|
ليس في التاريخ ثورات -ع الكاتالوغ-
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3929 - 2012 / 12 / 2 - 22:07
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أسئلة محمد دحنون ـ من خلال الجامع أوّلاً، ثمّ الشارع الضيق والأزقة الفرعيّة والساحات الصغيرة؛ ساحات الأحياء الفقيرة والمهمّشة، عبّر الفعل الاحتجاجي السوري ضد السلطة عن نفسه. لم تصل نشاطات الثوّرة التي تتطلب حشوداً شعبيّة إلى شوارع رئيسيّة أو ساحات عامّة كبيرة. هي ثوّرة مهمّشين وفقراء ومسحوقين وأناس "ليس لديهم ما يخسرونه سوى أغلالهم". كيف يرى ياسين الحاج الصالح إلى هذا الأمر؟ كيف لك أن تؤوّل هذا اللقاء التفاعلي بين المكان والفعل الاحتجاجي، لاسيّما فيما يخصّ الديناميات التي يمكن أن تطلقها الثوّرة عقب لحظة سقوط النظام؟ بعد التحفظ على الصيغة التوجيهية للسؤال، والأسئلة الأخرى، أميل إلى أن الثورة السورية ثورة الشرائح التي كانت مقدراتها تتدهور خلال العقد الأخير بفعل تحول سياسة تحرير اقتصادية فوقية، وتراجع وظائف الدولة الاجتماعية، دون التنازل عن شيء من سلطاتها. يمكن أن نعود ببدايات هذه العملية أكثر إلى الوراء، لكنها مدونة في رأيي في نمط ممارسة السلطة الذي يرفع النظام الحاكم فوق المجتمع المحكوم درجات. في المحصلة ظهرت طبقة عليا جديدة ملتحمة بالسلطة العمومية، وتشكل مع بارونات المخابرات ومع حفنة من المقررين السياسيين الأمنيين مجتمع "السوريين البيض" الامتيازي، الذي تعامل مع الثورة فورا بالحرب، مستثمرا تفوقه المطلق في مجال أدوات الحرب بحكم احتكاره المديدة للسلطة العمومية. وما كان للثورة ضد هذا النظام المتمرس في تفكيك وسحق أي حراك اجتماعي مستقل أن تنطلق إلا من الفضاءات المتاحة في متناول يد الأوساط الثائرة. طوال سنوات الحكم الأسدي كان الدين حد الفقر السياسي للسوريين لأنه عبر المساجد بخاصة، لكن أيضا الكنائس وأية تجمعات دينية، يوفر لهم "ملتقى" أو "مجتمعا" لا يسع السلطات فضه (وإن راقبته وحاولت تفريغه من أية دلالة عامة)، وعبر النصوص المقدسة يوفر لهم "رأيا" لا يمكن لأية سلطات أن تمنعه، وإن عملت على تأويله باتجاهات تناسبها. علما أن خط الفقر السياسي يمتد بين التجمع والرأي، وأن الاغتناء السياسي، إن جاز التعبير، ليس أمرا حقوقيا، بل هو مسألة تملك للسياسة وسيطرة على الحياة وجهد للتحكم بشروطها. عموما يتوسل الناس في احتجاجاهم وثوراتهم العتاد الفكري المتاح، وفي غياب أية فضاءات عامة مفتوحة في بلداننا، الجامعات مثلا، مقرات الأحزاب والمقاهي مثلا، فمن أين يمكن للفاعلية الاحتجاجية أن تنطلق؟ أود التذكير بأن المتحفظين على الخروج من المساجد لم يبادروا يوما إلى أي نشاط احتجاجي من الأماكن التي يرضون عنها، ولم يشاركوا في أي نشاط احتجاجي سابق، ولا أذكر لأمثالهم موقفا إيجابيا من الأنشطة الاحتجاجية القليلة ضد النظام حين كانت تنعقد في حدائق أو ساحات أو أمام قصر العدل. وموقفهم المتشكك من الثورة اليوم كان أقرب إلى التشكك حيال حلقات سابقة من النشاط العام، "إعلان دمشق" 2005، و"ربيع دمشق" 2000-2001، رغم أن هاتين الحلقتين بقيتا بقدر كبير أسيرتي دوائر نخبوية ضيقة لمثقفين