عبدالوهاب حميد رشيد
الحوار المتمدن-العدد: 3921 - 2012 / 11 / 24 - 11:07
المحور:
الادارة و الاقتصاد
الفصل الثاني
العولمة: منظور اقتصادي- جغرافي
بيتر ديكن، جامعة مانشستر/ إنجلترا
Peter Dicken, University of Manchester, England
ترجمة:حسن عبدالله (و)عبدالوهاب حميد رشيد
مدخل
يتبنى الكثير من الأدب الأكاديمي والشعبي ، صراحة أو ضمناً، الموقف القائل بأن عمليات العولمة تقودنا بإصرار الآن نحو عالم متجانس يختفي فيه/ أو سيختفي التمايز الجغرافي(1). إن عبارات مثل "اختفاء المسافة" أو "نهاية الجغرافية" ترن في مقالات العولمة هذه(2). ووفقاً لهذا الرأي، فإن التطورات التكنولوجية المثيرة قد جعلت رأس المال- والمنشآت التي تسيطر عليه- "متحركاً جداً " hypermobile، ومتحرراً من "طغيان المسافة"، ولم يعد مربوطاً بـ "المكان". وبعبارة أخرى، أنها تفترض بأن النشاط الاقتصادي يصبح "بدون إقليم محدد" deterritorialized. ويشير عالم الاجتماع مانويل كاستلز إلى أن قوى العولمة، وبخاصة تلك التي تحرّكها التقنيات الجديدة للمعلومات، تستبدل "فضاء المكان" هذا "بفضاء التدفقات(3)." فأي شيء يمكن وضعه في أي مكان، ويمكن نقله بسهولة لمكان آخر إذا تعذرَ ذلك. والأفكار هذه مهما بدتْ مغرية، فإن لحظة من التفكير ستبين مدى ضلالها. ورغم أن تقنيات النقل والاتصالات قد تم تثوريها حقاً، بيد أن كلاً من المسافة الجغرافية، والمكان بشكل خاص، يبقيان كلاهما عامليْن أساسييْن.
ولذلك، فإن موضوع هذا الفصل هو تحدي الموقف القائل بانتهاء دور الجغرافية. وتماماً كما تبينَ أن نبوءة فوكوياما عن "نهاية التاريخ" لم يكن لها أي أساس(4)، فإن القول بنهاية الجغرافية يسيء تفسير النمط المعقد الذي تتسرب به الجغرافية (من ناحية الفضاء والمكان) إلى كل العمليات والمؤسسات الاجتماعية. يتكون هذا الفصل من قسمين رئيسين. أولاً، أرسمُ المناطق الأساسية للخريطة الجغرافية- الاقتصادية الجديدة، ومن ثم أبيّن بعض الأسس الرئيسية لمحاجتي القائلة بأن الجغرافية تهم بالنسبة لفهم عمليات العولمة. ثانياً، استكشفُ ما أعتبره أنا القوى الثلاثة الأكثر أهمية، والمترابطة ارتباطاً وثيقاً، التي تشكل وتعيد تشكيل الاقتصاد- الجغرافي: المنشآت متعددة الجنسية، والدول، والتكنولوجيا. وعند مناقشة القوى الثلاثة هذه، سوف أركز على أبعادها الجغرافية على وجه التحديد.
مناطق الخريطة الجغرافية- الاقتصادية الجديدة
الوحدة التقليدية للتحليل في دراسات الاقتصاد العالمي هي الدولة الوطنية nation-state. عملياً، إن كل البيانات الإحصائية عن الإنتاج، والتجارة، والاستثمار، وغيرها، يتم تجميعها إلى "مجاميع" وطنية national boxes. ومع ذلك، فهذا المستوى من التجميع ليس له سوى فائدة قليلة، مفترضين طبيعة التغيرات التي تحدث في تنظيم النشاط الاقتصادي. وهذا لا يعني أن المستوى الوطني ليس مهماً. على العكس، فأحد موضوعات هذا الفصل هو أن الدول- الوطنية ما تزال من اللاعبين الأساسيين في الاقتصاد العالمي المعاصر. وعلى أي حال، ينبغي علينا أن نعتمد كثيراً على البيانات على المستوى الوطني لاستكشاف الخرائط المتغيرة للإنتاج، والتجارة، والاستثمار. ولكن الحدود الوطنية لم تعد "تحتوي" عمليات الإنتاج إلى الحد، وبالطرق، التي فعلتْ ذات يوم. فهذه العمليات تقّطع الحدود الوطنية وتتجاوزها في صف مذهل من العلاقات التي تعمل بمستويات جغرافية وتنظيمية مختلفة. ونحتاج للقدرة على أن نكون تحت وفوق المستوى الوطني حتى نفهم ما يحدث.
ومع الزمن، فإن تقسيمات عالمية جديدة للعمل- أنماط من التخصص الجغرافي- أخذت تبزغ وتندمج مع الأشكال القديمة لخلق أنماط معقدة جداً للنشاط الاقتصادي عند مستويات جغرافية مختلفة. وبالنسبة لقسم هام من الفترة التي كانت تتبع الثورة الصناعية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت البنية العالمية من حيث الجوهر عبارة عن مركز، وشبه أطراف، وأطراف (أو شبه محيط، ومحيط). وقد ارتبطت هذه المكونات من خلال التدفقات التجارية التي كانت هي نفسها تنظمها اقتصاديات المركز. وكانت الصناعة التحويلية نشاطاً مركزياً بصورة طاغية.
إن هذا النمط البسيط نسبياً لم يعد له وجود- مع أنه لم يكن قط، طبعاً، بسيطاً كما تفترض هذه الكلمة. فأنماط التجارة والاستثمار باتت أكثر تعقيداً خلال العقود القليلة الماضية. والتبادل المباشر بين المركز ومناطق الأطراف (أو المحيط)، القائم على تقسيم واسع للعمل، يتحول إلى بنية معقدة جداً، ومتعددة الأقطاب، ومتعددة المستويات؛ "فُسيفساء من التفاوت دائم الجريان"، بحسب وصف م. ستوربر و ر ووكر(5). وهذا يتضمن تجزئة عمليات إنتاج عديدة وإعادة موقعتها جغرافياً على نطاق عالمي بطرق تقّطع الحدود الوطنية. وقد ظهرت مراكز جديدة للإنتاج الصناعي- الاقتصاديات التي تتصنع حديثاً newly industrializing economies (NIEs)- على نحو بارز جداً، ولو ليس استثنائياً، في شرق آسيا. إن الصناعات القديمة والجديدة معاً، الصناعة التحويلية والخدمات معاً، معنية بإعادة تصنيف اللغز الدولي هذا للكلمات المتقاطعة. لقد انتقلَ المركز الجغرافي للجاذبية لنظام الإنتاج العالمي من موقعة الذي استقرَ فيه لفترة طويلة "في" شمال الأطلسي (والتركيز على شمال- غرب أوروبا والساحل الشرقي للولايات المتحدة) نحو حوض الباسفيك (والتركيز على اليابان ودول شرق آسيا (NIEs.
ومما لا شك فيه، أننا نعيش الآن في اقتصاد عالمي كان قد تبلورَ حول الساحات الثلاثة للثالوث العالمي: أمريكا الشمالية، وأوروبا، وشرق آسيا(6). وقد زادت درجة التركيز الاقتصادي بشكل كبير في الثالوث خلال السنوات 10- 15 الأخيرة. ففي عام 1980، كان 76% من الإنتاج الصناعي الكلي العالمي و 71% من التجارة السلعية قد تحققَ هناك. وفي منتصف تسعينات القرن العشرين، زادت حصة الثالوث من كلا المؤشرين بمقدار عشر نقاط مئوية: إلى 87 % من الإنتاج العالمي و 80 % من التجارة العالمية. وهذه الاتجاهات تعني أن الثالوث العالمي، عملياً، "يمتص" أكثر وأكثر من النشاط المنتج، والتجارة، والاستثمار المباشر للعالم. إن الثالوث يتربع منفرج الساقين على الاقتصاد العالمي كأنه حيوان ضخم حديث Colossus بثلاثة سيقان. فهو يشكل "أضخم أسواق" العالم. وعلى أي حال، فما إذا كان ذلك مجرد نتاج اصطناعي أم لا، هو أمر خاضع للنقاش. فأثنين من الساحات الثلاثة منظَّمة رسمياً من الناحية السياسية في تكتلات تجارية إقليمية (الاتحاد الأوروبي، واتفاقية التجارة الحرة الأمريكية الشمالية، على التوالي). والساحة الثالثة، والأكثر ديناميكية، من الأقاليم الثلاثة: شرق آسيا، ليست لديها منظَّمة سياسية رسمية، رغم توافر الإمكانات المختلفة. ولكن إذا كان الثالوث يمثل حقيقة هامة، بشكل قائم أو كامن، مع إنتاجٍ وأنظمة تجارية موجهَة داخلياً، فأنه يُلقي مشاكل كبرى على تلك الأجزاء من العالم- وبخاصة البلدان الأقل نمواً- التي هي غير مندمجة بالنظام(7).
