محمد سيد رصاص
الحوار المتمدن-العدد: 1135 - 2005 / 3 / 12 - 11:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في شهر أيار عام 2004 , صدرت وثيقة في باريس عن (( هيئة الخارج)) للحزب الشيوعي السوري ( المكتب السياسي ) , عبر نشرة (( المسار)) , تتحدث عن علاقة سياسية ( منذ عام 1976 ) ومالية ( ابتداءً من 1978 ) بالعراق أقامتها أطراف المعارضة السورية ( الأستاذ رياض الترك + المرحوم أكرم الحوراني + المرحوم صلاح الدين البيطار) , وتكشف هذه الوثيقة عن كشوف لمبالغ مالية ( هذا غير كشفها للعلاقة المالية مع ياسر عرفات من دون أن تحدد مبالغها ) أخذها الحزب الشيوعي ( المكتب السياسي ) من العراق , بين عامي 1983 – 1985 على سبيل المثال لا الحصر , بلغت ( 1.140.300 مليون فرنك فرنسي ) .
من الممكن لهذه الوثيقة أن تكون دليلاً لكلمات متقاطعة كانت بدون دليل طوال العقدين الماضيين, مثلّتها الأحداث السورية التي نشبت بين عامي ( 1979 – 1980 ) وهزّت البلاد هزاً , وشكّلت بنتائجها اللوحة السياسية السورية طوال ربع قرن من انتهائها .
في تلك الأيام , كان يُظن , لدى المعارضين السوريين ومنهم كاتب هذه السطور الذي قضى في السجن خمسة عشر عاماً على إثر تلك الأحداث , بأن العوامل الداخلية هي الأساس في الأحداث , وبأن الأطراف , التي كانت ضمن المعارضة مرتبطة علناً بالعراق والأردن مثل (( الإخوان )) و (( الطليعة المقاتلة )) , هي ليست أكثر من مخالب يستخدمها صدام حسين والملك حسين ضد السلطة السورية , إلا أنها تبقى – ضمن اعتقاد المعارضين آنذاك – متحركة ومحَدَّدة حركتها من خلال إيقاع داخلي تفرضه أوضاع سورية محددة وجذور اجتماعية لهذه القوى تتحرك هذه القوى عبرها , مع افتراض وقناعة ضمنيين من هؤلاء المعارضين , الذين كانوا موجودين ضمن ما كان يسمى بالمعارضة الديمقراطية التي تزعمها الأستاذ رياض الترك والدكتور جمال الأتاسي , بأن هذه المعارضة الأخيرة داخلية محضة ليس لها أية علاقة بالخارج , وهي التي كان بعضها – أي الحزب الشيوعي ( المكتب السياسي ) – قد رفض الوصاية السوفياتية , سياسياً ومالياً و تنظيمياً , على الحزب , مما أدى إلى انشقاق عام 1972 .
ما تكشفه تلك الوثيقة يبّين بأن كل أطراف المعارضة السورية , من اليسار الشيوعي المعارض وصولاً إلى الجناح الإخواني المسلح : أي (( الطليعة المقاتلة )) التي كانت منشقة عن (( الإخوان )) منذ أيام الشيخ مروان حديد إلى اندماجها بالإخوان في عام 1980 – كانت يدّي صدام حسين ممسكة بخيوطها , في وقت كان (( الإخوان )) و (( الطليعة المقاتلة )) لا يخفون علاقتهم بالعراق بعد انفراط التقارب السوري – العراقي ( تشرين أول 78 – تموز 79 ) إثر إزاحة صدام حسين للبكر من السلطة ( 16 تموز 79 ) و إعدام خمسة من أعضاء مجلس قيادة الثورة العراقي , كان على رأسهم ( عدنان حسين ) .
ربما يفيد , في هذا الإطار , إيراد ما ورد من أخبار , تمّ تداولها آنذاك في الوسط السياسي السوري من دون أن تُربط أو تُستخلص دلالاتها بحكم إما العمى السياسي أو الفكر المسبق , من أن صدام حسين قد دخل , بعد زمن قصير من حدوث مجزرة مدرسة المدفعية بحلب ( 16 حزيران 79 ) و التي أشعلت تلك الأحداث , مكان اجتماع الرئيسين العراقي البكر والسوري الأسد الذي كان يومها بزيارة لبغداد , قائلاً بأن (( هناك انقلاب في دمشق )) , وكذلك ما رواه بعض الناجين من تلك المجزرة بأن النقيب إبراهيم اليوسف , لما اعتقل تلاميذ ضباط المدرسة وقبل إعدامهم , قال لهم (( بأن رئيسكم قد اعتقل في بغداد , و بأن هناك انقلاب حصل في دمشق )) .
