أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أبو الحسن سلام - الفاعل الفلسفي في الإبداع المسرحي















المزيد.....



الفاعل الفلسفي في الإبداع المسرحي


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 3924 - 2012 / 11 / 27 - 21:40
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الفاعل الفلسفي في الإبداع المسرحي

د.أبو الحسن سلام

مقدمة البحث :

إذا قيل إن المسرح قد ولد من رحم الأسطورة ، فإن تصحيح طرفي التفاعل في تلك المقولة يدعونا إلى القول : إن الفلسفة وهي أم الفكر ، عندما زاوجت بين الخيال والفكر خرجت الأسطورة إلى الوجود .
والقول بأن المسرح قد ولد من صلب التاريخ ؛ لا يشكل إلاّ طرف المعادلة المعلوماتية فحسب ، أما طرفها الثاني ؛ فيجسد القول : إن المسرح كان أيضاً ثمرة من ثمرات التزاوج الثاني للفلسفة مع التاريخ. وهي ثمرة كريزمية السمت ، تزيّت برداء الشعر الفكري ، وجملت بحلي الفكر الشعري ؛ أي أن المسرح ولد في كلتا الحالتين كريزما شعرية فكرية أو فكرية شعرية حسب عصر ولادته ومحله ، وذات مبدعه .
وإذا كان النظر فيما كتب غرانيق المسرح عند الإغريق يكشف لنا عن دور العامل الفلسفي في الأثر المسرحي ، إذ يجسد دور الأنا العليا في تدبير شؤون الكون ، في غيبها الحاضر في فكر الأنا الدنيا ، أو في حضورها الغائب في الواقع المادي متمثلاً في صور الأبطال أنصاف الآلهة أو من في مصافهم ؛ فإن هذا الدور لم يقتصر على المسرح القديم ، بل تعداه فتفاعل مع محاولات الفلاسفة الأدباء غرانيق الرومان ولم يتوقف ، بل مد خيوطه إلى عصور المسيحية فيما بعد القرن السابع الميلادي ليفعّل فكرة العالم الآخر وفكرة البعث والقيامة والشياطين والملائكة والخير والشر ، وعبر بعد ذلك جسور عصر النهضة ليجسد فكرة الأرواح الشريرة والخوارق ويتجاوزها إلى بصائر العقل الإنساني في بكرة نهار يقظته العلمية ، ويواصل تحليقه على جناحي الخيال والفكر المادي في العصر الحديث ليمكن الإبداع من النظر إلى الكون مرة ، وإلى الإنسان في ذاته في مرة أخرى والنظر من أجل ذاته في مرة ثالثة من منظور تفسير دوره بديلاً عن تبرير الوجود الكوني نفسه وطبيعة الوجود الإنساني فيه . وصولاً إلى تمكن المجتمع الإنساني من رؤية الخلل في علاقاته الطبقية مرة ، ثم تمكينه من رؤية عبث وجوده في كون عبثي .
لقد وجدت كل التيارات الفلسفية في المسرح خير وسيلة فاعلة لكسب التأييد لما تطرحه من فكر .

إشكالية البحث :
تتبدى إشكالية البحث في وجهتين .. أولها : معرفة إلى أي مدى نجح المسرح في أن يكون ابناً شرعياً للفلسفة في العصور القديمة ؛ وطفل أنابيب للفكر الديني في العصور الوسطى ، وابنا بالتبني للتاريخ في عصر النهضة ، وإلى أي مدى استطاع في العصر الحديث المزاوجة بين التعبير العاري ، وهو الخاص بالفكر والفلسفة والتعبير الجمالي وهو الخاص بالأدب . وثانيهما : إلى أي مدى يمكن النظر في إبداع لويس عوض المسرحي ، ومدى توفيقه في المزاوجة بين منطلق الفكر الفلسفي الذي تأسس على التوهج التأملي بالإعمال الذهني المنطقي ومنطلق الفكر الأدبي المشتعل بالإعمال الذهني والتخيلي الحدسي. كيف عبر بالشكل الفني الجامح دون حدود عن المضمون الفكري والفلسفي المحدد والمتعين. وهي إشكالية الشاعر والأديب المسرحي الذي يتحمل مسؤولية كسب التأييد لفلسفة ما ، أو لفكرة فلسفية ما . كيف واجه لويس عوض هذه الإشكالية بوصفه حامل رسالة فلسفية - لقد واجه أرسطوفانيس ذلك بتعرضه مسرحياً لفكر سقراط في ( السحب ) ، وفي ( الضفادع) وفي برلمان النساء ) وواجه ذلك مارلو في ( يهودي مالطه ) و ( مأساة الدكتور فاوست ) وشكسبير فى ( هاملت ) وجوته فى
( فاوست ) وسارتر في ( الجحيم) ، وبريخت في ( محاكمة لوكوللوس) ، وكامي في (كاليجولا ) . وفي مصر واجهه ألفريد فرج ذلك في كونية ( علي جناح التبريزي) وواجهه شوقي عبد الحكيم في طوباوية ( الملك معروف ) وصلاح عبد الصبور في ظاهراتية شخصياته المسرحية وواجهه يوسف إدريس في فابية ( الصول فرحات ) وجحيم الآخر في ( المهزلة الأرضية ) ووضعية السيد والعبد في (الفرافير) في عالم الحياة وفي العالم الآخر و واجهه . والحكيم في تعادلية أفكاره وشخصياته . فكيف واجه لويس عوض إشكالية التعبير باللامتناهي عن المقيد والمحدود في محاكمته لإيزيس مسرحياً ؟!

الركائز الأساسية للبحث :
ارتكز البحث على الفرضيات الآتية :
إشكالية التعبير بين الفلسفة والأدب والفن - المسرح والفلسفة بين الإبداع والاكتشاف - الفلسفة في المسرح المصري - لويس عوض مترجماً للمسرح الأجنبي - المقاربة الثقافية في ( محاكمة إيزيس ) بين الإبداع الفلسفي والإبداع المسرحي - نص مسرحية ( محاكمة إيزيس ) بين ثقافة الثوابت وثقافة المتغيرات .
خلاصة البحث :
ينتهي البحث إلى أن البصيرة الحداثية في مسرحية لويس عوض ( محاكمة إيزيس ) تتبدى أولاً في اختياره لشخصية إيزيس نفسها على اعتبار أن فكرة البعث قد تبلورت في قصة جمعها لأشلاء زوجها أوزوريس لتعيده إلى الحياة ومن ثم نشوء حالة من التقديس تحيط بدورها وبقصة نجاحها في ذلك الأمر الخارق للقدرة الإنسانية مما أحال هذه الحادثة الأسطورية إلى طقس ديني ترسخ على هيئة اعتقاد في نفوس الناس في كل أرجاء مصر ولعصور متتالية : فإيزيس إذن هي المنبع الأساسي لفكرة التقديس والشعيرة الطقسية والاعتقاد بالبعث والخلود ، لذلك فقد وجد فيها لويس عوض منطلقاً لإعمال بصيرته ومصدراً حاضاً لنا على أن نعمل بصيرتنا لنتجاوز ( منامة الطقس ) إلى ( نهار اليقظة ) . ولاشك أن تجاوز (منامات عصور الطقس ) تحتاج منّا إلى معاناة فكرية ووجدانية عميقة لا يقدر عليها من لم يتملك بصيرة لويس عوض الحداثية الذي حمل عبء تقريب المسافات بين جيلينا والأجيال التالية على جيلنا وحملنا على متون كتاباته النقدية من سرير منامات عصور الطقس إلى نهار اليقظة . لنبصر بعين الحداثة وبصرها رسوبيات الثقافة التراتبية وننفض عنها ما يعوض انطلاقاتنا المأمولة إلى المستقبل .


أهمية البحث :

إذا قيل إن المسرح ولد من رحم الأسطورة ، فإن تصحيح طرفي التفاعل في تلك المقولة يدعونا إلى القول : إن الفلسفة وهي أم الفكر عندما زاوجت بين الخيال والفكر خرجت الأسطورة إلى الوجود .
والقول بأن المسرح قد ولد من صلب التاريخ ، فإن ذلك أيضاً يشكل طرف المعادلة فحسب ، أما الطرف الثاني ، فيجسده القول إن المسرح كان أيضاً ثمرة من ثمرات التزاوج الثاني للفلسفة مع التاريخ . وهي ثمرة كريزمية السمت ، تزيّت برداء الشعر الفكري ، وتجملت بحلي الفكر الشعري ؛ أي أن المسرح ولد في كلتا الحالتين كريزما شعرية فكرية أو فكرية شعرية حسب عصر ولادته ومحله .
ولعل النظر فيما كتب المسرحيون الإغريق الكبار يكشف لنا عن دور العامل الفلسفي في الأثر المسرحي ، إذ يجسد دور الأنا العليا في تدبير شؤون الكون ، في غيبها الحاضر في فكر الأنا الصغرى ، أو في حضورها الغائب في واقع تلك الأنا المادي متمثلاً في صورة ( أوديب ) أو صورة ( أنتيجوني ) أو في صورة ( إلكترا) أو في صورة ( ايفيجينيا) أو في صورة ولدي أوديب * أو في صورة ( ميديا ) أو في صورة ( هيبوليتوس ) في إنتاج الثلاثة التراجيديين الكبار . والكلام عن الأنا العليا وعن عالم ما وراء الطبيعة هو كلام الفلسفة منذ نشأتها في الفكر الإنساني .
وإذا كانت التراجيديا الكلاسيكية قد تأسست على أن الغيب هو الذي أمد الفعل التراجيدي بالحركة ودوافع الصراع ؛ فإن العامل الفلسفي للفكر السقراطي هو الذي حرك الفعل الدرامي في كوميديات أريستوفانيس ؛ فعرض بالفكر السوفسطائي في مسرحية ( السحب) وليكسب التأييد لفكرة القانون عند سقراط في مسرحية (برلمان النساء ) ويقيم الموازنة بين شعراء التراجيديا الكبار في مسرحية (الضفادع ) ليصعد باسخيلوس " من هاديس " مع أنه حينما نزل إليها بإذن خاص من الآلهة كان ينتوي الصعود بيوربيديس .

ولم يقتصر دور العامل الفلسفي السقراطي على مسرح أريستوفانيس ولكنه امتد ليحرك الفعل التراجيدي في مسرح سينيكا ، حيث تتجسد في شخصية (لايوس) بعد مقتله فكرة الأشباح التي شرحها سقراط لتلاميذه ( أفلاطون - فيدراوس - جورجياس وغيرهم ) وهو يرفض فكرة هروبه التي أجهد تلاميذه أنفسهم من أجل إقناعه بها فما كان منه إلاّ الرفض حتى لا يقال إن سقراط الذي نادى بفكرة القانون واحترامه قد هدم فكرته لذلك فضل الموت في سبيل حياة فكرته مبرراً ذلك بشرح فكرة الموت وخروج الروح نوراً من الجسد حالة انتفاء الآثام عند الميت لتعيش في عالم نوراني غير مرئي للأحياء بينما تظل آثام من مات عالقة بروحه بعد خروجها من جسده فتتحول روحه إلى شبح يمتزج فيها النور مع المادة ؛ الأمر الذي يجعلها تحوم في مكان دفنها بين الظهور المادي والاختفاء النوراني .
ولم يقتصر دور العامل الفلسفي الميتافيزيقي على مسرح سينيكا في العصر الروماني ، بل امتد إلى عصور المسيحية إذ تتجسد فكرة العالم الآخر ، وفكرة البعث أو القيامة في مسرحيات الأسرار وفكرة تجسد القديسين في ( المريمات الثلاث ) وفي مسرحية ( القديس نيقولا ) وتتجسد فكرة إبليس والنزول من الجنة في مسرحية ( آدم )
ثم امتد العامل الفلسفي الميتافيزيقي ليطال مسرح عصر النهضة حيث يجسد مسرح شكسبير فكرة الشبح في مسرحية ( هاملت ) وفكرة الأرواح الشريرة في ساحرات (مكبث) وفكرة مقايضة روح الإنسان بقدرات إبليس وخوارقه في (مأساة الدكتور فاوستس ) لمارلو ويمتد دور العامل الفلسفي في زاوية أخرى ليجعل محور فعل ( يهودي مالطة) هو مبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة ) الذي تجسده المبادئ الميكيافيلية .
كذلك يفعل العامل الفلسفي الميتافيزيقي فعله في ( فيدرا ) راسين .
وإذا كانت الفلسفة في العصر الحديث قد نظرت إلى الإنسان من منظور تفسير دوره في الكون بديلاً عن تبرير الوجود الكوني نفسه وطبيعة الوجود الإنساني فيه ، كما نظرت بعد ذلك في إمكانات تغيير طبيعة التفاعل الإنساني في الكون عن طريق تملك الذات الإنسانية الفردية لإرادة التغيير وإعادة تشكيل جوهرها الذاتي في غير مزاحمة لإرادة التغيير الذاتي للغير تحقيقاً للهوية الذاتية أو عن طريق امتلاك القدرة الطبقية على تغيير الواقع الطبقي المعيش بإعادة تقسيم الثروة وتوزيعها وإطلاق العنان للصراع بين الطبقات وصولاً إلى العامة العاملة المشتركة نتيجة لتغيير موازين القوى الاجتماعية لصالح الطبقة العاملة ، فإن التيارات الفلسفية ، النفعي منها والوضعي والوجودي أو العدمي والماركسي ، قد وجدت في المسرح خير وسيلة لكسب التأييد لفكرها ولجوهر ما تدعو إليه فوظف كل اتجاه فلسفي منها المسرح في سبيل الدعوة وكسب التأييد بنشر أهدافه وقيمه وبرامجه - حالة وجود برامج لأي اتجاه منها - فكان أن توجه المسرح وجهة أيديولوجية ، وهو ما دعانا إلى توظيف ذلك المسرح ضمن عصر الثقافة الأيديولوجية