الثالوث العالمي هو جانب واحد من مناطق الخريطة الاقتصادية- الجغرافية المعاصرة. وما دام كل من صانعي القرارات في قطاع الأعمال ورجال السياسة يعتقدون بوجوده، فهو سيواصل تأثيره على أنماط النشاط الاقتصادي.
ولكننا، طبعاً، كأفراد لا نفكر بأنفسنا، قبل كل شيء، على أساس أننا نعيش في جزء أو آخر من الثالوث العالمي. فنحن نعيش في مجتمعات متركزة محددة- مدينة، بلدة، قرية. والحقيقة الأساسية لكل الحياة الاقتصادية هي أن كل النشاط الاقتصادي، في نهاية المطاف، متركز في أماكن محددة.
إن كل نشاط اقتصادي لابد ليس فقط أن يكون قائماً في مكان ما، بل أيضاً- وعلى نحو له دلالة أكثر، أن هناك ميلاً قوياً لأن يشكل النشاط الاقتصادي تشابكات أو تكتلات جغرافية متركزة localized geographical clusters or agglomerations. وفي الواقع، فإن التركز الجغرافي للنشاط الاقتصادي على مستوى محلي أو أقل من الوطني، هو القاعدة، وليس الاستثناء. وفي الفترة الأخيرة، فإن انتشار وبروز أهمية التشابك الجغرافي قد جرت ملاحظته- وأصبحت له مكانة مركزية في كتابات الاقتصاديين وعلماء الإدارة البارزين، وبخاصة بول كروجمان، ميشيل بورتر، وكينيكي أوهماي(8). ومع ذلك، فإن علماء الجغرافية الاقتصادية وعلماء الموقع كانوا لعقود يشيرون إلى انتشار ظاهرة التركز الجغرافي هذه(9). ويتناول بعمق أحد المساهمين البارزين في الأدب الجغرافي، ألن سكوت، أقلمة regionalization الاقتصاد العالمي في الفصل الرابع من هذا الكتاب. أما هنا، فلا يلزمنا سوى بضع ملاحظات أساسية.
إن الأسباب التي تقّرر جذور التشابكات الجغرافية المحددة ترجع للصدفة إلى حد بعيد وغالباً ما يغطيها ضبابُ التاريخ. وكما لاحظ غونار ميردال قبل سنوات كثيرة، "ضمن حدود واسعة، فإن قوة جاذبية مركز ما اليوم تنبع بشكل رئيسي من أن حدثاً تاريخياً ما قد بدأ ذات يوم هناك، وليس في عدد من الأماكن الأخرى، حيث كان يمكنه أيضاً بنفس الدرجة أو أفضل أن يبدأ، ومن أن البداية حقّقتْ النجاح(10)." ومهما كان السبب المحدد لبداية وجود تشابك اقتصادي متركز في موقع محدد، فإن نموه وتطوره اللاحق يميل لأن يعتمد على مجموعتين من قوى التكتل agglomertative forces: الاعتمادات المتبادلة الوظيفية وغير الوظيفية traded and untraded interdependencies.
الاعتمادات المتبادلة الوظيفية
إن القرب الجغرافي بين المنشآت التي تؤدي وظائف مختلفة، ولكن مترابطة، في سلسلة الإنتاج يمكن أن يخّفض تكاليف المعاملات المعنية ويجعل من الممكن تحقيق شدة أعلى في المعاملات بين المنشآت المتجاورة. وفي الواقع، لا يحدث دائماً أن المنشآت القريبة من بعضها مكانياً تجمعها بالفعل مثل هذه المعاملات. فالمنشآت قد تكون قريبة جغرافياً، ولكنها غير مرتبطة وظيفياً. ومع ذلك، فإنها سوف تستفيد من النوع الثاني من قوى التكتل.
الاعتمادات المتبادلة غير الوظيفية
هذه هي المنافع، المحسوسة بدرجة أقل، من التشابك الجغرافي، وهي تضم منافع اقتصادية، مثل تطور بيئة ملائمة للعمل، ومنافع اجتماعية- ثقافية. ويؤكد أمين وثريفت على هذا الأساس الاجتماعي- الثقافي للتكتل، ويشيران إلى أنه يسّهل ثلاث عمليات خاصة:1) العلاقات المباشرة وجهاً لوجه، 2) التفاعل الاجتماعي والثقافي "يخدم كمكان للاختلاط بالآخرين، ولجمع المعلومات، ولإقامة التحالفات، ونسج علاقات الثقة بالآخرين والمحافظة عليها، وتطوير قواعد للسلوك". 3) تعزيز المعرفة والأفكار- "المراكز ضرورية لتطوير، واختبار، ومتابعة الابتكارات، ولتوفير مجموعة ناقدة من الأفراد والبنى المتعلمة، والشبكات الاجتماعية- المؤسسية، وذلك لتحديد الفجوات الجديدة في السوق، واستعمالات جديدة للتكنولوجيا وكذلك تحديدها، والاستجابة السريعة للتغيرات في أنماط الطلب(11)." وبعبارة أعم، فإن التكتلات الحضرية كبيرة الحجم تتيح عرض مجموعة كبيرة من التسهيلات الأخرى التي يتعذر توفيرها في ظروف التشتت الجغرافي.
ولذلك، وبمجوعة كاملة من الطرق، فإنه ما أن يستقر تشابك أو تكتل اقتصادي متركز، فإنه يميل للنمو من خلال عملية تطور تراكمية تعزّز نفسها بنفسها. إن الطابع التراكمي لهذه العمليات من التطور الاقتصادي المتركز تؤكد أهمية المسار المنحني التاريخي historical trajectory. لقد بات من الشائع استعمال مصطلحات من علم الاقتصاد التطوري لوصف هذه كعملية تابعة للمسار path-dependent(12). وهكذا، فإن اقتصاد إقليم ما (أو بلد ما) يصبح "مقفلا" locked in على نمط معين، متأثراً جداً بتاريخه الخاص به. وهذا الانسداد قد يكون أما مصدر قوة مستمرة، أو مصدراً للضعف إذا كان يتضمن جموداً تنظيمياً شديداً. ومع ذلك، فحتى بالنسبة للأقاليم "الناجحة"، فإن التبعية للمسار هذه لا تفترض الحتمية المطلقة لاستمرار النجاح. النقطة الهامة هي أن المكان يهم؛ وأن التواجد ضمن إقليم معين territorialization يبقى مكِّوناً هاماً في تنظيم النشاط الاقتصادي.
ولذلك، يمكن وصف الاقتصاد الجغرافي كشبكة من سلاسل إنتاجية، وحيزات اقتصادية، وأماكن، غير متساوية جغرافياً، ومعقدة وديناميكية جداً، ترتبط معاً من خلال خيوط التدفق. ولكن مستوى الحيز spatial scale الذي تجري عنده هذه العمليات متغير هو نفسه. وهذا هو، أيضاً، المعنى الذي تأخذه مستويات مختلفة بالنسبة لعوامل مختلفة في إطار النظام الاقتصادي العالمي. ولكن الاتجاه هو اختزال بُعد المستوى إلى اثنيْن فقط: العالمي والمحلي. وقد كُتب الكثير عن التوتر العالمي- المحلي عند السطح البَيْني interface بين الاثنين. ويُقال بأن المنشآت، والدول، والمجتمعات المحلية، تحاول حل ذلك التوتر. ومع ذلك، فإن عمليات العولمة ليست ببساطة أحادية الاتجاه: من العالمي إلى المحلي. فعمليات العولمة كلها عمليات مضَّمنة embedded، ومنتَجة، ومُعاد إنتاجها، بعمق في سياقات محدّدة. وكما يشير نيجل ثريفت، فإن (البعد) العالمي ليس بعبعاً. على العكس، "فإن المحلي والعالمي يتداخلان ويتشابكان أحدهما مع الآخر بكل الأشكال(13)." ومع ذلك، فمن الخطأ التركيز فقط على هذين الوجهيْن المتطرفيْن للمستوى- العالمي والمحلي- اللذين يتم النشاط الاقتصادي عندهما. ومن الواقعي أكثر أن نفكر بلغة المستويات المترابطة للنشاط وللتحليل، كالمحلي، والوطني، والإقليمي (أي فوق الوطني، أو المتخطي للحدود الوطنية)، والعالمي. فهذه المستويات لها معنى سواء كحيّزات للنشاط الذي تمارس العوامل الاقتصادية والسياسية عملها فيه، وكذلك كفئات تحليلية تلتقط بدقة أكثر بعض تعقيد العالم الواقعي.
