ياسر محمد أسكيف
الحوار المتمدن-العدد: 3924 - 2012 / 11 / 27 - 18:48
المحور:
الادب والفن
الدور الاجتماعي للأدب
ومسلّمة النقد الأيديولوجي
هل من دور اجتماعيّ للأدب ؟
سؤال قد يشيح سامعه بوجهه استهجانا ً , وربما أتى بفعل يشير إلى أن وقته أشدّ ضيقا ً من إضاعته في سماع الترّهات , أو في مناقشة ما حسم أمره منذ أمد بعيد . إذ ما من أحد يعزل الأدب عن دور اجتماعي منوط به , حتى أولئك الذين يتجهون إلى دعم , أو ممارسة , مقولة "الفن للفن " , إذ لن يصمدوا بدعواهم طويلا ً أمام أي تحليل ودراسة للنموذج النصي في سياق تاريخي اجتماعي مُحدّد . ( التسلية والإضحاك أدوار اجتماعيّة بكل تأكيد ) . وهذا الدور الذي تتم إناطته بالأدب يتدرّج ضمن طيف واسع من المهمّات والغايات تبدأ بتهذيب النفوس وتعزيز الأخلاق " الحميدة " وصولا ً إلى المساهمة في تغيير العالم بعد استبصار خفاياه وتفسيرها .
ليس السؤال عن دور الأدب جديدا ً . أو هكذا يبدو , حينما لا تكون الإجابة ضرورة لازمة . غير أن ذاك الذي يشيح بوجهه مستهجنا ً سينقلب على إجابته حالما يُدرك أن آخرين يرون للأدب أدورا ً أخرى غير التي رآها , أدوار لا تتفق مع القناعة التي بنيت عليها الإجابة . وتبدو ال " نعم " هنا , التي لم يكلّف نفسه عناء النطق بها , ليست تلك المتعارف عليها كنقيض لل" لا " والعكس . بل هي " نعم " في حالة شديدة الخصوصيّة والذاتيّة , تتحول إلى " لا " في باقي الحالات , وكأنها إجابة عن سؤال يخصّ معنى الأدب وليس دوره . وهنا تضمر الإجابة ارتباطا ً بين ما يحقق الدور الذي يعزّز الإجابة ب" نعم " وبين الأدب , إذ يبدو كل ما لا يحقق هذا الارتباط شيئا ً آخر لكنه ليس " الأدب " بكل تأكيد .
جديد السؤال إذا ً هو في الكشف عن أنه سؤال يقوم على غير " المتفق عليه " . وهو بالتالي أسئلة وليس سؤالا ً . وكي يعود إلى صيغة المُفرد , عليه أن يتخفّف من لباس الفاعليّة والانتماء , وأن يتوضّع في صفّ " المجرّد " .
ما الأدب ؟ وكأنما هي الصيغة التي تنقذ السؤال من التشتت والتشرذم . غير أن الإجابات ستكشف نسقا ً بالغ الحديّة والاتساع , وبالغ الاكتظاظ بالممارسات الإلغائية . إذ سيتدرّج معنى "الأدب " , كما تُظهره الإجابات , من السير الشعبيّة وقصص الأنبياء والرسل وصولا ً إلى النصوص المفتوحة والعابرة للأجناس . وكل معنى من هذه المعاني يُنكر على المعاني الأخرى حق انتسابها إلى " الأدب " . ولأن تلك المعاني جميعا ً , إضافة إلى مولّدات معان أخرى (سينما – دراما – صحافة – إعلان ) تشكل أغلب الخطاب المؤثر , ويجمعها ذات الدور , أو الغاية , فيمكننا إعادة صياغة السؤال بطريقة تُبقي على المُشترك : ما الخطاب المؤثر ؟ وبشكل أكثر وضوحا : ما الخطاب الذي تتوفر أشكاله على القصديّة في التأثير, والإقناع , والتعبئة ؟ هنا سيكون السؤال أكثر طمأنة , وعليه ستتسم الإجابة بالجرأة وقلّة الحذر , ذلك أنه ما من إجابة , حتى الأكثر سذاجة , إلا وتمتلك نصيبها من الصحّة نظرا ً للمصفوفة الطويلة جدّا ً التي تشكل ذلك الخطاب .
