الطريق
تتصاعد الجهود المحمومة للولايات المتحدة ، بالتعاون مع بريطانيا ، لحشد قواتها وأساطيلها المجهزة بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا العسكرية ،استعداداً لشن هجوم واسع النطاق على العراق مبررة ذلك بعدم التزام النظام العراقي بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بتدمير أسلحة الدمار الشامل ، مما جعل الشعب العراقي رهينة استهتار النظام والسياسة العدوانية الأمريكية التي تحاول إيجاد الذرائع للهجوم المرتقب ، والذي قد يؤدي إذا ما وقع إلى كارثة خطيرة لا يمكن تحديد مداها ،وبكل تأكيد فأن الضحية سيكون الشعب العراقي المغلوب على أمره ،الواقع تحت سندان النظام الدكتاتوري والمطرقة الأمريكية .
فلماذا تصر الولايات المتحدة على استخدام القوة العسكرية الغاشمة ؟وهل هي حقاً كما تدّعي إجبار صدام حسين على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ،أم أن لها أهداف وغايات بعيدة المدى تبغي تحقيقها ؟ وللإجابة على هذا السوأل نستطيع القول أن الولايات المتحدة لو كانت صادقة في دعواها لاتخذت من مجلس الأمن سبيلاً لفرض مطالبها على النظام العراقي بالتعاون مع بقية أعضاء مجلس الأمن الدولي ، و خاصة مع الأعضاء الدائميين في المجلس ،واقصد بهم روسيا وفرنسا والصين . لكن الولايات المتحدة تريد إما أن يتبعها الأخرون ، محاولة فرض إرادتها على أعضاء مجلس الأمن ، أو أن تنفرد في إجراءاتها ضد العراق مدعية أن لديها تخويل من مجلس الأمن عام 1990 يسمح لها بمهاجمة العراق لإجبار صدام حسين على التقيد بقرارات مجلس الأمن ،و هذا القول لا يقره القانون الدولي على الإطلاق . لقد كرر الرئيس الأمريكي بوش تهديده لهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن بعبارات تنم عن الرغبة إذعان الأعضاء الدائميين لمشيئة الولايات المتحدة أو أن تصبح هذه المنظمة الدولية غير ذات معنى وُتلحق بعصبة الأمم التي انهارت على أثر تحدي الدكتاتور الألماني هتلر لها وتجاوزها .
ولاشك إذاً أن هناك دوافع خفية للتحمس الأمريكي لضرب العراق تبغي من خلالها تحقيق مصالحها الاستراتيجية في المنطقة الطافية على بحيرة كبرى من النفط ،إضافة إلى تمتعها بموقع استراتيجي هام جداً بالنسبة للمصالح الاستراتيجية الأمريكية .
أن المتتبع لمجرى الأحداث يستطيع أن يستشف ما يلي :
1ـ إن أوراق النظام العراقي كما يبدو قد احترقت ،وأن الولايات المتحدة هذه المرة تبدو عازمة على إسقاط النظام الصدامي ، وإقامة نظام بديل يلبي مطامح ومصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والخليج ، ولا يسبب لها القلق لفترة زمنية طويلة . ورغم أن أحداً لن يذرف الدموع على هذا النظام الدكتاتوري الفاشي سوى المنتفعين من هذا النظام والذين ربطوا مصيرهم به ، ويتمنى شعبنا التخلص من هذا النظام الذي أغرق البلاد بالحروب لسنوات طويلة ، وجلب الويلات والمآسي التي لم نشهد لها مثيلاً من قبل ، إلا أن الهجوم الأمريكي إن وقع فلن يستطيع أحد تقدير النتائج المترتبة عليه عراقياً وعربياً وعالمياً ، فسيكتوي شعبنا بنيران الحرب التي هيأ لها بوش أكثر الأسلحة فتكاً في الترسانة الحربية الأمريكية ، ويدفع شعبنا ثمناً غالياً من دماء أبناءه ، وتدمر البنية التحتية للعراق ،الاقتصادية منها والاجتماعية والصحية ، وسوف يحدث بكل تأكيد ردود فعل عربية شعبية عارمة ضد الولايات المتحدة وضد الأنظمة العربية الداعمة للحرب ، وربما يفلت الزمام من يد بعض تلك الأنظمة ، وسوف ينعكس ذلك بالتأكيد على المصالح الأمريكية في المنطقة .
2 ـ إن إسقاط النظام العراقي من قبل الولايات المتحدة سوف يعني فرض هيمنتها التامة على العراق ،وهذا يعني حرمان روسيا وفرنسا والصين من العقود الاقتصادية والنفطية التي سبق أن وقعها مع النظام العراقي وتجيرها لصالحها . أن المواقف الفرنسية والروسية والصينية في أساسها تخضع لمصالحها الاقتصادية التي تسعى الولايات المتحدة إلى استلابها منها وإحكام هيمنتها المطلقة على نفط الخليج ومن هنا كان التناقض في المواقف بينهما في مجلس الأمن حيث تسعى هذه الدول إلى حل الأزمة بالوسائل السياسية والدبلوماسية ، في حين انفردت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا في قرارهما اللجوء إلى القوة العسكرية ،بصرف النظر إذا قبل الآخرون أم لا .