كما نحتاج أيضاً أن نضع في أذهاننا أن هذه المستويات لا تمثل كيانات مستقلة. فالصناعات الفردية (إنتاج/ سلاسل سلعية) يمكن معاملتها كبنى منظَّمة عمودياً تعمل عبر مستويات جغرافية متسعة بشكل متزايد. وعند اجتيازها، فهذه البنى العمودية هي الأنظمة السياسية- الاقتصادية المحدَّدة إقليمياً، التي تتجلى، مرة أخرى، عند مستويات جغرافية مختلفة. وعند نقاط تقاطع هذه الأبعاد في حيّز جغرافي "حقيقي" إنما تأتي الحصيلة المحددة، وحيث ينبغي حل مشاكل التواجد ضمن اقتصاد متعولم economy globalizing- سواء كمنشأة أعمال، أو حكومة، أو مجتمع محلي، أو فرد معين.
عالمياً، نحن ننتقل من وضع التكامل الضحل، الذي يتجلى بشكل رئيسي من خلال التجارة الواسعة بالسلع والخدمات والحركات الدولية لرأسمال المَحافظ، إلى وضع التكامل العميق الذي يتضمن ليس فقط التجارة، بل الإنتاج المنظَّم بواسطة الشركات متعددة الجنسية أساساً. ورغم ذلك، فمع أنه هناك، دون شك، قوى عولمة globalizing forces تفعل فعلها، بيد أننا لا نملك اقتصاداً عالمياً معولماً بدرجة كاملة. العولمة ينبغي فهمها كمجموعة من عمليات تربطها علاقات متبادلة أكثر مما هي حالة جاهزة أو نهائية end-state. وهذه الاتجاهات متفاوتة كثيراً في الزمن وفي المكان. وباعتماد هذا المنهج القائم على العمليات، فمن المهم التمييز بين عمليات التدويل internationalization وعمليات العولمة globalization. فهذه المصطلحات كثيراً ما تُستعَمل كمترادفات.
فالتدويل يتضمن التوسيع البسيط للنشاط الاقتصادي عبر الحدود الوطنية، أما العولمة فهي عملية مختلفة نوعياً تتضمن التكامل الفعال لأنشطة مبعثرة دولياً. وكلتا العمليتان تتعايشان- التدويل والعولمة. في بعض الحالات، لا نرى سوى استمرار تبعثر الأنشطة الاقتصادية دولياً والذي استقرَ منذ زمن طويل. بينما، في حالات أخرى، نشهد دون شك تبعثراً وتكاملاً متزايدْين للأنشطة عبر الحدود الوطنية. فنحن نشهد بزوغ اقتصاد- جغرافي جديد يختلف نوعياً عن الماضي، ولكن تتواصل فيه تواجد عمليات التدويل والعولمة معاً وعمليات التكامل الضحل والتكامل العميق معاً. ومع ذلك، فهذه العمليات تفعل ذلك بطرق متفاوتة كثيراً في الحيّز، وفي الزمن، وعبر القطاعات الاقتصادية.
القوى الأساسية التي تشكل الخريطة الجغرافية- الاقتصادية
إن كشف تعقيد الاقتصاد الجغرافي هو مهمة صعبة. وإنه لمن المغّري أن نبحث عن آلية سببية مفردة كالتغير التكنولوجي أو الشركة متعددة الجنسية، أو، كما يتم في الغالب، تخفيض دور الدولة في عالمنا المزعوم "بلا حدود". المنهج المأخوذ به هنا هو المحاجة بأن هذه القوى الثلاثة هي على صلة قوية متبادلة، وبأنها، معاً، تساعد على تنقية الخطوط العريضة للخريطة الجغرافية- الاقتصادية، على الأقل. وما نلاحظه، كحصيلة لما يسمى بعمليات العولمة، هو أساساً النتاج لتفاعل ديناميكي بين الشركات متعددة الجنسية TNCs والدول ضمن سياق بيئة تكنولوجية سريعة التأثر. وبطبيعة الحال، هناك فروق هامة بين القوى الثلاثة هذه. فكل من الشركات TNCs والدول هي مؤسسات، مع كل الصفات البنيوية لمثل هذه الوكالات agencies. ولكنها مؤسسات من أنواع مختلفة جداً، لها غايات مختلفة وزبائن مختلفين. وهناك علاقة ديناميكية فيما بينها. وكما يلاحظ د. م. غوردن، "ربما من المفيد جداً أن ننظر إلى العلاقات بين المنشآت متعددة الجنسية والحكومات على أنها علاقات تعاون وتنافس معاً، علاقات تعاضد وشقاق معاً. وإن المنشآت والحكومات تعمل ضمن علاقة جدلية بشكل كامل، وتدخل في أدوار ومواقف موحدة ولكن متناقضة، لا يستطيع فيها أي من الطرفين الهيمنة بشكل واضح أو كامل(14)."
أما التكنولوجيا، فهي أيضاً مضَّمنة اجتماعياً ومؤسسياً، ولكنها لا تملك، بذاتها، أي وكالة. فهي مخلوقة ومتبناة (أولا) بواسطة الوكالة البشرية: الأفراد، والمنظمات، والمجتمعات. وفي اقتصاد السوق الرأسمالي، فإن اختيارات التكنولوجيات واستعمالاتها تتأثر أساساً بدافع الربح، وتراكم رأس المال والاستثمار، وزيادة حصة السوق، وهكذا. وفي هذا القسم، أركزُ عن قصد على الأبعاد الجغرافية للقوى الثلاثة. وأنا أبدأ بالتكنولوجيا ليس لأنها تلعب الدور الحتمي deterministic في تشكيل الاقتصاد- الجغرافي العالمي، بل لأنها عامل أساسي يسّهل أو يمّكن من التغير الاقتصادي- الجغرافي. وسوف أركزُ على جانبيْن من جغرافية التغير التكنولوجي: أولهما، هو اتجاه النشاط التكنولوجي للتركز الجغرافي بدرجة عالية، وثانيهما، هو تحول علاقات الزمن- الحيز.
التغير التكنولوجي هو في جوهره تغير جغرافي
التغير التكنولوجي هو "المحرِّك الأساسي للرأسمالية"، "القوة الأساسية في تشكيل أنماط تحول الاقتصاد(15)... الخالق الدائم للاضطراب في الميزة النسبية(16)." ومع ذلك، فرغم أن القوة الكاسحة للتغير التكنولوجي، والتحولات الدورية في النماذج التكنولوجية- الاقتصادية(17)، والتغيرات التكنولوجية في النقل والاتصالات التي تقلص الزمن- الحيز، تغرينا بصورة مبررة، بيد أننا نحتاج أن نضع في أذهاننا أن كل التقنيات تتكون في مواقع جغرافية محددة وأن انتشارها اللاحق له بُعد جغرافي قوي. وهذا يصح حتى على ظاهرة "لا علاقة لها بالحيز" spaceless بشكل واضح كالشبكة العالمية للمعلومات Internet.
إن التحولات كبيرة الحجم في النموذج التكنولوجي- الاقتصادي التي حدثت دورياً في التاريخ وكان لها أثراً تحويلياً قوياً على المجتمع كانت كلها تمتلك جغرافية متميزة جداً. إن القيادة التكنولوجية في موجة كوندرَتيف واحدة Kondratiev، مثلاً، ليست بالضرورة متضَّمنة في الموجات اللاحقة. إن القادة التكنولوجيين لموجة كوندرَتيف الأولى (K1) كانوا إنجليز وفرنسيين وبلجيكيين. وقد أنضم إلى هؤلاء ألمان وأمريكان في الموجة التالية K2. الموجة الثالثة K3 وجدت أن القيادة التكنولوجية قد ترسخّت في ألمانيا والولايات المتحدة، مع أن الدول المبادرة الأولى ما تزال بارزة وقد انضمت لها سويسرا وهولندا. وفي الموجة الرابعة K4، كانت اليابان والسويد وباقي الدول الصناعية في مجموعة القيادة. وفي الفترة الأخيرة، وجدت الموجة الخامسة K5 دوراً بارزاً أكثر في القيادة التكنولوجية لليابان. وكذلك، وعلى نحو غير متوقع، لاثنين من دول شرق آسيا NIEs، تايوان وكوريا الجنوبية، اللتين شغلتا مواقع تكنولوجية بارزة في مجالات محددة. ولكن هناك بُعد آخر لجغرافية القيادة التكنولوجية. "وكما تجري الأمور على المسرح الدولي، فهي تمضي كذلك أيضاً في داخل كل واحدة من الاقتصاديات الوطنية البارزة: إن موقع صناعات الابتكار البارزة انتقلت من إقليم إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى. فمنذ ولادة أولى تقنيات المعلومات IT، في موجة كوندرَتيف الثانية، وعبر الموجة الثالثة، كانت المراكز العالمية الرئيسية للابتكار هي برلين وخط بوسطن- نيويورك؛ وخلال الموجة الرابعة، كانت هناك مراكز حضرية جديدة، أكمّلت المراكز المذكورة أو حلّت محلها، مثل كاليفورنيا الشمالية، سيليسون Sicilon، كريسنت الغربية قرب لندن Western Crescent، خط شتوتكارت- ميونيخ Stuttgart-Munich، وتوكايدو- ميغَلوبولِس Tokaido Megalopolis(18).
