كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1135 - 2005 / 3 / 12 - 11:39
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
يشير الفلاسفة القدامى والجدد إلى موضوعة ذات أهمية فائقة بالنسبة لمن يمارس النشاط الاجتماعي أو السياسي أو الفكري بشكل عام وكذلك للمناضلين من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني ومفادها: أن النظرية والممارسة لا يتطابقان, أي تبقى هناك فجوة بينهما, مهما حاول الإنسان تحقيق المطابقة. وهذه الموضوعة تنطبق على الأخ الكريم السيد الدكتور لبيب سلطان. فهو من العاملين في مجال المجتمع المدني, أي يفترض فيه أن يكون من الداعين إلى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات ومن الرافضين للتعسف والظلم والاضطهاد والاستبداد والعنصرية والشوفينية والقهر الاجتماعي والسياسي والتعريب القسري أو عمليات تغيير البنية السكانية لمدينة ما أو محافظة ما بقصد تغيير هويتها الأصلية. والإيمان بهذه المفاهيم المرتبطة بشرعة حقوق الإنسان الدولية, وليس باللائحة وحدها, لا تأتي بين ليلة وضحاها ولا يمكن للفرد أن يمارسها بسهولة من مجرد اعتقاده بأنه قد آمن بها. لدينا في هذا الصدد الكثير من النماذج. فلو سألت بعض الأخوة العراقيين عن رأيه في مبادئ حقوق الإنسان, سيقول لكَ بأنها رائعة وأنه مؤمن بها إيماناً كاملاً. وأنت تفرح لهذه الإجابة. ولكن سرعان ما ينسى هذا البعض الكثير من الأخوة لائحة حقوق الإنسان وعضويته في إحدى منظمات حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بعائلته وحرية ابنته أو أخته أو الموقف من زوجته في البيت أو من العمل المنزلي, فهنا تفور الفحولة وتتبختر الذكورية فيه ويعلو صوته فوق صوت المرأة, بل يصل الأمر به أن يتجاوز على زوجته أو ابنته أو حتى أمه بالضرب وإنزال أقذع الشتائم بهن. هذه الظاهرة نجدها لدى الشعوب التي ما تزال لم تنمو فيها علاقات الإنتاج الرأسمالية وما يزال المجتمع يعيش في ظل العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية والتقاليد العشائرية والأجواء الدينية المتشددة وبعيداً كل البعد عن المجتمع المدني. ولكن هذه الظواهر الاجتماعية وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين لا يجدها الإنسان لدى الفرد في مجتمع متقدم اقتصادياً ومدنياً وحضارياً, ولكن لا يعني أنه يخلو منها. حتى كثرة من العراقيين الذين عاشوا في المهجر أو ما زالوا فيه يمارسون ذات السمات الذكورية السائدة في المجتمع العراقي.
وهذا المثل ينطبق على الموقف من فيدرالية كردستان والموقف من كركوك. بعض الأخوة الذين يسيطر عليهم النفس القومي المتعصب يحاولون إلباس الرأي المضاد لهم لبوس التجاوز على الحقوق الأساسية للمواطن العراقي والتجاوز على المجتمع المدني والديمقراطية. ويوردون أمثلة لا تصمد أمام الواقع والحوار الشفاف والهادئ.
سأناقش أولاً المثل الذي أورده السيد الدكتور لبيب سلطان ومدى مطابقته لما جرى في العراق, ثم ندخل في بعض تفاصيل تصوراته عن حقوق المواطنة والمجتمع المدني. كتب السيد الدكتور سلطان ما يلي:
"أحببت أن اسأل الدكتور حبيب – حسب علمي انك تقيم في ألمانيا – ولنفترض أن الحزب النازي أو اليمين المتطرف قد نجح للوصول للسلطة – واصدر قانونا يفرض فيه مغادرة كل العناصر من أصل غير جرماني أو آري أتت لألمانيا منذ خمسين سنة مع أبناءهم – فكيف سيكون موقفك؟
الجواب سيكون عن السؤال بطبيعة الحال كلا.
ولكن لو كان الزميل قد دقق في المثال الذي أورده لأدرك الخطأ الذي ارتكبه ولتبين له الفرق بين ما جرى في العراق وما أورده من مثال افتراضي.
علينا أولاً أن نجيب عن الأسئلة التالية:
1. لِمَ مارس النظام عملية التعريب والتهجير القسري للكرد وإحلال العرب محلهم, هل كانت لضرورة وطنية وحاجة ملحة, أم انطلاقاً من ذهنية عنصرية استبدادية مدمرة, تركت عشرات الآلاف من العوائل تعيش في مخيمات بائسة طيلة سنوات, وأسكن في دورهم عائلات بعثية من صلب النظام أو عائلات أراد إبعادها قسراً من مواقع سكناها في الوسط والجنوب؟
2. هل ما أقدم عليه النظام من إجراءات كانت عملية مقصودة ومبيتة من أجل تغيير البنية الديموغرافية (السكانية) للمدينة أم كانت مجرد رغبة صدّامية لا غير؟
3. وهل من حق سكان هذه المدينة الذين هجرهم النظام عنوة وتحت حراب أجهزة النظام القمعية العودة إلى مناطق سكناهم, أم أن على الدولة الجديدة مواصلة سلب الحق ومواصلة ارتكاب الجريمة بحق هؤلاء الناس؟
4. أوليس من واجب الدولة والمجتمع تأمين السكن اللائق والنقل الإنساني للذين احتلوا بيوت السكان الكرد والتركمان والكلدان والآشوريين إلى مناطق سكناهم السابقة بصورة طبيعية؟ والحديث هنا لا يتطرق إلى السكان العرب الذين قطنوا المنطقة منذ خمسين عاماً, بل أولئك الذين جاءوا إلى المنطقة ضمن حملات التعريب القسري لسكان المدينة والتهجير القسري لمن رفض أن يغير هويته الكردية أو التركمانية أو الكلدانية أو الآشورية.
