|
المنهج التبجيلي واستحالة تأصيل الفكر الديني
محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن-العدد: 3933 - 2012 / 12 / 6 - 21:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عندما سئل د. طه حسين عن رأيه في سلسلة عبقريات عباس العقاد أجاب باقتضاب شديد أنه لم يفهم ما المقصود منها وسكت . وكما هو معروف فقد كتب العقاد مجموعة كبيرة من العبقريات مثل عبقرية محمد وعبقرية عمر وعبقرية الصديق وعبقرية خالد وذو النورين وأبو الشهداء والصديقة بنت الصديق وغيرها ، وقد استهل العقاد هذه العبقريات بالقول بأنها ليست دراسات تاريخية وإنما هي عبارة عن رؤيته الشخصية لجوانب العظمة والعبقرية التي اتصفت بها هذه الشخصيات الكبيرة .
وبناءاً على ما ذكره العقاد فإنه يمكننا الاجتهاد لفهم الرأي المقتضب الذي عبر به طه حسين عن رأيه في العبقريات. فما سكت طه حسين عن قوله هو ان العقاد اتبع في كتابة العبقريات المنهج التبجيلي المعتاد في الفكر الاسلامي التقليدي والذي يتمثل في رؤية جانب احادي من الشخصية التاريخية موضوع البحث وإهمال باقي الجوانب الأخرى. ووفق هذا المنهج فإن الشخصيات التاريخية تصنف عادة الى نوعين إما شخصيات مثالية وملائكية ومعصومة من كل عيب أو نقيصة أو انها شيطانية ومجردة من كل المشاعر والأحاسيس الإنسانية .
وفي مجموعة العبقريات حسبما يفهم من تصريح د. طه حسين فإن العقاد قد اتخذ موقفاً مسبقاً يتمثل في أنه امام شخصيات تتمتع بالفطنة التي تصل الى حد العبقرية. ولأن الكتاب يعرف من عنوانه فانه يمكنك استنتاج ما ورد في كتاب عبقرية خالد مثلا دون ان تقرأه ولذلك كانت دهشة طه حسين او استنكاره ان يقوم كاتب بمكانة ووزن العقاد بالانخراط في مثل هذه السلسلة دون ان يأتي بجديد فهناك مئات الكتب التبجيلية التي سبق اصحابها العقاد في الكتابة عن نفس المواضيع وانتهوا الى ما انتهى اليه من نتائج قبل ان يبدءوا في الكتابة .
بالتأكيد فإن هناك جوانب عبقرية في سيرة هذه الشخصيات التاريخية ولكنهم في النهاية بشر لهم دوافع ورغبات خفية ومطامع ومصالح وصراعات اضطرتهم احياناً الى التنازل عن بعض المبادئ والمثاليات فهكذا خلقنا الله .
لو قرأت مثلاً عزيزي القارئ كتاب سيد الشهداء الحسين بن علي فإن حالة من الدهشة سوف تنتابك للقدرة الهائلة للحسين كما صوره العقاد على تحمل الطعنات والسهام والرماح في معركته الاخيرة وكم الدماء التي نزفها وهو يقاتل وحيداً ضد فريق كبير من الفرسان.
ولو افترض انك قرأت نفس هذا الكلام ولكن عن انسان عادي فإنك سترفضه على الفور لأنه لا يتماشى مع المنطق أو مع طبيعة اجسادنا البشرية ، فعندما يصاب اي انسان بطعنة هائلة في صدره فإنه يصاب عادة بصدمة عصبية شديدة ويفقد الوعي على الفور ولكن وفقاً لما نسميه بالمنهج التخريفي (نسبة للأساطير والخرافات ) فإن بمقدور الانسان ان يتحمل اي شيء وان يفعل اي شيء .
ان هذا المنهج التبجيلي يقف كسد منيع ضد اي محاولة لإتباع النهج الموضوعي أو اي نهج علمي في تناول تراثنا وإلقاء الضوء على المناطق المظلمة فيه لتنقيته من الخرافات والمبالغات والأوهام كبداية للخلاص مما نحن فيه من ضياع وصراع وتخلف وتراجع مستمر ومواجهات مع الآخر لغياب العقلانية عن واقعنا وتشبثنا بالماضي وإحساسنا اننا مستهدفين من العالم كله.
ان من يحاول دائماً الاقتراب من أي جانب من جوانب موروثنا الديني بمنهجية نقدية أو تحليلية مختلفة عن المنهج التبجيلي المعتاد يتعرض لهجوم كاسح يصل الى حد التصفية الجسدية وكأن المنظومة الدينية لدينا من الهشاشة بمكان بحيث انها عرضة للانهيار لمجرد صدور كتاب أو مقال نقدي يحمل أراء تختلف عما هو معتاد طوال القرون الماضية .
ان فعل أو وظيفة المعرفة تتكون من جزأين، المكون العلمي أو الحقيقة والمكون الاعتقادي أو الخيال. المكون العلمي او الحقيقة له براهينه وسبق اخضاعه للبحث والتنظير العلمي ، اما المكون الاعتقادي أو الخيال فإنه لا يعني الحقيقة دائماً ولا يزيد عن كونه مجرد قناعات شخصية لم يثبت صحتها من الناحية العلمية والتجريبية بعد.