إن هذا التركز الجغرافي للنشاط التكنولوجي لا يحدث بالصدفة. وكما يؤكد جي. س. متكالف و ن. ديليسيو، "إن شروط تراكم المعرفة عالية التركز(19)." فالابتكارات- التي هي روح التغير التكنولوجي- هي عملية تعلم أساساً. وهذا التعلم- "بعمل الأشياء"، "باستعمال الأشياء"، بملاحظة الآخرين والمشاركة معهم- يعتمد على تراكم وتطور المعرفة المعنية في مجال واسع جداً. وبطبيعة الحال، فإن تطور أنظمة الاتصالات المتقدمة جداً يساعد على انتشار المعرفة بسرعة غير مسبوقة عبر مسافات غير مسبوقة. ومع ذلك، فإن الحقيقة التي تبقى هي أن المعرفة تتكون في مواقع محددة وهي، على الأغلب، تُستعمل وتتعزز بأقصى شدة في المواقع نفسها. ولذلك، فإن المفهوم الأساسي هو بيئة الابتكار innovative milieu التي تصنع السياق التكنولوجي- الاجتماعي المحدد الذي تتم الابتكارات في إطاره. وهذه البيئة تتألف من خليط من عناصر ملموسة وغير ملموسة: المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نفسها؛ المعرفة والمهارة والبراعة know-how التي تتطور عبر الزمن في سياق محدد (فكرة "في الجو شيء ما"، التي عرفّها ألفرد مارشال قبل عقود)؛ و "العادات والتقاليد" conventions التي هي قواعد وأشياء روتينية مفترضة بين مختلف الناس في أنواع محددة تحدّدها حالة عدم اليقين(20)."
وهذه البيئة تختلف على المستوى الوطني عما هي في المستويات المحلية. إن الأنظمة الوطنية المتميزة للابتكار موجودة، كما أثبتَ ر. ر. نيلسن(21). ولكن في قلب هذه الأنظمة الوطنية، نجد على الدوام بيئة الابتكار المتركزة جغرافياً. وعليه: فإن الجغرافية تلعب دوراً أساسياً في عملية الابتكار والتعلم، ما دامت الابتكارات، في معظم الحالات، تتأثر بالمنشآت الفردية أقل مما بالمعرفة وبقية المدخلات والقابليات الموجودة في الأماكن المحدّدة. إن تشابك المدخلات، كالمراكز الصناعية للبحث ومراكز التطور والبحث التابعة للجامعات university R & D، وتكتلات المنشآت الصناعية في الصناعات المرتبطة، وشبكات خدمة قطاع الأعمال، يمكن أن تخلق وفورات حجم، وتسهّل الأفكار التي من شأنها المشاركة في المعرفة والتخصيب التهجيني، وتشجع العلاقات المباشرة وجهاً لوجه من النوع الذي يعزز نقل التكنولوجيا الفعالة. هناك صفتان من شأنهما تفسير الميزة الناتجة عن التكتل المكاني بهذا السياق: إدخال مدخلات المعرفة والمعلومات التي هي "تجسيدات شخصية" أساساً؛ والدرجة العالية من حالة عدم اليقين التي تحيط بالمنتجات. كلتا هاتين الصفتين تحتاجان اتصالات شخصية كثيفة ومتكررة، وسرعة في صنع القرار، وهي أشياء تتعزز كثيراً بالقرب الجغرافي للشركاء الذين يعنيهم الأمر. وفي الواقع، ففي الحقبة الحالية من الانتشار العالمي السريع للمعرفة المشفَّرة، يمكننا حتى أن نحاجج بأن الأشكال، المفترضة ضمناً و "اللصيقة" أكثر بالمكان، من المعرفة تكتسب أهمية أكثر كأساس للمحافظة على الميزة التنافسية(22).
ولذلك، فإن البيئة المحلية للابتكار تتألف أساساً من سلسلة من الاعتمادات المتبادلة غير الوظيفية ضمن سياق زمني من عمليات التغير التكنولوجي التابعة للمسار processes path-dependent(23). وقد أشرتُ سابقاً إلى العناصر الكبرى من هذه العمليات إشارات عامة. إن الفكرة من التأكيد على الطبيعة غير الوظيفية للاعتمادات المتبادلة في هذه البيئة هي تمييز "المادة اللاصقة" cement التي تربط هذا النوع من التكتل في موقع ما عن تلك التي قد ترتبط بتقليل تكاليف النقل (مثلاً، تكاليف نقل المواد والمكونات) نتيجة القرب الجغرافي. ويستعمل م. ستوربر مصطلح "منطقة التكنولوجيا" technology district لتمييز التشابكات الجغرافية القائمة على "المنتجات المعتمدة على التعلم التكنولوجي" عن تلك القائمة على الأنواع الأخرى من المنطقة الصناعية(24). إن هذه التكتلات التكنولوجية تشكل أحد أهم خصائص الاقتصاد العالمي المعاصر، كما يثبت سكوت في الفصل الرابع من هذا الكتاب.
وبطبيعة الحال، فإن التحول في علاقات الزمن- الحيز من خلال التطورات التكنولوجية في أنظمة النقل والاتصالات هو الذي نال أقصى اهتمام في أدب العولمة. فليس من شك في أن العالم قد تقلص إذا تكلمنا بلغة الزمن- الحيز. ولكن هذا التقلص، وكل الدلالات والتفسيرات المرتبطة به، أكثر تعقيداً مما يتم إدراكه عادةً. فرغم أن العالم بات مضغوطاً أكثر من الناحية النسبية، بيد أن هذه الظاهرة متفاوتة كثيراً جغرافياً. فالتطورات التكنولوجية في النقل والاتصالات تؤثر في الأماكن (والناس) بصورة مختلفة. فما دعاه العالم الجغرافي دونالد جانيل "تقارب الزمن- الحيز" يؤثر في بعض الأماكن أكثر مما في غيرها. فمع أن الاقتصاديات الوطنية البارزة في العالم، ومدن العالم الكبرى، باتت أقرب لبعضها، فإن الآخرين- البلدان الأقل نمواً أو المدن الأصغر والمناطق الريفية- قد تُركوا في الخلف، من حيث النتيجة. وفي الواقع، فإن السطح: الزمن- الحيز طيع جداً. فبعض أجزاءه تتقلص، بينما أجزاءه الباقية تتوسع، من حيث النتيجة. فمنافع الابتكارات التكنولوجية تُلاحظ ليس في كل مكان.
ويسري، أيضاً، تفاوت مماثل في حقل الاتصالات الإلكترونية، ولو ربما بصور أقل وضوحاً. فرغم أن تكاليف الاتصالات، على العموم، لم تعد تتأثر بالمسافة بدرجة متزايدة، فإن هناك اختلافات جغرافية (واجتماعية) في مدى الوصول إلى هذه التقنيات. فالطرق الإلكترونية لعصر المعلومات ليس لها، حقاً، صلات عالمية متبادلة شاملة. وعلى العموم، فإن الأماكن التي تستفيد أكثر من الابتكارات في وسائل الاتصال هي الأماكن "الهامة". إن الاستثمارات في تكنولوجيا الاتصالات هي من النوع المرتبط بالسوق؛ فهي تتجه إلى هناك حيث يكون العائد المتوقع عالياً. وإن أثرها التراكمي يقوّي قنوات الاتصالات المؤكدة على النطاق العالمي ويعزز أهمية المراكز (مدن/ بلدان) في تلك القنوات. فمع أن البلدان النامية تضم75 % من سكان العالم، مثلاً، بيد أنها لا تمتلك سوى12 % من خطوط الهاتف العالمية. "وتنشأ الآن جغرافية جديدة للفقراء والأغنياء، يُحرم فيها الفقراء من إمكانية الوصول لتكنولوجيا الاتصالات". كما أن هناك أيضاً بُعداً اجتماعياً ضمن هذا السطح المتفاوت جغرافياً للاتصالات(25). فالتكنولوجيا ليست في متناول الجميع- منشآت أعمال أو أفراد- بصورة عادلة. فرغم الهبوط العام في تكاليف الاتصالات، بفضل التغير التكنولوجي، بيد أن تكاليف الاستعمال غير قليلة.
