|
الثورة السورية ووضع الثورة المطلقة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3936 - 2012 / 12 / 9 - 16:57
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ليست الثورة السورية مهددة بأن تؤول إلى انقلاب سياسي يتغير بمحصلته الطاقم الحاكم، فيما يبقى النظام وقواعد ممارسة السلطة على ما كانت. تبدو الثورة السورية مهددة، بالأحرى، باحتمال مناقض تماما: التحول إلى ثورة مطلقة مثل الثورة البلشفية، لا تستأصل طاقما حاكما، ونخبة العقود الأسدية عموما، بل تؤدي إلى تغييرات جذرية، سياسية وفكرية ومؤسسية، لم يحدث ما يشبهها منذ تشكلت الدولة السورية في صورتها الحالية قبل نحو 70 عاما. متروكة لسيرها الطبيعي، لن يحول شيء دون وضع الثورة المطلقة التي تحطم كليا "النظام القديم" ودولته، وتبدأ من الصفر، وربما تحكم بالإرهاب. والسؤال في هذه الحالة لن يكون ماذا أزالت الثورة، بل بالأحرى ماذا أبقت. إذ يحتمل ألا تبقي شيئا، وأن تجتث نصف القرن الأخير من جذوره. وربما فات الوقت منذ الآن على قطع هذا "السير الطبيعي" بعد 21 شهرا من الثورة، واتساع مكونها العسكري إلى ما قد يتجاوز 100 ألف مقاتل، واحتداد الانفعالات الشعبية في عشرات المواقع في البلد إلى مستويات قصوى تنذر بانتقامات دموية. من غير المحتمل في مثل هذه الظروف حتى أن يجري قبول مخرج سياسي يضمن التخلص من بشار وأركان نظامه. لكن يبدو أن هذا هو الحد الأدنى للبدء في سياسة الثورة والتحكم بوجهها الهدام. وليس وضع الثورة المطلقة مرشحا للتحقق لأسباب تخص اندفاع الثورة والغضوب المهول في نفوس ملايين السوريين فقط، وإنما كذلك لانحطاط الدولة، فكرة وهياكل، وعدم تميزها عن النظام، بحيث يرجح ألا يبقى منها شيء عند سقوطه. وتاليا، لن يكون هناك شيء عام يُستند إليه أو يُبنى عليه. قبل كل شيء، الرئاسة، وقد كانت وازنة الموقع في سورية منذ عام 1943. في العهد الأسدي صار الرئيس، بدلالة شخصه ونسبه، لا بدلالة منصبه العام، هو رأس الدولة. قطع هذا الرأس هو قتل مرغوب وواجب لـ"سورية الأسد"، لكن ما يبقى لا يكاد يختلف كثيرا عما بقي في العراق بعد إلغاء بريمر للدولة العراقية قبل 9 سنوات: لا شيء. في المقام الثاني هناك الأجهزة الأمنية الممسكة بالبلد، ولدى كثيرين جدا في سورية كل الأسباب الوجيهة لتقويض هذه الأجهزة. إنها العدو بكل معنى الكلمة، وتحطيمها واجب وطني وإنساني. إن كان من ميدان يُرحّب به بالصفة المطلقة والتدميرية للثورة فهو استئصال هذه الأجهزة الإجرامية. وأقرب شيء إلى الأجهزة الأمنية هو الأجهزة الإعلامية التي تشارك سابقتها في أن فيها القليل من الدولة والكثير من النظام. ولا ريب أن يوم سقوط النظام سيكون آخر يوم في حياة جرائد "البعث" و"الثورة" و"تشرين"، ليس لأن أحدا سيستهدفها (وهو ما يرجح أن يقع)، ولكن لأنه لا شخصية إعلامية مستقلة لها ولا موارد ذاتية. وسيلزم وقت قبل أن تحاول الإذاعة وأقنية التلفزيون التمتمة بشيء آخر غير أخبار "سيد الوطن" وإنجازاته والمؤامرة الكونية على "سورية الأسد". وتمزق الجيش أثناء الثورة، وظهر القسم الأكبر منه أقرب إلى التشكيلات الأمنية العسكرية، المعنية حصرا بأمن النظام، كالفرقة الرابعة والحرس الجمهوري. قبل الثورة كانت سمعة الجيش في الحضيض لاتساع الفساد فيه ولخبرة الإذلال العبثي التي يخبرها فيه عموم المجندين. وعلى كل حال، سيعمل المكون العسكري للثورة، وهو غير موحد سياسيا أو إيديولوجيا، على الحلول محل مؤسسة الجيش القائمة. نواة الجيش السوري القادم سوف تتكون على الأرجح من مقاتلي اليوم ضد النظام، وليس من "الجيش العربي السوري" الحالي. أما المؤسسة التشريعية للنظام، وهي شبكة المحسوبيات "المنتخبة"، فستسقط فوريا من تلقاء نفسها، كما حصل