ومعارضة تقليدية. أما من حيث الديناميات التي أطلقها التفاعل بين المكان والفعل الاحتجاجي فتبدو لي متناقضة. من جهة تسمح لجمهور مهمش اقتصاديا ومضطهد سياسيا ومحتقر ثقافيا أن يسجل حضورا أكبر في المجال العام، غير مسبوق منذ استقلال سورية. ومعه سنرى علاماته ورموزه ولهجاته وأزياءه المتنوعة، وأسماء أحيائه وبلداته. وبما أننا نفتقر إلى أطر سياسية مرنة وإلى قيم عامة متفق عليها فإن هذا الحضور سيكون مصدر زعزعة سياسية لسنوات على الأقل. ومن جانب آخر أخشى أن الشكل الأرجح لاحتواء هذا الجمهور الصاخب هو الدين. أي أن ما كان ساعد قطاعات مهمة من السوريين على تحمل إفقار سياسي جائر قد ينقلب أداة لتجديد شكل آخر من الإفقار السياسي، وبإشراف نخبة جديدة، محافظة اجتماعيا ومتسلطة سياسيا. وبعد أن حاز الدين دورا احتجاجيا ومنازعا للطغيان قبل الثورة، وأثناءها بخاصة، فربما نشهد انتعاشا كبيرا في دوره المحافظ اجتماعيا وسياسيا بعد الثورة. نرى بعض علائم ذلك منذ الآن. وعندها ربما تعود مهود الثورة إلى ما وراء الحجاب السياسي الذي كان أسدله عليها النظام الأسدي، لكن على يد "أسديين" آخرين، ومع حجاب اجتماعي أيضا. تجنب هذا المصير مرهون بالنشاط السياسي لهذا الجمهور وتمثيل نفسه بنفسه. منذ الآن استطاع "حرق" العديد من الأطر التمثيلية. ولا أرى أن المحرقة ستخمد قريبا. ـ تتصدّر المواجهة العسكريّة المشهد العام في سوريا اليوم. وتشكّل الكتائب الشعبيّة المسلّحة "الجيش الحر" اليوم رافعة الثوّرة، إن لم تكن رافعتها الوحيدة. على هذه الخلفيّة، تحدث، أحياناً، إجماعات بين صفوف الناشطين المدنيين والمثقفين ومن لفّ لفّهم، (وربما كلّ إجماع يثير الريبة في صواب ما يتبنى من مواقف) على إدانة العديد من سلوك وممارسات الكتائب الشعبيّة المسلّحة، ويبدو الأمر أحياناً وكأنّه تسّقطاً للأخطاء واصطياداً في الماء العكر. ما هي الدوافع التي تقف وراء هذه المواقف؟ وما هو مؤداها المفترض؟ الأمر بعيد عن الإجماع، سواء كان الإجماع مثيرا للريبة أو للطمأنينة. هناك طرفان يفسدان النقاش في هذا الشأن، وليس طرف واحد: حزب المتسقطين الذي يضمن "ناشطين مدنيين ومثقفين ومن لف لفهم" ممن يشير إليهم السؤال، لكن أيضا من ينسبون عصمة كاملة للمقاومة المسلحة، وسدادا تلقائيا لأفعالها أيا تكن هذه الأفعال. ما يبدو لي أقرب إلى الصواب هو أنه في شروطنا الاضطرارية المعلومة، ومنها الطابع الفوضوي والكثروي للثورة، وافتقارها إلى مركز سياسي أو عسكري، لا موجب لسياسة الأسف والنواح، لأن في الأمور منطقا "موضوعيا" يفرض نفسه على الجميع (مجتمع مفقر وعومل بوحشية طوال عقود ...)، ومهما كانت تجاوزات الثورة فهي هامشية قياسا إلى جرائم النظام. وليس في التاريخ ثورات "عالكاتالوغ"، ترجع إلى الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في كل حركة وسكنة لها، بما فيها الثورة الفرنسية التي أصدرت أول وثيقة عالمية في هذا الشأن. في الوقت نفسه لا أرى ما يحول دون اعتراضنا بكلام صريح على تجاوزات تقوم بها مجموعات ناشطة في الثورة. لا يجوز لعبادة الفاعلية في رأيي أن تمنعنا من ذلك. أن نكون مع الثورة لا يحتم علينا أن نراها معصومة، وأن