"المنطقة المتنازَع عليها": الدولة في الجغرافية- الاقتصادية المعاصرة
كما هو من المريح جداً أن نفهم فكرة "نهاية الجغرافية" بوصفها الحصيلة الحتمية للتغير التكنولوجي، فمن المريح جداً، أيضاً، أن نقبل فكرة "نهاية الدولة" كأمر قريب التحقق. إن سيناريو ك. أوهماي حول "عالم بدون حدود" هو بالضبط آخر كلمة في ادعاءات من هذا النوع(26). وإذ أسلّم بأن وضع الدولة الوطنية يُعاد النظر في تعريفه بالتأكيد، بيد أنني أرفض فكرة أن الدولة لم تعد لاعباً أساسياً في أنظمة الاقتصاد العالمي. وأنا أتفق مع موقف ر. ويد الذي يشير إلى أن "التقارير القائلة بموت الاقتصاد الوطني مبالغ جداً فيها(27)." ومع أن بعض قدرات الدولة قد تدنتْ حقاً، ورغم أنه قد تكون هناك عملية "إخلاء" من الدولة الوطنية، فهذه ليست عملية بسيطة يحدث فيها تراجع في كل الجبهات(28). فالدولة الوطنية تبقى القوة الأكثر أهمية في تشكيل الاقتصاد الوطني: فمع أن الحدود الوطنية يمكن النفاذ منها الآن أكثر مما في السابق، بيد أن الدولة الوطنية، كوحدة إقليمية، ما تزال قائمة كوعاء "للثقافات" المتميزة والممارسات المؤسسية (كما يلتقطها، مثلاً، مفهوم نظام الأعمال business system لدى ر. د. وايتلي(29). إن حقيقة أن الدول الوطنية تتصرف كوعاء "للثقافات" المتميزة يعني أن "طرق عمل الأشياء"- بما في ذلك كيف تحاول الدول توجيه الأنشطة الاقتصادية في إطار التشريعات ومن خلالها- تميل للتغير عبر الحدود الوطنية. إن هذه الأوعية لا تحول دون التسرب، طبعاً، فالتسرب الثقافي شائع، وأن سرعته تزداد بتأثير التطورات التكنولوجية في وسائل الاتصالات. ومع ذلك، تتوافر أدلة قوية كثيرة على فكرة تواصل التميز الوطني- ولو ليس الوحدانية بالضرورة- في بنى وسياسات تساعد على تشكيل الأنماط المحلية والوطنية والدولية للنشاط الاقتصادي.
وهكذا، فكل الدول تواصل أداء دور أساسي في الطرق التي تعمل بها اقتصادياتها، رغم أنها تختلف إلى حد بعيد في الأساليب المحددة التي تستعملها وفي الطرق الدقيقة التي تُمزج بها تلك الأساليب. ومع أنه قد تكون هناك درجة عالية من المصادفة (فلم تتصرفْ دولتان بنفس الطريقة بالضبط، حتى رغم وجود ظروف متماثلة)، فإن من الممكن تحديد التوجيهات الدقيقة في حقل السياسة العامة. وتعكس هذه التوجيهات أنواع البنى والمؤسسات والممارسات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تحيط بها. فالمزيج المحدد للسياسة، الذي تتبناه الدولة، مثلاً، يتأثر بمتغيرات مثل: الوضع السياسي والثقافي للبلد، ومدى قوة مؤسساته وجماعات المصالح فيه، وحجم الاقتصاد الوطني وبخاصة حجم السوق المحلية، الموارد المتاحة للبلد، المادية والبشرية، وقدرته على التصرف بتلك الموارد، الوضع النسبي للبلد في الاقتصاد العالمي، بما في ذلك مستوى تطوره الاقتصادي ودرجة تصنيعه(30).
لقد أصبح شائعاً، في أدب الاقتصاد السياسي المتعلق بالتنمية الاقتصادية، التمييز بين نمطين واسعين: دولة آلية السوق (التوجيهية)، من ناحية، ودولة آلية التخطيط (التنموية)، من ناحية أخرى(31). إن هذا التمييز، رغم بساطته، نجحَ، بشكل خاص، في وضع إطار مفيد جداً لفهم بعض الاختلافات الكبرى بين الدول من ناحية سياستها الاقتصادية، وبخاصة بين الاقتصاديات المصنعة القديمة في أوروبا وأمريكا الشمالية والبلدان التي تتصنع حديثاً في شرق آسيا NIEs. ومع ذلك، فهذا التقسيم يميل لخلق انطباع بوجود تجانس ضمن مجموعة الدول التنموية، وهو أمر غير قائم.
فرغم أن هذه الدول تُوضع معاً في الغالب في مجموعة واحدة، فإن NIEs هي تشكيلة من البلدان متفاوتة إلى حد بعيد. فهي تختلف كثيراً في حجمها (من حيث المساحة والسكان)، وفي مواردها الطبيعية، وفي أبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية. ولكن تجمعها صفة واحدة: الدور المركزي للدولة الوطنية في التنمية الاقتصادية فيها. ورغم عدم ملائمة الكثير من المفاهيم المبسطة، فليس في أيٍ من بلدان NIEs حالياً (أو في الماضي) اقتصاد سوق يعمل بحرّية كاملة، وأن الدولة تتدخل على نطاق واسع في جميع الأحوال. ومع ذلك، وحتى مع تسليمه بهذه الصفة المركزية، فإن م. دوغلاس يحذر بشيء من القوة: من المضلِّل وضع دول NIEs في "نموذج غير متمايز "للدولة التنموية". إن نظرة فاحصة تكشف عن وجود فروق هامة بينها من ناحية علاقة الدولة برأس المال، وبالعمل، والاقتصاد الخارجي(32)."
إن دور الدولة الوطنية ما يزال هاماً في الاقتصاد العالمي. إن دورها الإقليمي كـ "وعاء"، المصاغ وفق تاريخها، يعني أن هناك درجة ملموسة من التميز والتنوع الجغرافيْين. ورغم الانفتاح المتزايد، فإن الحدود الوطنية ما تزال تمثل انقطاعات هامة على سطح الأرض. فالحالات التي لا يحس فيها المرء أنه يتنقل من بلد لآخر هي حالات قليلة جداً. وهذه ما تزال الحالة العادية حتى في داخل الاتحاد الأوروبي، الذي تزول فيه بسرعة نقاط التفتيش عند الحدود الوطنية. ومع ذلك، يشير هذا المثال إلى تطور كبير آخر: الاتجاه المتزايد للدول الوطنية للدخول في مجموعات اقتصادية إقليمية على أساس اتفاقات تجارية، للبداية على الأقل.
وليس من شك في أن عدد الترتيبات التجارية الإقليمية قد زاد بصورة مثيرة. فبين العامين 1948 و 1994، فإن 109 من هذه الاتفاقات (الكثير منها هي اتفاقات ثنائية) كانت مسجَّلة في منظمة "الاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة" GATT. وقد كانت هناك زيادة ملحوظة بشكل خاص خلال أواخر ثمانينات وتسعينات القرن العشرين: فبين العامين 1990و 1994 سُجلت ليس أقل من 33 اتفاقية تجارية إقليمية. ومع ذلك، مرة أخرى، ينبغي الاعتراف بأن كل هذه المجاميع لا يمكن معاملتها كظواهر متجانسة. فمعظمها ليس سوى اتفاقات تجارة حرة بسيطة. القليل جداً منها فقط يتضمن درجات أعلى للتكامل. وهناك اتفاقية واحدة فقط، الاتحاد الأوروبي، يمكن القول بأنها تتضمن حقاً درجة عالية من التكامل السياسي بالنسبة للساحات الثلاثة من الثالوث العالمي. وفي الواقع، فإن إقليم آسيا- الباسفيك ليس فيه مؤسسة رسمية يمكن مقارنتها بالاتحاد الأوروبي EU أو بمنظمة اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية NAFTA. وفي الواقع، فإن منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا- الباسفيك APEC يلتزم بنظام تجارة مفتوح ومتعدد الأطراف أكثر مما هو نظام موجَه للداخل. "إن منتدى APECرَعته مجموعة من الدول تلتزم بعمق بنظامٍ متعدد الأطراف للتجارة، وتقلق بشأن الإمكانات في عالم منقسم إلى تكتلات من شأنها التمييز ضد الدول غير الأعضاء في تلك التكتلات. وهكذا، فرغم أن منتدى APECنفسه هو ترتيب إقليمي، تبعث مهمته على الحيرة وهي النضال من أجل إقليمية (تفضيلية)(33)." وعليه، مرة أخرى، فإن الصورة متنوعة جغرافياً في إطار نظام الدولة أكثر مما هي صورة موحَّدة.
الشركات متعددة الجنسية ليست "بلا مكان"
الشركة متعددة الجنسية، قبل أي مؤسسة مفردة أخرى، عُوملت على أنها المشكِّل الأساسي للاقتصاد العالمي المعاصر. وإن نمو الشركة متعددة الجنسية Transnational corporation TNC- وبخاصة الشركة العالمية الضخمة- يُنظر إليه كأعظم تهديد لاستقلال الدولة الوطنية. فقد تحققَ ليس فقط نمو ضخم للاستثمار الأجنبي المباشر FDI، بل أن مصادر وأهداف ذلك الاستثمار باتت متنوعة بصورة متزايدة. ولكن FDI هو مقياس واحد فقط لنشاط الشركة TNC. ونظراً إلى أن بيانات FDI تقوم على ملكية الأصول، فهي لا تلتقط الطرق المعقدة التي تعمل بها المنشآت في العمليات العالمية عبر المغامرات المشتركة ومن خلال تنسيق معاملات حلقات الإنتاج والسيطرة عليها. وعليه، فلابد من تبني تعريف للشركة TNC بشكل أوسع من التعريف المستعمل عادةً في الأدب المتداول. الشركة متعددة الجنسية ينبغي تعريفها أما كمنشأة تمتلك عمليات تتم في أكثر من بلد أو أنها تملك القدرة على التنسيق والسيطرة على هذه العمليات حتى من دون أن تتملكها.