إشكالية التعبير بين الفلسفة والأدب والفن :
تتبدى إشكالية التعبير في معرفة إلى أي مدى نجح المسرح في أن يكون ابناً شرعياً للفلسفة والخيال في العصر الحديث ، بعد أن كان ابناً غير شرعي للأسطورة والفلسفة في العصور القديمة ؛ وطفل أنابيب للفكر الديني في العصور الوسطى وابناَ بالتبني للتاريخ في عصر النهضة ؟! إلى أي مدى استطاع المسرح أن يعبر بلغة المسرح التي تتوسل بالإمتاع للوصول إلى الإقناع ومن ثم التأثير ، إلى أي مدى استطاع المزاوجة في العصر الحديث بين التعبير العاري وهو خاص بالفكر والفلسفة والتعبير الزخرفي وهو خاص بالأدب ، ومطابق للخيال والشعر - كما يرى كروتشه - .
لاشك أن إشكالية التعبير هي الهم الكبير الذي يواجه الكاتب والأديب المسرحي ، حينما يشرع في كتابة نص مسرحي قوامه الموضوعي : الفكر الفلسفي ؛ إذ عليه أن يوفق بين التعبيرين : التعبير العاري ، والتعبير المزخرف ( الجمالي ) فإذا كان منطلق الفكر الفلسفي أساسه التأمل ، فإن منطلق الفكر الأدبي قائم على التأمل أيضاً، غير أن التأمل الفلسفي يتوهج بالإعمال الذهني المنطقي ، بينما يشتعل الإعمال الذهني في حالة التأمل الأدبي أو الفني بالخيال والحدس .
وإذا كان المنطق يكتسب مسماه من التحديد والتعيين ، فإن الخيال انطلاق بلا حدود. فكيف يعبر الشكل المنطلق دون حدود عن المضمون المحدد والمتعين ؟! تلك هي إشكالية الشاعر أو الأديب المسرحي الذي يتحمل مسؤولية كسب التأييد لفلسفة ما ، أو لفكرة فلسفية ما بوساطة فن الكتابة المسرحية ؟ وهي إشكالية واجهها بالضرورة سارتر ، كما واجهها بريخت ليس بوصفه فيلسوفاً ولكن بوصفه حامل رسالة فلسفية . والأمر نفسه ينسحب في الغرب على جوته وألبير كامي وبيكيت ويونسكو وغيرهم ، كما ينسحب على عدد من كبار كتابنا الذين عالجوا الفكر الفلسفي معالجات مسرحية مثل ألفريد فرج في ( على جناح التبريزي وتابعه قفه) ويوسف إدريس في (الفرافير ) و ( المهزلة الأرضية ) و ( جمهورية فرحات ) و ( الجنس الثالث ) ومثل شوقي عبد الحكيم في ( الملك معروف)
فعن طريق الاحتيال النبيل يعيد ( التبريزي ) توزيع الثروة عند ألفريد فرج دون أن يكون هناك فيض إنتاج مستمر يعوض الفاقد
وعن طريق الحلم اليوتوبي يوزع ( ملك ) شوقي عبد الحكيم الثروة دون أن يكون هناك فيض إنتاج مستمر تتوازن به معادلة الحاجات .
وعن طريق ( حلم يقظة فرحات " الفابي " ) يتحول المجتمع إلى مدينة فاضلة عند يوسف إدريس ومن خلال رحلة فرفوره الدنيوية والأخروية يكسب التأييد لفكر الفلسفة الوضعية فكل من ( السيد والفرفور ) في محله الجبري منذ أوجده المؤلف وجوداً جبرياً فالعبد عبد في الدنيا وفي الآخرة والسيد سيد في الدنيا وفي الآخرة . وفي (المهزلة الأرضية ) يعرض لفكرة الأنا والآخر وفي (الجنس الثالث ) حيث العالم الأخروي تتجسد الأشجار نساء فاتنات راقصات فنتازيا ، مثلما تجسدت لابن القارح في عالم الغفران عند المعري ، مما يكشف عن أرق فكر يوسف إدريس بعالم الصيرورة بعد الموت ، تماماً كما أرق فكر سارتر في ( الأبواب المغلقة ) وأرق فكر بريخت في ( محاكمة لوكوللوس ) وأرق فكر يوسف عز الدين عيسى في (غرفة بلا نوافذ )
كما أرق فكر موريس دي كوبرا في ( كرنفال الأشباح )
وما كان ذلك الأرق الإنساني عند الفنان الحديث والمعاصر إلا امتدادات لحبل الأرق الإنساني حول مصيره بعد الموت منذ صوره أريستوفانيس في رائعته ( الضفادع ) استحياء من الرحلة التي صورها أفلاطون في ( محاورات فيدون )

المسرح والفلسفة بين الإبداع والاكتشاف :
يقول د. محمود فهمي زيدان : " إن الإبداع قرين الاكتشاف والاكتشاف إما أن يكون استكمالاً أو تطويراً لاكتشاف سابق وإما أن يكون مخالفاً أو نقيضاً له ، وبداهة أنه لا اكتشاف دون اعتراف من أهل الاختصاص " ، ومن ثم فإن كل اكتشاف يعترف به لا ينتسب إلى المكتشف بقدر ما ينتسب إلى العالم كله .
ولأن الإبداع سواء أكان فلسفياً أم كان أدبياً أو فنياً هو اكتشاف لمجهول من ناحية ، وهو خلق على غير مثال سابق من ناحية ثانية ، ولأن ارتباط كاتب مسرحي ما بفكر فلسفي ما هو نوع من الإبداع في صورة - اكتشاف أو إعادة اكتشاف نظرية فلسفية ما أو فكرة فلسفية ما * - من منظور مسرحي ، على اعتبار أن الكاتب المسرحي يعالج فكر غيره ، فهو في هذا مثل "الفيلسوف الذي يصبغ نظرية فلسفية ما كانت لغيره ، وفي عصر غير عصره بصبغته الذاتية ويطبعها بطابع عصره "
أما الكاتب المسرحي الذي يخلق إبداعه فكراً وفناً على غير مثال فهو كالفيلسوف الذي يأتي بنظرية فلسفية جديدة لم يأت بها غيره من قبل ، فيعد عمله هذا إبداعاً فلسفياً .
وإذا كانت " الفلسفة وليدة عصرها لأنها تعقلن فكر عصرها "
فإن المسرح وليد عصره لأنه يعيد تشكيل وجدان عصره . وإذا كانت فلسفة العلم تبحث في المشكلات النظرية والمنهجية التي تواجه العلوم المختلفة ، فإن للأدب فلسفة وللفن فلسفة وللمسرح بوصفه أدباً وفناً فلسفة تحدد موقف المسرحيين من الكون وموقفهم من الحياة وموقفهم من الإنسان ، وتكشف عن موقف العصر وموقف المجتمع من الكون ومن الحياة ومن الإنسان لذلك لجأت الفلسفة الأيديولوجية إلى الأدب والفن وسيلة لكسب التأييد ولنشر فكرها .

الفلسفة في المسرح المصري :
على الرغم من العلامة الفارقة بين الإبداع بوصفه خلقاً على غير مثال والاكتشاف بوصفه إعادة خلق على مثال سابق أو هو كشف عن خلق الغير أو إبداعه فإن هناك من يرى في فكرة التعادلية عند توفيق الحكيم إبداعاً فلسفياً فلو كان الأمر على ما يرى د. سيد نفادي في تعادلية توفيق الحكيم فإلى أي مدى يمكن النظر إلى تعادلية شخصيات ( شمس النهار ) و(السلطان الحائر ) لتوفيق الحكيم إبداعاً فلسفياً مسرحياً مشتركاً ؟! وإلى أي مدى يمكن النظر إلى وضعية شخصيات (فرافير) يوسف إدريس ، وفابية الصول فرحات ووجودية شخصيات (المهزلة الأرضية ) إبداعاً فلسفياً مسرحياً وهل يعد التحريض على نبذ الفكر الشمولي وكشف عوراته في ( المخططين ) إبداعاً فلسفياً مسرحياً ؟! وهل تعد شيوعية فكر شخصيات جوركي في ( الأم ) وشخصيات بريخت في كل أعماله التعليمية والملحمية إبداعاً فلسفياً مسرحياً مشتركاً وبالمثل هل تعد وجودية شخصيات مسرح سارتر وسيمون دي بوفوار وألبير كامي قسمة إبداعية بين الفلسفة والمسرح ؟! وهل كانت براجماتية شخصيات كريستوفر مارلو وميكيافيلليتها في المسرح الإليزابيثي إبداعاً فلسفياً مسرحياً مشتركاً ؟! وإلى أي مدى يمكن اعتبار استدلالات هاملت الاستقرائية مرة والتجريبية في مرات أخر نوعاً من التجسيد التطبيقي لمنهج روجر بيكون أولاً ، ثم لفرنسيس بيكون بعد ذلك ( 1561 – 1626) خاصة وأن شكسبير ( أبريل 1564 - 1616 ) قد كتبها عام 1601 قبل موت فرنسيس بيكون بعشرين عاماً وقبل موت ديكارت بتسع وأربعين عاماً (38) هل يعد ذلك إبداعاً فلسفياً مسرحياً مشتركاً لشكسبير ؟!
وهل مثالية ارتباط كمال الفرد بكمال مجتمعه التي صورتها شخصية الحلاج في مسرحية صلاح عبد الصبور تعد إبداعاً فلسفياً مشتركاً وهل تبني الحلاج للواقعية الوجدانية التي عرفناها عند د.أبو ريان يعد إبداعاً فلسفياً مسرحياً لصلاح عبد الصبور ؟! وهل تعد ظاهراتية شخصيات صلاح عبد الصبور - أيضاً - في مسرحية ( الأميرة تنتظر) ومسرحية ( بعد أن يموت الملك ) إبداعاً فلسفياً مشتركاً ؟! وهل تعد طوباوية شخصية ( الملك معروف ) لشوقي عبد الحكيم إبداعاً فلسفياً مسرحياً مشتركاً ؟ وهل كونية ( علي جناح التبريزي ) وفي مسرحية ألفريد فرج وكونية ( بيرجنت ) هنريك إبسن إبداعاً فلسفياً مسرحياً مشتركاً .
وإلى أي مدى يمكن تطابق فكرة التعادلية على مطلب ( الزير سالم ) في مسرحية ألفريد فرج ( بعودة كليب حياً ) إذا قارنا هذا المطلب بقول توفيق الحكيم في شرحه لتعادليته : " لا شيء يعادل حياة الإنسان غير حياة الإنسان "
وأخيراً هل تعد التجربة الإبداعية للويس عوض في مسرحية : ( محاكمة إيزيس ) إبداعاً فلسفياً مشتركاً ؟ على اعتبار أنها تجسد موقفه من فكرة الدين ؟! تلك هي الإشكالية التي وجد هذا البحث نفسه متحيراً أمامها فوقف نفسه على مناقشتها مناقشة منهجية .