ننتقد ممارسات تعرض أثناء سير الثورة ليس شيئا يوجب أن نخرج من الثورة أو نقف ضدها. بالعكس، النقد يمثل كرامة الثورة وضميرها، ويخطئ الواحد منا كثيرا إن ترك النقد للمتسقطين. هؤلاء لا يمثلون كرامة الثورة، غير قليل منهم ساقطون أيا يكن معيارك لتعريف السقوط، ويسعدهم سقوط الثورة وهزيمتها كي يكون كل شيء مثلهم. وليس هناك لبس محتمل بين الاعتراض على إعدام جنود نظاميين مستسلمين أو رمي شبيحة من ظهر بناية في "الباب" قبل شهور أو اعتقال صحفي لبناني، وبين سياسة حزب المتسقطين، وإن في شكلها المخفف الذي هو سياسة الأسف. يعرف الآسفون والمتسقطون قبل غيرهم أن موقف أمثالنا غير موقف أمثالهم، ويعرف الثائرون أنفسهم ذلك جيدا. وتقديري أن غير قليل من سياسة التسقط وسياسة الأسف هو اعتراض على الثورة لمصلحة ما هو في أحسن الأحوال سياسة إصلاحية لا تعد السوريين بغير نسخة مصححة من النظام الأسدي، وفي أسوئها انحياز مموه إلى النظام وتحالفه الاجتماعي. ولذلك فإن حزب المتسقطين لا يريد تصحيح الزلات، بل هي يحتاجها كمسوغ لوجوده بالذات. وسيماهم، على كل حال، في ما يقولون ويكتبون. تجدهم دوما متشائمين، ومناضلين من أجل التشاؤم أحيانا، و"الفصل النوعي" لهم أنك لن تجد أبدا لهم قولا سلبيا في حق النظام دون أن يتبعه فورا أقوال سلبية في حق الثورة. أما كلمة السر الجامعة لحزب المتسقطين فهي: "النظام هو المسؤول الرئيسي"، وهذا ما يمكنهم من عدم قول شيء آخر عنه، قبل أن يقولوا أشياء سلبية كثيرة عن الثورة والمقاومة المسلحة وكل ما يرتبط بهما. ومن متابعتي الشخصية أرى أن الاعتراض على تجاوزات يقوم بها ثائرون يعطي نتائج مفيدة على مستويات متعددة. على مستوى مجموعات المقاومة المسلحة التي يبدو أن النقد يدفعها إلى إظهار حرص أكبر على تجنب التجاوزات المسيئة، وعلى مستوى قطاعات من الرأي العام وجمهور الثورة ممن لديهم خشية مبررة بأن ينفلت عنف الثورة من أية ضوابط، فضلا عن أن النقد يصون كرامة الثورة ويظهر أن لها ضميرا من نفسها، محاسبا ويحصل أن يكون قاسيا في حسابه.
ـ ثمّة ما يمكن اعتباره فراغاً أو انعداماً في التنظير للفعل الثوّري العنيف، ألاّ تعتقد أن الإجماع المشار إليه في السؤال السابق يأتي لسد هذا الفراغ؛ ليس لدينا ما نقوله في شأن العنف الثوّري فيصبح حديث الإدانة والرفض هو ما نملك وحسب؟ وفي السياق، ألاّ تعتقد أن المواجهة العسكريّة بموازين القوى القائمة، معطوفة على الإنهاك الحقيقي الذي أصاب ويصيب مجتمع الثوّرة، قد يفرضان ممارسة المزيد من العنف الذي لن ترضى عنه ثقافة "واحد واحد واحد.."؟! الإجماع مانع للتفكير في كل حال، ودافع إلى التكرار، والاعتصام الكسول بما هو آمن من الأفكار والمواقف والرموز. والدفع بالإجماع في السياق السوري العياني هو رفض لأخذ العلم بوقائع الصراع والعنف والتمزق مما هو جار منذ أكثر من 600 يوم في سورية، ورفض بالقدر نفسه للتفكير والمراجعة وإعادة النظر، وهذه أفعال تقترن في كل حال بانكسار الإجماعات القائمة وبأوضاع الصراع والحرب. علما أن الأمر يتعلق بإجماعات موهومة، هي في الواقع أثر لهيمنة الإيديولوجية الوطنية التقليدية (ممانعة + "وحدة وطنية")، المفروضة بالقوة من قبل نظام فاشي. وأظن أن أصحاب مواقف الإدانة والرفض يعرفون جيدا ماذا يفعلون. إنهم يستندون إلى إجماع مفروض غصبا ضد ثورة هي تعريفا ثورة ضد الإجماع وتحطيم له وخروج عليه. يحرجهم مجاهرة الثورة بالعداء، فيجدون في تسقط العيوب وإدانتها مخرجا يرضي ضمائرهم. ولا أرى شيئا مهما في أن ترضى أو لا ترضى ثقافة "واحد واحد..."