|
الوطن اكبر من الاقتصاد .. والمواطن ليس مجرد مستهلك
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1137 - 2005 / 3 / 14 - 09:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
وصف البعض الإنجازات الاقتصادية التى تحققت فى الهند فى السنوات الأخيرة بأنها "معجزة" . ورغم أننى لست من أنصار استخدام مثل هذه التعبيرات البلاغية ، نظرا لما تنطوى عليه من مبالغة من ناحية ومن عجز عن تقديم تفسير علمى من ناحية أخرى ، فان واقع الحال يقول أن الهند قفزت قفزة هائلة إذا وضعنا فى الاعتبار أنها تمتلك رابع اكبر اقتصاد على مستوى العالم من حيث القوة الشرائية . كما شهد الاقتصاد الهندى معدلات نمو سنوية هائلة ، فضلاً عن أن الهند لم تتمكن فقط من تحقيق اكتفاء ذاتى من الحبوب الغذائية، بل أنها صارت تصدر الفائض منه للخارج ، وتجاوز احتياطى النقد الاجنبي فى الهند 131 مليار دولار . كما أن هذه البلاد التى كانت مرتعا للمجاعات ومضرب الأمثال فى الفقر والتخلف اصبح لديها ثانى اكبر قوة بشرية علمية مدربة معظمها من العقول التى هاجرت للغرب ثم عادت إلى الوطن للمشاركة فى بناء مجتمع المعرفة . وكان من نتائج ذلك إنجازات هندية باهرة فى مجال التكنولوجيا المتقدمة وتكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية والصناعات الدوائية وأبحاث الفضاء والعلوم النووية . ويزداد الاحترام للتجربة الهندية من زاوية اهتمامها بالبعد الاجتماعي فى التنمية . وهو اهتمام متأصل فى القطاعات الحية من الرأى العام الهندى بدليل أن الناخبين الهنود عاقبوا الائتلاف اليمينى الذى حقق طفرة اقتصادية هائلة ومع ذلك ألحق به الناخبون هزيمة ثقيلة أطاحت به وأسقطته من سدة الحكم فى العام الماضى لأنه أخل بالبعد الاجتماعى وانتهج سياسات اقتصادية جعلت ثمار هذه الطفرة الاقتصادية تذهب للأغنياء فقط . وعندما حدث تداول السلطة بصورة ديمقراطية وسلسة وعاد حزب المؤتمر وحلفاؤه إلى الإمساك بدفة الحكم مؤخراً ، عادت الروح معهم إلى تطعيم التنمية الاقتصادية الهندية "الشرسة" بروح " إنسانية " تراعى إعادة توزيع ثمار التنمية على الجميع . وطرحت سونيا غاندى رئيسة حزب المؤتمر " خطة النقاط السبع" لإعطاء التنمية الاقتصادية الهندية " وجها إنسانيا ". وهذه الخطة شبيهة بـ " برنامج النقاط العشرين " الذى تبنته من قبله " حماتها " انديرا غاندى لتكريس نفس الهدف أثناء توليها للحكم قبل اغتيالها المأساوى . وخطة " سونيا " قد حددت مجالات الزراعة والمياه والتعليم والرعاية الصحية والعمالة وتحديث الريف والبنية الأساسية كمجالات أولى بالرعاية . وحددت هذه القطاعات لتكون بمثابة " الدعائم السبع لجسر التنمية ". وليست هذه مجرد شعارات عامة بل أنها مصحوبة بتوجيهات محددة لـ " هندسة " الموازنة الاتحادية العامة لكى تعطى الأولوية فى الأنفاق لهذه " الدعائم السبع " بتخصيص اكثر من 300 مليار روبية لها . ويرتبط بهذه الخطة تلك الدعوة التى تبنتها السيدة سونيا غاندى أيضا بصفتها رئيسة المجلس الاستشاري الوطنى ، وطالبت الحكومة بموجبها بتدشين حملة صحية طموحة تمتد إلى الريف الذى يضم 800 مليون نسمة ، وهدف هذه الحملة منح "كل" مواطن بطاقة صحية للمرة الأولى فى تاريخ الهند لتوفير الرعاية الصحية الأساسية للجميع . وستشمل هذه المبادرة الهائلة المستشفيات الخاصة التى سيتعين عليها تغطية العلاج الاساسى لجموع الفلاحين بأجور رمزية على ان تتحمل حكومات الولايات 50% من التكاليف الحقيقية وتتكفل الحكومة المركزية بتغطية الباقى . هذا التوجه الذى تتبناه السيدة سونيا غاندى هو جزء من مفهوم عام وواسع الانتشار فى صفوف النخبة الهندية ، وهو مفهوم جوهره أن الأوطان ليست اقتصادات فحسب ، والشركات ليست آلات لتحقيق الربح فقط ، والمواطنون ليسوا مجرد مستهلكين . وكما يقول " ارون ميرا " الكاتب بصحيفة " ذا إيكونوميك تايمز " الهندية فان الأدبيات الاقتصادية العالمية سادتها موجة من الاتجاهات " الأصولية " منذ هيمنة الأفكار الريجانية (نسبة إلى الرئيس الأمريكي