وفي معاينة عناصر المصفوفة سنعثر على مُشترك " عُرفيّ " صاغته المؤسسة الأكاديميّة الرسميّة , كمفهوم ل" الأدب " ودرج الجميع على تداوله : الشعر – القصّة - الرواية – الخاطرة - المقالة – المسرحيّة . وسوف يكون هذا المفهوم , منعا ً للالتباس والإطالة , هو الذي سنعتمده فيما سيلي , دون أن نغفل عن كونه " جزءا ً " من الخطاب المؤثر وليس الخطاب كلّه , كما أننا سنبقى على حذر تجاه التفريط , مهما كان ضئيلا ً , تجاه تاريخيّة هذا المفهوم , وتجاه زئبقيته أيضا ً .
ما علينا قوله الآن . أنه في كلّ ما سبق ثمّة ما يشير إلى التباس يُعيد إنتاج نفسه مع كلّ صيغة جديدة للسؤال . وفي المعاينة يتكشف أن الالتباس حاصل نتيجة للافتراض بأن " الأيديولوجيا " و "الأدب " حقلان منفصلان , أو أنهما من طبيعتين مُختلفتين . مع أن المفهوم الذي قبلنا باعتماده للأدب يعكس تماما ً مدى تلبيته لرؤية فئة مُعيّنة وتحقيقه لغاياتها .
ويبدو أن السمة الأيديولوجيّة ل " الأدب " تظهر متناسبة طرديّا ً مع مدى وعي هذا الأدب لأدوار " ميتا أدبيّة " مُناطة به . إذ أنه , ومن خلال وعيه لدوره , يقفز فوق شرط القبول ومؤهلاته , بتنكبه لمهمّة مركّبة يتجسد حدّها الأول في الإطاحة بالأعراف الأدبيّة السائدة , وإحلال البديل , وأما حدّها الثاني فهو العمل على تهيئة , أو إعداد , الذائقة لقبول البديل كعرف أدبي جديد . وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن غاية الأدب , أي أدب , هي تحقيق القبول , أي التحوّل إلى عرف سائد , وإلى جزء من الرؤيا المستقرّة للعالم , فمسألة وعيه لدوره في إزاحة قيَم وتحطيم أعراف , وفي إحداث القبول والتحوّل أمر ينطوي عليه جوهره . ولكن ما يغيب عن الأذهان هو أن قيمة أدب ما لا تأتي من مقدار إطاحته بأعراف أدبية سائدة بل بمدى قدرته على امتلاك الفرصة ( عبر الإمكانية ) للتحوّل إلى عرف جديد . وتاريخ الأدب يقدّم الكثير من النماذج التي أحدثت دويا ً هائلا ً في اختراقها لأعراف مرحلتها غير أنها مرّت وكأنما لم توجد ( الدادائيّة – السوريالية – الوجوديّة - ..) ومنها ما اعتبر في حينه مجرّد " تفاهات " و " سخافات " لا تسترعي كبير اهتمام , ولكنها تحوّلت إلى " أيقونات " أدبيّة , ونماذج بلاغيّة , لا يمكن تجاهلها . وغاية القول هنا هو أن وعي الأدب لدوره في خرق السائد وتفكيكه أمر خارج إرادته ونواياه , ويتعلق بشكل رئيسي في مدى تهلهل وانحطاط المنظومة الرمزيّة العامة التي تحتاج , من أجل تدعيمها وتقويتها , إلى عناصر جديدة . والسؤال هنا , فيما يخصّ الزمان والمكان العربيين , وعلى سبيل المثال : هل تحوّلت الرواية ومعها القصّة القصيرة والأشكال الجديدة من الشعر إلى أعراف أدبيّة ؟ قد يبدو السؤال مُباغتا ً , وغريبا ً على الطرح , كما أنه ينطوي على الضعف وعدم المشروعيّة أكثر مما ينطوي على عكسهما . وكي يبدو أكثر مشروعيّة سيُدعم بسؤال يتقدّمه فيما يتأخر عليه : هل القراءة بحدّ ذاتها في الآن – هنا عرفا ً ؟
وعند هذه النقطة سنلاحظ بأن الأدب العربي الحديث , وبسبب ما أصابه من إفراط وظيفي , قد غدا عاجزا ً عن الدخول كعنصر بنيوي في المنظومة البلاغيّة العامة , لأنه ببساطة شديدة , وسعيّا ً منه لإيجاد قارئه , وقبلها ( القارىء ) الذي يجسّد مُستهلكا ً حقيقيا ً للمعرفة , سرعان ما يسفر عن النوايا التي تسهلّ وتبرّر استنفار عناصر الرمزية المُسيطرة ومحاكمته بتهمة الإخلال بالنظام العام وتهديد السلم الأهلي !! !