، كما تسميها، عن عنف الثورة. المهم أن يتوجه هذا العنف ضد "النظام"، المركب السياسي الأمني المالي المسيطر، لأن هذا المركب هو الركيزة الخفية لحزب المتسقطين. المهم أيضا أن يرضى جمهور الثورة عن عنف ثورتهم، وأن يتوجه هذا العنف ضد أعدائهم وأعدائها، وليس ضدهم هم. ما ينبغي الخشية منه والعمل على تجنبه هو العنف العدمي الذي قد تنزلق نحوه مجموعات من المقاومة المسلحة، أعني العنف المطلق والعشوائي والموجه ضد الجميع ودون تمييز، والذي ليس له غاية تتجاوزه وتتميز عنه، سواء تحت يافطة "الجهاد" أو أية يافطة أخرى. هذا احتمال وارد في بيئات تعرضت لوحشية النظام ونزعت إنسانية قطاعات واسعة من السكان فيها. لكن هذا ليس عنفا ثوريا، ويمكنه أن يكون عنفا إجراميا ورجعيا إلى أبعد حد. وهو يتجسد في رأيي في التشكيلات المشبهة بالقاعدة. ويبدو أن فرصتنا ضعيفة في تجنب هذا الاحتمال إذ استمرت الشروط الراهنة من حرب النظام المطلقة والعدمية، ومن افتقار الثورة إلى سند قوي داعم، ومن ركاكة واجهتها السياسية. أقل خطرا، لكنه ربما يكون أوسع انتشارا، أفعال إجرامية أو شبه إجرامية يقوم بها ثائرون في مواقع انتشارهم، تجعل منهم عبئا على بيئات الثورة، والجمهور العام، لا سندا لهما. في غير مكان خرجت مظاهرات احتجاج ضد مجموعات مقاتلة، يبدو أنها تمارس ضروبا من "التشبيح" على السكان. ـ الثوّرة لن تُهزم بالطبع، بمعنى أنّ سوريا لا يمكن أن تعود إلى ما قبل الخامس عشر من آذار. غير أنّها اتخذت، وقد تتخذ أشكالاً تشعر حيالها بعض الشرائح الاجتماعيّة المنحازة لها بالاغتراب. أوّلا، كيف يمكن لك أن تقرأ وتفسّر هذا النوع من المواقف؟ ثانيّا، ما هو تصوّرك عن التحوّلات المحتملة في سياق المواجهة القائمة حالياً؟ وأخيراً، بالنسبة لك، متى تكف الثوّرة عن كونها ثوّرة؟ ليس هناك ثورات في التاريخ لا تثير شعورا بالاغتراب لدى قطاعات من السكان. ليس هناك ثورات تجري بحسب الإجماع. "الإجماع" تال للثورة وليس سابقا لها، وينبغي أن يكون إجماع محددا ومقيدا و"دستوريا"، لا ينفي خصومات ومنازعات وصراعات... في وضعنا اليوم يتماهى بعض السكان بالثورة دونما صعوبة، ويتماهى بعضهم بقدر من الصعوبة، ولا يتماهى بها بعضهم، وهناك من يتماهى بالأوضاع التي قامت الثورة ضدها، أي بالنظام الأسدي. ومن لا يتماهى بالثورة يشعر بقدر من الاغتراب طبعا. ولعل الأشد تماهيا بالثورة اليوم من كانوا أشد اغترابا في "سورية الأسد". والاغتراب والتماهي معا مصنوعان من وقائع تتصل بفرض الحياة والدخل والمكانة الاجتماعية، وبعلاقات قرب وقرابة، وبتوقعات عن تحسنها أو تدهورها... ويمتزج في دوافع هذه العلاقات ما يحيل إلى تفاعل تمايزات عمودية وأفقية معلومة في سورية. وتتعلق التحولات المحتملة على علاقات التماهي/ الاغتراب بسير الثورة وآفاق