تتولى الشركة متعددة الجنسية التنسيقَ والتحكم بحلقات الإنتاج، وبالتالي، الكثير من الجغرافية المتغيرة للاقتصاد العالمي عبر قرارات الاستثمار أو من خلال الامتناع عن الاستثمار في مواقع جغرافية معينة. كما أن تدفق المواد، والأجزاء المكوِّنة، والمنتجات الجاهزة، إضافة إلى الخبرات التكنولوجية والتنظيمية بين عمليات مبعثرة جغرافياً، يصوغ العملية أيضاً. ومع أن الأهمية النسبية للشركات TNCs تختلف بدرجة كبيرة- من صناعة إلى أخرى، من بلد إلى آخر، وما بين الأجزاء المختلفة من نفس البلد- بيد أن تلك الأجزاء من العالم التي يكون فيها تأثير الشركة متعددة الجنسية، المباشر أو غير المباشر، تأثيراً غير هام، هي قليلة الآن. وفي بعض الحالات، فإن تأثير TNC على المصائر الاقتصادية للمنطقة يمكن أن يكون هائلاً، حقاً.
إن سيناريو "العولمة" تمثله أحسن تمثيل فكرة أن العديد من الشركات متعددة الجنسية هي شركات عالمية تقترب طرقها في عمل الأشياء من تشكيل نموذج متكامل عالمياً. ويُحاج بأن ضغوط العمل في بيئة متنافسة عالمياً تخلق التماثل في الاستراتيجية والبنى بين الشركات متعددة الجنسية. وبالنتيجة، فكل الشركات متعددة الجنسية تمضي بقوة على نفس المسار. وعندما تفعل الشركات ذلك، فإنها تفقد كل هويتها أو ولائها لبلدان أو مجتمعات معينة. وتصبح بالتالي بدون مكان معين placeless. ويدّعي كل من روبرت ريخ وكينيجي أوهماي أن الشركات متعددة الجنسية قد أصبحت أو تصبح "من غير وطن" denationalized. وفي تحذير أوهماي للمديرين، يرد ما يلي: قبل الهوية الوطنية، قبل النسب المحلي، قبل الذات الألمانية، أو الإيطالية، أو اليابانية- قبل أي من هذه الذوات، يأتي الالتزام تجاه مهمة عالمية واحدة، موحَّدة… فالبلد الأم لا يهم. المركز الرئيسي للشركة لا يهم. فالمنتجات التي أنت مسئول عنها، والشركة التي تعمل فيها، لم يعد لها وطن denationalized(34).
وأرى بأن هذا السيناريو للشركات العالمية التي لا تعود لمكان معين placeless ينبغي تحديه. إنه مثال آخر على موضوعة نهاية الجغرافية التي لا تصمد أمام التدقيق الجدي. فالشركات العالمية حقاً ليست قليلة فقط، إن وجُدت أصلاً، بل أن الشركات متعددة الجنسية تبقى أيضاً تتأثر بقوة بالبيئات الوطنية والمحلية المحددة. وبشكل خاص، فإن البيئة الوطنية الأم للشركات متعددة الجنسية تبقى لها أهميتها الأساسية من ناحية كيفية أداء عملها، بمعزل عن التوسعات الجغرافية التي تمارس عليها نشاطها. فكل الشركات متعددة الجنسية لها أساس وطني محدَّد مما يضمن أن كل شركة TNC مضَّمنة أساساً بحدود بيئتها المحلية. وبطبيعة الحال، فكلما امتدت عمليات كل واحدة من TNC على رقع جغرافية أوسع، زادَ احتمال تبني عناصر من البيئة المحلية المضيفة. ولكن حتى في حالة وجود تكيف محلي وتضمين محلي كبيريْن، فإن تأثير الأصول الجغرافية للمنشأة يبقى قوياً جداً.
فإذا صحتْ فرضية الشركة العالمية، فمن المتوقع، إذاً، أن تكون الغالبية من أكبر شركات العالم، على الأقل، قد أمنّت معظم أصولها وعمالتها من خارج بلدها الأم. وفي الواقع، فإن الفحص الدقيق لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD لا يكشف عن دليل واضح لتأييد الرأي القائل بأن حتى أكبر 100 شركة من TNCs هي شركات عالمية بموجب هذه المؤشرات(35). ثمة دليل ضئيل على أن شركات TNCs قد مارست نشاطاتها خارج بلدانها الأصلية، وهو ما كان يمكن توقعه لو أنها منشآت عالمية(36). وبالمثل، فإن تحليل هو Y-S. Hu لبيانات الشركة قادته للاستنتاج بأن "TNC… هي شركة وطنية لها عمليات دولية (أي فروع أجنبية)(37)."
وهكذا، فرغم عدة عقود من العمليات الدولية، فإن الشركات متعددة الجنسية تبقى مرتبطة بصورة متميزة بأساسها الوطني. فشركة فورد ما تزال شركة أمريكية أساساً، و ICI شركة بريطانية، و Siemens شركة ألمانية. وكما يلاحظ جي. ستوبفورد و س. سترانج: مهما كَبرَ المدى العالمي لنشاطاتها، فإن الشركة الوطنية "تعود"، نفسياً وسوسيولوجياً، لبلدها الأم. وفي نهاية الأمر، فإن رؤساءها سيعيرون دائماً الاهتمام لرغبات وأوامر الحكومة التي أصدرت جوازات سفرهم هم وأسرهم. وقد كشفت دراسة حديثة لمجالس مديرييِّ 1000 من منشآت القمة في الولايات المتحدة، مثلاً، أن 12 % فقط منهم لم يكونوا أمريكان- وهي نسبة أقل، عملياً، مما كانت عليه عام 1982 حينما كانت النسبة 17%. ومن الصعب جداً العثور في المنشأة اليابانية حتى على علامة واحدة لوجود مدير أجنبي. وحتى في أوروبا، باستثناء المنشآت ذات الجنسية المزدوجة مثل Unilever، لا تجد أن جنسية أعضاء الإدارة العليا تعكس التوزيع الجغرافي لعملياتها(38).
إن القصد من هذه المحاجة ليس بالضرورة القول بأن الشركات متعددة الجنسية TNCs تحافظ على الولاء لدولها الأصلية. إذ أن طبيعة عملية التضمين embeddedness معقدة أكثر من ذلك. النقطة الأساسية هي أن الشركات TNCs تتكون من خلال عملية تضمين معقدة حيث تشارك الخصائص المعرفية الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلد الأم في أداء دور مهيمن. ولذلك، فإن الشركات TNCs هي "حوامل" لمثل هذه الخصائص التي، فيما بعد، تتفاعل مع الخصائص المحددة للمكان في البلدان الذي تعمل فيه الشركات مما يخلق مجموعة من النتائج المتميزة. ولكن الخصائص المستمدة من البلد الأم تبقى هي المهيمنة على الدوام. وهذا ليس معناه الادعاء بأن الشركات TNCs التي هي من أصل وطني محدد هي شركات متماثلة. فهذا ليس صحيحاً، كما هو واضح: ففي إطار أي وضع وطني، ثمة ثقافات أعمال متميزة، ترجع للتاريخ الخاص المحدد في حقل عمل كل منشأة، تدفع هذه الأخيرة للتصرف بطرق محددة استراتيجياً. خذ حالة صناعة السيارات: فالشركات الأمريكية فورد، وجنرال موتور، تتميز تماماً عن شركات تويوتا، فولكسفاكن، فيات، رينو. كما أنها هي نفسها متميزة بعضها عن بعض. وبالمثل، فإن تويوتا و نيسان هي شركات يابانية متميزة، غير متماثلة. وهذا يسري أيضاً على شركات السيارات الفرنسية، وهكذا. ومع ذلك، فإن الشركات ذات الأصل الوطني الواحد توجد بينها نقاط تشابه أكثر من نقاط الاختلاف. وكما بيّنا في القسم السابق، فإن الدول الوطنية تتصرف كحوامل لمجموعات متميزة من المؤسسات والسياسات. إن أنظمة الأعمال هذه business systems (إذا استعملنا مصطلح ر. د. وايتلي) تؤثر وتتأثر بالمنشآت التي تتطور في إطارها. وتساعد هذه الحوامل على إنتاج أنواع محددة من المنشآت.
