احمد عسيلي
الحوار المتمدن-العدد: 3936 - 2012 / 12 / 9 - 10:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من الاقوال الشائعة فيما يخص طبيعة الانسان.....انه اذا اردت ان تعرف الشخص على حقيقته و على ما خفي من اعماقه فراقبه في لحظات الشدائد
طبعا هذا الكلام صحيح الى حد بعيد.....و ذلك ان كل انسان مذ يعي وجوده و ذاته و اختلافاته عن محيطه من اب و ام و اخ...يبدئ محاولة تشكيل وعي خاص به...يبدئ محاولة بلورة قيم جديدة و معارف جديدة.....هذا الوعي و هذه الرحلة الفكرية...قد تدفعه حسب عوامل و حيثيات كثيرة اما ان يرفض تماما قيمه و حضارته و ارثه ليخوض معارك ضارية ضد كل شيء.....قد تصل احيانا لمراحل تخريبية بشكل انتقامي.....و اما ان يستكين صاغرا لقيمه الاصلية....و ان يبدو كجزء من قطيع لا اكثر....و طبعا بين هذين الحدين المتطرفين هناك طيف واسع من الخيارات و البدائل....يسلكها كل انسان بظروف مختلفة...و حسب عوامل متباينة جدا
و تحدد نتيجة هذه المعركة و اسلوب خوضها التاريخ الشخصي لأي منا....من سعادة و انجازات و حب و كره و غير ذلك من المواقف التي نمر بها
لكن يبقى لب الشخصية الانسانية الاولية واحد........و هو معطى ثابت فرضته عليه ظروفه العائلية و اللحظات الاولى لحياته
قد يكون باستطاعة اي منا اختيار مهنته....اخلاقه.....درجة اصراره على العمل....احلامه و اماله.....مدى القدرة على التضحية من اجل هذه الاحلام.......و بالتالي يختار (وجوده)....كما تقول المدرسة الوجودية......كلام صحيح تماما......و هو مسؤول بالنهاية عن كل خياراته و عن كل افعاله......و هذا ما ذهبت اليه المدرسة الاسلامية من ان المسؤولية هي اساس التكليف و بالتالي كل منا مسؤول عن تصرفاته امام الله....و يترتب على هذه المسؤولية حساب في اليوم الاخر حسب المدرسة الاسلامية.....او شكل حياة الفرد و مقدار سعادته حسب المدرسة الوجودية
ربما يكون هذا الكلام حقائق واضحة في لحظات الادراك الكلي.....اي في لحظات الوعي و السيطرة على الذات و المحيط
او على الاقل....درجة مقبولة من هذه السيطرة
لكن......حين يفقد الانسان هذه الدرجة المقبولة في السيطرة على الواقع او المحيط يضطرب كيانه.......يهتز بعمق و ربما يفقد كل الطبقات التي راكمها من وعي و انتصار على تاريخه.....و حسب قوة الانفجار او الاهتزاز.....ربما يؤدي به احيانا الى العري الكامل.......الى فقدان كل الزيمة التي جمل بها نفسه.....و العودة الى (لب ذاته).....و هي الشخصية الاولية بشكلها الاصلي و التي نشأت نتيجة الخوف و القلق ووجود الاب و العائلة و كل المشاعر الانسانية البسيطة
اذا اردنا ان نسقط هذه الحقائق على ادونيس نجد انه من الاكثر الاشخاص رفضا للذات......من اكثر الاشخاص خوضا للمعارك مع كل الجبهات الداخلية –اي دواخله النفسية- و الخارجية........انه انسان ثائر على كل شيء.......رافض لكل شيء......يريد ان يبني نفسه من اللحظة صفر......و بناء على قيم ذاته فقط...... لذلك هجر اسمه و جنسيته و اصبح له اسم اخر و هوية اخرى.
و لكن هناك ثلاثة مواقف صاعقة هزت كيان ادونيس بعنف و اصبح فيها عاجزا عن امساك زمام نفسه......فخسر فيها فجأة اسمه ادونيس.......و خسر بها كل الاقنعة التي لبسها.....فعاد الى علي اسبر.....الانسان الشرقي القادم من الريف الساحلي....الذي تعلم القرآن و الشعر الجاهلي و وريث التقاليد المجتمعية الخاصة بتلك المنطقة
اول صدمة هي رحيل الشيخ احمد حيدر.....رجل الدين العلوي المثقف و صاحب الكاريزما الطاغية في محيطه....الذي ألهم كثيرا ادونيس لدرجة اصبح اب روحي له
في هذه الصدمة عاد و خلع ادونيس كل تنظيراته حول الشعر الحداثي و قصيدة النثر و حول السريالية ....نسي فجأة كل تاريخ مدرسة (شعر).....نسي تنظيرات يوسف الخال و ترجمات بيرس......خلع عن نفسه كل شيء.......لينظم قصيدة موزونة مقفاه.......يختصر بها كل توقه للشعر الساحلي الموروث عن تراث الشعر العربي منذ الجاهلية......نظم قصيدة تقليدية جدا......و هي حسب ما اعلم....القصيدة الادونيسية الوحيدة التقليدية.......لكنه وقت شدة.....و لا ينفع ان يبقى القناع وقت الشدة....لذلك جاءت على شكل ( قصيدة النكوص)حسب تعبير الكاتب صالح عضيمة...