لويس عوض والمسرح
بدأت اهتماماتي بقراءة لويس عوض خلال تتبعي لسلسلة مقالاته بجريدة " الأهرام " بعنوان " على هامش الغفران " التي تعرض فيها بالتحليل والنقد للمصادر الفكرية للإبداع الأدبي في " رسالة الغفران " للمعري ، تلك الدراسة التي وظّف فيها منهج النقد الأنثروبولوجي ليكشف عن الدوافع السياسية والاجتماعية والعقيدية لذلك الأثر الإبداعي الأدبي القديم الذي حاول فيه المعري أن يفلسف أدب العقيدة ويؤدب فلسفة المعتقد ويكشف عورة التستر خلف العقيدة وزيف الولاء للولاة ويسقط أقنعة الإدعاء في العلم وفي الإيمان وفي الأخلاق وهو ما أثار ضده المحافظين الجدد ، كما أثار المعري المحافظين السلفيين بكتاباته وأشعاره . ويبدو أن هذا النهج في التحليل الأنثروبولوجي للأثر الأدبي والفني قد لازم كتابات لويس عوض النقدية حتى النهاية وهو ما يؤكده قول د. مجدي وهبة : " كان لويس عوض يلجأ إلى أطر دلالة خارج النص الأدبي الذي يدرسه فإذا كان يقوم بتدريس مسرحية مثلاً ، تجده يبحث فيها عن الأساطير التي يمكن أن يتكلم عنها من وجهة نظر أنثروبولوجية أو أنثروبولوجية ثقافية "
بعد ذلك توطدت علاقاتي بكتابات لويس عوض في أثناء عكوفي على رسالة الماجستير التي كان عنوانها ( الظاهرة الدرامية والملحمية في رسالة الغفران ) التي حصلت على إجازتها في عام 1983م من جامعة الإسكندرية حيث ناقشت فيها ضمن ما ناقشت في إطار مصادر الإبداع في رسالة الغفران ما عرض له د. لويس عوض في كتابه ( على هامش الغفران )
ولاشك أنني أفدت كثيراً مما كتب حول المؤثرات السياسية والاجتماعية والعقيدية للفترة التي وافقت كتابة المعري لرسالة الغفران . وكان أن تعرفت على العقلية التحليلية للويس عوض فلقد كان لويس عوض كما يرى نسيم مجلي ذا عقلية تحليلية تبحث دائماً عن السبب وعن العلة وراء كل ظاهرة ثم كان ارتباطي بلويس عوض بعد ذلك في أثناء كتابتي لرسالة الدكتوراة التي عنوانها ( الإيقاع في المسرح المصري ) حيث تعرضت لإيقاع النص المسرحي المترجم وتوقفت في مبحث منه عند ترجمة د. لويس عوض لمسرحية ( أنطوني وكليوباتره ) ووجدت أن ترجمته للمشهد الذي تدخل فيه كليوباتره إلى مخدعها وخلفها وصيفاتها باحثة عن أنطونيو وهي في ثورة غضبها بعد أن علمت باعتزامه السفر سراً دون علمها إلى روما . لقد وجدت أن ترجمة د. لويس عوض للألفاظ التي تقولها كليوباتره وهي على حالتها الثائرة تلك لا تتناسب مع حالتها النفسية ولا مع الغرض الذي سعت تبحث وراءه ولا مع النص الحواري الذي وضعه شكسبير على لسانها ؛ مما يؤدي إلى اختلاف إيقاع أدائها تمثيلاً عن إيقاع حالتها النفسية ؛ فشكسبير قد وضع على لسانها سؤالاً استنكارياً :
“ Cl`o: Where is he? “
ولكن د. لويس عوض يجعلها تقول فيما ترجم :
" أين أنطونيوس ؟ "
وقد وجدت أن مناداتها باسمه في بحثها الغاضب عنه لا تناسب حالتها بعد أن علمت بأنه ذاهب لملاقاة زوجته ( فولفيا ) في روما . ثم أن لغة خطابها بحثاً عنه بضمير الغائب أصدق وأنسب في التعبير عن حالتها تلك لأن كل خطابها في النص الشكسبيري يغيّب التلفظ باسم ( أنطوني ) ( ابحثوا عنه فإذا وجدتموه في حالة سكر فقولوا له إنني مريضة ) هذا من ناحية ومن ناحية ثانية ، فإن مقاطع اسم أنطونيوس الأخيرة لا تقطع بحالة رضاها عنه أو غضبها فحرف التعريف ( السين الأخيرة ) مشحونة بالنغم وفي لفظتها امتداد طبيعي إضافة إلى حروف المد (الياء والواو ) فإيقاع لفظها لاسمه كاملاً لا يشي بالغضب أو الرغبة في تفريغ شحنة غضبها عليه ؛ لما علمتْ من أمر سفره ليلتحق بزوجته الرومانية كما أن ردود أنطونيو على استفساراتها وتبريره لسفره كله صيغ في النص الشكسبيري بضمير الغائب : " ما الذي يغضب سيدتي ؟! " وكان ذلك مناسباً لحالة الحزن التي انتابته لموت زوجته ( فولفيا ) الذي يدعوه إلى عزم النية على السفر إلى روما ولخشيته من رفض كليوباتره لسفره أخفى عنها أمر السفر .
لما تقدم وجدت أن ترجمة ذلك المقطع ترجمة حرفية هي الأنسب للموقف وليس الترجمة المتصرفة ( للمعلم العاشر ) كما أطلق على نفسه .
ثم كان احتكاكي بإبداع لويس عوض في ترجمته لمسرحيتي ( الصافحات ) أو ( حاملات القرابين ) و ( أجاممنون ) تلك الترجمة التي نحى فيها إلى النظم العمودي مزدوج القافية ، وقد كتب النقاد كتابات متعددة حول الترجمتين ، وخاصة ترجمته ( لحاملات القرابين ) عندما تعثر أداء ممثلي المسرح القومي الكبار ووقع أداؤهم في ( الإرنان ) نتيجة للقافية المزدوجة ويكفي للدلالة على فقدان الأداء لحسن الاستهلال الذي هو أهم سمات الأدب والعمل الفني والمسرحي خاصة - بوصفه فن الأداء الحاضر إرسالاً واستقبالاً - ما يشكل صعوبة أمام المخرج العالمي موزينيدس والممثلين والجمهور الأمر الذي عبّر عنه لويس عوض نفسه تعبيراً ينم عن تواضع العالم وسعة أفقه بأنه قد تعلم الكثير من موزينيدس في هذه التجربة المسرحية العالمية . ويكفي أن أشير إلى أن الاستدلال الذي تلقيه الكاهنة في هذه المسرحية بلغ 182 (ثنتان وثمانون ومائة ) سطراً شعرياً مزدوج القافية وهو ما يؤدي إلى الإملال . وكذلك الأمر مع شبح ( كليتمنسترا ) (ص 32 – 37) و ( أبولو )(ص 41 – 44) و ( أوريست ) (ص 51 - 58 ) من النص نفسه :
" أثينا : سمعت رغم البعد من ينادي
عليّ من مشارف الأعادي
عند اسكماندر ، النهر الحزين
حيث أقيم العدل والقانون ،
بسهل طروادة والأمصار
احتلها بالصارم البتار
أبطال إغريقا رجال الثار
وخصصوا غنائم الديار
الأرض والعبيد والأحرار
هدية لي ، فأنا أثينا "
فهذه السردية الغنائية التي لا تحتوي إلاّ على الوصف السردي الظاهري على لسان الإلهة أثينا ، لا يحسن أداؤه إلاّ بالغناء تخلصاً من الإرنان القوي الذي تحدثه القافية المزدوجة . لكن هل تؤدي المسرحية كلها بسبب ترجمتها في قافية مزدوجة غناء ؟! وهل ذلك ممكن دون أن تتحول إلى نص أوبرالي ( ليبرتو ) ؟!
ذلك دار في مناقشتي لتلك الترجمة في كتابي ( حيرة النص المسرحي بين الترجمة والاقتباس والإعداد والتأليف )
وأخيراً كان احتكاكي به خلال بحث لي بعنوان ( المسرحية بين الرطانة وتعدد الترجمة والتعريب ) ففي موازنتي النقدية لترجمات عربية متعددة لمسرحية ( مكبث ) لشكسبير ، ترجمة متفاوتة ما بين الشعر العمودي والشعر الحر والترجمات النثرية ، وقفت عند ثلاث ترجمات لقطعة واحدة مشهورة ، من حديث ( مكبث ) في ( المنظر الخامس ، من الفصل الخامس ) وهي :
1- ترجمة نثرية دقيقة للدكتور لويس عوض
2- ترجمة من الشعر المرسل لمحمد فريد أبو حديد
3- ترجمة عامر بحيري بالشعر العمودي ، الذي رأى في مقدمة ترجمته للمسرحية أنه " لا عبرة هنا بأن يقال إن مسرحيات شكسبير من الشعر المرسل " وأن الشعر العمودي هو الأنسب في تحقيق روح الشعر "
فخرجت من هذه الموازنة النقدية إلى أن ترجمة د. لويس عوض هي الترجمة الأنسب والأوفق والأكثر تعبيراً عن الموقف المأساوي الذي تردى فيه مكبث وعن ضعفه الإنساني والتعبير عن روح الشعر ، ليس بالصياغة الشعرية العربية في ترجمة ( مكبث ) شكسبير والتزام القوافي و عناصر الشعر العمودي كما تقيد عامر بحيري وأعاب على غيره عدم التقيد بما قيد نفسه به دون غيره الذين انفلتوا من قيود العمود الشعري ! وليس بالصياغة الشعرية المرسلة التي أبدعها ترجمةً : محمد فريد أبو حديد ولكن أعيد هنا السؤال ذاته الذي طرحته في البحث الذي أشرت إليه " هل انتفت روح الشعر من المترجمة النثرية للمسرحية ؟ ألا تدب الحياة في ألفاظها التي هي مجمل أعضاء السياق الأسلوبي ؟ إن النص الأدبي جسد حي سواء كان من جنس الشعر أو من جنس النثر ، وروح الشاعر إن طلبت في القصيدة عند ترجمتها فإن التماسها في المسرحية المترجمة لا يصح إلاّ عند الشخصيات ؛ لأن لسان الحال في العمل المسرحي مؤلفاً كان أم مترجماً ، شعراً كان أم نثراً هو الشخصيات وليس المؤلف ، إذ يتحتم أن تتخفى روح الشاعر تمام التخفي وتتوزع على أرواح الشخصيات فلا ترى مطلقاً ، وظهور الروح عند كل شخصية له أطواره المتدرجة وصوره المتعددة والمتنوعة وفق حالاتها وتفاعلاتها الدرامية في الحدث المسرحي نفسه .
إن ( روح الشعر ) ليست هي أوزانه وتفاعيله وقوافيه ومشتملات موسيقاه الخارجية ، وإنما تكمن روح الشعر في صوره وأخيلته وما الأوزان والتفاعيل والقوافي سوى أدواته ومظاهره الخارجية ، ومن المعلوم أن الروح لا تظهر ظهوراً مادياً في كل ما تدب فيه روح "
هل انتفت روح الشعر من المترجمة النثرية لموقف مكبث المأساوي بعد سماعه لنبأ انتحار الليدي مكبث فيما ترجم لويس عوض ؟ وهل روح الشعر حاضرة في ترجمة عامر بحيري العمودية المقفاة للموقف نفسه ، وفي ترجمة ثالثة للموقف نفسه بقلم محمد فريد أبو حديد :
ابحث معي أيها الشاعر الناقد الكبير في :
ترجمة بحيرى بالشعر العمودي المقفى للمشهد عن روح الشعر و مجرى إيقاعاته :
" سيتون : إن الملكة يا مولاي قد هلكت
مكبث : في ساعة الضيق تنهال الفجاءات
وكان أولى بها لو أنها انتظرت حتى تلم لهذا الخطب أشتات
غد يمر ، وفي آثاره أبدا غد ، تدب به للدهر خطوات
هو السجل كتبنا في صحائفه لكل مبتدئ فيه نهايات
والناس حمقى مشى الماضي يضيء لهم حتى احتوتهم قبور مدلهمات
ممثلون تلهّوا فوق مسرحها ثم انقضوا ، وتلاشت فيه أصوات
كأنها قصة خرقاء يسردها أحيمقٌ ، قد أكدته الشروحات "
ثم أمعن النظر
2- في ترجمة لويس عوض النثرية للموقف نفسه كشفاً للروح الشعرية ولروح الإيقاع :
" سيتون : الملكة ماتت يا مولاي
مكبث : ليتها ماتت بعد هذا الأوان
إذاً لوجدنا الوقت لمثل هذه الكلمة
غداً ، ثم غداً ، ثم غداً
هكذا نزحف من يوم ليوم في خطو بطيء
حتى نبلغ آخر مقطع في سجل الزمان
وكل ما مضى من أمس قبله أمس
أيام تركت فأضاءت طريق الحمقى إلى تراب القبور
انطفيء ! أيتها الشمعة الصغيرة ! ما الحياة إلاّ ظل عابر .
هي ممثل تافه يمشي الخيلاء ، ويملأ المسرح ساعة بضجيجه
ثم لا يسمع له صوت بعد ذلك ..
هي قصة يرويها أبله ، كلها صخب وهدير
ولكنها خالية من كل مغزى .. "
3- النموذج الشعري المرسل من ترجمة محمد فريد أبو حديد للموقف نفسه ( روحه وإيقاعاته ) :
" سيتون : مولاي ماتت ملكتي !
مكبث : ليتها قضت بعد حين
علّ فيما يكون بعد من الوقت
أواناً لمثل هذا الحديث
بل غد ، بعده غد ، وغد آخر
تحبو بتلك الخطى القصار دبيباً
تتوالى يوماً فيوما
إلى آخر حرف مسجل في الزمان
كل أمس لنا أضاء لحمقى
في طريق يفضي لموت التراب
أيتها الشمعة الضئيلة ، بعداً لك ، بعد اً
فإنما العيش في ظل
كخيال يمشي ، وكاللاعب المسكين
في مسرح يضج ويزهى
ساعة قدرت له ، ثم يمضي
ثم لا يسمع من بعدها مدى الأيام
إنها قصة يرددها الأبله
صوت وهيجة .. دون معنى "


