والمصلحة العامة لفائدة المواطنين . مع التأكيد على أنّ الموظف ذاته، لا يعدو إلّا أن يكون مواطنا ليس إلاّ. أليس كذلك؟ ولعلّنا لسنا في حاجة إلى التذكير، في غير ما جلبة ولا ضوضاء، ان وراء التنوّع الشديد في المطالب والشكاوى الإدارية ، هناك قواسم مشتركة من حيث الأصول والأسباب. ومن بينها تعقيد وتعدد الإجراءات الإدارية، مما يؤدي حتما إلى بطء دراسة مطالب المواطنين، لا بل وحتى مطالب الموظفين أنفسهم، صلب الإدارات التي ينتسبون إليها. كما هي الحالة الشهيرة لفنّي سام ينتمي إلى إحدى الوزارات التقنية، ودعا مرارا وتكرار إلى وجوب حصوله على حقّه في الترقية، عبر القنوات الإدارية الرسميّة، لا بل حتّى عن طريق الصحافة - بما فيها النقابيّة- لكن سعيه ذهب أدراج الرياح. والأسوأ من ذلك أنّه لم يتلق إلى اليوم ، حتّى مجرّد ردّ يتيم، ولو بالسلب. وهذا التمشّي لا يترجم سوى عن السلبيّة والتقاعس عن العمل الإداري، الذي في مناخات أخرى أي في الديمقراطيات الغربية قد يصل إلى حدّ اعتباره لا شرعيّا ويفضي بالنهاية إلى تحمّل المسؤولية الإدارية في الغرض. كما يحدث أيضا أن لا تطبّق القوانين والمناشر الداخليّة من قبل بعض المسؤولين الإداريين الذين يفضّلون اللجوء إلى اعتماد التأويلات الشخصيّة للقوانين والأنظمة على الرغم من أنّها جميعا واضحة، لا لبس فيها،لا بل هي لا تقبل التأويل. إلا إذا كانت هذه التأويلات تندرج في سياق ومنطق مقولة مالبرانش Malebranche المذكورة مطلع المقال. وهو ما لا أخاله يشرّف هؤلاء المسؤولين. يضاف إلى هذا، بداهة، غياب المعلومة التي تؤدي بالإدارة وبالمتعاملين معها إلى عدم الفهم المتبادل. ذلك أنّه، كيف لمواطن أو موظّف أو صحفي أن يتمكّن من " أن يدقّ على الباب المناسب" ويكون في حوزته المعلومات الصحيحة عند الحاجة إليها، بطريقة وحيدة لا ثانية لها ؟ إذا كانت الصعوبات في الحصول على المعلومة بشأن الإجراءات والخطوات التي ينبغي اتخاذها للحصول على حقّ ما ، تحاصره من كل جانب و تواجهه في كل حين وآن. أليس هذا نوع من الظلامية المقنّعة l obscurantisme déguisé ؟ عندما يكون الموظف واقعا تحت وطأة همومه وعذاباته الإدارية الكثيرة التي يضاف لها عادة قلقه الوجودي، فانّه لا يستطيع ،قطعا، الإمتناع عن الإعتقاد بأنّه ليس من المناسب فحسب، بل وكذلك من الضروري، أن يعي المسؤولون و- دون إبطاء- أن الشعور بالظلم الإداري الذي يعاني منه الموظف، أي موظف مهما كان بسيطا، إنّما هو القنبلة الموقوتة التي لا يعلم أحد منهم متى تنفجر في وجهه، ، إذا ما كانت الإجراءات الإدارية المتّبعة ضدّه مخالفة للقوانين. لا سيما إذا وضعها مسؤولون غير نزهاء. لذلك بات التوقّي من التعسّف الإداري، وإن لزم الأمر اللجوء إلى محاربته دون هوادة ، هو الشرط الذي لا غنى عنه من أجل تحسين الخدمات الإدارية. قطعا، إن هناك بونا شاسعا بين إرادة بعض المسؤولين المعلنة في تغيير الصورة الباهتة للإدارة، وبين التغيير الواقع فعلا بالشكل الملموس. لذلك فأن التغيير الذي طالما انتظره الجميع في دواليب الإدارة ، يمكن أن يبقى مستحيلا ،وإلى الأبد، لمن لديهم عقول مهووسة باستعمال منطق المخادعة والإلتباس، أو من ليس بمقدورهم الانضمام إلى الإدارة الحديثة. ممّا يجعل عيونهم شاخصة لا تطرف، نحو هامش التفسير والتأويل قصد مخالفة النصوص الإدارية وتكريس الإدارة التعسفية التي هي في النهاية فعل هجومي و مظهر ملطّف من الاستبداد والمفارقة التاريخية un aspect atténué de despotisme et d anachronisme. وهما مرادفان، بالتاكيد، لإدارة لا تتنفس هواء عصرها. إستمتعوا بهذا التناقض: بينما الفلاسفة مثل Vernaux يؤكدون "إنّ الشخص هو فرد. ولكن ليس أي فرد! إنّه مادة فردية ذات طبيعة عقلانيّة. إنّه فرد موهوب له عقل Une personne est un individu. Mais non pas n importe quel individu! une substance individuelle de nature rationnelle, un individu doué de raison فإنّ المسؤولين الإداريين تأخذهم المتعة أحيانا في قول بعض الهراء ليستنقصون من قيمة وجدارة بعض الموظفين ويحدون من مزاياهم لدرجة أن البعض منهم يصيبهم الشكّ في قدراتهم العلميّة والمهنيّة فيفقدون الثقة في أنفسهم تماما، رغم كفاءاتهم العلميّة الممتازة التي غالبا ما لا تتوفّر لدى رؤسائهم. وهو أمر غير مقبول، ولا يحدث إلّا