|
مذكرات طالبة يهودية عراقية
مازن لطيف علي
الحوار المتمدن-العدد: 3923 - 2012 / 11 / 26 - 09:34
المحور:
سيرة ذاتية
أسمها راشيل، و هذا يدل على انها على دين موسى الكليم تعبدها، ولدت في بغداد عام 1951 وتلقت تعليمها الابتدائي والمتوسط في مدرسة فرنك عيني، وتعليمها الثانوي في اعدادية شماش، شأنها كشأن غالبية ابناء الطائفة اليهودية في العراق فاتقنت اللغتين الفرنسية والانكلزية الى جانب العربية والعبرية. وقد كان مستوى التعليم في هاتين المدرستين عال جدا، وكان الكثير من العراقيين من الديانات الاخرى، يتمنون ان يقبل ابناؤهم في صفوف المدرسة لغرض تهيئتهم للقبول في جامعة بغداد. وكان الطلبة المتفوقون يحصلون على جائزة تمنح لهم في حفل يسمى حفلة جوائز نقار. أما راشيل فقد حازت على هذه الجائزة في الابتدائية ولم تتفوق بما فيه الكفاية في المتوسطة والثانوية، إلا في الصف الخامس الاعدادي لكتابتها أحسن إنشاء باللغة العربية. فقيل لها من قبل الادارة في شهر أيار لعام 1967، بأن في النية إقامة الحفل في نهاية شهر حزيران وقد اختيرت لكي تكون عريف الحفل لكي تبدأ بتحضير كلمة الافتتاح. فرحت راشيل بالخبر السار، لكن قبل ذلك كان عليها ان تتهيأ لأداء امتحانات الباكالوريا التي تنطلق يوم السبت المصادف 3 حزيران وتنتهي يوم السبت التالي المصادف 10 حزيران لعام 1967. وكان مركز الامتحان في تلك السنة لها ولزميلاتها طالبات مدرسة شماش، بينهن طالبة بأسم جنان، في شرفة مدرسة الراهبات في الباب الشرقي. وبدأت الامتحانات في الموعد المقرر. وأراد القدر ان تنشب حرب الستة أيام يوم الاثنين المصادف 5 حزيران، فكانت انباء الحرب تبث من الراديوات باعلى صوتها. واستمرت الامتحانات رغم ذلك. ولكن في يوم السبت الثاني وهو يوم امتحان الفيزياء، حدث ما لم يكن في الحسبان. وبدأت أصوات مظاهرة كبيرة تسمع خلال ساعات الامتحان، وسرعان ما اجتمع حشد هائل في ساحة التحرير المجاورة، وكل ذلك تحت نظر راشيل وزميلاتها. كانت المظاهرة الصاخبة قد انعقدت تلقائيا بمناسبة استقالة الرئيس جمال عبد الناصر. وعندها تسلق عدد كبير من الشبان جدران مدرسة الراهبات العالية وحطوا في المدرسة وصاروا يتناولون دفاتر الامتحان من الطالبات اللواتي اصابهن الفزع الهائل، يمزقونها وينثرون القصاصات من الشرفة الى باحة المدرسة. وفرت الطالبات هلعا من الباب الخلفي للمدرسة وهربوا عائدين لبيوتهن. وهكذا جرى في كل مراكز الامتحانات. وقيل فيما بعد بان عدد من الطلاب الذين استصعبوا الامتحان استغلوا فرصة المظاهرة وقرروا تشويش مجراه في كل المراكز. فأجبروا لاعادة الامتحان في السبت التالي المصادف 15 حزيران 1967.