الراحل دونالد ريجان) ، يمثل مدرسة لـ "الأصولية الرأسمالية" التى ترافقت مع المنهج الذى أرست دعائمه مدرسة "إجماع واشنطن" Washington Consensus . و"المدرسة الأصولية" و "إجماع واشنطن" يعليان من شأن الأسواق ويحولانها إلى "أبقار مقدسة" ويضربان عرض الحائط بالبشر واحتياجاتهم وطموحاتهم . ولحسن الحظ أن هذه " المدرسة " وذاك " الإجماع" ليس هما الوحيدان على الساحة . فهناك بلاد تصف نفسها بأنها " رأسمالية " ، وهى كذلك بالفعل ، تحرص على أن توفر لمواطنيها خدمات اجتماعية من خلال القطاع العام وتضع حدوداً للخصخصة . ويقترح " ارون ميرا " على " الاقتصاديين الأصوليين " أن يقرأوا كتاب "بيل إيموت" Bill Emmotte رئيس تحرير مجلة " الايكونوميست" بعنوان " دروس القرن العشرين للقرن الحادى والعشرين ". ففى هذا الكتاب يقول " بيل إيمون " انه يتعين على الرأسمالية ان تتطور ، وإذا لم تفعل ذلك فأنها ستبقى تحت التهديد ، وذلك ببساط لان المدرسة التقليدية الأصولية غير محبوبة وغير مستقرة وغير عادلة وغير نظيفة ". ويضيف الكاتب الهندى " ارون ميرا " ان الاقتصاديين يحتاجون إلى نموذج لعالم اكثر إنسانية. وهذا لن يولد من نقاشهم مع أنفسهم ، وانما يتعين عليهم أن يديروا حوارات مع خبراء فى مجالات أخرى الذين لايرون – مثلهم ومثل الرجال المكفوفين الذين يواجهون الفيل – إلا جانب ضيقاً من الواقع ومن منظور مجالهم فقط . ويختتم ارون ميرا كلامه المهم بقوله أن الهند قد بدأت هذا المنهج البناء وانه مطلوباً منها أن تمضى فيه قدما بفتح حوار شامل بين المتخصصين من كافة المجالات وليس بين الاقتصاديين فقط . واقترح أن تستضيف الهند مؤتمرا عالميا يضم المنتدى الاقتصادي العالمى (منتدى دافوس) والمنتديات العالمية " الاجتماعية " وفى مقدمتها منتدى بورتو الليجرى لكى يستمع الجميع إلى بعضهم البعض من اجل إعطاء " وجه انساني " لاقتصاد السوق . وهذا هو أحد الدروس الأساسية التى يجب أن نتأملها عندما نتناول التجربة الهندية ، وإلا ننسى ابدأ هذا القول الهندى الحكيم : الأوطان ليست مجرد اقتصادات ، والشركات ليست مجرد ماكينات لتوليد الربح ، والمواطنين ليسوا مجرد مستهلكين .
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحوال أكبر ديمقراطية في العالم
-
باب الشمس ) اهم من المكاتب الاعلامية .. ومقررات التاريخ المي
...
-
»ملاسنة« بين أصحاب المعالي
-
-يد- أبو الغيط.. و-جيب- السادات
-
! شعار البنوك المصرية : حسنة وأنا سيدك
-
لمن تدق الأجراس فى بلاد الرافدين؟
-
اغرب انتخابات فى التاريخ
-
!عـــدلى .. ولينين
-
برلمان العرب .. كوميديا سوداء
-
ديمقراطية .. خلف القضبان !
-
رجل الأعمال يحاور.. ورئيس التحرير يحمل مقص الرقيب
-
لا يموت الذئب .. ولا تفنى الغنم !
-
حرب عالمية ضد إرهاب الطبيعة
-
إعادة انتخاب بوش أخطر من انفلاق المحيط الهندى
-
!الأعمى الإنجليزى .. والمبصرون العرب
-
الإعلام.. قاطرة الاستثمار
-
! الحكم فى نزاع -جالاوى- و -ديلى تلجراف- .. يديننا
-
مفارقة -مادونا- الأمريكية .. و-وفاء- المصرية
-
بوش وشارون .. أسوا أعداء الاستثمار فى العالم العربى
-
!درس للعرب فى الديموقراطية .. باللغة الألمانية
المزيد.....
-
مزارع يجد نفسه بمواجهة نمر سيبيري عدائي.. شاهد مصيره وما فعل
...
-
متأثرا وحابسا دموعه.. السيسي يرد على نصيحة -هون على نفسك- بح
...
-
الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لخسائر قوات كييف على أطراف م
...
-
السيسي يطلب نصيحة من متحدث الجيش المصري
-
مذكرات الجنائية الدولية: -حضيض أخلاقي لإسرائيل- – هآرتس
-
فرض طوق أمني حول السفارة الأمريكية في لندن والشرطة تنفذ تفجي
...
-
الكرملين: رسالة بوتين للغرب الليلة الماضية مفادها أن أي قرار
...
-
لندن وباريس تتعهدان بمواصلة دعم أوكرانيا رغم ضربة -أوريشنيك-
...
-
-الذعر- يخيم على الصفحات الأولى للصحف الغربية
-
بيان تضامني: من أجل إطلاق سراح الناشط إسماعيل الغزاوي
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|