|
أحوال أكبر ديمقراطية في العالم
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1136 - 2005 / 3 / 13 - 10:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الحفاظ علي الاندماج الوطني مشكلة حتي في البلاد الصغيرة والمتوسطة والتي تتمتع بدرجة معقولة من التجانس الديموجرافي، فما بالك بدولة هائلة المساحة مثل الهند، تشغل قارة بأسرها، ويقطنها أكثر من مليار نسمة.. تصوروا هذاالرقم الفلكي!! وتصوروا أكثر أن هذا الرقم المفزع لا يمثل كتلة سكانية متجانسة، بل يضم جماعات إثنية ولغوية بالغة التنوع، فهناك الهندوس الذين يمثلون 80% تقريبا من إجمالي عدد السكان، والمسلمون »14%« والمسيحيون »2%« والسيخ »2%« والبوذيون وديانات أخري »2%«. أما اللغات فيزيد عددها عن 1562 لغة ولهجة منها 200 لغة مكتوبة و67 لغة مستخدمة في التعليم المدرسي و18 لغة رسمية من بينها الإنجليزية. وتصوروا أكثر وأكثر أن هذا الموزاييك الإثني واللغوي والديني لا ينعم ببحوحة العيش تاريخيا، بل عانت الأغلبية الساحقة من الفقر »التاريخي« ومن مجاعات مروعة أزهقت أرواح الملايين، وأشعلت فتيل صراعات دموية أخذت اشكالا مختلفة.. عرفية وطائفية ودينية. ثم تصوروا أكثر وأكثر وأكثر أن هذا البلد، بظروفه العجيبة المشار إليها، لم يظفر باستقلاله الوطني إلا عام 1947 فقط، وأن الحقبة الاستعمارية خلفت بدورها تركة مثقلة بالتحديات الداخلية والإقليمية. وبعد ذلك.. فلنعد إلي الواقع ونتأمل المشهد الهندي المعاصر، لنري كيف تحولت الهند من بلد ينخر فيه سوس التخلف والجهل والمرض والفقر إلي قوة إقليمية عظمي تخطو بثبات كي تتبوأ مكانتها كقوة عظمي عالمية بعد سنوات معدودات. وليس هذا مجرد كلام وإنما هو واقع تدعمه أرقام الاقتصاد وتطورات السياسة وحقائق الإنجاز العلمي والتكنولوجي. فكيف حدث ذلك؟! وماذا يعني بالنسبة لنا نحن المصريين خاصة أن التجربتين الهندية والمصرية تزامنتا تقريبا سواء في التحرر الوطني والاستقلال أو في بدء مشروع التنمية؟! الإجابة لها أبعاد كثيرة تنتمي إلي ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والتطور الاجتماعي.. لكن أهمها ـ في رأينا ـ هي الديمقراطية والعلمانية. فالهند تعد اليوم ـ بحق ـ أكبر ديمقراطية في العالم، ليس فقط من حيث العدد الهائل للملايين المشاركين في هذه المسيرة الديمقراطية، وإنما أيضا من حيث مضمونها وعمقها. وأحد مظاهر رسوخ دعائم هذه الديمقراطية الهندية يمكن ملاحظتها من حقيقة أن رئيس الجمهورية مسلم رغم أن المسلمين لا يمثلون أكثر من 14% من إجمالي عدد السكان، وأن رئيس الحكومة من »السيخ« رغم أن السيخ لا يمثلون أكثر من 2%، وأن رئيسة حزب المؤتمر أكبر الأحزاب السياسية الهندية كاثوليكية من أصل إيطالي.. رغم أن الأغلبية الساقة من السكان هم من الهندوس. وقارنوا بين ذلك وبين »الديمقراطية« الأمريكية الشائهة والمحمولة جوا إلي العراق والقائمة علي »المحاصصة الطائفية« بكل ما تمثله هذه المحاصصة من قبح وتخلف! وضعوا في الاعتبار كذلك أن الطريق أمام التجربة الديمقراطية والعلمانية الهندية لم يكن مفروشا بالورود، ولم يكن كله تقدم إلي الأمام، بل تخللته تراجعات وانتكاسات كثيرة. يكفي أن نتذكر أن الموجة الأصولية التي طفت إلي السطح في أمريكا في عصر الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان سرعان ماامتدت لتظهر كالطفح الجلدي علي كل الأديان خارج الولايات المتحدة، فشهدنا بعد صعود الأصولية المسيحية، صعود الأصولية اليهودية، والأصولية الإسلامية. وفي الهند تزامن مع ذلك صعود أصوليات شتي. ومن جراء ذلك شهدت الهند ثاني صدمة أصولية في تاريخها الحديث، فقد كانت الصدمة الأولي هي تلك التي ترافقت مع استقلال الهند عام 1947 وأدت إلي انفصال باكستان علي أسس دينية. وبعد أكثر من أربعين عاما من العلمانية الهندية شهدت بداية تسعينيات القرن العشرين ـ وفي إطار الصعود العالمي للموجة الأصولية بقاطرته الأمريكية ـ نعرة أصولية شرسة. وعلي الرغم من مظاهر العلمانية التي مثلت منهاج عمل الحكومات المتعاقبة تحت لواء حزب »المؤتمر« كشعار أساسي للحفاظ علي وحدة البلاد والسماح بحرية العبادة للديانات كافة، فإن هذا المظهر العلماني أخذ يواجه تحديات صعبة في ظل تفاقم الصراعات الطائفية التي سادت في العقدين الآخيرين وأثخنت القارة الهندية بالعنف والعنف المضاد. ومع اشتداد وتيرة أنشطة المنظمات اليمينية الهندوسية المتطرفة منذ بداية التسعينيات، وعلي