انتصارها. لا نزال اليوم في لجة البحر، والركاب جميعا قلقون، وكثير منهم صار يدعو الله، ولم يكن يفعل من قبل. وضع الثورة الحالي، وهو ضرب من توازن متحرك ببطء مع النظام، يتيح شيوع المواقف "المتوازنة"، أي التي تعكس ذاك التوازن، وتقف قريبا من الوسط بين النظام والثورة. لكن أتصور انه إذا لاح البر في أفق الثورة، فستجد اتساعا فوريا لقطاع المتماهين بها والقاطعين مع النظام. والعكس، من شأن استمرار "التوازن" وانتشار الممارسة العدمية للعنف من جهة محسوبين على الثورة، أن يضعف من تماهي قطاعات من السكان هم أقرب إلى الثورة، أو يجعل تماهيهم بها مشروطا ومركبا وأقل مباشرة. هذه العملية حصلت جزئيا في الشهور الأخيرة، وأصابت المجموعات الأضعف تماهيا بالثورة. لكن العملية مرشحة للاتساع إذا انتشر نمط العنف هذا. وقد يتخذ الاغتراب السياسي النفسي عندئذ شكل اغتراب مكاني أو غربة، هجرة من البلد لمن استطاع إليها سبيلا. تعرف أن تاريخ الثورات في أحد وجوهه هو تاريخ موجات هجرة كبيرة عموما من البلد المعني. متى تكف الثورة عن كونها ثورة؟ مرت الثورة بأطوار، وسلخت أكثر من جلد. ربما يمكن القول إنها تنتهي وتتجدد لكل يوم. لكن بنظرة عن بعد يبدو أن الثورة تتعرف اليوم بهدفها السلبي، التخلص من النظام، أكثر مما بهدفها الإيجابي، سورية الجديدة الديمقراطية. وهذا بالتوازي مع إشغال المقاومة المسلحة موقع مركز الثقل في أنشطة الثورة. لكن يبدو لي أن هناك غير قليل من الوهم الإيديولوجي في افتراض أن سورية كانت سائرة "سكارسا" نحو أوضاع ديمقراطية لولا انتشار منطق الحرب. وإن يكن صحيحا من جهة أخرى أنه كلما فرص منطق الحرب المطلقة أو "الصراع التناحري" نفسه، كان أقل قبولا لحمولة قيمية تتجاوزه أو تفيض عليه. غير ذلك، يمكن القول إنه إذا سيطر فيها العنف العدمي وفقدت نفسها المحاسِبة تخسر الثورة نفسها. وتنتهي الثورة أيضا حين تتحقق، أي تسقط النظام وتبدأ في مواجهة مشكلات بناء سورية الجديدة.
ـ تبقى المسألة الطائفيّة هي الشغل الشاغل للجميع. اللافت أنّ "النخب" الثقافيّة السوريّة، لم تفعل الكثير لمعالجة هذه المسألة. الأسوأ أنّ بعضها يُعلي من شأن عناوين عامّة من قبيل "السلميّة" و"حماية الدوّلة" وغيرهما ليخفي نزوعاً "أقلويّاً" لا يمكن له في المحصلة سوى أن يكون عاملاً في ترسيخ تطييف المجتمع وتالياً في عرقلة ديناميكية الثوّرة باعتبارها سبيلاً لتشكيل إجماع وطني عام. كيف تنظر إلى هذه المسألة؟ وما هو أصل تلك "الثقافة" التي تجعل من "مثقفين" عائقاً أمام تشكيل إجماع وطني يمكن أن يؤسس لثقافة جديدة وثقافة سياسيّة جديدة؟ بعد التحفظ على الطابع "الموجه" للسؤال أيضا، ليس ما يؤخذ على المثقفين السوريين أنهم لم يفعلوا الكثير "لمعالجة" المسألة الطائفية.