إن هذا الموقف من قبل الولايات المتحدة وخططها لضرب العراق لا يمكن أن يمر دون مخاطر وأضرار بالنسبة للعلاقات الأمريكية والفرنسية والروسية والصينية ، ولربما امتدت الحرب إلى المنطقة بأسرها ، فالنار تبدأ بعود ثقاب ، ولكنها إذا امتدت وتوسعت فلا أحد يستطيع إطفائها بسهولة ، ولنا من شواهد التاريخ ما يؤكد ذلك .
3 ـ إن الولايات المتحدة تضع في استراتيجيتها مسألة عدم الاطمئنان على الوضع القائم في روسيا اليوم ، وعلى الرغم من العلاقات التي تسود بين الطرفين في الوقت الحاضر ،فإن الولايات المتحدة يساورها القلق، ويجعلها تحسب ألف حساب للمستقبل ، وهي لذلك تعمل بأقصى جهدها ليس فقط لإبعاد روسيا عن العراق ومنطقة الخليج ،بل ولتطويقها ومد حلف الأطلسي إلى عقر دارها حيث تسعى لضم لتوانيا ولاتقيا
واستو نيا وحتى أوكرانيا ،بعد أن ضمت العديد من دول أوربا الشرقية التي كانت أعضاء في [حلف وارشو ]أيام كان الاتحاد السوفيتي قائماً .
4 ـ أخذ النظام العراقي يسعى بكل جهده في الأشهر الأخيرة إلى تحسين علاقاته مع سوريا من جهة ،ومع إيران من جهة أخرى ، فلقد أجرى النظام العراقي لقاءات ومحادثات مع الجانبين الإيراني والسوري استهدفت تطبيع العلاقات معهما . ولاشك أن الولايات المتحدة لا تنظر بعين الرضا لهذا التطور في العلاقات بين هذه الدول ،ولاسيما وأن سوريا البلد العربي الوحيد الذي يقف اليوم بوجه الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة ، مدعومة من قبل إيران التي لا ترتاح الولايات المتحدة للنظام القائم فيها ، وتعتبره خطراً على أمن الخليج . وحيث أن إسرائيل لازالت تحتل الجولان السورية ، فأن التوتر سيبقى مستمراً في المنطقة ،وأن قيام أي نوع من التقارب والتعاون بين سوريا والعراق وإيران في المستقبل يهدد المصالح الأمريكية وإسرائيل ،وعليه فإن الولايات المتحدة وإسرائيل سوف تعملان بكل طاقاتهما لمنع ذلك، وإذ ما تم للولايات المتحدة احتلال العراق فسوف تبقى قواتها فيه إلى أجل غير مسمى ، وسوف تحكم طوقهاا على سوريا ولبنان من جهة ، وعلى إيران من جهة أخرى ، وهذه الأنظمة مرشحة للتغيير على يد الولايات المتحدة ، وإذا ما تم لها ذلك فستكون الولايات المتحدة قد هيمنت على نفط الخليج لأمد طويل من الزمن .
ولاشك أن إسقاط النظام العراقي المكروه من الشعب ، والإتيان بحكومة أخرى تلبي وتحفظ المصالح الأمريكية في المنطقة يخدم بكل تأكيد مصالحها الاستراتيجية . ولا يمكن أن يصدق أحد أنها تضحي بجنودها وتنفق عشرات المليارات من الدولارات من أجل عيون الشعب العراقي المنكوب بحكامه .
إن الولايات المتحدة لو كانت حريصة على الحقوق والحريات الديمقراطية للشعب العراقي لكانت قد أصدرت القرار 688 المتعلق بهذه الحقوق تحت البند السابع كي يلتزم النظام العراقي بتنفيذه أسوة بكل القرارات التي أصدرها مجلس الأمن ، في حين بقي هذا القرار حبراً على ورق وتجاهله النظام العراقي .
كما أن الحصار الجائر الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق لم يصيب النظام بأي أذى بل على العكس استخدمه النظام لكبح جماح الشعب العراقي ولجعله يسعى إلى تأمين لقمة الخبز، لقد كابد الشعب العراقي وحده من وطأة الحصار ، وانهارت بنيته الاجتماعية ، وانهارت الطبقة الوسطى التي تضم خيرة المثقفين والأكادميين وصفار التجار والكسبة وأصبحت هذه الطبقة في عداد الفقراء ، وأصبح حاله أسوأ حتى من أحوال شعب الصومال ، وأجزم أن الولايات المتحدة كانت تدرك منذ البداية أن الحصار هو على الشعب دون النظام العراقي والزمر الطفيلية المحيطة به من الأعوان الذين خلق منهم طبقة تنعم بالثراء الفاحش على حساب بؤس وشقاء شعبنا .
وبعد كل هذا فأن ما نطمح إليه اليوم أن يجري تغيير النظام الصدامي على أيدي شعبنا وجيشنا الوطني بعيداً عن التهديدات الحربية الأمريكية وهيمنتها ووصايتها ،فقد كفى شعبنا العراقي ما تحمل من حروب وويلات ومآسي على أيدي هذا النظام الدكتاتوري الفاشي .