أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أبو الحسن سلام - فكرة المخلص ( المستبد العادل ) في المسرح الشعري















المزيد.....


فكرة المخلص ( المستبد العادل ) في المسرح الشعري


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 3918 - 2012 / 11 / 21 - 22:08
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    




لم تفارق فكرة المخلص (المستبد العادل) رأس أحد من مفكري الإسلام – لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر - وقد عالج المسرح تلك الفكرة في المسرحية النثرية ؛ كما عالجها في المسرح الشعري. ومن أمثلة ذلك مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية وكذلك مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي الشعرية ؛ وهذا البحث قراءة نقدية تأويلية لبعض من نصوص المسرح الشعري عند التي عالج فيها : صلاح عبد الصبور تلك القضية .. قضية الحاكم المستبد العادل :

" الحلاج : لا أملك إلاّ أن أتحدث
ولتنقل كلماتي الريح السواحه
ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية
فلعل فؤاداً ظمآناً من أفئدة وجوه الأمة
يستعذب هذي الكلمات
فيخوض بها في الطرقات
يرعاها إن ولي الأمر
ويزاوج بين القدرة والفكرة
ويزاوج بين الحكمة والفعل "
هكذا كان جهد الحلاج جهد المصلح الديني – لا أكثر – وهكذا صوره صلاح عبد الصبور ، تفكيكاً لخطاب المصلح الديني الذي حفظ عن ظهر قلب (نظرية الكل في واحد – نظرية المستبد العادل) .



