|
تسييس العلاقة السورية اللبنانية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1137 - 2005 / 3 / 14 - 10:01
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
في واقعها العلاقة السورية اللبناني علاقة هيمنة، يتحكم الطرفين السوري فيها بقرارات الطرف اللبناني السيادية ويسيطر على تفاعلاته الداخلية. أما في صورتها الإيديولوجية فعلاقة سوريا ولبنان أخوية تقوم على المحبة والمجانية، بل الفداء. لا تمر العلاقة بين البلدين الذين يجمعهما الكثير فعلا بالسياسة، اي بتوافق تفاوضي بين طرفين مستقلين على مصالح مشتركة، مؤسسة على تبادل المنافع. فالسياسة تفترض طرفان مختلفان عن بعضهما أو مستقلان حتما، ومختلفان مع بعضهما أو متنازعان من حيث المبدأ. والمسلمة الضمنية في كل سياسة هي أن النزاع، بين الدول كما داخل كل منها، هو الأصل، لكن التسوية والحل الوسط ممكنان دائما. ويترتب على ذلك أن كل اتفاق هو حل لخلاف وتسوية لنزاع، وأن البديل الوحيد لذلك هو "حل" أحد المتنازعين أو تسويته بالعدم، إن حبا أو حربا. بعبارة اخرى، ما من توافق تلقائي أو طبيعي بين مصالح الفاعلين السياسيين، و التفاهمات والتوافقات والتحالفات لا توجد حرة ونقية في الطبيعة، وكل توافق هو سياسي ومصنوع. فإذا انكرنا أن الأصل في العلاقات بين أطراف العملية السياسية هو الخلاف والتنازع كان لا بد ان يفضي بنا ذلك إلى إنكار قيام الطرفين اصلا، والقضاء، من ثم، على السياسة قضاء مبرما. إن مقام السياسة مستقل ومتميز عن كل من الحرب المطلقة والأخوة المطلقة. ونعني بالحرب المطلقة تلك التي لا ينتصر فيها طرف إلا بسحق الآخر وإبادته غير مكتف بفرض إرادته عليه بصورة تعاهدية، أي باتفاق بين الطرفين(هذه السطور مستلهمة من عبدالله العروي معلقا على نظرية كلاوسفيتز ومذهبه في الحرب في كتابه "ثقافتنا في ضوء التاريخ"). ونعني بالأخوة المطلقة تلك التي يحل الحب والبذل والفداء فيها محل الحساب وتوقع المقابل. وهي مثال للعلاقات بين الإخوة يندر وجوده صافيا في الواقع. لكننا نجده خاما، اي مختلطا ببعض "الشوائب السياسية" كالتنافر والجفاء والخصومة. فللسياسة نقيضان هما الحرب والحب، أو هي الوسط الأرسطي بينهما في صورتيهما المثاليتين. قد نخسر بالسياسة حبا لكننا كذلك نجتنب بها حربا. سقنا ما سبق من كلام للتعليق على عبارة "الانسحاب المشرف" لسوريا من لبنان، العبارة التي ما كان لها ان تجد هذا الرواج لو كان للسياسة مقام في العلاقة بين البلدين. ليس هناك انسحاب سوري مشرف إن لم يكن سياسيا وتفاوضيا. لذلك من المناسب أن تسحب عبارة "انسحاب مشرف" من التداول، وأن يجري الكلام على انسحاب سياسي، أي تعاهدي ومتفق عليه بين طرفين ندين، دولتين. ففضلا عن أن تسييس الانسحاب يحرر العلاقة بين البلدين من ثنائية مشرف أو مهين، فإن سياسة التفاوض هي منهج معالجة المشكلات التي تعرض ستعرض لمستقبل هذه العلاقة، في مجالات تنظيم وحركة الرساميل والسلع والبشر والأفكار بينهما. وإذا سبق للعلاقة السورية اللبنانية أن عرفت اتفاقات ومعاهدات لم تنل نصيبا من التنفيذ، فهذا لا يعني فشل السياسة. بالعكس، لم تنفذ تلك الاتفاقات والمعاهدات لأن مقر العلاقة بين البلدين يقع بعيدا عن مقام السياسة، ولأن جوهرها بريء من التسوية والتفاوض. ولعل في انحياز عنجر بعيدا عن العاصمتين ما يرمز إلى تلك "البراءة". بعبارة اخرى، كان الاتفاقيات السياسية بين البلدين شكلية ومفرغة من المضمون لأنها مندرجة في علاقة غير سياسية. فمن يوقعون الوثائق لا وزن لهم في ميزان من يصنعون الوقائع. يقتضي الانسحاب السياسي أن تعترف سوريا الاعتراف باستقلال الطرف اللبناني وتقبل ما يختاره لنفسه إن في الشؤون السياسية الداخلية أو السيادية. لكنه يقتضي حرصا لبنانيا مقابلا، ايا يكن تطور الوضع اللبناني بعد استقالة حكومة الرئيس كرامي، على تجنب إذلال سوريا أو أن يشغل لبنان من سوريا ما يناظر موقع الكويت من العراق في الشهور التي سبقت احتلال