بالتأكيد , كان التقارب السوري – العراقي موضوع صراع و نزاع في أعلى قمة السلطة العراقية , وقد شعر صدام حسين بأن البكر , وخصومه في القيادة , يخططون لاستخدام التقارب من أجل إزاحته أو إضعافه , لذلك لم يكن صدفةً حديث السلطة العراقية , بعد إزاحة البكر , عن (( مؤامرة سورية )) للتواطؤ مع عدنان حسين وجماعته , و ما أدى إليه ذلك بالنتيجة من دخول بغداد و دمشق في العداء من جديد , إلا أن الملفت للنظر في الموضوع هو اتجاه صدام حسين , كما يوحي سيناريو مجزرة مدرسة المدفعية , إلى تفجير الوضع السوري للوصول إلى تفجير التقارب و (( محاولات الوحدة )) , وما أدى إليه ذلك من جعل إزاحة البكر وخصوم صدام بالقيادة العراقية تفاصيلاً ولواحقاً للعملية الأولى ومن مستبعاتها , وهو ما حصل بالفعل في بغداد من تحقيق , بعد شهر من ذلك , لاستفراد صدام حسين بالسلطة بعد سنين من الجهود و الترتيبات بدأت مع إزاحة حردان التكريتي في شهر تشرين أول من عام 1970 من وزارة الدفاع .
ولكن المثير في الموضوع , إذا تلمسنا الخيوط الواسعة لصدام حسين و التي امتدت عند المعارضة السورية من رياض الترك إلى مراقب (( الإخوان )) عدنان سعد الدين , هو سعي الرئيس العراقي الجديد إلى الإطاحة بالسلطة السورية , عبر اشعال أحداث , كان لها بالتأكيد الكثير من الحطب الداخلي , للوصول ربما إلى السيطرة على دمشق , عبر امتدادات سورية ربما كانت ستكون طبعة ثانية لحزب الشعب و الأنصار السوريين الآخرين لمشروع ( الهلال الخصيب ) في زمن الأمير عبد الإله و نوري السعيد .
إذا تلمسنا الامتدادات الدولية للملك حسين , الذي كان يغذي المعارضة الإخوانية السورية بمعسكرات تدريب و مقرات و حرية حركة و الذي انتقل منذ عام 1978 من محور دمشق إلى محور التقارب مع بغداد , فهل كانت تغذية العراق والأردن المشتركة للمعارضة السورية المسلحة تعبيراً عن موافقة دولية على طموح صدام حسين ذاك ؟ ........
مَنْ يقرأ كتاب باتريك سيل , عن سوريا الخمسينيات , يلاحظ حتى الترددات البريطانية إزاء تشكيل دولة عربية قوية تمتد من البصرة إلى اللاذقية , رغم أن ذلك المشروع , المسمى ب (( الهلال الخصيب )) , قد خرج من أدراج الخارجية البريطانية , هذا إذا لم نتحدث عن الرفض له في واشنطن و باريس و تل أبيب , و كذلك الإقليمية في القاهرة و الرياض : في أواخر السبعينيات , لم تتغير هذه اللوحة الدولية , و كذلك الإقليمية , بل ربما انضمت بريطانيا إلى رافضيه بحكم أفولها عن المنطقة في مرحلة ( ما بعد السويس ) , مما يدفع المرء إلى الترجيح بأن صدام حسين كان يشتغل لحسابه الخاص , مستفيداً من غض النظر الدولي عنه بعد بروز الخطر الخميني في الشرق ( و هو ما يدفع إلى التفكير , بالمناسبة , إن كانت إزاحة البكر و توتير الأمور مع دمشق ناتجة عن تقارب الأخيرة مع طهران بعد صعود الخميني للسلطة
( 11 شباط 79 ) , رغم أن الأحداث الإيرانية عند العراقيين وخوفهم من انقلاب معادلات ما بعد اتفاق الجزائر ( آذار 75 ) مع الشاه , و اتفاقيات كامب دافيد عند السوريين , كانتا السببان في تقارب خريف 1978 بينهما ) من دون أن يصل ذلك إلى موافقة غربية في إحدى العواصم الثلاث الكبرى, أي واشنطن و لندن و باريس , على مشاريع الرئيس العراقي , و ربما كان الأرجح أن الموافقة الغربية لم تتعدى حدود أضعاف دمشق, بعد أن قويت كثيراً إثر دخولها إلى لبنان في صيف 1976 , من أجل أن لا تتحول معارضة السوريين للتسوية المصرية إلى حدود إجهاض الأخيرة, وربما كان غض النظر الأمريكي عن التدخلات الإسرائيلية في لبنان, بين عامي 1978– 1983, عبر تحالف تل أبيب مع الكتائب وشمعون, لا يخرج عن هذا الإطار,
وذلك من دون أن تصل الأمور عند الأمير كان إلى سحب الغطاء عن الوجود السوري في لبنان, وهو ما تثبّت, في مرحلة ما بعد فشل الاجتياح الإسرائيلي في إنشاء حكومة لبنانية موالية لتل أبيب ومعاهدة على طراز تلك المصرية, عبر( اتفاق الطائف).