إن البحوث التجريبية الأخيرة التي قام بها ل. بولي و س. رايخ تقدم الدليل القوي على الرأي القائل بأن الفروق القائمة على أساس وطني بين الشركات متعددة الجنسية تميل للاستمرار، بعكس فكرة التقارب convergence نحو نموذج عالمي متماثل لبنية وسلوك المنشأة. فقد فحصَ هذان الكاتبان الشركات متعددة الجنسية للولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، من خلال مؤشرات عديدة: إدارة الشركات وتمويلها، والتطور والبحوث فيها، والاستثمار الأجنبي، والعادات والممارسات التجارية ضمن المنشأة.
إن تجارب المنشآت التي حللّها بولي ورايخ تقّدم الحجج القوية ضد فرضية التقارب. فأدلتهم "تبين القليل من الضبابية أو التقارب في مراكز المنشآت القائمة في ألمانيا، واليابان، أو الولايات المتحدة... وما تزال المؤسسات الوطنية المتينة والتقاليد الفكرية المتميزة تشكّل وتسّير، كما يبدو، القرارات الحاسمة للشركات… وتبقى هناك فروق وطنية نظامية وهامة بين عمليات (الشركات متعددة الجنسية) في مجال إدارتها الداخلية وتمويلها طويل- الأمد، وفي نشاطها في مجال التطور والبحوث R & D، وفي استثمارها المتشابك واستراتيجيتها التجارية… وأن البنى المحلية، التي في إطارها تتطور منشأة ما منذ البداية، تترك طابعاً ثابتاً على سلوكها الاستراتيجي(39)."
إن جانباً من حجة كون الشركات متعددة الجنسية ليست بلا مكان TNCs are-not-placeless يتمثل في أن الظروف التي تتطور فيها المنشآت في بلدانها الأصلية تواصل ممارسة التأثير القوي جداً على سلوكها اللاحق حينما تعمل في مكان آخر. أما الجانب الآخر الذي يهم الجغرافية، فيخص المدى الذي تتبنى فيه المنشآت العاملة في البلدان المختلفة بعض خصائص بيئاتها المضيفة. فرغم أن تأثير البلد الأم هام جداً، فهو ليس حتمياً كلياً في تأثيره على كيفية تصرف المنشآت في الخارج. فهناك مجموعة كاملة من الأسباب- السياسية والاجتماعية والثقافية- تجبر المنشآت الأجنبية على الدوام على تكييف سياساتها للظروف المحلية(40). فمن المستحيل عملياً نقل حزمة كاملة من مزايا وممارسات المنشأة لبيئة محلية مختلفة. وبالتالي، فإن ما يتحقق عملياً هو مزيج متغير من المؤثرات العائدة للبلد الأم والمؤثرات العائدة للبلد المضيف. ولكن رغم أن التكييف المحلي يحدث تقريباً على الدوام، بيد أن بولي ورايخ قد يكونا على صواب عند ملاحظة: مع أن الشركات متعددة الجنسية تعمل انطلاقاً من أسسها المكتسبة في بلدها الأم، ولكنها، "كما يبدو، تكّيف نفسها عند الحدود، ولكن ليس كثيراً في جواهر الأمور(41)."
وبطبيعة الحال، هناك جوانب عديدة أخرى من نشاط وسلوك الشركة متعددة الجنسية هي ذات طابع جغرافي تحديداً ولكن يتعذر تناولها هنا. فمثلاً، ينبغي باستمرار على الشركات TNCs بالتعريف أن تتخذ قرارات استراتيجية، وأن تضع وتكّيف بناها التنظيمية في ضوء التوتر الاستراتيجي بين التكامل العالمي والاستجابة المحلية(42). وهي تخلق شبكات داخلية وخارجية معقدة تملك، هي نفسها، جغرافيات متميزة. وهذه الشبكات يُعاد تركيبها باستمرار في ضوء قوى التغيير الداخلية والخارجية معاً. إن خلق وتطوير التكتلات الاقتصادية الإقليمية هو دافع هام بشكل خاص للتغير التنظيمي- الجغرافي كلما أعادتْ المنشآت النظر بوضعها وأعادتْ ترتيب حلقات إنتاجها لخدمة الأسواق الإقليمية الواسعة أكثر مما لخدمة الأسواق الوطنية المختلفة. إن هذه الجوانب، وجوانب أخرى من نشاطات الشركة متعددة الجنسية، تجري مناقشتها بتفصيل في عمل ب. ديكن(43).
استنتاج
يتكون الاقتصاد العالمي، عملياً، من مجموعة من الشبكات المعقدة القائمة ضمن كل منظمة وما بين المنظمات- الشبكات الداخلية للشركات متعددة الجنسية TNCs، وشبكات حلفائها الاستراتيجيين، وشبكات علاقاتها التعاقدية الباطنية، والشبكات التنظيمية الأخرى، الأحدث. وتتقاطع هذه الشبكات مع الشبكات الجغرافية المتكونة، بشكل خاص، حول أنشطة التكتلات أو التشابكات ذات الصلة. وعليه، فإن هذه التشابكات المتركزة مضَّمنة embedded بطرق مختلفة في الأشكال العديدة لشبكات الأعمال corporate networks، التي هي نفسها تختلف كثيراً من حيث سعتها الجغرافية. فبعض الشركات TNCs متوسعة عالمياً، بينما ليس لبعضها الآخر سوى اتساع جغرافي محدود. ولكن في كلتا الحالتين، ترتبط المنشآت، القائمة في أماكن محددة- وبالتالي الأماكن نفسها- بشبكات دولية وعالمية بدرجة متزايدة. إن الدور الدقيق، الذي تلعبه المنشآت في هذه الشبكات، ستكون له مضامين هامة جداً بالنسبة للمجتمعات التي تتواجد فيها هذه المنشآت. وفي الوقت نفسه، فإن ذات الخصائص للأماكن المحددة نفسها- من تاريخ، وثقافة، وبنى مؤسسية- تمارس تأثيراً كبيراً على العمليات والشبكات الني نناقشها. وعلى وجه التحديد، فإن المكان وعلاقات الحيز ضمن التعقيدات الإقليمية للنشاط الاقتصادي هي، نفسها، جزء مكِّون من نظام الإنتاج ككل. فالعمليات التنظيمية والجغرافية تشكل ديناميكاً متفاعلاً بشكل متبادل.
ويلعب التغير التكنولوجي دوراً ضخماً في هذه الديناميكا عبر تأثيره على كل من قابلية حركة السلع والخدمات المادية وغير المادية، والأفراد، والمعلومات، وكل الطبيعة المتغيرة لعملية الإنتاج نفسها. ولكن دور التغير التكنولوجي ليس حتمياً deterministic. إذ أن الدولة أيضاً يبقى لها دور مركزي في هذه العمليات. وقد تعمل الشركات TNCs عبر الحدود، ولكن عملياتها لابد أن تقع في أقاليم وطنية محددة. ورغم أنها قد تكون قادرة على التفاوض على شروط عمل أفضل، فليس بوسعها أن تتجاهل كلياً لا السياسات التوجيهية والمؤسسية الأساسية القائمة ضمن حدود الدولة ولا الشروط الاجتماعية والثقافية المحددة التي تميز المجتمع المحلي المحدد حيث هي تعمل. إن المجموعة المحددة من الخصائص في الدول المختلفة وفي المجتمعات المحلية ليس فقط تؤثر على كيفية ممارسة العمليات العولمية globalizing processes، بل أنها تؤثر أيضاً على طبيعة تلك العمليات نفسها. ولا ينبغي أن ننسى أن كل العمليات العالمية تجري في أماكن محددة. وهكذا، فإن فكرة نهاية الجغرافية هي وهم.
هوامش
اكتمل هذا الفصل حينما كنت أستاذا زائراً لقسم الجغرافية في الجامعة الوطنية بسنغافورة. وأتقدم بالشكر للجامعة، وبخاصة للأستاذ المشارك تيو سو إنغ Teo Siew Eng، رئيس قسم الجغرافية، والزملاء الآخرين، لدعمهم وضيافتهم. ويعتمد هذا الفصل بشكل موسع على الطبعة الثالثة من كتابي: Global Shift.
(1) للإطلاع على وجهة نظر معاكسة، أنظر: P. Hirst and G. Thompson, ‘ The Problem of ‘Globalization : International Economic Relations, National Economic Management and the Formation of Trading Blocs, Economy and Society 24 (1992): 408-442; and P. Hirst and G. Thompson, Golbalization in Question (Cambridge: Polity Press, 1996). ويستكشف بي. ديكن و ج. أ. بك J. A. Peck و أ. تيكل A. Tickell الجوانب المختلفة من مناقشات العولمة في: ‘Unpacking the Global’ in R. Lee and J. Wills, eds., Geographies of Economies (London: Edward Arnold, 1997).
(2) تم استعمال هذا المصطلح كجزء من عنوان كتاب عن النظام المالي العالمي؛ أنظر: Richard O Brien, Global Financial Integration: The End of Geography (London: Royal Institute of International Affairs, 1992).