لقد أكد تاريخ الأدب على أن مهمّته الأخير استقرّت على مذهبين رئيسيين متصارعين ينطلقان من رؤيتين مختلفتين للعالم . تتمثل الأولى بالمكتمل والنهائي من صفات وأبعاد , أي بذلك الذي حدث مرّة كوجود , ولا يمكنه الحدوث ثانيّة إلا كفناء . وأما الثانيّة فتجد في المتغيّر والمتبدل سنّة هذا الكون , وتستند في تشكلها إلى المُعطيات التاريخيّة . ولأنهما رؤيتان متعايشتان بدون تكافؤ فإن الخطاب , أو البلاغة , كتعبير عن كليهما , تنطوي بالضرورة على مؤشر الانقسام بما تحاول استجلابه من دعم لنظام معيّن من القيم دون سواه . ولأن كلّ الأشكال الأدبيّة , ببواعثها , وبغاياتها المختلفة , تنطوي على رغبة أكيدة في القبول والتحوّل إلى أمر شائع فإنها , كمكوّنات بلاغيّة ( تنكب على " الشعور " لأنها معنيّة على وجه التحديد بأن توقظ فينا وتضبط تلك الأجزاء التي تكاد أن تكون اجتماعيّة صرفا ً . تلك الأجزاء الاجتماعية الأشدّ " آليّة " . – فرانكو موريتي – سوسيولوجيا الأشكال الأدبية – ترجمة : ثائر ديب – ص 22 ) وهذا ما يؤكده المُنتج الأدبي العربي بكافة الأطياف التي تتدرج فيها بواعثه , بما فيها ذلك الخطاب الطليعي – المستقبلي , حيث السعي المحموم على بعث وإحياء المنظومات الرمزيّة , النائمة منها والمقصيّة , منظومات تشكّل إلى حدّ ما جزءا ً هامّا ً من اللاوعي الجمعي , والهدف من بعثها , أو إحيائها , كما لا يخفى , هو استجرار الدعم والمؤازرة دونما إسراف في محاولات الإقناع , وقد يتجاوز الإحياء تلك العناصر إلى الرموز الأسطوريّة وأنسنتها , في محاولة لتحييد القدريّة التاريخيّة . وهذا يجعلنا ننتهي إلى أنه ما من " أدب " أيديولوجي وآخر غير ذلك , إنما هنالك من يجيد إخفاء الأمر وآخر يخفق في ذلك .
ومع " النقد الأدبي " يُصبح أمر التخفي والتمويه أكثر مشقّة . ذلك أنه مُتّهم بآليات عمله ذاتها , أي بكيفيّة وجوده . وعند تمحيص الاتهامات الموّجهة , على مدى السنين الماضية , إلى النقد الأدبي العربي بخصوص نزعته الأيديولوجيّة نكتشف بأن تهمة كهذه من الطبيعي أن توّجه , ولكن ليس للنقد وحده بل للأدب أيضا ً . ذلك أن الموقف النقدي ( تجاه الأدب أو غيره ) لا ينفصل عن فكرة الاحتجاج على واقع مُعيّن , كما لا ينفصل عن الرغبة في التغيير والنزوع إلى تأجيجها , هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى هنالك خلط وقع على الدوام بين النقد الأدبي وبيانات الدعوة ( التي ازدحم بها , عربيّا ً , النصف الثاني من القرن الماضي ) إلى شكل مرسوم ومحدّد لمفهوم " الأدب " بحيث لم يعد الكتاب قادرين على أن يروا من النقد الأدبي سوى هذه الصيغ الشعاراتيّة التي لا تتعامل مع الأدب كموضوع للدراسة , بل كمقياس لمدى تطابقه مع وصاياها . وأعتقد بأن كلّ من يقيم حجّته على تلك البيانات ليبرّر صحّة اتهامه للنقد ب " الأيديولوجي " ليس سوى صائد أعذار لم يعرف بعد حتى الأشكال البسيطة من النقد الأدبي .