ألا تدب الحياة في ألفاظ الترجمة النثرية وتسري سريان الدم في العروق ؟ إن النص الأدبي جسد حي سواء كان من جنس الشعر أو من جنس النثر وروح الشعر . إن طلبت في القصيدة فإن صوت الشاعر في الصور المنظومة هو دليل وجودها لكن التماسها في المسرحية لا يصح عند الشاعر بل عند الشخصيات لأن لسان الحال في العمل المسرحي مؤلفاً كان أم مترجماً ، شعراً كان أم نثراً هو الشخصيات وليس المؤلف ، إذ يتحتم أن تتخفى روح الشاعر تمام التخفي وتتوزع على أرواح الشخصيات فلا ترى مطلقاً . وظهور الروح عند كل شخصية له أطواره المتدرجة وصوره المتعددة والمتنوعة وفق حالتها وتفاعلاتها الدرامية في الحدث المسرحي نفسه ، ولا شك أن الإيقاع يعد المظهر المسموع والمرئي الأكثر وضوحاً للدلالة على روح الشعر سواء في القصيدة أو في النثرية الأدبية (الحوارية) غير أن صوت الإيقاع يصبح أكثر ضجيجاً في الشعر المقفى عنه في الشعر المرسل وفي شعر التفعيلة ويقل ضجيجه في المسامع النثرية عنه في المسامع المقفاة والمسامع الشعرية غير المقفاة ، كما تبدو حركة الصور المرئية بعين الذهن في الإيقاعات عند المصور أقل وهجاً في ميزانها الإيقاعي عنها في الصورة الشعرية المرسلة وعنها في الصورة الشعرية المقفاة على النحو الذي تكشف عنه النماذج السابقة لمشهد مكبث بعد تلقيه نبأ انتحار الليدي مكبث .
ومع أن الإيقاع يشكل العمود الفقري أو العقل المنظم لحركة الصورة وتواليها في المشهد سواء في ترجمته الشعرية العمودية أو المرسلة أو النثرية ، إلاّ أن روح الشعر تبدو لي أكثر حضوراً في ترجمة لويس عوض النثرية عنها في ترجمة فريد أبو حديد الشعرية المرسلة ، بينما تضج روح الشعر في ترجمة عامر بحيري للمشهد نفسه من اصطكاكات الإيقاع وفجاجاته التي تخلو من الانسيابية اللازمة للأداء المسرحي .
في ترجمة لويس عوض تعكس الصورة في قول مكبث حالة من حالات روحه ، حالة الاستسلام للقضاء والقدر ، تعكس إدراكه لعمومية هذه الحالة ، لأن البشر كلهم يزحفون وليس هو الزاحف الوحيد نحو آخر مقطع خطه القدر في عمر الإنسان . وهذه الحالة قد سيطرت على روحه من قبل أن ينعى إليه نبأ موت الليدي مكبث . فالزحف نحو النهاية مستمر قبل علمه بالنبأ ، وما موتها سوى انتهاء خطواتها لأنها بلغت المقطع الأخير في سجل حياتها .
إن كل الذي كان يتمناه مع حالة الاستسلام للقضاء والقدر ، هو فحسب بعض الوقت ، حتى يمارس معها لعبة انتظار النهاية المحتومة . وهذا ما يعكسه لفظه بعد علمه بنبأ موتها وقبل أن يعلق على النبأ يظهر روح استسلامه ويعلنها بعد سماعه للخبر :
" ليتها ماتت بعد هذا الأوان
إذا لوجدنا الوقت لمثل هذه الكلمة !
غداً ، ثم غداً ، ثم غداً "
إن روح الشعر تظهر في تمني مكبث أن يمتد عدد خطوات زوجته شيئاً ما ليمارسا معاً لعبة انتظار النهاية وتلك لعمري روح كل ابن حواء . تلك كانت الترجمة النثرية للموقف عبر عنها لويس عوض ليصور روح مكبث التي اندمجت فيها روح شكسبير بل روح الإنسان في كل مكان وزمان قرب شعوره باقتراب أجله . فما هو مدى وفاء ترجمة أبي حديد الشعرية لروح الشعر وروح الإنسان التي زعم بحيري وفاء الشعر العمودي بها دون غيره :
" ليتها قضت بعد حين
عل فيما يكون بعد من الوقت
أواناً لمثل هذا الحديث
بل غد ، بعده غد ، وغد آخر "
إن ظهور روح الشعر يكون خلال المعنى من وراء هذا الظهور والجمل الملتبسة التي تنبني عليها الصورة الشعرية لا تفي المعنى حقه من الوضوح أو من البلاغة ، ففصاحة المظهر اللفظي هي الفاعل الرئيسي في بلاغة المعنى ، فلا بلاغة في المعنى الملتبس ، والأسلوب الذي يلفه الغموض لفاً يلبس معناه على مستقبله . فلفظتي ( ليت) و(علّ ) عند أبي حديد تفيدان التمني ، بينما تعبر ( ليت ) في ترجمة لويس عوض النثرية عن التمني وتعبر ( إذا ) عن تبرير التمني ، وبذلك فإن توظيف لويس عوض للفظتين مختلفتين تعطيان معنيين مختلفين الأول ( طلبي ) والثاني (سببي ) وذلك أفصح من توظيف أبي حديد للفظتين هما أداة لمعنى واحد - من ناحية - ومن ناحية ثانية تعطينا لفظتي لويس عوض إيقاعين صوتيين مختلفين . وبذلك تكون فصاحة اللفظ في الترجمة النثرية عند لويس عوض أنفع لبلوغ المعنى على المستويين الدرامي والشعري وأكثر تحقيقاً لجماليات التنويع الإيقاعي ، حيث تؤدي المفردة إلى تخليق مفردة أخرى ، تنبني الثانية على تحقق الأولى ، وهكذا الحال ، إلى نماء يؤدي إلى ذروة الفعل فنتيجته المنفرجة ، ذلك النماء الذي يكشف عن الروح الإنساني الذي تشكل إيقاعات الحركة والدوافع سبل ظهورها المتنامي .
و لفظة " تحبو " في السطر الشعري لترجمة أبي حديد ليست تفيد حالة خطوة نحو النهاية ، ولكنها تعكس حالة البداية لأن الحبو صفة تطابق حركة السير الطفولية ، هي صفة لبداية حياتية وليست تطابق حركة خطو في نهاية رحلة حياة إنسانية .
لذلك كان اختيار لويس عوض للفظة " نزحف " ألصق بالحالة التي تستنشق رائحة الموت ، وألصق بالإنسانية في عمومها ، فالزحف فعل جمعي يخص الماضين والحاضرين والقادمين ، الجميع زاحف نحو مصيره ، والزحف مراحل " من يوم ليوم " في حين أن " الحبو " متوال عند أبي حديد . ولئن كان الحبو نوعاً من الزحف ، إلاّ أنه زحف الطاقة المتفتحة النشطة المتوالية ، في حين أن زحف المستقبل لنهايته المحتومة يكون على مراحل لأنه يقاومه من داخله ، فهو رافض له ، في حين أن زحف ( الحابي ) طفلاً هو زحف الراغب الفرح بزحفه ، هو زحف غير مدرك ، ولكنه زحف غريزي والفرق كبير بين الزحف المدرك المستبصر الخبير والزحف الغريزي !! وبين المظهر الإيقاعي لكلا الزحفين .ولننظر أخيراً إلى طبيعة الصورة في ترجمة لويس النثرية وإلى طبيعتها في ترجمة كل من أبي حديد وعامر بحيري الشعريتين ؛ لنر أي الصور الثلاث المترجمات أقرب إلى روح الشعر وقيمه الجمالية وأي إيقاع منها أقرب إلى الموقف المأساوي لمكبث :
لويس عوض : " أيام احترقت فأضاءت طريق الحمقى إلى تراب القبور "
أبو حديد : كل أمس لنا أضاء الحمقى
في طريق يفضي لموت التراب
بحيري : " والناس حمقى مشى الماضي يضيء لهم
حتى احتوتهم قبور مدلهّمات "
أبو حديد قصر الحمق على بعض الناس ، وجعلنا نعتقد أن هناك لوناً من الموت لا يفضي إلى التراب فخالف الحديث أما ترجمة بحيري فتخص الجميع بالحمق وتخص الماضي وحده بالإضاءة من الميلاد حتى الممات . فالماضي هو ما ينير للناس وهم حمقى سبيل الحياة ولا شيء غيره ! وهو يعكس روح التعصب للماضي ويدعو إليه وحده قدوة للحاضر وللمستقبل - وذلك يناسب إيقاع فكره - وذلك يتعارض مع روح الشعر التي هي الإبداع والقدرة الفذة على الخلق التصويري على غير مثال ، ويتناقض مع " الدور الكبير المنتظر " من المسرح الشعري " في ظلال الثورة وتحت أعلام الوحدة العربية " - التي هلل لها مع المهللين وقتذاك - والثورة تكتسب مسماها من تخطيها للماضي وللحاضر استشفافاً للمستقبل وتلمساً لضيائه والاستضاءة الاجتماعية به .في ترجمة أبي حديد تعميم والتباس وبعد عما قصده شكسبير في صورة وصفه للحياة البشرية التي هي أشبه بحياة شخصية يؤديها ممثل فاشل في حلبة المسرح :
" فإنما العيش ظل
كخيال يمشي ، وكاللاعب المسكين
في مسرح يضج ويزهي
ساعة قدرت له ثم يمضي "
لقد أضرّت الترجمة هنا بالمعنى الذي قصده شكسبير " فاللاعب المسرحي " لا تخص الممثل بل تخص الراقص والمغني ولاعب السيرك أيضاً :
أما ترجمة بحيري لتلك الصورة ففيها تعميم يبتعد عن المعنى الذي أراده شكسبير :
" ممثلون تلهوا فوق مسرحها ثم انقضوا ، وتلاشت فيه أصوات "
إن الممثل لا يتلهى فوق خشبة المسرح ، وإنما التلهي يكون للجمهور في نوع من أنواع الدراما في ( الملهاة ) والأصوات ليست هي فحسب التي تتلاشى بالموت ولكن الحركة والفعل أيضاً .
وفي الألفاظ بترجمة بحيري تثاقل لا يتناسب مع الانسيابية التي تتطلبها لغة الأداء التمثيلي : " قد أكدته - أحيمق - الشروحات - مدلهمّات الفجاءات " وفي قوله :
" قد كان أولى بها لو أنها انتظرت حتى تلم لهذا الخطب أشتات "
إذاً لم يبن الفعل " تلم " للمجهول . فيه إكفاء .

وخلاصة الأمر أولاً : أن روح الشعر لا تتحقق - فيما رأينا - في ترجمة بحيري الملتزمة بعمود الشعر على طريقة (شوقي وأباظة ) كما أوضح - ولم تتحقق دقة المعنى الذي أراده شكسبير على لسان الشخصية بما يناسب إرادتها عنده وعند أبي حديد .
وثانياً : اختلف الإيقاع في المشهد الواحد وعلى لسان شخصية واحدة هي مكبث لاختلاف المترجم " ثقافة وإدراكاً ومعايشة وموهبة وخبرة وروحاً شعرية " تدرك أن الإيقاع يشكل عنصر القبول أو النفور عند الذوق المتلقي لفكرة من الأفكار ، متوافقاً مع إيقاع الأسلوب أو الشكل الذي يكون بدوره نظاماً زمنياً متدفقاً ، وفق خطة بنائية جمالية محكمة في الزمان ( فنون السمع ) أو في المكان ( فنون الرؤية ) أو فيهما معاً في حالة من الحضور إرسالاً واستقبالاً في آن وزمان ( فن المسرح ) .