كمثقفين ليسوا مطالبين أصلا بالمعالجة العملية لها، إلا في نطاقاتهم الخاصة وسلوكهم الخاص ربما. ما يؤخذ على أكثرية المثقفين في رأيي أنهم لم يفكروا في المسألة، لم يكتبوا عنها أو يفتحوا نقاشا بشأنها، ولو فيما بينهم، بل أكثر من ذلك، إن كثيرين منا يقاومون مجرد التطرق إلى هذا الشأن. وأكثر وأسوأ بعد: اتهام من ينشغل بالمشكلة الطائفية بأنه طائفي. ولي نصيب متميز في هذا الشأن! وهذا مع علم الجميع أن الطائفية من أشد مشكلاتنا الوطنية خطورة، ومع كونها واحدة من ثلاث أدوات أو أربع لحكم البلد طوال العقود الأربعة الماضية، إلى جانب كل من العنف والإيديولوجية الوطنية والسيطرة على الموارد العامة. علما أيضا أن الإيديولوجية الوطنية ليست موجهة فقط لتخوين أية جهات قد تكسر احتكار النظام للعلاقات مع العالم أو تمثيل سورية فيه، بل كذلك لتحريم أي كلام في الشأن الطائفي. الصمت عن الطائفية هو أثر الهيمنة الأساسي الذي تمارسه إيديولوجية النظام الوطنية على المثقفين، هيمنة ليست منعزلة في رأيي عن تواطؤات وأشكال استفادة من التكتم على المسألة. وأثر الهيمنة الأشد سوءا حتى من الصمت هو اتهام من يهتم بالمشكلة بأنه طائفي. هل هذا الجهد لإخراس من قد ينطق غير ذي صلة بجملة الأوضاع التي نطلق عليه اسم الطائفية؟ ولا بأي حال من الأحوال. أظن الاتهام والتسكيت ضرب من النضال السياسي والإيديولوجي ضد من يقاوم الهيمنة ويعمل على كشف آلياتها وخدمها. علما أن اعتراض المعترضين على تناول الطائفية في سورية لا ينصب على طريقة التناول، لأنك لن تجدهم يبادرون إلى تناولها بأية طريقة أخرى. لذلك بدلا من الكلام على مسألة طائفي واضحة ومتميزة، أفضل الكلام على مشكلة طائفية، ليست مضاءة ولا مدروسة بقدر كاف، تتداخل فيها أوضاع اجتماعية تمييزية (يتلاقى فيها السياسي بالديني) مع تورط ذاتي من قبل المثقفين، بوصفهم الجهة الاجتماعية التي يعول عليها في شرح المشكلات الاجتماعية والوطنية ولذلك أيضا تهيمن في أوساطنا واحدة من نظريتين عاميتين في الطائفية، ترجعها إحداهما إلى وجود "طوائف" في البلد، والثانية إلى وجود طائفيين. رأيي أن الطائفية استراتيجية سيطرة سياسية، وان الطوائف هي النتاج النوعي للطائفية كسياسة وأداة حكم، وقد فصلت ذلك في مواد منشورة في بضع السنوات الأخيرة. أما من يدفعون بـ"السلمية" و"حماية الدولة" أو "بناء الدولة"، فيدافعون عن إجماع قائم، أو يريدون الحد من الصراع القائم، وليس إلا طبيعيا أن من يوالي إجماعا قائما ليس مؤهلا لأن يفتح السبيل أمام إجماع جديد، مغاير. الثورة انشقاق، وتحكيم الإجماع في الثورة يعني بكل بساطة رفضها. أما إضاءة أصل المشكلة التي تجعل من المثقفين عائقا أمام ثقافة جديدة فيقتضي نقاشا مطولا في تصوري. تخطيطيا أرى أن لدينا ثلاثة أنظمة للدلالة والتصديق (أنظمة معرفية) في ثقافتنا المعاصرة: يعتمد أولها على الوحي، وثانيها على الغرب، وثالثها على السلطة. الوحي هي المرجع الدائم والنهائي للحقيقة في عرف الإسلاميين؛ والغرب هو المصدق ومصدر الحقيقة عند المثقف الحديث النمطي، ومن تنويعاته الشيوعي الذي لم تكن الماركسية اللينينية علما فقط في نظره، بل هي مصدر العلم وأساس كل تصديق؛ وكلام السلطة القائم على التعسف والاعتباط هو الحق في عرف جمهورها وأهل ولائها، وهو جمهور واسع، ولنظامه المعرفي تاريخ عريق. ومصدر الحقيقة في كل الحالات حقيقي هو ذاته دوما، أو معصوم: القرآن مرة، والسلطان مرة، والحداثة مرة أخيرة. ما يغيب هو حقل التجربة الحية والممارسة الاجتماعية والخبرة الواقعية... هناك مثقفون، وهم من الأجدر بهذه الصفة في