وبما أن " الأدب " ليس إلا جزءا ً من النسيج البلاغي أو الخطاب المؤثر فإن أية دعوة إلى نقد أدبي مُنزّه عن القصديّة ستبدو دعوة مُشبعة بالمبالغة , كما ستبدو كثيرة الاطمئنان إلى سند مفقود , ومن ناحية أخرى ستبدو إقرارا ً خفيّا ً بلا قصديّة الأدب , أي إزاحة له من ساحة الخطاب المؤثر , وحتى من حقل البلاغة كاملا ً . الأمر الذي يؤشر إلى تناقض بيّن , إن لم نقل نظرة عين حسيرة .
وإذا كان النص الأدبي أكثر قدرة على التمويه مقارنة بالنص النقدي فيما يخص ملاءته الأيديولوجيّة , لأسباب توفرها المكوّنات البلاغية , فهذا لا يعفيه من تلك الملاءة التي يُظهرها النقد من خلال عمله على المكوّنات التي تشكّل الواقعة الأدبية , وخاصّة أن النقد يعمل في الأساس على كيفيّة عمل هذه المكوّنات . وهنا تبدو العودة إلى سؤال البداية أمرا ً يعدُ بالفائدة على ما أظن . إذ يتضح لنا بأن الاشتراطات التي تشكل السبب في انقلاب الإجابة على ذاتها بين " نعم " و" لا " هي اشتراطات نقديّة بالدرجة الأولى . إذ أن الإقرار بدور اجتماعي للأدب يقابله رفض لهذا الدور فيما يخصّ النقد الأدبي , وتحديدا ً حينما يُظهر تحيّز الأول وترجمته لقناعات وآراء فئة اجتماعيّة محدّدة , أي حينما ينضمّ النقد إلى الجميع في تأكيدهم على ذلك الدور عبر إظهار الطبيعة الأيديولوجيّة لأشكال البلاغة كافة , ومنها الأدب بطبيعة الحال . وفي حالة الأدب العربي فإن الأيديولوجيا صنو الأدب , إذ أنه أدب لا يرى في نفسه إلا مُحرّضا ً على التغيير ومساهما ً به , إنه إشارة دائمة إلى عدم الرضا . وهذا أمر طبيعي في مجتمع يعاين أفراده في كلّ لحظة مدى تخلفه عمّا آل إليه الآخرون . ولأن التغيير المنظور يُقصد منه التقدّم للحاق بلحظة الآخرين , فإن خلافا ً على معنى " التقدم " يشطره إلى مفهومين متناقضين . فالذين يجرّدون هذا المفهوم ويجعلون منه مفهوما ً لا " تاريخيّا ً " يمكنهم ببساطة أن يعتبروا ال" نكوص " أو ال" ارتكاس " بعضا ً من معانيه , لمجرّد أنها تنطوي على معنى الانتقال من راهن . بينما لا يساوم آخرون على التاريخيّة المحض لمفهوم " التقدّم " . ولهذا فإن الفكر النقدي , ومن ضمنه النقد الأدبي , الذي يتخذ من المتغيّر جوهرا ً لاشتغاله , سيبدو غائبا ً تماما ً عن ساحة اشتغال اللاتاريخي , وسيبدو منحازا ً لجهة دون غيرها . مع أن الانحياز الملحوظ ليس انحيازا ً , أي موقفا ً طارئا ً من واقعة ٍ , بقدر ما هو مسألة ارتباط بنيوي على قدر كبير من الطبيعيّة . وإذا كان من مكان للحديث عن التحيّز فإنه في حقل التحفظات , وليس الممارسات النقديّة , التي تبديها وجهات النظر اللاتاريخيّة , عبر اتخاذها من مسلماتها , غير الحاصلة على الاجماع بشأن التسليم , حُجَجا ً وبراهين على عدم صوابيّة الآخر .
أخيرا ً : آمل أنني قد قاربت ما كان غايتي , وبيّنت بأن الأيديولوجيا لا تكون " أشعبا ً " في ولائم " الأدب " و " النقد الأدبي " بل هما " الضيوف " وهي " ربّ المنزل " .
#ياسر_محمد_أسكيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