في عالمنا العربي المنكوب بمسؤوليه في الأعم الأغلب. إذا جازت المقارنة، فإنّنا نقول أن الإصلاح الإداري والتحديث إنّما يلعبان بالنسبة للإدارة دورا مماثلا للفحوصات الطبية بالنسبة لحياة الإنسان. وكما يقول أفلاطون في كتابه تمجيد سقراط Apologie de Socrate: إنّ حياة بدون فحص لا تستحقّ أن نعيشها، فإنّي أقول دون تردّد، إن إدارة يغيب عنها الإصلاح الشامل والعميق، الذي يمكّن من تخفيف وطأة الظلم ويسهم في تحسين خدمات الإدارة وتلميع صورتها لدى الجميع، لهي غير جديرة باسمها وينطبق عليها ما قصده Rostandفي قوله :"إنّنا نوهم أنفسنا أنّنا فعلنا كل شيء لفائدة العدالة عندما نشتم الظلم ":" On se figure avoir tout fait pour la justice quand on a bien vitupéré les injustices". فأيّ تفكير هزلي،مضحك وباطل هذا! إنّه التفكير الذي لا يؤدي إلّا إلى عدم المساواة المتزايدة ولا يتنتج سوى موظفين انهزاميين، مغلوبين على أمرهم ومسلوبي الإرادة من قبل إداراتهم. إلى درجة أن يعيشوا حياة الطمس الذاتي A tel point de vivre l effacement de soi. وباختصار، فإنّ أمام الجدليّة المدمّرة التي لا تنتهي بين الإدارة والمواطن واستحالة القراءة في نظرات الموظف الذي استنقصوا قيمته وطمسوا شخصيته، فقد حان الوقت لأن تشعر الإدارة كل موظف باحترامها له، باعتباره ذات عاقلة وشخص بما هو -عقل وحرية- وموضوع حقوق وواجبات، وبالتالي يستحقّ في جميع الحالات، الحماية والاحترام من قبل إدارته. وهو ما تعبّر عنه أعمال بسيطة لكنّها ذات بال وأيّ بال. من مثل الردود على طلباته مع التعليل المناسب، التي تشرح اعتبارات الواقع والقانون التي تشكل أساسا للقرار. ومن مثل تقديم الاعتذار في حالة خطأ إداري.، ومن مثل معالجة الملفّات باعتماد النزاهة والحياد والموضوعيّة. بالتأكيد، هذا هو، السلوك الإداري الجيّد الذي ننشده ولا يزال -للأسف- بعيد المنال. وقد يستوجب التعاطي الإداري بمقتضاه عشرات السنين الضوئية، بل ربّما أكثر.
_____________________________________ *هذا النصّ هو ترجمة بتصرف لمقال باللغة الفرنسية للكاتب بعنوان Non à l arbitraire Administratif نشر بجريدة Le Soir Échosالمغربية، وبموقع Le Matin الجزائري و EspaceManager التونسي
#فتحي_الحبوبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غزّة العزّة والإباء.. إشتدّي أزمة تنفرجي
-
المجلس التأسيسي التونسي إمبراطوريّة للجشع
-
لا للاستفزاز و لا للعنف المجاني واللصوصيّة المنظّمة
-
وقفات نضاليّة خارح الإتّجار ومنطق الغنيمة السياسيّة
-
الأجر الأدنى المضمون بين نوّاب المجلس التأسيسي التونسي والرئ
...
-
جولة في زحمة عنف ما بعد الثورة
-
عن الأسس النظريّة للدولة المدنيّة
-
نقّاد الفكر الديني وثالوث التكفير والإضطهاد والقتل
-
عن سيرورة تشكّل مفهوم الحداثة
-
جدليّات الحداثة والقدامة والثورة وارتداداتها
-
في علاقة المفكر الحر بالسلطة والفقيه
-
المثقف بين السياسة والفكر
-
بين هروب محمود درويش وهروب القادة العرب المهزومين
-
فضل إنتعاش المقاومة على الثورات العربية
-
إستأصالية مقال نصيحة تونسية إلى الإسلاميين الحداثيين
-
في ذكرى محرقة غزة بالرصاص المسكوب
-
عن سرية دفن فولتير والقذافي
-
البداوة الفكرية لمحترفي الإفتاء وفق الأهواء
-
ممارسات سياسية بين فلسفة القوة والنظرية الداروينية للخلق
-
لا لحوارالأديان في ظل إنحباز بابا الفتيكان
المزيد.....
-
استقرار أسعار النفط
-
ناسا تحدد احتمال سقوط كويكب يبلغ قطره 90 مترا على الأرض
-
السفير الروسي في تركيا: 6.5 مليون سائح روسي زاروا تركيا خلال
...
-
الاقتصاد السعودي ينمو بأسرع وتيرة في عامين
-
بعد مفاجأة -ديب سيك-.. هل تفقد إنفيديا هيمنتها على سوق رقائق
...
-
كالكاليست: خسائر فادحة لأصحاب العمل في إسرائيل بسبب جنود الا
...
-
ماذا نعرف عن الطائرة الأميركية المحطمة CRJ-700؟
-
النفط يستقر وسط ترقب لرسوم أميركية مزمعة على كندا والمكسيك
-
كيف يتأثر الاقتصاد الروسي بتمديد العقوبات الأوروبية؟
-
الذهب يستقر بعد قرار المركزي الأميركي تثبيت أسعار الفائدة
المزيد.....
-
دولة المستثمرين ورجال الأعمال في مصر
/ إلهامي الميرغني
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ د. جاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|