ثقافتنا، أفسحوا مجالا للتجربة في تفكيرهم، لكن نحتاج إلى القيام بذلك بصورة نسقية أكبر. ولأن نقوض على مستوى الموقف المعرفي الأساسي ما نعمل على تقويضه بأدوات السياسة وغيرها. المثقف الشائع في بلداننا هو من "يصدق" الغرب، أعني يجعل منه معيارا للمعرفة، ويجعل من هدف الثقافة والسياسة هو التطابق معه. لهذا "المثقف" متبع وليس مبدعا لدينا، ولا يشغل العمل الاجتماعي وعالم الممارسات الاجتماعية في بلداننا غير موقع هامشي في تفكيره وثقافته. وتؤول سياسته نسقيا إلى تشكيل مجتمع منظم يشبه مجتمعات الغرب، ويجد نفسه في بيته في القطاع الاجتماعي النخبوي الأكثر تنظيما وثراء وبرجوازية، أي "الغرب الداخلي" أو الطوابق العليا في مجتمعنا. وهو ما ينطبق في سورية بصورة خاصة مجتمع "السوريين البيض" الذي تقوم الثورة ضده. دعني أوضح أن المعني بالغرب هنا هو انعكاس الظاهرة التاريخية التي أنتجت العلم الحديث والرأسمالية والديمقراطية والعلمانية، في أذهاننا وعالم تصوراتنا. أي "الحداثة". ودعني أقل أيضا إني أحترم الغرب كثيرا جدا، ولدي غير قليل من النفور لمن يسفّهون الغرب، أو يعرضون اكتفاء فكريا أو سياسيا أو أخلاقيا في مواجهته، لكن لا أعتبره منبع الحقيقة المعصوم. منبع الحقيقة هو التجربة بالمعنى الواسع للكلمة، أي كل أشكال تفاعل الإنسان مع العالم أو فاعليته التحويلية للعالم. وتقترن الهامشية المعرفية للتجربة الواقعية والعمل الاجتماعي بالهامشية الاجتماعية والسياسية لمجتمع العمل، ويتعذر تشكل ثقافة جديدة وهيمنة جديدة، وإجماع جديد، مما تشير إليه في السؤال. وتعذر الديمقراطية (حكم الشعب) تحديدا. لا يحوز أي من هذه الأنظمة الثلاثة طاقة هيمنية تتيح له أن يؤسس لإجماع جديد على نحو ما هو محقق في الغرب. لذلك يبقى إغراء العنف قائما وباب العنف مفتوحا. والكلام على هيمنة ممتنعة أو على أزمنة هيمنة يعني الكلام على امتناع تشكل عمومية أو إجماع جديد. وتاليا يؤسس الطائفية. فالطائفية تعبير سياسي عن أزمة الهيمنة وامتناع الإجماع.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل نستطيع تصور النظام السياسي السوري بعد الثورة؟
-
ثورة سورية أم ثورة إسلامية في سورية؟
-
معضلة العلاقة بين العلمانيين والإسلاميين السوريين
-
ياسين الحاج صالح - كاتب سوري - في حوار مفتوح مع القارئات وال
...
-
بعد تفخيخ دمشق... تفجيرها!
-
حوار متجدد في شؤون الثورة السورية وشجونها
-
هل الثورة مكتفية أخلاقيا؟
-
أخيرا، استراتيجية أميركية حيال الصراع السوري... خاطئة
-
الثورة السورية ومسائلنا الكبرى الثلاثة
-
حوار في شؤون الثورة السورية وشجونها
-
سياسة بين سياسيين، وإلا فحرب بين محاربين
-
جماعة -ما تبقى-: السنيون السوريون والسياسة
-
جوانب من -الاقتصاد السياسي- للحرب الأسدية الثانية
-
الموجة الإسلامية الثالثة والثورة: بعض الأصول والدلالات والآث
...
-
الثورة في خطر!
-
مأزق الثورة السورية
-
حوار حول كتاب -بالخلاص، يا شباب!-
-
حوار حول الثورة السورية والموقف الدولي
-
كتاب -العقد الأخير في تاريخ سورية...-: جدلية المنهج المنفتح
...
-
نزع القداسة عن الثورة
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|