المقاربة الثقافية في ( محاكمة إيزيس )
بين الإبداع الفلسفي والإبداع المسرحي
- دراسة تطبيقية -

تتبدى البصيرة الحداثية في مسرحية لويس عوض ( محاكمة إيزيس ) أولاً في اختياره لشخصية ( إيزيس ) نفسها على اعتبار أن فكرة البعث قد تبلورت في قصة جمعها لأشلاء زوجها أوزيريس لتعيده إلى الحياة ومن ثم نشوء حالة من التقديس تحيط بدورها وبقصة نجاحها في ذلك الأمر الخارق للقدرة الإنسانية مما أحال هذه الحادثة الأسطورية إلى طقس ديني ترسخ على هيئة اعتقاد في نفوس الناس في كل أرجاء مصر ولعصور متتالية فإيزيس إذن هي المنبع الأساسي لفكرة التقديس والشعيرة الطقسية والاعتقاد بالبعث والخلود ، لذلك فقد وجد فيها لويس عوض منطلقاً لإعمال بصيرته ومصدراً حاضاً لنا على أن نعمل بصيرتنا لنتجاوز ( منامة الطقس ) إلى ( نهار اليقظة ) .
ولا شك أن تجاوز ( منامات عصور الطقس ) تحتاج منّا إلى معاناة فكرية ووجدانية عميقة لا يقدر عليها من لم يتملك بصيرة لويس عوض الحداثية . ولأن لويس عوض أحد الرموز الثقافية الكبيرة في مصر وبلاد العرب ، ولأنه مفكر ملتزم بقضايا التنوير لذلك حمل عبء تقريب المسافات بين جيلنا والأجيال التالية على جيلنا ونهار اليقظة فحملنا على متون كتاباته النقدية من سرير منامات عصور الطقس إلى نهار اليقظة . وهو في سبيل ذلك يحلق بنا فكره ممتطياً متن مسرحيته تلك لنبصر بعين الحداثة من عل حيلة تخفّي ( عشتروت ) في هيئة خادم لترضع وليدها في القصر الملكي إشارة إلى المقاربة الثقافية الدينية مع تخفي أخت موسى في القصص الديني لترضعه طفلاً في قصر الفرعون .
ثم نبصر بعين الحداثة شعيرة الحج إلى قبر ( أوزوريس ) ، إشارة إلى المقاربة الثقافية الدينية مع ( شعيرة أو فريضة الحج إلى مكة أو إلى بيت المقدس ) ونبصر بعيون حداثية معجزة الأم التي تحمل دون أن يمسسها بشر فتلد ( حورس ) في الطقس الديني الفرعوني إشارة إلى معجزة العذراء في الحمل بدون أن يمسسها بشر.
ونبصر بمنظار الحداثة المقاربة الثقافية بين قصة اختلاء إيزيس بنفسها مكاناً قصياً عند المخاض وقصة مريم ومخاضها في القصص الديني .
ونبصر حادثة إلقاء ابن عشتروت في النار وخلوده دون أن تمسسه النار بضر وقصة السلامة الإبراهيمية من نار النمروذ في القصص الديني .
ثم نبصر بعين لويس عوض الحداثية فكرة التثليث مرتين الأولى في العبادة الأوزيرية ( إيزيس، أوزوريس ، حورس ) والثانية في المسيحية ( الأب - الابن - الروح القدس) ونبصر معه خلاص ( حورس من ست ) في نهاية المطاف . كما نخلص في النهاية من ( المسيخ الدجّال)فبعث حورس للخلاص من الشر في آخر الزمان كقيام المسيح للتخلص من المسيخ الدجال في آخر الزمان .
ونبصر فكرة صعود الإله في مقاربة ثقافية مع صعود المسيح إلى السماوات ونبصر فكرة الأضرحة وفكرة إنطاق الجوامد والصوامت وغيرها .
وفي استعارتنا لبصيرة لويس عوض ومرورنا المارق بين هذه المفاهيم والعلامات الدينية وما ترمز إليه نسترجع ما يقابلها من علامات ورموز دينية ثابتة في معتقداتنا ، فنكتـشف أن هذه المفاهيم وتلك الطقوس انحدرت إلينا وفق التراتبية المعرفية كموروث ثقافي عاش في جنسنا منذ ذلك التاريخ السحيق للفراعين وما زال فاعلاً في عصرنا الحديث . وهنا لا يصبح أمام من أبصر مفعول التراتبية المعرفية ببصيرة لويس عوض الحداثية ، إلاّ أن يقفز من ( مركبة الطقوس النوّامة ) ليهبط هبوط أورفيوس في ( نهار اليقظة ) . وعندها تكون رسالة لويس عوض التي حملها متن مسرحيته ( محاكمة إيزيس ) قد وصلته وتكون دعوته إلى محاكمة إيزيس محاكمة لامتداد تأثير قداستها إلى العصور التالية على عصرها وصولاً إلى عصرنا الحاضر وهي محاكمة تدين التراتبية المعرفية والتواصل الثقافي وثقافة الثوابت .
ومع أن نص لويس عوض من جهة نظري يعد نص المواجهات الدرامية للفكر ونقيضه الفكري ، إلاّ أن ذلك لا يحيل النص إلى حالة من حالات الصراع الفكري الجاف أو الخالي من روح الكتابة المسرحية في تقنياتها وجمالياتها .
لقد قرأت النص في المرة الأولى ونسيت أنه لكاتب معاصر فلقد خدعني الأسلوب الفني فاعتقدت بأنني أقرأ نصاً مسرحياً قديماً . ولو قارنّا بين نص ( بعث حورس ) ونص (محاكمة إيزيس ) لما لاحظنا فروقاً تذكر في أسلوب عرض صراع الأفكار في هيئة شخصيات ولا في تقنيات الكتابة وجماليتها ولا في إلباس الآلهة صفات بشرية ففي ( بعث حورس ) وفي النص الموازي الذي تبدأ به الافتتاحية نجد المنظر عبارة عن ( مستنقعات البردي بمدينة خميس بالدلتا حيث اختبأت إيزيس بعد مصرع زوجها أوزوريس ، وبجوار إيزيس جثة ولدها حورس هامدة. إيزيس تخاطب النظارة لتعرض عليهم أحزانها ) .

• الصفات البشرية للآلهة بين الثبات والتغير :
ارتبط المسرح الفرعوني بالفكر الديني وبالقيم الدينية ارتباطاً وثيقاً . وقد شكلت كل من الأفكار والقيم الدينية دور المسرح ووظيفته الطقسية ، على أساس أن المسرح الفرعوني هو مسرح الآلهة ؛ الداعي إلى أن الإنسان قائم في وقوف الآلهة إلى جانبه .
ومع أن للآلهة الفرعونية صفات بشرية ومع أن الصفات البشرية متغيرة ومتبدلة ؛ إلاّ أن تلك الصفات لها صفة الثبات ، لارتباطها بالآلهة ، وباعتبار الآلهة خالدة ، لذا فتلك الصفات التي استعارتها من البشر لها صفة الخلود أيضاً . إن لويس عوض في نص ( محاكمة إيزيس ) يحاكم الأسطورة نفسها بالكشف عن مقاربتها للنص الديني السماوي فهو المبدع الباحث المعاصر في ذات الوقت في النصوص المصرية القديمة عن قصص دينية حدثت مع الآلهة في أحداث الأسطورة ، ثم يقارنها في ذات الوقت بما ورد في ( الكتاب المقدس ) و( القرآن ) بعد ذلك . ومنها قصة ( عشتروت ) في نص ( محاكمة إيزيس ) حيث تخفت في هيئة خادم ودخلت قصر ملكة لبنان مرضعاً لوليدها الصغير ) وقصة إيزيس ومعجزة حملها بالروح القدس دون أن يمسها زوجها وقصة إلقاء إيزيس لابن عشتروت في النار وخلوده وقصة اختلاء إيزيس بنفسها مكاناً قصياً ، وفكرة الإله الابن والابن المخلص حورس ، كل ذلك القصص الديني يشبه قصصاً لموسى وأمه أو أخته التي تخفت ودخلت قصر الفرعون لترضع وليدها وقصة حمل مريم بالروح القدس وقصة إلقاء إبراهيم في النار وخروجه سالماً وفكرة التثليث عند المسيحية معجزة الأم العذراء التي تحمل دون أن يمسسها زوج عند إيزيس في المسرحية وعند مريم في العهد الجديد والقرآن . إن تكرار تلك القصص الدينية في الكتب السماوية ، يقطع بثباتها في عقيدة المؤمن بالله وكتبه ورسله . كذلك نجد في النص نفسه فكرة الأضرحة وزيارتها . كذلك نجد في نص ( محاكمة إيزيس ) شعيرة الحج إلى قبر أوزيريس ، حيث يحج الناس إليه ونجد فكرة الثأر من قاتل أوزيريس فعندما (استكمل حورس بأسه وفتوته خرج ليثأر لأبيه من قاتله ) وفكرة الخلاص التي عرفتها المسيحية بعد ذلك ، مع فكرة الثالوث المقدس ( الأب - الابن - الروح القدس ) كلها عرفها المصريون القدماء من خلال قصة خلاص ( حورس ) من (ست) عمه وقاتل أبيه ( أوزوريس ) وفكرة القضاء على ( المسيخ الدجال ) نراها في النص نفسه حيث أن استيقاظ حورس كان في آخر الزمن ؛ ليخلص الكون من الشر . فكرة صعود الإله ومثلها صعود المسيح في الفكر المسيحي .. إن كل تلك الأفكار دينية أو متصلة بالعقائد ، وهناك أفكار أو عادات متصلة بالعقائد مثل فكرة ( النواح ) فلقد " كانت مصر من أقصاها إلى أقصاها تنوح كل عام لتمزيق هذا الإله المعذب فتحلق النساء شعورهن ويدققن الصدور ويصبغن وجوههن بالنيلة ويلطخنها بالوحل حزناً على تمزيق إله الخصب "
ومثل هذه العادات مازالت تمارس إلى الآن في صعيد مصر وفي ريفها وتكرارها عبر العصور أحالها إلى طقس أو عادة فلكلورية ( تراث ) . وهناك من الفنون ما كان نتاجاً لشعيرة دينية فرعونية ، وأقصد بها فن أو لعبة ( التحطيب ) .
إن هذه اللعبة المنتشرة حتى الآن في صعيد مصر هي بقايا شعيرة دينية مصرية قديمة ؛ ولندع هيرودوت المؤرخ اليوناني القديم يخبرنا عمّا كان المصريون يفعلونه في حفلاتهم هذه التي مجدوا بها قصة إله الخصب ؛ يقول هيرودوت :
" وما أن تبدأ الشمس في المغيب حتى يتجمع نفر من الكهنة حول التمثال مقبلين على عجل إقبالهم على أمر هام ، وأما بقية الكهنة ، وهم الكثرة ، فقد كانوا ينتظرون عند مدخل المعبد حاملين الزقل والشوم ، وفي الجانب الآخر كان أكثر من ألف شخص يتجمهرون وكلهم من ناذري النذور ، وكان كل منهم يحمل عكازاً " وتنشب معركة بين الطرفين بالشوم بين من في موكب تمثال الإله والذين تجمهروا وسدوا عليهم الطريق ليحولوا بينهم وبين دخول المعبد " وهكذا تنشب معركة حامية يستخدم فيها الشوم وتشج الرؤوس ويموت الكثيرون " .
ويعلق د. لويس عوض على ذلك بقوله : " وواضح من هذا أن عادة التحطيب التي لا تزال قائمة بيننا حتى الآن كانت في مصر القديمة جزءاً لا يتجزأ من الطقوس الدينية الخاصة بعبادة أوزيريس ، أو على الأصح بعبادة ولده حوريس ، إله القوى المنتقم لأبيه ، هرقل مصر وماحق الشر فيها " .
وأخلص مما سبق إلى أن كل ما ارتبط بالعقيدة الدينية من صفات انحدرت عبر العصور القديمة - عصور الوثنية لتصبح من ثوابت الفكر الديني السماوي .