حصلت الطالبة راشيل عام 1967 على معدل عال في الامتحانات وهو 93 بالمئة، ولكنها حصلت على المرتبة الثانية فقط لان زميلة لها حصلت على معدل أعلى ففازت بالمرتبة الاولى بين الطلاب. كان بامكانية راشيل ان ترشح نفسها لكلية الطب وكانت ستقبل بسهولة لولا انها يهودية ، وهي تعلم ان لا مجال للطلاب اليهود في دراسة الطب، فرشحت نفسها لكلية الصيدلة. ونشرت في الصحيفة قائمة بأسماء الطلاب الذين تم قبولهم في الكليات المختلفة، (ومن يستطيع الحصول على تلك الصحيفة التي صدرت في صيف عام 1967 يستطيع رؤية اسم راشيل واسم ابيها وجدها وعائلتها بكونها الطالبة الاولى التي تم قبولها في كلية الصيدلة وذلك لمعدلها العالي. 4 أسماء يهودية متميزة التي ألفت اسمها تصدرت القائمة). أما جنان والتي كان معدلها اقل، رشحت لكلية الطب وقبلت بسهولة.
وحان موعد الفحوص الطبية، وقد سمعت راشيل اشاعة آنذاك بان الطلبة اليهود لن يتم قبولهم، ومع ذلك طلب منهم الحضور للفحوص الطبية. ولا زالت ترن باذن راشيل المحادثة التي جرت مع جنان زميلة الطفولة التي بادرت راشيل وزميلاتها اليهوديات بالسؤال: ماذا تعملن هنا !؟ قالت لها راشيل ببساطة: طلبونا لاجراء الفحوص الطبية فقدمنا، فكان جواب جنان ولكن تعلمن بانكن لن تقبلوا للدراسة في الجامعة وسكتت راشيل ولم ترد كي لا يتضح للجميع بانهن يهوديات.. ولكن جنان واصلت الحديث وقالت أما انا فسوف بالتأكيد أقبل لأني مسلمة ورفعت ذراعها لكي تعرض عضلاتها.. فما كان من راشيل وصاحباتها الا ترك المكان في اسرع وقت ممكن.. لم تغضب راشيل على جنان ابنة السادسة عشر، بتصرها هذا، وانما غضبت على السلطات التي غيرت زميلة الطفولة بدعايتها المغرضة، وربما تشتاق جنان الآن لأيام طفولتها التي قضتها في ربوع المدرسة اليهودية.
وهكذا كان الامر بالفعل، فلم يقبل أي طالب يهودي لا بجامعة بغداد ولا بجامعة الحكمة الأهلية تلك السنة، وهذا الأمر شمل ايضا الطالبات اليهوديات اللواتي تلقين تعليمهن بمدرسة الراهبات. أما جنان فقد بدأت دراسة الطب ومنير بدأ دراسة الهندسة، وهما الطالبان الوحيدان من خريجي اعدادية شماش الذين قبلوا ذلك العام.
وفي العام التالي 1968 لم يقبل أيضا أي طالب يهودي في الجامعات سوى ابنة المدير عبد الله عوبديا تقديرا لعمله المخلص الحريص في التربية والتعليم، فقد قبلت في كلية الهندسة في جامعة الحكمة. أما في عام 1969 وتحت الضغط العالمي على العراق ضد غمط حق المواطنين اليهود في الدراسة، فتحت ابواب الجامعة للطلبة اليهود من جديد، ولكن أمام راشيل وزملائها لم تفتح تلك الابواب لأن حقهم كان قد سقط بصورة تلقائية بسبب مرور سنتين لعدم قبولهم بالجامعة. وهكذا فقدوا الامل بالحصول على التعليم العالي على أرض وطنهم رغم معدلاتهم العالية بدون أي سبب سوى كونهم يهودا.
