|
ذكريات من غرفة مهدي محمد علي
عدنان عاكف
الحوار المتمدن-العدد: 3929 - 2012 / 12 / 2 - 21:34
المحور:
الصحافة والاعلام
أول لقاء لي مع الشاعر مهدي محمد علي كان في 1994 ، بعد عودتنا من الجزائر الى دمشق . كنت أتابع ما كان ينشره منذ مطلع الثمانينات في " الثقافة الجديدة " وغيرها فتطورت بيننا صداقة حميمة إمتدت حتى وفاته التي هزتني من الأعماق. فقد شجعني وجوده في حلب عل الإقامة فيها، هذا فضلا عن توفر شقة كان والدي قد اشتراها قبيل وفاته عام 1981. وكانت قريبة جدا من الشقة التي كان يقيم بها. ساعدني في البحث عنها وفي اعادة تأهيلها. فكان لقاؤنا شبه يومي، في زيارتي الأولى لشقة مهدي استقبلتني أم أطياف عند الباب ورحبت بي بحرارة.. قادتني في الممر، الى باب أول غرفة ، لكن زوجها أطل من الباب المقابلة وأشار الي ان أتوجه اليه. أصرتْ على ان نتوجه الى حيث تريد، لكن يبقى الأزواج هم القوامون، حتى وان كانوا من الشعراء... توقفتْ عند الباب بجانب زوجها، و قالتْ بحياء: – أعتذر لهذه الفوضى؛ مع انها زوجة شاعر لكنها لم تكن موفقة باختيار الكلمة المناسبة لوصف تلك الغرفة. وقفتْ أمامي مرتبكة وهي تكرر اعتذارها حتى احمر وجهي خجلا. عقبتُ متلعثما : انها فوضى الشعر والأدب. لم يكن تعبير " الفوضى الخلاقة " قد دخل سوق التداول في حينها، وإلا لكنت استخدمته، ولكنتُ صادقا، أكثر بمئة مرة من غونداليزا رايس، التي، يقال انها كانت السباقة الى استخدامه. هل كانت كلمة " فوضى " تفي بالغرض لوصف غرفة مهدي ؟ كـُتـُبُ مرصوفة فوق رفوف من قصب معلقة، بحبال قصيرة توشك ان تتقطع فتهوى فوق المنضدة، والتي بدورها غارقة بفوضى الكتب والمجلات والأوراق. الى اليمين من المنضدة تنتصب بقايا مكتبة صغيرة كانت كما يبدو قد مالت منذ وقت ليس بالقصير لعدم قدرتها على حمل ثقل الكتب المكدسة فوقها فأسندتْ بمجموعة كبيرة من الكتب المكدسة فوق سجادة صغيرة. وهناك مئات المجلات من كل نوع وأكداس من الجرائد القديمة التي اصفر لونها. من حسن حظ مهدي اني لست بشاعر، وإلا لكنت قد خلدت فوضى غرفته في معلقة وعلقتها في صدر الغرفة. ولكن من حسن حظنا نحن القراء ان شاعرا موهوبا كان يتردد على غرفة أخرى من الغرف التي أقام فيها في دمشق، قبل انتقاله الى حلب. انه الشاعر السوري رياض صالح الحسين ( 1954 – 1982 ،وهو من أصدقاء مهدي المقربين: ،، غرفة مهدي محمد علي ،،
هي ذي غرفته تنهض من بين الأنقاض مسيجة بدم وعبير ندخلها في الليل كقديسين جميلين ويدخلها الشيوعيون، وعباد الشمس وأخبار المدن المشتعلة هي ذي غرفته أبعد من وطن أقرب من رمش العين الى العين ويا مهدي أرنا كفيك ألم تنم الأعشاب عليك ألم تورق أغصان القلب وماذا يحدث لنبات البصرة وتراب البصرة ... هي ذي غرقته أجمل من قبر وأعلى من شجرة نخل وصاحبها طير في قفص
ما أثار انتباهي عشرات القصاصات من الورق الملصقة على الجدران، التي اصفر لون الكثير منها. كـُتِبَ في كل ورقة بضعة كلمات أو أسطر أو بيت من الشعر. كلمات تحمل حكمة معينة أو فقرة أدبية تم اختيارها بتأن من بطون الكتب القديمة لكـُتاب ومفكرين قدامى ومعاصرين. الورقة التي أمامي كانت تحمل عبارة ،،الشعر ضرورة.. وآه لو كنت أعرف لماذا ،، موقعة باسم جان كوكتو. استغربتُ لهذه التوليفة العجيبة، لأني لم أكن أتوقع ان تصدر مثل هذه المقولة المعادية للشعر – كما بدت لي في حينها - عن انسان معجون بالثقافة والفن، كما قيل لي. فسألته: - أليس هو الشاعر الفرنسي المعروف... وقبل ان أكمل سؤالي أومأ برأسه موافقا. - ولكن كيف ؛ ان