نص مسرحية ( محاكمة إيزيس )
بين ثقافة الثوابت وثقافة المتغيرات

يثبت النص الذي بين أيدينا أن الآلهة المصرية القديمة لها عواطف مثلها مثل البشر فهي تحس وتحقد ، فهذا ( ست ) بعد وصوله إلى " أون " وهو يرتقي درج المعبد فرأى " مرمره الأملس النظيف المطعم بالبازلت أضمر البغض لكاهن أون وعزم على تأديبه " فإذا ببغضه وحقده يتحول إلى حسد ، حتى أنه " نفخ في الأعمدة المنقوشة فطمست أنفاسه الصلوات المحفورة على الأعمدة بغبار أصفر رقيق "
وتظهر فكرة إنطاق الجوامد في النص نفسه أيضاً " وهمس عمود لعمود " الإله الأصفر الإله الأصفر " وفكرة إنطاق الجوامد ، فكرة تراثية فلكلورية أما فكرة المعاشرة الجنسية بين المحارم ، وهي فكرة دينية ارتبطت بالنواهي أو المحرمات ، تلك التي نهت الآلهة البشر عن اقترافها ؛ لكنها هي نفسها تمارسها فهذا ( رع ) الإله الأعظم يمارس المحرمات : " لقد وعد زوجة أخيه الجميلة " آيا " وهي خليلته في وقت واحد ، بأن يزورها الغداة بمنفيس ، وفي صحراء منفيس سوف يكيدك الإله ست سلطان الصحراء " إن ممارسة الغرائز ليست سلوكاً إلهياً ، ولكن الآلهة القديمة تمارس الغرائز ، والعواطف : ( الحسد والحقد والنفاق والشذوذ ) ويظهر النفاق في سلوك كاهن معبد ( أون ) للإله ( ست) فهاهو يتضرع للإله ست منافقاً :
" أنوبيس : مولاي عفوك يا مولاي ، إنه خادم المعبد ، ولسوف أطرده غداً من المعبد .
لسوف أطرده غداً من أون يا مولاي . لسوف أزجه غداً في السجن . مدى
الحياة إن شاء مولاي إنها غلطة لا تغتفر ، ولكن مولاي أرحم الراحمين "
ست : أيها المخادع
أنوبيس : الرحمة يا مولاي
ست : كيف تزيل أثاري من كل مكان ؟ أين الرمال . رمالي ؟ على الدرج رمال على
الأعمدة رمال في الأبهاء رمال . ولكنك أزلتها أيها المخادع . أتخشى بأس
أوزيريس؟ غداً تعلم أينا سيد الوجود .
أنوبيس : كلا . كلا إنه خادم المعبد يا مولاي . لسوف أطرده غداً من أون . لسوف
أطرده شر طرده . بعد المحاكمة يا سيد الوجود فوراً فوراً . إن عندي ثلاثة
عجول سمان وهبتها لك يا سيد الوجود كلها لك . غداً تخرج أسرتي إليك
بالضراعة والقرابين " .
وتظهر في هذه الحوارية فكرة النفاق والمداهنة وفكرة اللوم وفكرة الوعيد والانتقام والردع كما تظهر فكرة ( الكفّارة ) حيث يكفر أنوبيس عن خطئه أو خطيئته بتقديم القربان (ثلاثة عجول ) وكلها صفات بشرية . وسرعان ما يتحول أنوبيس عن ست بعد أن " رأى الآلهة الآخرين وافدين من بعيد مثنى مثنى ، يتقدمهم " تحت " كاتب الآلهة " (9)
ومن الملاحظ ، أن الآلهة غيرى من بعضها البعض ، وهي تتنافس وتتصارع وتتناكح وتخون وتلك كلها صفات بشرية متكررة عبر تاريخ البشرية وهي بذلك ثابتة من حيث إطارها الخارجي أو العام ولكنها متغيرة من حيث تفاصيلها والظروف المحيطة التي تؤدي إليها وصورها.
وسوف لا ندهش إذا رأينا ( بتاح ) إله الصناعة أو الحدادة يصطفي غلاماً صبوحاً !! أو إذا رأينا إيزيس " قد أسدلت على وجهها حجاباً رقيقاً من نسيج عجيب لا تنفذ فيه الأبصار " أو إذا طالعتنا فكرة سخط الآلهة للبشر ليصبحوا حيوانات أو جمادا . وقد لا ندهش إذا وجدنا أنوبيس الذي كان منذ لحظة يتذلل للإله ست ، يتمرد عليه ويتبجح وتتبدل لغة التذلل إلى لغة التجرؤ والتطاول بعد حضور الآلهة وخاصة الإله ( بتاح ) بدرعه المضئ وحرابه الكثيرة :
" أنوبيس : لقد ظلمني سيدي . إن سيدي قد حضر قبل الجلسة بربع ساعة دون سبب أعرفه .

وهذا مخالف للوائح المحكمة التي أصدرها القاضي " تحت " ووقع عليها جميع الأرباب إن في هذا إرهاباً لهيئة المحكمة يا سيدي . محال أن ينفرد الآلهة بالبشر أو أن ينفرد الآلهة بالآلهة قبل انعقاد الجلسة . لقد كان ينبغي أن ينتظر في استراحته "
وعلى الرغم من ذلك فإن حواره يعطينا فكره عن طبيعة النظام القائم والمعمول به بين الآلهة عند التقاضي وفكرة الحياد التي يجب مراعاتها حينئذ .
كما يكشف قول أنوبيس لـ " ست " عن فكرة التهرب من النذر أو الالتزام :
" .. .. أما العجول الثلاثة فرجائي أن يكتفي سيدي بعجل واحد منها ، الأسبوع المقبل سوف تخرج أسرتي إلى الجبانة وتوزع اللحم على روح عمي . وسيدي يعرف أن " أوزيريس " يوزع الرحمة بمقدار ما توزع اللحم "
إن فكرة الترحم على الأموات عادة قديمة وكذلك فكرة الاسترضاء ، وفكرة النذور . وفكرة ذم الخصم والغيبة :
" إن " أوزيريس " قد غدا في الأيام الأخيرة إلهاً جشعاً منذ أن أقام في " ببلوس"
" أنظر يا سيدي إلى هذا الرخام المشقق من منّا سيدفع نفقات إصلاح المعبد ؟ سوف أتولى أنا إصلاح المعبد ثم أخصم النفقات من نصيب سيدي في النذور "
".. ويل للبشر من الآلهة . ويل للبشر من الآلهة "
حتى فكرة التبرم بالآلهة والتضرر من مطالبها ثابتة في هذا النص المسرحي وفكرة توظيف جزء من حصيلة النذور الخاصة بالمعبد .

المونولوج بين مراجعة النفس وضبط انفعالاتها

إذا كان الحوار قد اتخذ في المسرحية عدداً من المستويات المتنوعة ما بين الحوار الجماعي ( حوار الكورس ) تعبيراً عن رأي عام والحوار الثنائي ( الديالوج ) والحوار الثلاثي (التريالوج) فإنه قد ظهر في شكل الحوار الفردي في المناجاة ( المونولوج ) أيضاً ، حيث تتصارع عاطفتين أو إرادة وعاطفة لدى شخص واحد وذلك قائم في الموقف الذي يقفه الإله ست مع نفسه بعد تهجم الكاهن ( أنوبيس ) عليه وتطاوله ليس عليه وحده ، ولكن على خصمه أوزيريس ، وست يراجع موقفه منه . يراجع رغبته في الانتقام من ذلك الكاهن ( مندوب البشر في محكمة الآلهة ) حتى " لا يؤثر في مجرى العدالة " وحتى لا " يتذرع اللئيم " تحت " بذلك ليطلب تأجيل الجلسة ؟ إنه ظل قرنين كاملين ينتظر هذه الخطة الحاسمة . والأرباب كلهم بين مؤجل ومسوف ومتوسط في الصلح "

وهكذا يتحاور في " ست " عقله مع عاطفته :
" ست : إن تحت كان دائماً يقول : " هب اتهامك صادقاً " ولكن عار أن تنشر الآلهة
غسيلها القذر أمام الناس سوف يتندرون بنا كلما اجتمعوا حول قصاع العدس أو التقوا بين أعواد الذرة في الحقول . إن " تحت " كان يرفض دائماً أن يدعوا الأرباب الأجانب ليشهدوا المحاكمة . وكان يقول في ذلك " أيها الزملاء استحلفكم أن تبقوا زيتنا في دقيقنا ، لا تلوثوا سمعة مصر في الخارج . سوف يعصف هذا بشرفنا القومي ، كيف تكشفون عورتكم أمام آلهة البرابرة ؟ واهاً على المجد الذي كان أيام أن كان اسم " رع " مولانا العظيم ولد " نون " ذي الغدائر الزرقاء يرعب الأرباب الشياطين على جبل الأولب ، على جبل " البرز " من جبل أطلس " إلى جبل " القاف " من جبل " أرارات " إلى جبل عرفات وترتعش له أشجار " الهوم " على جبل " هملايا " وفي وديان " كشمير فلتتصدع أسرتنا في الداخل ولكني استحلفكم أن تكتموا شقاقنا على الأعداء ثم تذكروا جيوشنا في الأمصار سوف يحطم هذا روحها المعنوية سوف يؤثر هذا في تجارتنا . ولكن " أنوبيس " الماكر هو الذي استطاع أن يفسد عليه خطته ، ويحرجه إحراجاً أمام بقية الآلهة . إن أنوبيس هو الذي دبر ثورة البدو في صحراء النطاط وفي كل صحراء وأوحى إليهم أن ينادوا بمحاكمة " إيزيس " أو الانسلاخ من حكومة "منفيس " ألم يزيف " أنوبيس " الماكر آلاف الرسائل والعرائض وينسبها إلى أهالي النوبة وإلى حامية ( برقة ) وحامية " سينا " ويزعم فيها أن الأمصار تهزأ من أسرة " رع " وتجهز للثورة ما لم تحاكم " إيزيس محاكمة علنية وتثبت براءتها ؟ ويل للآلهة من البشر " . بل إن أنوبيس قد أفلح في دعوة " بنتاؤر ليشهد المهزلة ويخلد عار إيزيس بقريضه النضيد . ويل للآلهة من البشر "
إن هذا المونولوج يعكس روح التآمر في عالم السياسة ، ومع أنه يصور الحياة الخاصة للآلهة في صراعها مع بعضها البعض ، لكنه يعكس فكرة الوفاق بين طبقة الآلهة ولم شمل الآلهة تلك التي يحرص " تحت " إله الثقافة والفكر عليها في مجتمع الآلهة الفرعونية كذلك يعكس وعيه السياسي في حرصه على مصر الخارجية وحرصه على عدم إذاعة أسرار الآلهة في صراعاتهم حرصاً على مصالح البلد الخارجية في التجارة وفي ردع الدول المجاورة التي تدين لها بالولاء ، وفي الحرص على الأمجاد التي حققها " رع " وفي آسيا . لذلك يؤجل ست انفجاره في أنوبيس عند تذكره لكل ما كان منه ومن الآلهة ومن " تحت " وحرصه على أمن البلاد التي أخضعها المصريون لهم . فهو على الرغم من إدراكه بأن أنوبيس هو الذي يشيع الفتنة بين أفراد الشعب ( البدو في الصحاري ) وهو المحرض على محاكمة علنية لإيزيس وتجنيد الشاعر بنتاؤر وهو بمثابة وزارة الإعلام على أيامه ليصنع حملة إعلامية لفضح (إيزيس) ونقل صورة المحاكمة وعلى الرغم من ذلك فإن مصالح البلاد العليا أهم مما يفعله أنوبيس فالمهم هو إحباط مؤامرته .
هذه صورة الآلهة وهذه طبيعة القيم والأفكار والقضايا التي يعرض لها هذا النص وهي قيم بشرية تصنعها الآلهة وتتصف مثلها مثل البشر . وهي قيم وقضايا منها ما له صفة العبور إلى عصور تالية على العصر الفرعوني ومن قارة إلى أخرى ، لأن البشر هم البشر ، ولأن الآلهة المصرية تتخذ من الصفات البشرية - صفات لها ، وكذلك تفعل آلهة الأمم القديمة ؛ فربما كان هذا ما دعا شادون تشيني إلى القول إن " عالم الشعوب الهمجية يكاد يكون حافلاً بالآلهة والأرواح ذات القوة المقتدرة التي لا تعجز عن شيء "
ولأن الآلهة متعددة ولأنها لا تكتفي بممارسة تسلطها على بعضها البعض بل تتعدى ذلك إلى البشر وهم ضعفاء فتمارس تسلطها عليهم مما جعل الإنسان دائماً في حالة إظهار لخضوعه لها وفي حالة تملق وتقرب بالأضاحي والنذور والتراتيل والصلوات . والانحناءات . مما يولد لدى البشر والكهنة على رأسهم الولاء المزدوج .
إن النص يصور " ست " إلاهاً انتهازياً ، ويصوره محتقراً ومكروها ليس فحسب من البشر ممثلاً في الكاهن الأكبر أنوبيس ولكن من الآلهة أنفسها ؛ فهذا بتاح حين مر " ألقى نظرة إلى المرمر المتشقق وإلى كسر اللوتس الحجري وإلى الغبار الأصفر ا لذي طمس الصلوات على الأعمدة ، ثم ألهب "ست " بنظرات من نار وبصق على الدرج احتقاراً ، ومضى لحال سبيله وهو يقول :
" لولا حاجتي إليه لقتلته . لولا معاونته الكثيرة لأزلته من الوجود "
" وحين مرت " إيزيس " بالإله الأصفر أشاحت بوجهها ونقلت رضيعها حورس إلى ذراعها الآخر ، ورسمت علامة " العنخ " مفتاح الحياة " .
إن رسم علامة ( عنخ ) مفتاح الحياة وهي طقس استعاذة من الشر - فيما يبدو - عند الفراعنة المتدينين قد انتقل رمزاً للشهادة في الديانة المسيحية ، حيث إشارة التثليث فرمز عنخ مفتاح الحياة رسم يتكون من خطين متقاطعين الأطول رأسي متوج بدائرة أو حلقة بيضاوية والأقصر ويساوي نصف الخط الرأسي يقطعه في ثلثه العلوي بالعرض ، والصليب كذلك في رسمه حيث يبدأ الشعار الطقسي عند الفراعنة ثلاثياً ( أوزوريس - حوريس - الروح القدس ) ويبدأ عند المسيحية ( الآب - الإبن - الروح القدس ) ، وهذا معناه أن عقيدة التثليث قد انتقلت من الثقافة الفرعونية الدينية القديمة ، إلى الثقافة المسيحية بدءاً من ظهورها ومروراً بثقافة العصور الوسطى المسيحية وانتهاء إلى عصرنا ، وما يليه مما يقطع بأنها من الثوابت الثقافية القديمة المعاصرة في نفس الوقت .