(3) وردتْ حجج مانويل كاستلز Manuel Castells، في البداية، في عمله The Information City (Oxford : Blackwell , 1989) ؛ وقد تم إحكامها أكثر في الفترة الأخيرة في عمله The Rise of the Network Society, vol.1 (Oxford: Blackwell, 1996).
(4) وبطبيعة الحال، فإن فوكوياما لم يكتب عن نهاية التاريخ بصورة عمياء، بل بالأحرى عما اعتبره انتصار الديمقراطية اللبرالية، "نقطة النهاية للتطور الفكري للإنسانية".
(5)See M. Storper and R. Walker, The Spatial Division of Labour: Labour and the Location of Industries, in L. Sawers and W. K. Tabb, eds., SunbeltlSnowbelt: Urban development and Regional Reconstructing (New York: Oxford University Press, 1984(, Chapter 2.
(6) See K. Ohmae, Triad Power: The Coming Shape of Global Competition (New York: Free Press, 1985).
(7) يمكن الإطلاع على مناقشة مفيدة لهذه المشكلة في الفصل 11 من: B. Stallings, ed., Global Change, Regional Response: The New International Context of Development (Cambridge: Cambridge University Press, 1955).
(8) أنظر، مثلاً، أعمال كروجمان التالية P. Krugman, Geography and Trade ((Leuven: Leuven University Press, 1991); Development, Geography and Economic Theory (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1995); and Pop Internationalism (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1996). . أنظر كذلك K. Ohmae, The End of Nation State: The Rise of Regional Economies (New York: Free Press, 1995); and M. E. Porter, The Competitive Advantage of Nations ( London: Macmillan, 1990).
(9) أنظر الفصلين الخامس والسادس من: P. Dicken and P. E. Lioyd, Location in Space: Theoretical Perspectives in Economic Geography, 3d ed. (New York: Harper &Row, 1990), ، حيث يستعرض المؤلفان المناهج التقليدية الاقتصادية-الجغرافية والنظرية-الموقعية لمسألة التركز المكاني. ويمكن الإطلاع على الجيل الأحدث من الأدب الاقتصادي-الجغرافي لدى، مثلاً: A. Amin and K. Robins, The Re-Emergence of Regional Economies? The Mythical Geography of Flexible Accumulation,’ Environment and Planning, D: Society and Space 8 (1990): 7-34; A. Malmberg, ‘Industrial Geography: Agglomeration and Local Milieu,
(10) G. Myrdal, Rich Lands and Poor (New York: Harper & Row, 1958), p. 26.
(11)A. Amin and N. Thrift, Living in the Global,’ in A. Amin and N. Thrift, eds., Globalization, Institutions and Regional Development in Europe (Oxford: Oxford University Press, 1994), 13.
(12) أنظر، مثلاً: G. M. Hodgson, Economics and Evolution: Bringing Life Back into Economics (Cambridge: Polity Press, 1993); and J. de la Mothe and G. Paquet, eds., Evolutionary Economics and the New International Political Economy (London: Pinter, 1996).
(13)N. J. Thrift, ‘Doing Regional Geography in a Global System: The New International Financial System, The City of London and the South East of England, 1984-1987,’ in R. J. Johnson, J. Hauer, and G. A. Hoekveld, eds., Regional Geography: Current Development and Future Prospects (London: Rourledge), 180-207.
(14)D. M. Gordon, ‘ The Global Economy: New Edifice or Crumbling Foundations? New Left Review 168 (1988): 24-64, quoted on 61.
(15)C. Freeman and C. Perez, Structural Crisis of Ddjustment, Business Cycles and Investment Behaviour, in G. Dosi, C. Freeman, R. Nelson, G. Silverberg, and L. Soete, eds., Technical Change and Economic Theory (London: Pinter, 1988), chap. 3.
(16)F. Chesnais, ‘Science, Technology and Competitiveness, Science Technology Industry Review 1 (1986): 85-129.
(17) كان كريستوفر فريمان Christopher Freeman ، وزملاءه، قد كتبوا عن هذا الموضوع. أنظر، مثلاً: Freeman and Perez, Structural Crisis of Adjustment.
(18)P. Hall and P. Preston, The Carrier Wave: New Information Technology and the Geography of Innovation, 1846-2003 (London: Unwin Hyman, 1988), 6, ، علماً بأن التأكيد مضاف من الكاتب.
(19)J. S. Metcalfe and N. Diliso, Innovation, Capabilities and Knowledge: The Epistemic Connection, in Mothe and Paquet, eds., Evolutionary Economics, chap. 3, quoted on 58.
(20) Storper,’ Resurgence of Regional Economies,’ 208.
(21)R. R. Nelson, ed., National Innovation Systems: A comparative Study (New York: Oxford University Press, 1993).
(22)A. Malmberg and P. Maskell, Towards an Explanation of Regional Specialization and Industry Agglomeration, European Planning Studies 5 (1997): 25-41, quoted on 28-29.
(23)Storper,’ Resurgence of Regional Economies,’
(24)M. Storper, ‘The Limits to Globalization: Technology Districts and International Trade, Economic Geography 68 (1992): 60-93.. ثمة فكرة مماثلة، ولكن معَّبر عنها بطريقة مختلفة، ترد في مفهوم منطقة التكنولوجيا technopole . M. Castells and P. Hall, Technopoles of the World: The Making of 21st Century Industrial Complexes (London: Routledge, 1994).
(25)M. Batty and R. Barr, The Electronic Frontier: Exploring and Mapping Cyberpace, Futures 26 (1996): 699-712, quoted on 711.
(26)K. Ohmae, The Borderless World: Power and Strategy in the Interlinked Economy (New York: Free Press, 1990). See also C. P. Kindleberger, American Business Abroad (New Haven, Conn., : Yale University Press, 1969.
(27)R. Wade, ‘Globalization and Its Limits: Reports on the Death of the National Economy Are Greatly Exaggerated, in S. Berger R. Dore, eds., National Diversity and Global Capitalism (Ithaca, N. Y. : Cornell University Press, 1996), chap. 2.
(28) للإطلاع على مناقشة حول هذا الموضوع، أنظر: Dicken, Peck, and Tickell, Unpacking the Global’. أما مفهوم "إخلاء" الدولة الوطنية’hollowing out’ of the state ، فيناقشه جيسوب: B. Jessop, ‘Post-Fordism and the State, in A. Amin, ed., Post-Fordism: A Reader (Oxford: Blackwell, 1994), chap. 8.
(29) R. D. Whitely, Business System in East Asia: Firms, Markets and Societies (London: Sage, 1992).
(30) للإطلاع على مناقشة كاملة حول موضوع السياسات الاقتصادية الحكومية، وعلى أمثلة مفصلة ضمن مسارات مختلفة، أنظر: D. Dicken, Global Shift: Transforming the World Economy, 3d ed. (New York: Guilford Press, 1998).
(31) وفي الواقع، يضع هندرسون وأبلبوم تمييزاً رباعياً. أنظر: J. Henderson and R. P. Appelbaum ,’’ Situating the State in the east Asian Development Process, in R. P. Appelbaum and J. Henderson, eds., State and Development in the Asian Pacific Rim (London: Sage, 1992), chap. 1
(32) M. Douglass,’’ The ‘Developmental State and the Newly Industrialized Economies of Asia, Environment and Planning, A 26 (1994): 543-566, quoted on 543.
(33) R. Z. Lawrence, Regionalism, Multilateralism, and Deeper Integration (Washington, D. C.: The Brookings Institution, 1996), 87-88.
(34)Ohmae, The Borderless World, 94.
(35)UNCTAD, World Investment Report 1996: Investment, Trade and International Policy Arrangement (New York: United Nations, 1996).
(36) باستعمال بيانات مختلفة قليلاً، توصلَ العمل التالي إلى استنتاجات مماثلة: W. Ruigrok and R. Van Tulder, The Logic of International Restructuring (London: Routledge, 1995).
(37)Y. S. Hu, ‘ Global Firms Are National Firms with International Operations, California Management Review 34 (1992): 107-126.
(38)J. M. Stopford and S. Strange, Rival Firms: Competition for World Market Shares (Cambridge University Press, 1991), 233.
(39)L. W. Pauly and S. Reich, National Structures and Multinational Corporate Behaviour: Enduring Differences in the Age of Globalization, International Organizations 51 (1997): 1-30, quoted on 1,4.
(40) يقدم ت. أبو T. Abo تحليلياً تجريبياً مفصلاً لتجربة المنشآت الصناعية اليابانية الأجنبية متعددة الجنسية في عمله المنشور Hybrid Factory: The Japanese Production System in the United States (New York: Oxford University Press, 1994).
(41) Pauly and Reich, National Structures and Multinational Corporate Behaviour,’ 25
(42)See Y. Doz, Strategic Management in Multinational Companies (Oxford: Pergamon, 1986); and S. Pralahad and Y. Doz, The Multinational Mission (New York: Free Press, 1987).
(43) Dicken, Global Shift.
#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