التعبير الدرامي الشعري ومستويات السرد والتشخيص بين التسلط والإذعان التاريخي لا يخلو بناء مسرحي من تقنية السرد سواء أكان سرداً حوارياً على ألسنة الشخصيات الدرامية أم على لسان مجموعة الكورس أو على لسان الراوية . أو كان سرداً تشكيلياً أو سينوجرافياً أو بلغة الجسد أو سرداً تمثيلياً . وهنا يتشكل السرد في مستويات متنوعة ما بين سارد أول وسارد ضمني وسارد ثالث
وفي مسرحية (مسافر ليل) يلجأ الشاعر في التقديمة الدرامية إلى (السارد الضمني) – من خارج الحدث – ليحلل رحلة الإنسان عبر التاريخ تحليلاً إطارياً مكثفاً وتجريدياً ، على متن قطار الزمن ؛ وبذلك الخروج على مبعدة من الحدث نفسه ، يحقق الهدف التنويري من خارج الحدث ، بوصفه مثقفاً طليعياً يعمل على خلق توعية طبقية لدى الغالبية التي ترمز إليها شخصية الراكب باعتبارها المحكومة بعامل التذاكر بوصفه رمزاً للحاكم فالشاعر يستعرض عبر مستويات ثلاثة المسيرة التاريخية للحاكم المتسلط بالحكي – التصويري- على لسان (السارد الضمني) : الراوي مرة وعلى لسان عامل التذاكر (السارد الثالث) - تشخيصاً - يعيد فيه فعل التسلط ومتداعياته أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الثاني في مرة أخرى وعلى لسان الراكب تشخيصاً – نفسياًَ- يعيد فيه فعل الإذعان مرة أو يحكي بعضه منتحلاً صفة السارد الضمني في مرة أخرى :
"الراوي : هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ لا تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها
أسفا ، لا تلمع تذكاراته
يدرك عندئذ أن حياته
كانت لا لون لها
يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دواماتٍ فوق حديد الأرضية
لا تتكسّر قطعاً وشظايا
إذ ليس هنالك شيء صلب
تراك .. تراك .. تراك
يتذكر مسبحته
يستخرج من جيب السروال الأيمن
تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص .. تغوص .. تغوص ..
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
لأن السارد يمثل ما تراه الشخصية فحسب كما لو كان ينظر عبر عينيها أو كما لو كان "شاهداً غير منظور" يقف إلى جانبها السرد بوساطــة المؤلف أو بوساطة الشخص الأول " ولأن السارد الضمني الراوي يقوم مقام الشاعر لذا يتكشف الدور التنويري تلميحاً ، لا ينفصل عن طبيعة التصوير الشعري ؛ على اعتبار أن الشعر "لمحٌ تكفي إشارته" – حسبما قال البحتري-، وحيث يستشف ما وراء الصورة من معانٍ أو دلالات. هنا – يمكننا أن نلمح بمنظور نظرية الانعكاس وعلى ضوء مصباح سيميولوجي خصوصية الشاعر نفسه .
من وراء غيم المعاني في عرض السارد الضمني (الراوي) فاللعب في الذاكرة ، لا يفيد من خوت حصّالة ذاكرته من تسجيل مادي لأفعال مجسدة لهويته . فعندما لا يكون للإنسان تاريخ مادي ملموس هو موضع تأثير إيجابي في واقع الآخرين ؛ قبل أن يكون مؤثراً في واقعه الذاتي ؛ فإنه يلوذ بمظاهر شكلية ، يتمسح بها . وهكذا يلوذ الراكب بمظهر تديّني .. بعد أن أدرك (أن حياته كانت لا لون لها) وهو يسترجع شريط ذكرياته عبر رحلة إذعانه التاريخية التي سيّرها الحكام المتسلطون باعتباره رمزاً لعامة الناس (المحكومين) على مر التاريخ ؛ ذلك أن الذاكرة هي القدرة على التمثل الانتقائي Selectively represent وفي واحدة أو أكثر من منظومات الذاكرة للمعلومات التي تميز بشكل فريد خبرة معينة ، الاحتفاظ بتلك المعلومات بطريقة منظمة في بنية الذاكرة الحالية وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في زمن معين بالمستقبل وذلك تحت ظروف أو شروط محددة "
فعندما يكون التدين شكلياً وسطحياً (ظاهرياً) ؛ فإن ما وراء المظهر نفسه يروغ منه وينفلت . ولنلحظ لفظة (جيب سروال الأيمن) فمظهر تدينه في جيب سرواله ، وهو يخرجه عند الحاجة أو عند الفراغ في محاولة تبريره لخواء حياته من فعل مادي إيجابي له في حياته الإنسانية ، بالانتساب إلى مفردة من مفردات الاتباعية الدينية – باعتبار فكرة "اليمين" فكرة تدينية – وباعتبار " المسبحة " وسيلة ضبط إحصائي لطقس التسبيح والحمد – الذي ينسب فاعله إلى اليمين (الفكر الاتباعي) .
فاستخدام المسبحة أداة قياس وإحصاء عددي لأقوال الحمد وآلية ترديداتها ، وهنا يحل ظل التعبد محل العبادة مثلما تحل خصلة من شعر الحبيبة محل الحبيبة نفسها – وفق الفشتية – على أن خصوصية ما كامنة في آلية استدعاء الشخصية للحظة ، حيث يمد السارد الضمني الصورة المستعادة بخيوط الطقس التراثي ؛ لخلق لحظة لم تكن قائمة من قبل ، مع إنها الابن الشرعي لماضي شخصية الراكب – بتعبير صلاح عبد الصبور نفسه - إلى جانب كونها بمثابة الابن الشرعي للمستقبل .. فاستدعاء الراكب التجريبي لمذخور ذاكرته ، وليد حالة السأم التي انتابته – حسبما أشار السارد الأول - :
"هاهو ذا يتململ سأمانا
إذ تستهويه اللعبة
فيجرب أن يلعب في ذاكرته
يستخرج منها تذكارات مطفأة ، ويحاول أن يجلوها "