في مصر وتونس. وتتداخل بخصوص المؤسسة القضائية مشكلات التبعيث والتبعية للنظام مع مشكلات الفساد واللاثقة العامة بهذه المؤسسة. ولا يكاد يبقى من الدولة غير الإدارة والتعليم. وسيواجهان دون ريب مشكلات الانهيار العام للنظام، والانقطاع المحتمل للرواتب، والتطهير المرجح واللازم لكليهما من أعوان النظام، ومصاعب النهوض بوظيفتهما العامة في بيئة جديدة مضطربة. في كل الحالات يتشابك استهداف هذه الأجهزة والمؤسسات من قبل الوجه المدمِّر للثورة، مع تآكلها الذاتي وضعف وانعدام الاستعداد العام للدفاع عنها. الثورة المطلقة نتاج تضافر اندفاع الثورة التدميري مع الخراب الداخلي للدولة. وغير احتمالات اكتساح الدولة كمؤسسة حكم منخورة وتدميرها، هناك مخاطر تطال الدولة ككيان وطني، وتمس وحدتها الترابية. الحرب الأسدية، وما تمخضت عنه من 40 ألف قتيل حتى اليوم ودمار العديد من المدن والأحياء والبلدات، "مكتوبة" في الصفة الطغيانية للنظام، أي في افتراض أن عموم السوريين هم منازعو "سورية الأسد" وأعداؤها الذين ينبغي سحقهم. وبالمثل فإن مخاطر التقسيم والتلاعب بالكيان الوطني "مكتوبة" في صفة النظام الطائفية، أعني اعتماده الطائفية أداة حكم أساسية. يتكثف الوجهان معا في عبارة "سورية الأسد". لكن ما كان لهاتين الصفتين أن تؤديا حتما إلى المشهد الرهيب الجاري، ومنه ربما دمار واسع لدمشق في الأسابيع والشهور القادمة، واحتمال استخدام الأسلحة الكميائية ضد الثائرين، ثم مخاطر الدفع نحو التقسيم، لولا الانحطاط الاستثنائي لمستوى القيادة السياسية المتمثلة في بشار الأسد على نحو خاص، ثم في قادة القوى والأجهزة الأمنية مثل شقيقه ماهر، وعلي مملوك وجميل حسن وحافظ مخلوف ورستم غزالة... كان يمكن لقيادة أقل عُصابية وانحطاطا أن تطرح من المبادرات والخطط ما يجنب البلد، ويجنبها هي، أسوأ المخاطر. لو كان بشار وطغمته بمستوى وطنية حسني مبارك وحاشيته الفاسدة لما تطورت الثورة إلى ثورة مطلقة، ولبقي حال سورية أيسر تدبرا. لكن صاحبنا بالمستوى السياسي والأخلاقي للقذافي. والراجح أن مصيره ومصير أسرته لن يختلف عن مصير "ملك ملوك أفريقيا" وأسرته. والاستعداد الطبيعي للثورة المطلقة في مواجهة المخاطر الكيانية يغلب أن يتمثل في مواجهتها بالقوة. لكن من المحتمل لهذا الوجه من الصراع السوري أن يواجه بضروب من التدخل الخارجي لم يواجه بمثلها الصراع ضد الطغيان. ولا ندري ما سيكون الاسم الذي تطلقه قوى دولية متنوعة على هذا الوجه المحتمل لصراعنا، وهي التي سارعت إلى إطلاق اسم "الحرب الأهلية" على الثورة؟
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار متجدد في شأن الثورة السورية
-
الثورة والإسلاميين بين سورية ومصر
-
ليس في التاريخ ثورات -ع الكاتالوغ-
-
هل نستطيع تصور النظام السياسي السوري بعد الثورة؟
-
ثورة سورية أم ثورة إسلامية في سورية؟
-
معضلة العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين السوريين
-
ياسين الحاج صالح - كاتب سوري - في حوار مفتوح مع القارئات وال
...
-
بعد تفخيخ دمشق... تفجيرها!
-
حوار متجدد في شؤون الثورة السورية وشجونها
-
هل الثورة مكتفية أخلاقيا؟
-
أخيرا، استراتيجية أميركية حيال الصراع السوري... خاطئة
-
الثورة السورية ومسائلنا الكبرى الثلاثة
-
حوار في شؤون الثورة السورية وشجونها
-
سياسة بين سياسيين، وإلا فحرب بين محاربين
-
جماعة -ما تبقى-: السنيون السوريون والسياسة
-
جوانب من -الاقتصاد السياسي- للحرب الأسدية الثانية
-
الموجة الإسلامية الثالثة والثورة: بعض الأصول والدلالات والآث
...
-
الثورة في خطر!
-
مأزق الثورة السورية
-
حوار حول كتاب -بالخلاص، يا شباب!-
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|