الأميركيين له. من شأن احتمال كهذا أن يكون الشيء الوحيد الأسوأ من علاقة الهيمنة الحالية. على أن من حسن السياسة أن تعلن دمشق احترامها لخيارات اللبنانيين وامتناعها عن التدخل في انتخاباتهم المقبلة، وأن تتخذ قرارا سياسيا بسحب عسكرييها وأمنييها من لبنان خلال أمد محدد يقدر بالشهور. وكإشارة على الصدقية يمكنها أن تبادر فورا إلى سحب بعض القوات وإخلاء بعض المواقع، وبالخصوص في بيروت وحولها. قد يبدو أن الدينامية السياسية، اللبنانية والدولية، التي تلت اغتيال الرئيس الحريري، تملي أن الانسحاب السوري الأفضل هو الأعجل أو الفوري. وقد يعتقد البعض ان اغتنام الفرصة السانحة لتكثيف الضغط على دمشق من أجل انسحاب عاجل هو عين الصح السياسي. لكن الموازنة الصحيحة لم تعد بين انسحاب سوري او لا انسحاب، بل بين انسحاب سياسي منظم يمثل مدخلا إلى تنظيم العلاقة بين البلدين، وبين إخراج قسري للقوات السورية من لبنان على قرقعة طبول الهجمات الكلامية وتحت سقف تغطية دولية. ويفترض بذلك ان يخفف من غلواء المتعجلين لاغتنام اللحظة الراهنة لمصلحة علاقة سورية لبنانية مستدامة ومستقرة في المستقبل. هذا يرتب على سوريا أن تعلن أن ما تتفاوض عليها ليس الانسحاب بحد ذاته بل تنظيم العلاقة الأمنية والاقتصادية والبشرية التالية للانسحاب مع الطرف اللبناني. لا ريب أن التسييس غير العكوس للعلاقة السورية اللبنانية يستوجب إقامة نظامي الحكم فيهما على السياسة، أي التوافق والتعاقد بين أطراف اجتماعية متعارضة المصالح والرؤى والخطط مبدئيا، لكن الاتفاق بينها ممكن ومرغوب. ففي واقعه، وخلافا لصورة إيديولوجية برزت في الآونة الأخيرة، لبنان مكون من مجموعات قد تتنازع، وقد يجنح تنازعها نحو التناحر إن لعب به من الخارج وإن لم يُعترَف به ويُحسَن علاجه من الداخل. لبنان المتوائم والمتفاهم صورة مرغوبة وممكنة، لكنها أكثر وردية من أن تكون صحيحة. سوريا كذلك. ليس ثمة "وحدة وطنية" إن لم تكن سياسية، اي إن لم تكن اتفاقا وحلا تعاقديا لاختلاف ونزاع. الواقع الهيمني والواحدي يتعارض، هنا ايضا، تعارضا تاما مع الصورة الإيديولوجية عن عاطفة صوفية تتملك الناس حيال بعضهم وحيال نظامهم، صورة زائفة وغير سياسية ومضادة للسياسة و...مسيلة للدماء. قد يبدو أن وقت السياسة، في كل من البلدين وبينهما، فات او أهدر. وأن من يقرر مستقبل العلاقة السورية اللبنانية ومن يقرر مستقبل الدولتين لا يقيم في بيروت ولا في دمشق، ولا في عنجر. وأن السياسة في واقعها لا تفترض استقلالا لطرفين وتنافرا لمصالحهما غير مستعص على التسوية إلا إن كانا متكافئي القوة. وأن الضرر قد وقع، والسياسة المطردة طوال عقود لن تلبي دعوة عاجلة. نعم. غير أن السياسة، مثل التعلم، لا يكون الوقت متأخرا أبدا للبدء بها والتوظيف فيها. وهي قد لا ترفع ضررا متماديا، لكنها يمكن أن تقي من الأسوأ.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما بعد الحقبة السورية: تحديات الوطنية اللبنانية الجديدة
-
أمام الأزمة وجهاً لوجه
-
من يقتل رفيق الحريري؟
-
الإعلام الفضيحة: ماذا فعلت جريدة -تشرين- بالحوار مع الأسير ا
...
-
السجناء السوريون في إسرائيل أو موقع الجولان في الوعي السوري
...
-
دولة مؤسسات أم دولة أجهزة؟
-
في ذكرى انتفاضة الجولان: الشجاعة وحدها لا تكفي!
-
موجتان لنزع العقيدية في الثقافة السياسية السورية
-
نظام اللاسياسة: العنف الطليق والعقيدة المطلقة
-
ضد الحرية وليس ضد -الحرة-
-
عشر أطروحات حول السلطة والندرة
-
موقع الثقافة في مشروع الإسلاميين السوريين
-
من يهين سوريا؟
-
اصول تناقضات السياسة الخارجية السورية
-
تعاقد سوري لتقاسم تبعات سلام مفروض
-
لبنان المستقبل لا يبنيه لبنانيو الماضي!
-
السوريون والسياسة الأميركية: هل من جديد؟
-
محددات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
-
نقد ثقافة الضحية
-
بين النقد والاتهام
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|