5. ولِمَ استعادة الحقوق المفقودة قسراً تعتبر مصادرة للحقوق الأساسية للمواطنة العراقية؟
6. وعلينا أن نتذكر هنا بأن النظام العراقي لم يكتف بما فعله في كركوك وخانقين وغيرهما فحسب, بل مارس القتل الجماعي في حلب?ة وكل كردستان ضمن عمليات مجازر الأنافل. وأرجو وآمل أن لا يجد الزميل مبرراً لأفعال الدكتاتور في حلب?ة ومجازر الأنفال بقوله, كان النظام في حرب مع إيران وكان لا بد له أن يفعل ذلك!
على الزميل أن يجيب بنفسه ويحكم ضميره بشأن هذه الأسئلة, كما عليه أن يصطف إلى جانب مبادئ المجتمع المدني عند الإجابة عنها.
أنا أعرف, كما يعرف السيد الدكتور لبيب سلطان, بأن من حق المواطن العراقي أن يتنقل حيثما يشاء في أرض العراق, وبضمنها كردستان العراق. وهذا الحق مكفول وكان يمارس بصورة طبيعية. إذ كنت تجد الكردي يسكن ويعمل في البصرة وبغداد والموصل, كما كنت ترى العربي يسكن ويعمل في كركوك أو أربيل أو السليمانية. وهو أمر طبيعي. ولكن ليس من حق الدولة أن تطرد جمهرة كبيرة من العراقيين من ديارهم ومساكنهم عنوة وقسراً وتحت حراب الأمن والشرطة وأجهزة الدول القمعية الأخرى, وإسكان غيرهم فيها عنوة وقسراً, سواء أكانوا عرباً أم كرداً.
حتى الآن, وبعد مرور (60) ستين عاماً على سقوط الفاشية في ألمانيا, يأتي اليهود الذين أجبروا على الهجرة القسرية إلى الولايات المتحدة أو غيرها إلى ألمانيا يطالبون بأرضهم وبيوتهم. وتصدر المحاكم الألمانية الفيدرالية, وهي ذات مجتمع مدني متحضر ومحاكم مستقلة, قرارات بإخلاء الدور والأراضي ودفع التعويضات للعائلات اليهودية التي تضررت من حكم الفاشية. كما يأتي أولاد وبنات وأحفاد الذين سقطوا في معسكرات الاعتقال الفاشية إلى ألمانيا يطالبون استعادة بيوتهم وأرضهم التي نهبت منهم في ظل الفاشية, كما يطالبون باستعادة أموالهم المسروقة منهم من جانب الدولة الهتلرية. ولو رجع الإنسان إلى الصحافة الأمريكية والألمانية في هذه الأيام بالذات لوجد أن حفيدة عائلة فيرتهايم Wertheim التي تعيش في الولايات المتحدة قد استعادت قطع عديدة من العقارات التي بنيت عليها عمارات وأسواق حديثة كانت تعود لعائلتها قبل الحرب العالمية الثانية, وقد حكمت لها المحكمة الألمانية بذلك, وهي ما تزال تطالب بالمزيد لأن ذلك من حقها الكامل.
هل من حقوق المواطنة أن يسلب النظام الفاشي دار عائلة ويشردها ويتركها تعيش في أكواخ مزرية سنوات عديدة صيفاً وشتاءً؟ أم أن من حقوق المواطنة السليمة أن تعيد الدولة العراقية الجديدة لهذه العائلة حقوقها المشروعة, وأن توفر لمن استولى على تلك الدار, بيتاً لائقاً له ولعائلته في المكان الذي ولد فيه وعاش جزءً من حياته؟
لا يمكن للإنسان أن يقفز على الحقائق, فالقفز فوق الحقائق فيه الكثير من المطبات. وهذه واحدة منها. يقول السيد الدكتور لبيب سلطان ما يلي:
"وهل كركوك وحدها من تعرض للتهجير- أم أن هناك أكثر من مليون عراقي مهجر – فلم لا نرجعهم ونعوضهم ونكرمهم جميعا –". أي لماذا لا أكتب حول هذا الموضوع.