المسكوت عنه في اللحظة الدرامية المختزلة :
وعندما يتكشف خواء تلك الذاكرة وبهتان ما حوته يمده (السارد الضمني الراوي / الشاعر نفسه) بلحظة مختزلة ، إذ تمتد يد الراكب إلى الجيب الأمن لسرواله – الأيمن تحديداً – ليخرج منه شيئاً لا يخرج إلاّ من الجيب الأيمن – المسكوت عنه - وهنا يوظف التداعي التلقائي المدرب للاثنين : (السارد الضمني/ الراوي / الشاعر) و( السارد الثاني / الراكب) الذي يعاد تصوير فعله بالسرد التشكيلي عبر ذهن السارد الضمني وعبر ذهن المتلقي فور تلقيه للصورة على لسان (السارد الضمني) فيكفينا أن نلحظ ما وراء ذلك التداعي التلقائي المدرب حيث تمتد يمين الراكب إلى الجيب الأيمن في سرواله ليخرج لا إرادياً مسبحته . وما وراء فعله – المسكوت عنه- يشكل نواياه المستقبلية وهي الهجوع إلى الإذعان والتسليم : فالسأم إذاً سلمه للعب في ذاكرته ؛ وخواء ذاكرته من أي شيء إيجابي يعتز هو نفسه به ، يسلمه إلى مخزون طقسي تراثي هو ظل من فعل العبادة.
ولأن الصورة الفنية (الدرامية الشعرية) تتدعم بتداعيات صور أخرى سريعاً ما تتوالد عبر اللحظة المختزلة ؛ لإعادة إنتاج الفعل وصور توالده وتداعياته التي يحكم الشاعر الإمساك بزمامها حتى لا تسقط المغزى التنويري الذي حمّلها به ، بغية الإشارة إلى مظهرية فعله التديّني:
" تهوي من يده ، يتفقدها بأصابعه ،
فتروغ لترقد بين الكرسيين
يجهد أن ينقذها ، فتغوص ، تغوص ، تغوص
ويظل يفتش حتى تتناثر سبحته حبات
تتساقط فوق حديد الأرضية
تراك .. تراك .. تراك "
هكذا تحل آلية المقطع الصوتي لسقوط حبات المسبحة على حديد الأرضية بديلاً عن وحدة صوته المتكررة فيما لو كان قد تمكن من استعمال مسبحته في آلية تكرار جملة التكبير أو الحمد ، لتأكيد مظهرية تدينه ، أو شكليته ، لأنه ما لجأ إلى طقس التسبيح ، وإنما إلى مجرد التلهي بآلية تفض عزلته وتوتره ، وتشعره بالصحبة ، حيث أراد باتخاذ المسبحة رفيق ظل في رحلته . ولكن الشاعر – هنا – يحرمه من تلك النغمة ، مع إنها مجرد ظل رفقة .
وهنا تعمل التداعيات مع التفاصيل (منمنمات الصورة) على منح الصورة لوناً خاصاً بها يمنحها هويتها .. فالشغل على تفاصيل الصورة هو الذي يقودنا إلى سر الصنعة في الشعر والمسرح بتعبير صلاح عبد الصبور
يعتمد صلاح عبد الصبور هنا على حدث يقوم على ثلاثة محاور : (محور معرفي ومحور ثقافي اجتماعي ومحور تشكيلي) ولأن الموقف هنا تأسس على التجريد وإلقاء عبء تجميع مفردات أو جزئيات الصورة ، بهدف خلق حالة مشاركة إدراكية فحسب ، لذلك ألقى بعبء حمل خطاب الحكي على عاتق (السارد الضمني/ الراوي) نائباً عنه ومن ثم لم يصبح هنا مجال للمحور الوجداني.
يقول د.ماهر شفيق فريد في زجره لناقدي إبداع إليوت في تجريده لشخصياته المسرحية : "إن الفن إعادة خلق وليس عملية تسجيل والشخصية الحية في الفن ليست هي التي تتصرف وفق المنطق الحياتي ، وإنما هي التي تتصرف وفق المنطق الفني وحسب قوانين الحتمية الفنية "
يقول د. مصطفى سويف : " إن الشاعر لا يغير ذكرياته ؛ ولكنها تعود إليه متغيرة – وهو لا يقصد إلى وصف الوقائع من حوله بأوصاف جديدة ، لكنها هي التي تأتي حاملة هذه الأوصاف "