فوقت الشدة ....هو وقت النكوص ولن يعبر عن ذاته بأسلوب اراغون او اسلوب اندريه بريتون ......لن ينفع وقتها الا اللغة الموروثة التي تربى عليها و تعلم عشقها......لذلك لن اكون مبتعدا عن الحقيقة اذا قلت ان القصيدة التي نظمها علي اسبر في رثاء احمد حيدر هي قصيدته الوحيدة التي تعبر عن ذاته بلا اقنعة و بلا بهرجة
اما الموقف الثاني الذي عاد به الى علي فهو حين قيام الثورة الاسلامية في ايران......حينها فقط نسي كل كرهه للأديان و للأحزاب الدينية.....نسي نبذه لكل الشعارات الدينية و نسي كل صراعاته و كل كتاباته......فأيد تلك الثورة بقيادة اية الله العظمى الخميني
و ان كان العديد من المثقفين المابعد حداثيين قد أيدوا ايضا الثورة الاسلامية في ايران.....فأن ادونيس ايدها من منطلق اخر بعيد جدا عن ألية و اسلوب تفكير المابعد حداثيين في الغرب.....و خاصة فرنسا
فالكثير يدافع عن موقف ادونيس باعتباره منسجما مع مواقف المابعدحداثيين......لكنهم نسوا ان تلك المواقف الغربية كانت من مبدأ التدليل على فشل الحداثة الغربية و على ان الحضارة ستأتي لاحقا من اماكن مختلفة و بأسلوب مختلف عن الغرب....اي ان تأييدهم للثورة الايرانية كان كنوع من الشماتة بالحداثة الغربية التي هاجموها......من هنا نفهم موقف ميشيل فوكو مثلا.....لكن علي اسبر بعيد جدا و غريب جدا عن تلك الصراعات الغربية......و له بنيته النفسية و العقلية المختلفة عن فوكو....على سبيل المثال
فتأييده لتلك الثورة كانت نتيجة لحظات صاعقة هزته باعتبارها الثورة الاسلامية الشيعية الاولى التي تستلم زمام الحكم في التاريخ
انها اللحظة التاريخية الفريدة.....التي يتحول بها رجل الدين الشيعي من المعارضة الى الحكم........و ادونيس العاشق للفكر الشيعي المعارض و المندمج مع هذه المعارضة روحيا......لم يستطع ابدا الابقاء على علمانيته و على ليبراليته اللاحقة......بل خرج كل ما فيه من تشيع و حب للتشيع......ايضا هنا سقطت كل اقنعته و اصبح مندمجا مع فكره و روحه مرة اخرى
و ثالث تلك اللحظات التي ايضا عاد بها الى علي اسبر هي لحظات بدء سقوط النظام السوري
فهي لحظة مرعبة بالنسبة لشخص مازال عمقه يسكن في تلك الجبال الساحلية.....و يتبنى نفس الفكر التقليدي لسكان تلك الجبال و هو موقف متناقض تماما مع معظم مثقفي تلك الجبال الذين وقفوا مع الثورة و ايدوها و اصبحوا جزء منها
لان علي اسبر امضى حياته كلها في تزيين خارجه و خلق هالة حول نفسه........و نسي تهذيب ذاته و تعليمها و تثقيفها
علي اسبر امضى كل حياته مدافعا عن اسم اخر و شخصا اخر اسمه ادونيس......لكان هذا الادونيس تركه فورا في اول ازمة حقيقية
اذن يجب ان نميز بين علي اسبر المثقف التقليدي الذي مازال ضحل التفكير و الثقافة و الارادة ايضا.........و هو مازال يسكن في جبال للاذقية....و يتبنى افكار اي انسان بسيط في تلك المناطق و كأنه لم يقرأ كتابا بعد.......و بين ادونيس المثقف الليبرالي الذي امضى جل حياته بين بيروت و باريس.....
يجب ان نميز بين علي اسبر الحامل للجنسية السورية و الذي يضع نفسه ديمغرافيا بين العلويين و الشيعة و القرويين.......و بين ادونيس الحامل للجنسية اللبنانية و الذي يسكن باريس و يكتب قصائد على شاكلة السرياليين
لذلك انا لم استغرب ابدا هجوم ادونيس على الثورة السورية و على محاولات اسقاط النظام في دمشق......لان من يتحدث الان في هذه اللحظات التاريخية الصعبة ليس ادونيس ابن بيروت و باريس.....بل هو علي اسبر ابن قرية نصابين في الريف الساحلي.....
علي اسبر البسيط الذي لم يقرأ سوى عدة كتب و من ثم اهملت ثقافته على حساب شخص اخر اصبح يدعى لاحقا ادونيس
النقطة الاخيرة التي اود طرحها هي ان ادونيس و علي اسبر تصارعا مؤخرا حين تم اعلان فوز ادونيس بجائزة غوته الالمانية......حينها فقد تحدث ادونيس –علي بطريقة مبهمة لا تبين ان كان مع قلب النظام الشمولي ام لا.......لأنه حينها كان ثمة صراع بين ادونيس الطامح ابدا للجوائز الغربية و التي يعلم ان وقوفه مع الانظمة الشمولية قد تؤثر على فوزه هذا و بين علي اسبر الذي يتبنى موقف ابسط افراد قريته من النظام.....كان صراعا حادا بين هذيم الشخصين......فجاء كلامه لا مؤيدا للنظام و لا معارض له........بل جاء بصيغة تسوية بين علي اسبر و بين ادونيس
لذلك فأنا لست متفاجئ من موقفه هذا...........لأنه ليس هو ادونيس ابن بيروت الذي يتحدث.....بل هو علي احمد سعيد اسبر ابن نصابين..................
#احمد_عسيلي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