الموروثات الثقافية

مع أن كل ما هو دنيوي فهو متغير ، إلاّ أن من التقاليد الموروثة ما هو ثابت في مظهره فتقليد النذور والأضاحي والضراعة كلها لها مظاهر ثابتة ، وإن تغيرت جزئياتها أو أساليب ممارستها . ولأن النص يجعل تقليد تشكيل هيئة المحكمة قديماً تشكيلاً ثلاثياً ، وتقاليد احترام هيئة المحكمة وقرع المنصة أو الأرض لتنبيه المتقاضين إلى الوقوف احتراماً لهيئة المحكمة يجعلها تقاليد قديمة .. مثلما هي الآن في عصرنا ، فللمحكمة تقاليد نجدها هي نفسها تقاليد محكمة الآلهة الفرعونية .
" أنوبيس : محكمة "
فإذا كانت فكرة الاستجواب وكانت فكرة المداولة ، وفكرة رد القاضي وفكرة الشهادة والتعويض، كلها أفكار قضائية ارتبطت بالمحاكمات على نحو ما تشهده ساحة القضاء في المحاكم المصرية والعالمية في عصرنا ، فإن وجود هذا الأفكار في نص مسرحية ( محاكمة إيزيس) يعطي انطباعاً بقدم هذه الأفكار ، وبأنها تقاليد قديمة عبرت العصور والثقافات إلى أن وصلتنا بالتوارث . لذلك فهي تدخل ضمن الثوابت الثقافية :
" رع ضرب بصولجانه الأرض ثلاثا فسكت الحاضرون " " ثم سوى الإله الرامي على معبده شعره الأبيض المستعار وأصلح من عباءته وقال :
" رع : باسم "نون " العجوز ، عميد الأسرة المقدسة . ذي الغذائر الزرقاء ، نفتتح هذه الجلسة " ( نهض الإله الأصفر واستأذن وقال) :
" أنا أطلب رد القاضي " تحت " عضو اليسار "
وحتى فكرة الطرد من الجلسة وحق القاضي في الحكم بذلك يوحي النص بأن المصريين عرفوها فلقد صورها هذا النص نفسه فهذا ( رع ) يسمع " شقشقة " مصدرها التوأمين " شحرم " و " طعرم " إذ كان الأول يقزقز لباً والآخر يمضغ لباناً :
" رع : أخرجوهما من الجلسة ، وإلاّ سجنتهما أربعاً وعشرين ساعة لامتهان هيئة المحكمة "
فيخرجهما الإله الأسود الخصي " نم نم " بقذفهما خارجاً على الدرج وكذلك يصور النص المحكمة القديمة وقد عرفت نظام الإدعاء :
" رع : فليبدأ المدعي بتلاوة صحيفة الاتهام "
وإذا كانت الثقافة غير مقصورة على الفكر أو على السلوك ولكنها تشتمل على نظم المعيشة ، طريقة الحياة نفسها في بيئة ما وفي عصر ما ، وكان الحجاب جزءاً من زي المرأة ، كما هو منصوص عليه في النص ، ووجدناه يطل برأسه من وقت لآخر في بيئتنا باسم التدين ، لذلك عددناه من ثوابت الثقافة حتى مع تذبذب ظهوره واختفائه حسب علو صوت السلفية والمنتسبين للدين .
" رع : إيزيس يا ذات الحجاب .
إيزيس : ( بصوت هادئ) أبتاه
ست : ( صائحاً ) أنا اعترض على صيغة الخطاب . إن القانون يحرم تبادل العواطف
في أثناء المحاكمة .
رع : الاعتراض مقبول . إيزيس يا ذات الحجاب
إيزيس : نعم يا صاحب الجلالة
رع : ارفعي يمينك
إيزيس : سمعاً وطاعة
رع : احلفي
إيزيس : أنا كل ما كان ، وكل ما هو كائن ، وكل ما سيكون ، أنا الحقيقة .
ست : أنا أعترض .
إيزيس : أقسم بالطفل الإلهي حوريس ، المخلص المنتظر ، المولود خارج الزمن ، أقسم بالطفل الإلهي الذي ورد في ألواح تحت الأزلية أنه سينهض في نهاية الزمن ويثأر لأبيه المقتول من قاتله .
ست : أنا أعترض
رع : الاعتراض مقبول . هل نسيت القسم يا إيزيس ؟
إيزيس : كلا ، كلا ، أقسم بالأب وبالإبن وبالروح القدس ، أن أقول الحق ، ولا شيء غير الحق . "
هذا القسم إذن أصيل في الثقافة الدينية والدنيوية المصرية القديمة ، وقد انتقل إلى الثقافة الدينية المسيحية ، لذلك فهو من الثوابت الثقافية الدينية والدنيوية معاً . ولقد انتقلت إلى الإسلام فكرة (البينة ) :
" رع : البينة على من ادعى
( يأخذ ست مكانه من القاعدة الحجرية ويرفع يمينه )
ست : اقسم بالإله الأكبر "رع " الرامي على معبده ساكن القرص وقت الظهيرة .
مجفف البحر والنهر والغدير . أقسم .
رع : هذا يكفي
ست : حين حبست أوزيريس في الصندوق الذهبي وألقيت به في مياه النيل حملته الأمواج حتى دمياطيس وهناك قذف به الماء الحلو إلى الماء المالح فظل يطفو إلى أن بلغ ببلوس عند شواطئ فينيقيا ، وفي ببلوس احتوته خليلة الآلهة ، ذات اللباس اللبني ، من الشجرة عموداً يقيم فيه معبدها الأزهر كان ذلك قبل عصر مينا العظيم " والسيد " أوزيريس لا يزال إلى الآن حبيس الشجرة والشجرة لا تزال إلى الآن حبيسة المعبد في ببلوس "
أليست تلك القصة متماسة مع قصة إلقاء أم موسى لوليدها في صندوق في النيل؟!
ثم فكرة الكائن المسخوط ، وهي فكرة أسطورية تتردد في الموروث الشعبي والديني كثيراً كفكرة زوجة ( لوط ) في بني إسرائيل وتاريخهم ، وكذلك وردت في القرآن .
" رع : ألديك شهود ؟
ست : نعم " ملكارت " جامع الذهب و " عشتروت " خليلة الآلهة "
ومن الملاحظ في استشهاده ، أن شاهديه : غني ، وامرأة متحللة حتى وإن كانت معبودة فينيقية ( لبنانية قديمة ) فهو شرير أو رمز الشر فيمن يستشهد ، ومن يناصره سوى من هم أشباه له ؟ ومن الملاحظ أن تلك العادة تمثل تقليداً سجله الحديث النبوي ( المرء على دين خليله ) ولأنه شرير فأصحابه مثله وهو يستشهد بأصحابه .
ثم إنه يمد حبل الإنكار إلى نهايته ليصل إلى ألوهية حوريس وفكرة الروح القدس :
" .. فمن أين لذات الحجاب ولدها ( ساخراً ) الطفل الإلهي أليس واضحاً أنها حملت به سفاحاً ثم ذهبت تروج الأساطير عن منشئه العجيب . ودسته على أسرتنا دساً ثم ذهبت تنتشر في الغوغاء وبين العبيد وخاصة بين العبيد ، خرافة الأم العذراء وتنسب لولدها أصلاً لم يسمع به إنس ولا جان . من منّا سمع بأم عذراء ، نعم كيف تكون الأم عذراء . وكيف تكون العذراء أماً؟ إن هذه أول مرة تكسر فيها قوانين الطبيعة . كلا . كلا . لن تجوز علينا هذه الحيلة . لو كان هذا صحيحاً لارتج بنيان الكون . إن هذه أخطر سابقة في تاريخ الخليقة . "

إن فكرة وجود ابن للإله فكرة ثابتة في الدين المسيحي انتقلت - فيما نرى - من الفكر الديني الفرعوني ، فالمسيح في الفكر المسيحي ابن الله وهذا الحوار يكشف عن تطابق قصة العذراء إيزيس وحملها دون معاشرة زوج لها - بالروح القدس - مع قصة المسيح في المسيحية وفي الأديان .
ويحمل النص بذرة فكرة الإلحاد في المسرح الفرعوني ؛ فهو أول من أطلقها على لسان (ست) رمز القفر والشر والجدب عند الفراعنة ، ففكر ( الهرطقة ) أو إنكار القيم الدينية واضح في حواره . وكذلك يحمل حواره فكرة النذور وفكرة التقديس وفكرة التبرك وفكرة الحمل بنفخ الروح القدس في رحم العذراء . كلها أفكار دينية صورها النص في حياة إيزيس وست وحوريس وهي كلها أفكار دينية ما زالت تسيطر على اعتقاد المؤمنين المسيحيين ، ويسيطر أكثرها على فكرة الطبقة الشعبية والبسطاء فهم يتبركون ويقدسون وينذرون ، وهناك أيضاً من ينكر هذا أو يستنكره ، وبذلك فهو شبيه بـ ( ست )
ومن الثقافة الطقسية المترسبة في مجتمعاتنا الشعبية المعاصرة أيضاً ضرب النساء على صدورهن بأيديهن عند الفجيعة ، كما فعلت ( نفتيس ) زوج ست وشقيقة ( إيزيس ) عندما رأت ما حل بزوجها حيث يتهم أختها وهو يتصبب عرقاً عند هجومه على الإله " من " إله التناسل :
" ست : سوف تخلو صناديقك من النذور ، ومحاريبك من الشموع ، سوف يجوع كهنتك ويطوفون في الشوارع يشحذون لماذا ؟ لأن " إيزيس " حملت وهي عذراء . سوف تخرج العاقرات إلى معبدها أفواجاً ويركعن تحت تمثالها المحبب فيحملن بالروح . وسوف تخرج العاهرات إلى معبدها أفواجاً أفواجاً وترفع كل زانية طفلها الإلهي إلى زوجها أو أبيها قائلة : باركه فهو من الروح كل هذا لأن إيزيس ذات الحجاب أم عذراء . ألا فانزعوا عنها الحجاب "


تصوير الآلهة غير المصرية في صورة زرية :
ويعمد نص ( محاكمة إيزيس ) إلى تصوير شاهدي ( ست ) وهما أجنبيان تصويراً يحط من شأنهما فـ " عشتروت " وهي الآلهة الفينيقية عشيقة الآلهة وهي الوالهة في حب أوزوريس الذي لا يحب إلاّ إيزيس ، عشتروت تلك تغازل ( من ) إله التناسل المصري :
" من : كلكم تعرفون حدود مملكتي ، أنا رب التناسل أنا سيد الذكور والإناث . أنا معمر الكون بالأجيال الجديدة رعيتي كل أفراد الحيوان الناطق ، الناطق منها والأعجم .
ست : وكيف تعمر الكون ؟
من : كيف ؟ كيف ؟ هات السرير أشرح لك .
رع : لا . لا . لا . بالكلام
من : أتسمح لي بالألفاظ القبيحة ؟ "
ولأنه قبيح لذلك ، فإن عشتروت تتطلع إلى أن تقيم معه علاقة صداقة وهذا ما يلحظه زوجها ملكارت إله الذهب الأجنبي :
" ملكارت : ( هامساً لعشتروت ) لماذا تحملقين فيه هكذا ؟
عشتروت : ( كالمسحورة ) فيمن ؟
ملكارت : في من ؟
عشتروت : أليس صدره عريضاً ؟ ما أجمل صدره .
ملكارت : ( يقرصها في فخذها ) الحشمة . الحشمة . "
لم تشارك عشتروت ولا ملكارت في الصراع إلاّ عند بدء ظهور ( من ) إله التناسل ومع بدء تلفظه بالألفاظ الجنسية الفاضحة من خلال أسلوب التورية . ومع أن النص يصور الإله ( من ) قبيحاً وإباحياً :
ويكشف النص عن غزل الآلهة لبعضها البعض فعشتروت الإلهة الأجنبية و ( رع ) يغازل بعضهما البعض فهذه عشتروت في ردودها على " تحت " ثم على " رع " نفسه تكشف عن نعومة وليونة واستعداد فطري لإقامة علاقات غزلية مع الرجال من الآلهة ؛ فهي في ردها على ( تحت ) :
" تحت : الصناعة
عشتروت : آلهة الحب
تحت : العنوان
عشتروت : في الأرض أم في السماء ؟
تحت : في الأرض
عشتروت : المعبد الأكبر في ببلوس الزهراء بفينيقيا الزهراء
تحت : وفي السماء
عشتروت : العنوان القديم في القمر ، والعنوان الجديد في الزهراء ، ولكن كل الرسائل تحول بانتظام
تحت : العمر ؟
عشتروت : الشباب الدائم "