كان هذا لا يعرف لماذا الشعر ضرورة، فكيف تريد مني انا العبد الفقير ان أقرأ شعركم وأفهم ما تكتبون ؛ إذن لماذا هذا الهذيان الذي تمطرونا به ليل نهار، ولماذا تكتبون ان كنتم تجهلون ان كان من الضرورة ان تكتبوا أم لا؛ لم يرد على ملاحظتي الاستفزازية واكتفى بابتسامة وغيمة من الدخان. لكن علي ان أعترف اني تعلمت في هذه الغرفة فيما بعد لماذا يكتب بعض الشعراء شعرهم، ولماذا تتوه أحيانا في عالم غير العالم الذي تعيش فيه لحظتك وانت تقرأ لشاعر ما، في حين تتمنى لو انك لم تتعرف عليه بعد ان تقرأ له في يوم آخر. أسأله أحيانا عن قصيدة أو مقطع منها فكان جوابه التقليدي: ان كنتَ من محبي الشعر فانك سوف تفهم من القصيدة ما تريد فهمه، وبعكسه من الأفضل لك وللقصيدة ان تتركها وشأنها. لم أقتنع بمثل هذا الجواب واعتبرته هروب من الموضوع. ذات يوم كنا في الحديقة التي نتردد اليها طرحت عليه سؤال من هذا القبيل فأخذ وردة صغيرة وقال: - خذ الوردة وانتف ورقها ومن ثم اخبرني ان كان ما سيبقى في يدك وردة جميلة أم لا. كذا هي قصيدتي بعد ان أشرحها لك! تعلمت من مهدي كيف ينبغي قراءة الشعر الحديث ليصبح أقرب الى القلب والعقل. ولم يكن ذلك من خلال قصائده البسيطة الرقيقة فحسب، بل ومن خلال شخصيته. فقد كان أيضا مثل شعره لين الطباع ودمث الأخلاق. كان نقيا رقيقا متواضعا الى أبعد الحدود. ومع ذلك فقد كنت شاهد أكثر من مرة على غضبه وانفجاره كالبركان الثائر. وكان لي نصيبي من بعض حالات الغضب تلك. بعد كل ثورة تتجمد علاقتنا وتصل الى حد ... ولكن سرعان ما نعود الى التطبيع. من بين جميع أبيات الشعر " المعلقة " على الجدار استرعى انتباهي بيتان: الأول للشاعر عباس ابن الأحنف: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جزنـا خراسانـا سألته عن سر اعجابه بالبيت فلم يفصح بشكل مباشر. بعد معاشرتي له أدركت السر. كل شيء فيه كان يقول: لقد مَلّتْ خراسان منا، ونحن مللنا من جميع خراسانات الدنيا، فما الذي يراد بنا بعدها ؟ البيت الثاني الذي علق في ذهني ولا يزال ينغص علي عيشتي هو بيت للشاعر العراقي المرحوم أبو سرحان : بيّه سوله شما برد جرحي أشق جرحي على طوله لست من نقاد الشعر، ولكن لا أظن ان الشعراء سوف يحتجون لو منحت لنفسي، بكوني من بين من تحمل شعرهم لمدة نصف قرن مع انهم لا يعرفون ضرورته، أفتـَيتُ بالكلام الذي أعرف جيدا ضرورته: لو ان أبا سرحان لم يكتب في حياته غير هذا البيت لكان قد استحق بامتياز ان يدون اسمه في سجل الشعراء المبدعين الخالدين. لم يكن مجرد شاعر مبدع بل وفيلسوف، اختزل عملية الكشف العلمي – عملية الابداع في مجال الفن والعلم - في بيت من الشعر الشعبي. لو تأملنا مسيرة العلم والتقدم لوجدنا ان ما من خطوة خطاها ابن آدم في رحلته الطويلة نحو المجهول، منذ ان كان يقيم في كهف سبع نجوم وحتى يومنا هذا، سنجد ان السولة تقف خلف كل ما تحقق من منجزات ونجاحات علمية وحضارية. انها حب الفضول والرغبة في استكشاف المجهول وتحدي الصعاب والتغلب على المستحيل. ولو حاول كل منا ان يستعرض بعض الأسماء التي لمعت يوما ما في عالم الشعر أو الفن والغناء سيجد الكثير من النجوم التي انطفأت قبل أوانها. ولو بحث في أسباب حدوث ذلك سيجد أسبابا متنوعة ومختلفة حسب الحالة والظروف. ولكنه سيجد بالضرورة سببا يجمع بينها وهو ان هؤلاء وهم في زحمة التدافع والركض وراء الشهرة والثروة فقدوا السولة، ومعها فقدوا موهبة الابداع. السولة هي التي أجبرت رجلا مثل البيروني ان يبقى يبحث عن كتاب لفيلسوف يوناني حتى عثر عليه