لا يحق لي أن أطالب الزميل أن يقرأ كل مقالاتي, ولكن من حقي على من يحاورني بما أكتب أن يطلع على الأقل على تلك المقالات التي يطرح تساؤلات حولها. فمنذ أقل من أسبوعين مثلاً نشرت مقالين أطالب فيهما بما يلي:
تشكيل هيئة وطنية مستقلة واسعة تضم جميع الاختصاصات من أجل العمل على إعادة المهجرين إلى خارج العراق إلى وطنهم العراق وإعادة حقوقهم كاملة غير منقوصة وأموالهم المنقولة وغير المنقولة وتعويض شهداء الشعب العراقي وعائلاتهم. على أن تعمل هذه الهيئة الوطنية على نطاق العراق وتشكل لها لجان في مختلف المدن العراقية للتعجيل بحل مشكلات المهجرين والمتضررين من سياسات النظام المخلوع بعيداً عن الإجراءات البيروقراطية. ولو رجع الزميل إلى مقالاتي السابقة لوجد الكثير من الكتابة عن هذه المشكلة الخاصة بالمهجرين إلى خارج العراق ومنهم عرب الوسط والجنوب وكذلك الكرد الفيلية.
من يمارس العمل في المجتمع المدني يفترض فيه أن يتشبع بروحية المجتمع المدني وبمضامين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية, إذ أن هذه المضامين والمفاهيم ليست صبغة يمكن أن يستخدمها الإنسان وفق الحاجة. فليس هناك من تناقض بين الهوية القومية والهوية الوطنية. فالهوية القومية متباينة في العراق فهناك هوية كردية وأخرى عربية وأهرى تركمانية ورابعة كلدانية وخامسة أشورية, ولكن هناك أيضاً هوية وطنية عراقية. والشعوب كلها ومعها المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمواثيق والعهود الدولية وحقوق الشعوب من أصل البلاد كلها تؤكد على ذلك ولا تنفيه, وليس في هذا عرقية أو عنصرية, بل العنصرية هي التي ترفض ذلك والتي تميز في المعاملة والحقوق, والتمييز هو الاعتداء على حقوق الكرد بترحيلهم إلى أماكن غير مناطق سكناهم بالقوة مثلاً إضافة إلى أشكال التمييز الأخرى التي عاشها الكرد ولم يعرف بها بعض العرب الأقحاح! لا يريد الكرد طرد العرب من كركوك, إلا من فقد إنسانيته, فالعرب الذين كانوا من سكان كركوك باقون فيها, ولكنهم يريدون استعادة دورهم وترحيل, من كان سبباً في ترحيلهم, إلى مناطق سكناه السابقة وبصورة إنسانية هادئة وسليمة مع دفع التعويضات لهم.
كنت أتمنى على الزميل الفاضل أن يمارس لغة الحوار التي يدعو لها باعتباره ممن يعمل في سبيل المجتمع المدني. وأتمنى أن يعيد النظر بمواقفه لأني كنت واضحاً في مسألة كركوك وغيرها لا لأني أريد التبرع بها للشعب الكردي, فليس من حقي التبرع بما لا أملك. بل شاركت في الحوار وأعطيت وجهة نظري بما أراه صائباً وعادلاً, ومن حقه أن يبدي رأيه وسيكون رأيه محترماً ويناقش ممن يريد مناقشته. والطريقة التي خاض بها النقاش غير نافعة بل مضرة في إطار المجتمع المدني وحرية الرأي والرأي الآخر.
إن ما طرحته من ملاحظات بشأن كركوك قد أقرت من جميع القوى السياسية التي وضعت قانون إدارة الدولة المؤقت, وهي قوى تلتزم باتجاهات فكرية وسياسية عديدة ومتباينة. وبالتالي فهي لم تكن فكرة مؤدلجة. ولا أدري متى كانت الإيديولوجية كفراً في التحليل السياسي, رغم أني لم أنطلق من مواقع أيديولوجية في الموقف من كركوك. وإذا كان من حقه أن يرى بأن ما طرحته كان تجسيداً لإيديولوجية معينة, فأنا لم أخف ما أفكر به, إذ قلت بوضوح كامل بأني أنطلق من مواقع الفكر الماركسي والنهج العلمي أو المادي الجدلي والمادي التاريخي في التحليل, وتبقى مسؤوليتي إن أخطأت أو أصبت في ما أكتبه, وليست مسؤولية المنهج والفكر الماركسي. ولكني في كل الأحوال لم أنطلق من مواقع الفكر القومي الشوفيني الذي يتستر بأفكار المجتمع المدني, ولكن يتبطن الفكر القومي اليميني والشوفيني الذي لا يبتعد كثيراً عما حصل في العراق خلال الأربعين سنة المنصرمة, وهو ما لا أتمناه للسيد الدكتور لبيب سلطان الذي تولى رعاية موقع مهم على الإنترنيت, موقع المجتمع المدني. وعلى عاتقه تقع, بسبب رعايته لمثل هذا الموقع, مسؤولية احترام رأي الآخرين والحوار بأسلوب ديمقراطي حضاري ينسجم مع الأفكار التي يسعى إلى تبنيها والتبشير بها, تماماً كما تحاورنا في عام 2000 في تورنتو في كندا, بغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا في الرأي.
برلين في 10/3/2005 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