هذا إلى جانب الإيماءات التي تؤديها والغمزات واللمزات :
" تغمض عينيها وتسترسل في ذكريات بهيجة " " تفيق من التذكر المصطنع "
" عشتروت : ( تنثني وترخي أهدابها ) شوشو يا صاحب الجلالة "
" عشتروت : ( في خفر ) لقد أسرني "
" عشتروت : ما أجمل لحيتك يا مولاي
رع : إنها من عاج نادر ، صنعت خصيصاً في أسيوط . ألم تسمعي قول الشاعر فيها :
فوجهك يا رع مصفى
وذقنك يا رع عاج نفيس
وعينيك يا رع فيروزة
وذقنك يا رع عاج نفيس
وفي كل خيط لنا صولجان
يقينا الأعادي ويحيي النفوس
هلموا ، هلموا نلاقي المنايا
تظللنا ذقن رع رعمسيس
فذقنك يا رع عاج نفيس وذقنك يا رع عاج نفيس
فما باض فيها فراش حقير
ولا باض قمل ولا باض سوس
ما رأيك في هذا الشعر ؟ جميل . جميل . لقد أمرنا أن يكون النشيد القومي الجديد . ما رأيك في هذا الشعر جميل . جميل . ما رأيك يا بنتاؤور ؟ من قال هذا النشيد . لقد نسيت الآن . كافئوه أعطوه عشرة عجول . أرسلوا إليّ زوجته لأباركها علموا أولاده بالمجان
عشتروت : ما أجمل لحيتك يا مولاي
رع : قلبي يتمزق يا شوشو.أتحبين خصلة منها للتذكار ؟ يا نمن نم . هات المقص "
وينتهي الغزل بين الآلهة بالتواعد على لقاء ليلي للمطارحة الغرامية في المعبد :
" رع : ( يبتسم ابتسامة حزينة لعشتروت ) موعدنا الليلة في معبدي
عشتروت : موعدنا الليلة في معبدك "
إن الإله الأكبر ( رع ) ينحاز إلى عشتروت لما كشفتها الآلهة تحت وآمون وبتاح واثبتوا كذبها:
" .. أنا رأيت الصندوق يطفو إلى ببلوس . رأيته قبل مينا العظم . رأيته قبل أن أولد . نعم قبل أن أولد . أنا عشتروت أرى الماضي . إذا كانت إيزيس ترى المستقبل فأنا أرى الماضي . أنتم تضطهدونني أيها الأوغاد . تريدون أن تفرقوا بيني وبين حبيبي رع . أن تثبتوا له أني كاذبة . رع يا حبيبي لا تصدقهم أنظر إلى وجهي . هل يكذب الجمال ؟ ( تكشف صدرها ) سهمك قد نفذ يا حبيبي ( يترك المنصة وينزل إلى عشتروت ويمسح دموعها بطرف ثوبه .. )
" من : هل " ربطك " أحد الآلهة ؟
ست : اسكت يا مغفل "
إن فكرة الربط الجنسي التي مازالت شائعة في مجتمعاتنا الشعبية في مصر وفي العالم العربي لها جذور في تقاليد الفراعنة وطقوس آلهتها - كما نرى - وهي مرتبطة بفكرة السحر في الفلكلور الشعبي الديني ، حيث التنويم المغناطيسي :
" ست : فلنر بشكل عملي ؟ ( يصفق مخاطباً "نم نم " أغا الآلهة )
إلينا بسرير .
لا . لا . لا . المشكلة نظرية . من
مع أن " من " يبدو إباحياً في النص ؛ إلاّ أنه إله التناسل وتلك لغته وذلك فكره وهذه ثقافته ومعجمه اللغوي .

مفردات اللغة الأسطورية :
تشكل الأسطورة الأساس المتين للثقافات القديمة ، ولكثير من تلك الثقافات فيها تشابه واضح ، وهذا ما دعاني ربما إلى تقسيم العصور الثقافية إلى ثلاثة عصور : عصر الثقافة الأسطورية وعصر الثقافة الأيديولوجية ثم عصر الثقافة المعلوماتية وذلك عندما أردت أن أصنف الاتجاهات المسرحية ، وأرد كل اتجاه منها إلى ما رأيت أنه عصره الثقافي الذي تفاعل فيه ونبع منه ولأن الأساطير كما يقول ليقي شتراوس لها : " معنى عقلياً أكثر منه اجتماعياً لأنها تصدر عن المنطلق العقلي الذي هو طبيعي ولا شعوري " لذلك اعتمدت مفردات لغتها على الرموز ، وذلك ما نراه في نص مسرحية ( محاكمة إيزيس ) حيث يقوم الحدث فيها على أسطورة أوزوريس وتقطيع ست لجسده وجمع إيزيس لأشلائه ولعل نص حوار ست الذي يعكس يأسه من الحصول على حكم يدين ( إيزيس ) مليء بتلك الرموز التي تعكس روح الأسطورة ، وعالم الآلهة وصراعاتها في المسرح الفرعوني الذي تبنى قضايا الصراع بين الآلهة وبعضها البعض . ففكرة صراع الآلهة فكرة قديمة ولا شك ، وإن كان المسرح الإغريقي قد تبنى فكرة صراع البشر مع الآلهة - غالباً - إلاّ أن الفكرة توالدت عبر العصور فأصبح الصراع بين رجال الدين ممثلين للآلهة وبين البشر أو بين ممثل الإله وحامي حمى دنيه مع البشر ، أو صراع رجال الدين وطوائفهم ( سنة وشيعة ودروزا مسلمين ومسيحيين كاثوليك أو أرثوذكس أو بروتستانت أو مارون ، ويهود اشكناز أو سفرديم - صدوقيون أو فريسيون )

أسلوب التعريض ( الردح الشعبي )

ويتخذ الآلهة الردح وسيلة تعريض ببعضهم البعض تماماً كما يفعل البشر :
" ست : ( باحتقار ) إن هذا هو الفرق بيني وبينكم معشر الآلهة الأخساء
( هرج في القاعة ست يرفع صوته )
أنتم تعيشون للنذور . أنا أعيش للمبدأ . بالمبدأ أحيا وللمبدأ أموت من أجل المبدأ قتلت أخي وشقيقي أوزوريس ( ينتحب في صمت ويستأنف بصوت عميق ) أنا إله الصحراء وهو إله الوادي . أنا إله القحل وهو إله الخصب . أنا الإله الأصفر وهو الإله الأخضر فالحرب بيننا أبدية . أتفهمون ؟ أبدية هذا ناموس الوجود . لقد خاصمته منذ خرجنا من بطن السنة الكبيسة خارج الزمان والمكان . لكم اقتتلنا بين الأفلاك . لكم طاردته من سديم إلى سديم . من كوكب إلى كوكب حتى نزلنا الكوكب الأرضي حتى بلغنا وادي النيل فاحتمى اللئيم بـ " خيمي " السمراء الشمطاء . ولكني تربصت به حتى اقتنصته " . " نعم أنا قتلته . قتلت أخي . من أجل المبدأ . قتلت أخي . أما أنت يا " من " يا أخس الآلهة . أنت لا تفكر إلاّ في النذور . إذن فهذا سرر ثرائك العجيب . لقد فهمت الآن من هنا كانت أوقاف " أخميم " من هنا كانت عرب "سايس" و " دمنهور " من هنا كانت تفاتيش " طيبة "
الآن أصدق كل ما قيل عنك يا رب التناسل . أنت تقبل النذور لتمنع التناسل إن الجيران إذا تخاصموا ذهبوا إلى معبدك ليربط كل عدوه . وأنت إله التناسل تمنع التناسل . تمنعه من أجل النذور "
من : ( هائجاً ) أيها الوغد . هذا عمل الكهنة . أنا أعترض
رع : ( واقفاً يطرق الأرض بصولجانه ليعيد النظام ) الاعتراض مقبول
أسكت يا ست وإلاّ أخرجتك من القاعة ( يجلس )
لا شك أن ف هذا الحوار حول قصة نزول ست وأوزوريس إلى كوكب الأرض تماساً مع قصة نزول آدم وإبليس في القصص الديني والرموز واضحة ( الإله الأصفر ) و ( الإله الأخضر ) وقصة عراك الآلهة بين الأفلاك ترد بعد ذلك بآلاف السنين في ( محاورة فيدراوس ) لأفلاطون حيث اقتتال الآلهة وكذلك نزهة زيوس والآلهة الأخرى على خيولهم بين السحب .
ومن الأفكار التي يعرض لها النص فكرة العقم وفكرة الربط وفكرة الأوقاف وفكرة النذور وفكرة الخديعة وفكرة الرشوة وفكرة الوجود الإلهي في الأديان الذي هو وجود خارج الزمان والمكان وفيها ما هو ديني نجده في الأديان السماوية أيضاً وما كان متعلقاً بالتدين أو مرتبط بالدين وما كان دنيوياً وكلها صفات وعادات تتكرر من عصر إلى آخر منذ القدم مما يعطيها صفة الثبات مع تغير التفصيلات .
وتلك كلها مقاربات ثقافية في الفكر الديني منذ الوثنية حتى الوحدانية رآها لويس عوض ببصيرة حداثية ودعانا إلى أن نراها بمنظار حداثي وببصيرة تفكيكية لنعيد النظر في تقييمنا لها .


خلاصة البحث

ينتهي البحث إلى أن البصيرة الحداثية في مسرحية لويس عوض( محاكمة إيزيس ) تتبدى أولاً في اختياره لشخصية إيزيس نفسها على اعتبار أن فكرة البعث قد تبلورت في قصة جمعها لأشلاء زوجها أوزوريس لتعيده إلى الحياة ومن ثم نشوء حالة من التقديس تحيط بدورها وبقصة نجاحها في ذلك الأمر الخارق للقدرة الإنسانية مما أحال هذه الحادثة الأسطورية إلى طقس ديني ترسخ على هيئة اعتقاد في نفوس الناس في كل أرجاء مصر ولعصور متتالية : فإيزيس إذن هي المنبع الأساسي لفكرة التقديس والشعيرة الطقسية والاعتقاد بالبعث والخلود ، لذلك فقد وجد فيها لويس عوض منطلقاً لإعمال بصيرته ومصدراً حاضاً لنا على أن نعمل بصيرتنا لنتجاوز ( منامة الطقس ) إلى ( نهار اليقظة ) . ولاشك أن تجاوز (منامات عصور الطقس ) تحتاج منّا إلى معاناة فكرية ووجدانية عميقة لا يقدر عليها من لم يتملك بصيرة لويس عوض الحداثية الذي حمل عبء تقريب المسافات بين جيلينا والأجيال التالية على جيلنا وحملنا على متون كتاباته النقدية من سرير منامات عصور الطقس إلى نهار اليقظة . لنبصر بعين الحداثة وبصرها رسوبيات الثقافة التراتبية وننفض عنها ما يعوض انطلاقاتنا المأمولة إلى المستقبل



#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فكرة المخلص ( المستبد العادل ) في المسرح الشعري
- المسرح بين أدب السيرة والتراجم الأدبية
- هل يمكن تعلم الإخراج
- الناقد يتأبط نظرية
- استلهام الكاتب المسرحي للتراث بين الارتباك الاتصالي والوعي ا ...
- تشريح نصوص مسرحية
- الإبداع بين الحرية والالتزام
- هوامش مهرجاناتية
- الثقافة الجماهيرية من ثروت عكاشة إلى فاروق حسني
- مسرح الثقافة الجماهيرية بين المد والجذر
- درامية التعبير الصوتي في فن الأداء المسرحي
- فنون التمثيل داخل التمثيل بين بيرانديللو ومحمود دياب
- ثقافة التناكح في حياة المسلم
- ذكريات .. لزمن آت
- ضوء أسود وحوائط عازلة
- حرية العقيدة في القرآن
- الفاعل الفلسفي في المسرح الوجودي - المومس الفاضلة نموذجا -
- كتابة الصورة المسرحية بين أفلاطونية التقديس والتدنيس
- خيوط الاتصال بين الناقد والباحث
- الممثل وبناء الدور المسرحي بين البواعث والدلالات


المزيد.....




- وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
- مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي ...
- ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
- -تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3 ...
- ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
- السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
- واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
- انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
- العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل ...
- 300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أبو الحسن سلام - الفاعل الفلسفي في الإبداع المسرحي