بعد أربعين سنة. والسولة هي التي أسقطت التفاحة من شجرتها ذات يوم على صلعة نيوتن ليبدع قانون الجاذبية، الذي ساد في العلم حتى ظهور مهووس آخر كان يعاني من سولة أخطر اسمه آينشتاين. وقد تكون السولة هي التي قادت الشاعر أبا سرحان الى ذالك الموقع الذي اختفى من بعده الى الأبد. يتساءل الكثير من معارف مهدي، الذين على اطلاع بأحواله المادية عن السبب الذي حال بينه وبين الهجرة الى بلد آخر يوفر له ولعائلته ظروفا أفضل. كان يعتقد – وقد يكون على حق - بان الرحيل يعني موت السولة، التي بقيت ترافقه حتى أيامه الأخيرة. ومن قرأ المقالة الجميلة المؤثرة للسيدة نضال زوجة مهدي، التي نشر قبل أيام، سيجد صدا لما ذكرته... * * * قبيل رحيلنا من حلب سألته ان كانت لديه أية مادة يحتفظ بها عن السياب. يوم الرحيل جاءت لوداعنا السيدة نضال وابنتها أطياف. سلمتني ظرفا كتب عليه اسم السياب وهي تتجنب النظر في عيني. كان مهدي يتجنب لحظات الوداع. وأنا أراجع أوراقي القديمة عثرت في الملف الخاص بالسياب على الظرف، وكان يحوي في داخله على مقالة مكتوبة بخط يد الراحل مهدي، كانت آخر عطاياه: " السياب .. بعيدا عن الرمز والأسطورة " ! لا أعلم ان كانت المقالة قد وجدت طريقها الى النشر أم لا. بعد وفاته اتصلت بأطياف لأستفسر عنها فعرفت بانها تجهل الأمر، ولا تتذكر بانها قرأت شيئا من هذا القبيل. لذا سأسمح لنفسي بنقل خاتمة المقالة. تطرق مهدي الى موضوع المحلية والعالمية عند بدر. ويرى ان هاجس المحلية المبدعة هذا كان هاجس الوطن، الذي ظلّ بدر " يبحث عنه وهو يعيش فيه.. وهو يكتوي بنيران محبته وبغضه.. وهو يعاني من جحود خيراته وحكامه، حين ( سبيل ممتلكيه غير سبيله ) ، كما يقول الرصافي... وعلى الرغم مما أضّر به من المرض المتشعب الممضّ الذي لا يرحم، والذي قاده الى ما يمكن تسميته بالمساومة.. وعلى الرغم مما دفعه اليه هذا المرض من مدح لأولئك الحكام الذين " سبيلهم غير سبيل العراق ".. على الرغم من كل ذلك فقد كان بدر يلقى منهم – دون غيرهم – تنكيلا وعسفا، وهو في ذلك الحال من العوز والمرض.. "!! نُرى ألم يكن مهدي يرى في السياب نفسه ومعاناته وآلامه وهو يكتب عنه ؟ ولكن يعلم كل من كان على مقربة منه ان مرضه ومعاناته لم تقده يوما الى ما يمكن تسميته بالمساومة !!
#عدنان_عاكف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الذي رأى على ظهر جبل سمكة
-
هل يعود الماءُ الى النهر بعدما !
-
مَن شَرَمَ الشيخ !!
-
تحية لمن جدد فينا الأمل
-
حضارة السلب والنهب !!
-
الإسلام بين النجارين
-
الإسلام بين كامل النجار وصادق العظم
-
لماذا أخفق العرب في انجاز - الوثبة الأخيرة - نحو العلم الحدي
...
-
أفتخر بكوني شيوعي
-
البحث عن الإسلام الآخر
-
شيء من كتاب - تاريخ العلم العام -
-
قوموا انظروا كيف تزول الجبال -2
-
حرية الفكر بين البيروني ودافينشي
-
قوموا انظروا كيف تزول الجبال
-
المسيحية وعمر الأرض
-
الجيش والسياسة قبل ثورة تموز 1958
-
هل كان العراقيون القدامى هواة عنف ودم ؟؟
-
العالم كما أراه
-
العلاقات الاجتماعية السياسية في بابل - 2 -
-
العلاقات الاجتماعية السياسية في بابل - 1-
المزيد.....
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
-
محكمة مصرية تؤيد سجن المعارض السياسي أحمد طنطاوي لعام وحظر ت
...
-
اشتباكات مسلحة بنابلس وإصابة فلسطيني برصاص الاحتلال قرب رام
...
-
المقابر الجماعية في سوريا.. تأكيد أميركي على ضمان المساءلة
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|