إذا رجعنا إلى الداخل السوري, فإننا نجد تصعيداً سياسياً نوعياً, بعد أسبوعين من مجزرة المدفعية عبر وثيقة رسمت الخط السياسي اللاحق للحزب الشيوعي ( المكتب السياسي), من قبل الأستاذ رياض الترك تحدّث الكثير من أعضاء اللجنة المركزية, لاحقاً, عنْ كيف فرضها على قيادة الحزب من دون توضيح وربط ذلك مع الخيوط الخارجية التي تصل إلى بغداد والتي كان متكتّماً عليها, فيما نجد سعي الأستاذ الترك مع المرحوم جمال الأتاسي إلى تشكيل "التجمع الوطني الديمقراطي " في الشهر الأخير من عام 1979 ( والذي شارك "بعث العراق" في مفاوضات تشكيله لينسحب من عملية التوقيع على ميثاقه بسبب إصراره على استخدام العمل المسلح) ربما من أجل ملاقاة تطورات دراماتيكية مقبلة, لتأتي الذروة في شهر آذار 1980 عندما أعلن " التجمع " عن نفسه عبر بيان طرح فيه " برنامج التغيير الديمقراطي " في أثناء إضرابات عمّت الكثير من المدن السورية من دون دمشق .
كان المرحوم جمال الأتاسي ( أمين عام حزب الاتحاد الاشتراكي العربي ), الذي تتحدث وثيقة باريس عن علمه وموافقته على العلاقة السياسية مع بغداد من دون ذكر تورطه في الموضوع المالي, أول من قرأ بأن " مدّ المعارضة " قد دخل في الانحسار بعد شهر آذار 1980, وبأن موازين القوى قد مالت لصالح السلطة, مقترحاً وقف التصعيد عند المعارضة, فيما شاركه في ذلك الرأي, بصيف 1980, قسم مرموق من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ( المكتب السياسي ), تزعّمهم الدكتور أحمد فايز الفواز, وقفوا ضد استمرار سياسة الأستاذ رياض الترك في التصعيد السياسي بعد انتفاء موازينه, وهو ما كان مقرّراً حسمه في المؤتمر التداولي للحزب ( ك1 1980 ) لتأتي حملة اعتقالات الشهر العاشر من ذلك العام ضد الحزب مانعةً الأمور من أن تأخذ مجراها.
كان يظن في سوريا, بعد أن أخذت دوراً إقليميّاً كبيراً بزّ القاهرة والرياض وبغداد بعد عام 1976, بأن الساحة السورية لم تعد " ملعباً للآخرين " كما كانت في الخمسينيات: تأتي تلك الوثيقة الصادرة في باريس لتعطي مفتاحاً لفهم أحداث كان يظن الكثيرون بأنها داخلية محضة مع امتدادات هامشية إلى الخارج, قالبةً الصورة – أي تلك الوثيقة – لتبيّن كيف استغلّ خارجٌ إقليمي أوضاعاً داخلية, وقوى سياسية سورية معينة, وربما بتواطؤ قوى دولية, من أجل إشعال أحداث, كان الداخل السوري ساحتها وحطبها, للوصول إلى غايات إقليمية مرسومة من قبل أطراف دولية تتعلق بالتسوية ومن أجل وضع حدود كان يراد رسمها من جديد للدور الإقليمي السوري, استعملت فيها هذه الأطراف الدولية طموح زعيم إقليمي إلى " تشكيل إمبراطورية " , وهو ما يقال بأن عبد الناصر قد تنبّه له تجاه صدام حسين منذ عام 1969, من أجل تحقيق تلك الغايات.
#محمد_سيد_رصاص (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