رأسها جمعية المتطوعين القوميين RSS التي تعد المظلة الأم لحزب »بهارتيا جانتا« الحاكم BJP »الجناح السياسي لها« والرابطة الهندوسية العالمية VHP »الجناح العسكري الذي كان بمثابة الميليشيا الخاصة بها«، نجحت منظمة »المتطوعين القوميين« RSS في دفع حزبها السياسي BJP اليميني المتطرف لتبؤ السلطة منذ عام 1998، وظل محتلا لها حتي العام الماضي. وفي ظله تفشت موجات التعصب والكراهية ضد الإقليات المسلمة والمسيحية بين حين وآخر. وشهدت ولاية »أوريسا« وولاية »جوجارات« أحداث مأساوي ضد الفئات المسيحية في نهاية التسعينيات، كما شهدت ولاية جوجارات غرب الهند مذابح خلال عام 2002 ضد الأقليات المسلمة. كما أسهم التيار اليمني في تحرير قوانين في أربع ولايات لمنع تحوي الأرفاد إلي ديانات أخري مثل المسيحية والإسلام. لكن الناخبين عاقبوا هذه التيارات لأصولية في الانتخابات الأخيرة، وأعادوا حزب المؤتمر وحلفائه إلي السلطة، ليعود معهم الجوهر الديمقراطي والعلماني للهند المعاصرة، وهو الجوهر الذي غرس بذرته الزعيم العظيم المهاتما غاندي وروي شجرته الزعيم التاريخي جواهر لال نهرو. وفي إطار استعادة الهند لوجهها الديمقراطي والعلماني رأينا رئيس الجمهورية المسلم لدولة معظم سكانها من الهندوس، ورئيس حكومة من أقلية السيخ، ورئيسة أكبر حزب كاثوليكية من أصل إيطالي ورئيس برلماني شيوعي. قارنوا ذلك بأحوال العرب العارية والمستعرية.. الذين لم تكفهم ضيبتهم وتخلفهم وتعصبهم وتزمتهم.. بل صور لهم خيالهم المريض أنهم الأعلون.. وعندما يحاول أحدهم إظهار تفوقه فإنه يبادرك بالقوب الاستنكاري: »إنت فاكرني هندي«!! والمفارقة المخجلة أن هؤلاء الذين يسخرون من الهنود أصبحوا مضرب الأمثال في التخلف والتبعية وفقدان الإرادة، وباتوا مجرد مستهلكين للحضارة لا صناعا لها، بينما الهنود قد تجاوزوا مرحلة الاكتفاء الذاتي من الحبوب الغذائية وأصبحوا من كبار المصدرين لفوائضها، وشقت صادراتهم الصناعية طريقها نحو أسواق العالم المتقدمة والنامية علي حد سواء، ودخلوا بقوة إلي عالم التكنولوجيا المتقدمة والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا الفضاء والبرمجيات، ناهيك عن التكنولوجيا النووية.. المدنية والعسكرية علي السواء. ونجحوا في العام الفائت وحده في تقليص معدل الفقر بنسبة 10%.. وطرحت سونيا غاندي رئيسة حزب المؤتمر في الأسبوع الماضي مشروع السبع نقاط الرامي لتقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء. هذا غيض من فيض، وجزء صغير من مشاهدات كثيرة في الهند التي عدت منها منذ أيام ولسان حالي يقول: »ليتني كنت هنديا«.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
باب الشمس ) اهم من المكاتب الاعلامية .. ومقررات التاريخ المي
...
-
»ملاسنة« بين أصحاب المعالي
-
-يد- أبو الغيط.. و-جيب- السادات
-
! شعار البنوك المصرية : حسنة وأنا سيدك
-
لمن تدق الأجراس فى بلاد الرافدين؟
-
اغرب انتخابات فى التاريخ
-
!عـــدلى .. ولينين
-
برلمان العرب .. كوميديا سوداء
-
ديمقراطية .. خلف القضبان !
-
رجل الأعمال يحاور.. ورئيس التحرير يحمل مقص الرقيب
-
لا يموت الذئب .. ولا تفنى الغنم !
-
حرب عالمية ضد إرهاب الطبيعة
-
إعادة انتخاب بوش أخطر من انفلاق المحيط الهندى
-
!الأعمى الإنجليزى .. والمبصرون العرب
-
الإعلام.. قاطرة الاستثمار
-
! الحكم فى نزاع -جالاوى- و -ديلى تلجراف- .. يديننا
-
مفارقة -مادونا- الأمريكية .. و-وفاء- المصرية
-
بوش وشارون .. أسوا أعداء الاستثمار فى العالم العربى
-
!درس للعرب فى الديموقراطية .. باللغة الألمانية
-
! الاقتصاد غير السياسى
المزيد.....
-
الكرملين يكشف السبب وراء إطلاق الصاروخ الباليستي الجديد على
...
-
روسيا تقصف أوكرانيا بصاروخ MIRV لأول مرة.. تحذير -نووي- لأمر
...
-
هل تجاوز بوعلام صنصال الخطوط الحمر للجزائر؟
-
الشرطة البرازيلية توجه اتهاما من -العيار الثقيل- ضد جايير بو
...
-
دوار الحركة: ما هي أسبابه؟ وكيف يمكن علاجه؟
-
الناتو يبحث قصف روسيا لأوكرانيا بصاروخ فرط صوتي قادر على حمل
...
-
عرض جوي مذهل أثناء حفل افتتاح معرض للأسلحة في كوريا الشمالية
...
-
إخلاء مطار بريطاني بعد ساعات من العثور على -طرد مشبوه- خارج
...
-
ما مواصفات الأسلاف السوفيتية لصاروخ -أوريشنيك- الباليستي الر
...
-
خطأ شائع في محلات الحلاقة قد يصيب الرجال بعدوى فطرية
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|