ماذا كان مصيرهم؟
وبدأ الضجر يخيم على حياة الفتيان والفتيات الشباب، فأصبحوا يتناولون كل ما يمكن من كورسات، فدرس البعض اللغة الفرنسية في المعهد الفرنسي، والبعض الآخر الالمانية الخ من كورسات مثل الحسابات والاختزال عسى ان يعثروا على وظيفة كانت تعد من رابع المستحيلات لكونهم يهود. وقام الاستاذ عبد الله عوبديا بفتح الصف السادس الثانوي من اجلهم لغرض تعليمهم حساب التكامل والتفاضل. وفتح باب التدريس في المدرسة نفسها لتلاميذ الابتدائية، فلقيت بذلك طالبتان مهنة تعد مرموقة تجاه الوضع المتردي. أما راشيل فلقيت ولحسن حظها، وظيفة متواضعة كسكرتيرة في مكتب للأدوية. فنصحها والدها بان تطلق على نفسها اسم رجاء حتى لا تثير الفضول والانتباه عند من لا يعرف هويتها. واطلق اسم رجاء عليها بدل راشيل. وانتقلت مع عائلتها للسكنى في جانب الكرخ بعيدا عن مناطق سكنى بقية الطائفة اليهودية. وتوددت مع طالبة تماثلها في عمرها اسمها ميسون، حين كانت تلتقي بها صباح كل يوم في محطة باص الامانة. كانت ميسون تذهب للجامعة وراشيل تذهب للمكتب. وفي احد الايام سألتها ميسون لماذا لا تدرس بالجامعة، فتملكت راشيل الجرأة لكي تقول لها لانها يهودية. فوقفت ميسون وصاحت لا لايمكن ان تكوني يهودية وعند السؤال لماذا، قالت ميسون: لانك تتكلمين مثلي واسمك مثلي وانت لطيفة، لا يمكن ان تكوني يهودية. اليهودي هو ذلك الاحمق العجوز ذو الانف المعقوف الذي يتعاطى بالفائدة ! فأباحت راشيل لميسون باسمها الحقيقي وبالأوضاع المتدهورة، فأصبحوا صديقات حميمات. وتتذكر راشيل ان ابواب الهجرة فتحت عام 1971، فكان خريجو عام 1967 المذكورون اول من ترك البلاد، لكي يسعوا لمستقبل افضل مما حصلوا عليه في وطنهم العراق، ما عدا طالب واحد. شاب يافع ألمعي يحب عمل الخير ومساعدة الآخرين في بداية العشرينات من عمره اسمه سمير قشقوش. تتذكره راشيل والألم والحزن العميقين يمزقان قلبها فقد أغتيل ظلما وعدوانا لكونه يهوديا في يوم سبت أسود المصادف 12.4.1973، كانت مجزرة مريعة إذ اغتيل هو ووالديه وأخيه وأخته المراهقين. خمسة من ابناء عائلة واحدة أغتيلوا وهم جالسون على مائدة الفطور في بيتهم في العلوية وأخرجت جثثهم بأكياس الجنفاص التي تقطر دما ، فكانت تلك صدمة قاسية جدا لمن تبقى من اليهود آنذاك، فأسرعوا بالفرار وترك العراق الذي تمسكوا به في اسرع وقت ممكن.
وأنتشر هؤلاء الطلاب الهاربين من العراق في جميع انحاء العالم: في امريكا وكندا وفي انكلترا وأسرائيل. وتنفسوا الصعداء لأول مرة لشغورهم بأنهم أحرار. أما راشيل فقد تركت العراق بعد اسبوع من مقتل عائلة قشقوش وغدرها الاثيم ولجأت الى أسرائيل. وما كان منها إلا اللجوء للجامعات الاسرائيلية لقبولها للتعليم الجامعي، وكانت قائمة تسجيل الطلاب للسنة الدراسية التالية قد أقفلت حين وصولها فصارت تتوسل باللغة الانكليزية ولم تكن تعرف العبرية بعد، بقولها: لقد ضيعت 6 سنوات من عمري هباء، فلا تدعوني اضيع سنة أخرى. فقبلتها جامعة بار ايلان لتلك السنة وصارت تدرس تدقيق الحسابات القانوني.