العلماء والدارسون ومن انعم الله عليهم بعقول منفتحة يهيمن المكون الحقيقي لديهم على المكون الاعتقادي وتجدهم عادة في حالة بحث دائم عن الحقيقة ويسألون عن الدليل والبرهان ويعملون المنطق ولا يقبلون اي فكرة أو قول إلا إذا أتسم بالعقلانية وهذا يذكرني بقول الفيلسوف الألماني العظيم نيتشه "أن من تعلم كثيراً شك كثيراً" وليس في هذا عيب لأن الله نفسه امتدح ذوي الألباب.
اما البسطاء وأصحاب العقول المغلقة فإن المكون الاعتقادي لديهم يطغى على الحقيقة بشكل مخيف الى حد إعاقة طريق الوصول إليها وحتى إذا ما تم الوصول اليها فإن هذا العقل البائس يسعى الى تشويها ورفضها لأن عالم الوهم والخيال والسكون يمنحه احساساً كاذبا بالاستقرار والأمن عكس عالم الواقع المفعم بالجديد والحركة والتغير. ومن صفات هذا العقل غير الناضج ميله الى تصديق اي خرافة طالما انها منسوبة لأي مرجعية دينية ويفضل في هذا ان تكون مرجعيه ذات لحية كثيفة وشارب محفوف. وأنا لا اقول هذا من باب التندر ولكنها الحقيقة فعلاً فقد كنت مرة في حوار ديني مع بعض المسلمين من اصل باكستاني في لندن وفوجئت بأحدهم يقول لي ما معناه انه لا يحق لي ابداء اي رأي ديني طالما انني غير ملتحي !! والمعنى أن الذقن والشنب أهم من العقل لدى البعض!
والفكر السلفي الذي يقود مصر الان إلى الخراب يتبع هذا المنهج التبجيلي في السيطرة على العقول الساذجة من خلال توثيق علاقاتها بالماضي المقدس الذي يضمن الجنة ونعيمها وإخافتها من الحاضر والمستقبل الذي يعني التغيير وعدم الاستقرار وأدوات السلفيين في هذا مقولات من عينة كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار والتي توظف من أجل تأبيد الماضي وتعطيل مسيرة كل جديد.
ولو قارنا هذا المنهج التبجيلي والعقل الخرافي الذي يتبعه بالمنهج العلمي التجريبي المتبع في علم الفيزياء على سبيل المثال نجد أن الأخير يقوم على محاولة البحث عن اخطاء أي نظرية من أجل افشالها آملاً في ان تحل محلها نظرية جديدة اكثر دقة وهكذا تتقدم كل العلوم الطبيعية والسلوكية بينما لم تراوح العلوم الدينية مكانها منذ قرون لسبب بسيط يتجسد في التناقضات المريرة التي يحملها الفكر الديني على كاهله ويسهر على حمايتها العقل التبجيلي. ومن المتناقضات العجيبة التي نشاهدها كثيرا اننا كمسلمين نخرج في مظاهرات عنيفة ونحرق وندمر كي نثبت للعالم اننا مسالمين !! ومن مسالب العقل الديني المغلق والتي تثير القلق حقاَ قلة مساحة التسامح لديه واستعداده الفوري للجوء الى العنف اللفظي او البدني مع الآخر اذا ما أبدى رأياً مخالفاً .
والخلاصة أن أمامنا رحلة طويلة من أجل الوصول إلى بر العقلانية والتحضر والتسامح. ولعلي اختم بمثل انجليزي يقول : "Our minds are like parachutes, they function only when they are open"
وبالعربية "ان عقولنا مثل الباراشوتات لا يمكنها العمل إلا وهي مفتوحة "
اللهم افتح عقولنا وأنر ابصارنا . محمود يوسف بكير مستشار اقتصادي مصري
#محمود_يوسف_بكير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مستقبل الرأسمالية - قراءة نقدية لكتاب جديد-
-
الإله والإنسان
-
من المسيء للإسلام؟
-
الإسلام والربيع العربي
-
كيف تحكم مصر الآن
-
عندما تتحول الثورة إلى مهزلة - الجزء الثاني
-
عندما تتحول الثورة إلى مهزلة- الجزء الأول
-
عادل إمام مبدع الزمن الرديء
-
تأملات فلسفية في أحوالنا العربية
-
إلى مؤيدي الأسد: انتبهوا إنه يقودكم إلى خراب مؤكد
-
فضيحة في ساحة القضاء المصري
-
أصل الحكاية عسكر وحرامية
-
الإخوان ومستقبل الثورة في مصر
-
أرخص إنسان على وجه الأرض
-
الثورة المصرية والرقص على السلم
-
مصر ما بين فقدان الذاكرة وعدم الوعي
-
العسكري يقود مصر إلى الخراب
-
أردوغان يفجع الأحزاب الإسلامية في العالم العربي
-
من مفارقات الرؤساء العرب
-
ثورات الشعوب تكشف عورة النظام العربي
المزيد.....
-
عمال أجانب من مختلف دول العالم شاركوا في إعادة بناء كاتدرائي
...
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|