وهكذا كان شأن باقي زملائها ممن هربوا من العراق الصدامي الدموي، فقد تفرقوا ايدي سبأ، وطرقوا ابواب الجامعات المختلفة في انحاء العالم التي قبلتهم نظرا لتفوقهم في الدراسة ولمعدلاتهم العالية في البكالوريا في العراق. فتخرج منهم دكتور اختصاصي بطب النساء في كندا وسياسي قدير في امريكا وفي اسرائيل نال احدهم شهادة الدكتوراه بعلم الفيزياء النووية، ومهندسين عدة منهم من حصل على شهادة الماجستير. أما الطالبة الاولى فقد درست الأقتصاد وشغلت وظيفة هامة جدا في احدى الشركات الكبيرة في لندن. وأما احدى الطالبات الأوائل الأخريات فقد حصلت على شهادة الماجستير في أدارة الأعمال وفتحت مكتب للاستشارات في كندا. وهناك التاجر ووسيط العقارات الحاذقين وغيرهم وغيرهن. وهكذا خسر العراق خيرة أبنائه وانتفعت بمواهبهم دول آخرى "ويا من تعب ، ويا من شقا ويا من على الحاضر لقى". وفي عام 1977 تخرجت راشيل. وفي يوم 26.6.1977 أقيم حفل توزيع الشهادات الجامعية بحضور 3000 من خريجي الجامعة في تلك السنة وبرعاية وزير الثقافة والتعليم الإسرائيلي وعدد كبير من رجالات الجامعة. فتأثرت جدا عند استلامها الدعوة للحفل كخريجة، فطلبت من السكرتير الأكاديمي بأن يسمح لها ان تلقي كلمة أمام الجمهور. فقالت في كلمتها في تلك الأمسية: "لقد إلتمست بنفسي ان أقف على هذا المنبر لكي أقول كلمة، وأصف صورة معينة. في هذه الصورة يتضح في خيالي حفل يشبه حفل هذه الأمسية الذي كان من المقرر اقامته قبل 10 سنوات بالضبط في باحة المدرسة اليهودية في بغداد، ولكني لم أحظ َ بذلك كما لم نحظ َ انا وزملائي خريجو عام 1967 بالدراسة العليا في مسقط رأسنا العراق، فقد حرمنا من حقوقنا كمواطنين... ايها الحفل الكريم، لقد لجأت الى هنا قبل أربع سنوات فقط ووجدت بوابة الجامعة مفتوحة أمامي لتدلني على طريق العلم. أن لذلك في نظري قيمة كبيرة جدا حيث كانت قد اغلقت بوجهي بوابة شبيهة لها في مسقط رأسي، وهكذا منحتني دولة جديدة التي لا تعرفني هذا الحق ككل مواطن ولد فيها سواء كان يهوديا أم عربيا. فشعرت ولأول مرة في حياتي بشعور المواطنة والحرية... "
#مازن_لطيف_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليهود وانتشار دور العرض السينمائية في العراق
-
التلفاز ونفوذ الصحافة
-
يوتوبيا المدينة المثقفة
-
أسرة عمر نظمي ودورها في تاريخ العراق المعاصر
-
سيرة معمار عراقي
-
الحركة الصدرية ولغز المستقبل.. إشكالية اللاهوت الشيعي والناس
...
-
الروائي إيلي عمير: بغداد مسقط راسي وتعشش في ذاكرتي وفي مخيلت
...
-
نعيم الشطري.. علم وراية في شارع المتنبي
-
يهود بغداد والصهيونية 1920-1948
-
مسألة العراق.. المصالحة بين الماضي والمستقبل
-
ستون عاما على رحيل جعفر حمندي
-
مجلة «الحاصد»:مدرسة أنور شاؤول الصحفية والأدبية
-
الشاعر جبار جمال الدين يؤرخ يهود العراق شعرياً
-
سامي ميخائيل : فكتوريا عادت لزيارة موطنها
-
قراءة جديدة لرجالات العهد الملكي في العراق
-
البروفيسور العراقي سامي موريه يصدر مذكراته بعنوان -بغداد حبي
...
-
عزرا حداد.. احد أهم اعيان ومثقفي الطائفة اليهودية في بغداد
-
يهود العراق في كتاب (بغداد كما عرفتها) للمميز
-
اليهود في الخليج العربي
-
موقف النخبة اليهودية في العراق من الهوية العراقية 1920-1952
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|