وإذا كانت شخصيات مسرحيات صلاح عبد الصبور الشعرية – فيما عدا (ليلى والمجنون) تبدو على مبعدة من أمور الحياة اليومية ومن الرسالة الاجتماعية الواضحة . مع ميل إلى أناقة الفكر والتعبير ، فذلك لكونه صاحب رؤيا خاصة للوجود ، رؤيا شعرية اختارت لنفسها قالباً درامياً . هو كما كان إليوت معنياً بقالب درامي شعري " تتحالف فيه الاهتمامات الإنسانية مع براعة الصنعة ، كي تنتج – في نهاية المطاف – أثراً كلياً لا يختلف ، من حيث الجوهر ، عن الأثر الكلي الذي تخلقه القصيدة أو القصة في نفس متلقيها "
فشخصية الراوي – بوصفه سارداً ضمنياً - تبني اهتمامات الشاعر الإنسانية بخلق حالة تحالف بين ما ينتجه ذهن الراكب من تهويمات ذاكرة البشرية عبر تاريخها الممتد من بذرة الفكر الفلسفي الأرسطي إلى آلة الحرب والدمار بداية من تلميذه الإسكندر حتى الواقع البشري المعاصر فمع أن الراوي وهو السارد الضمني التاريخي ، يحذر الراكب من استدعاء عظيم من العظماء عبر ذاكرته ، حتى لا يسيطر بعظمته من جديد على البسطاء ، بعد أن رآه وقد توقف عند أسماء محاربين طغاة ومحاربين وقادة عظماء وهو يقرأ أسماءهم على صفحة من جلد الغزال أخرجها من معطفه ، بعد أن انفرطت حبات مسبحة تسليته وتبعثرت ؛ غير أن الراكب لم يأبه لتحذير الراوي الضمني - رب العبرة التاريخية - :
" الراكب : الاسكندر
" تك .. تك .. تك "
هانيبال
" تك .. تك .. تك "
تيمور لنك
" تك .. تك .. تك "
هتلر .. متلر .. جونسون .. مونسون
" تك .. تك .. تك "
الاسكندر .. الاسكندر .. الاسكندر
الراوي : معذرة .. لا ينفصل الإنسان عن اسمه
فالعظماء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرة التاريخ
لتسيطر عظمتهم فوق البسطاء
والبسطاء يعودون إذا استدعيتهم من ذاكرتك
ليكونوا متنزه أقدام العظماء
ولذلك خير أن ننسى الماضي
حتى لا يحيا في المستقبل
حتى لا يخدعنا التاريخ
ويكرر نفسه
الراكب : الاسكندر .. تك .. تك .. تك
الاسكندر .. تك .. تك .. تك
إن مناداة الراكب للإسكندر هي مناداة استدعاء غير المحكوم لمن يحكمه ولأنه نادى الإسكندر على وجه الخصوص وهو من هو الغازي الذي يغزو الممالك والأمم مستخدماً الفكرة سلاحاً يقتل به كل من وقف في طريق طموحاته غير المحدودة . لذلك يتشكل الإسكندر أمام عينيه من أي عابر سبيل ، في درب من دروب أي عصر في أي مكان له طموحات سكندرية :
" عامل التذاكر : من يصرخ باسمي ، من يدعوني
من أزعج نومي في راوية العربة
أنت .. ؟
الراكب : معذرة .. من أنت ؟
عامل التذاكر : أنا الإسكندر
في صغري روضت المهر الجامح
في ميعة عمري روضت أرسطاليس
حين بلغت شبابي روضت العالم. "
هذا التصريح صوغ من عقل الشاعر نفسه ، إذ قلب المعلومة التاريخية رأساً على عقب لما رأى الدعوة الأرسطية نحو عولمة ثقافية تحت راية الفكر اليوناني وهي أول عولمة ثقافية في التاريخ وقد حولها الإسكندر إلى عولمة عسكرية اقتصادية ، إذ استبدل الغزو الفكري والثقافي بالغزو العسكري وسيادة العقل بسيادة السيف . وهي سيادة لم تكن لتتحقق لمغامر مستعمر ومتسلط ، دون خنوع جعل من خده مداساً لقدمه ؛ أو مظهر متراخ يأخذ الأمر باستهتار وتهكم ؛ فكلاهما مدخل للتسلط :
" الراكب : مرحى يا اسكندر .. هل أكثرت من الشرب "
هذا العبث غير المسؤول للتسلية أو لاصطناع رفقة مع مسبحة لا تستجيب له ، سريعاً ما يتحول عنها إلى لون آخر من العبث الحقيقي ، مع كائن وظيفي أي صاحب سلطة ؛ فإذا بالعبث يتحول إلى حقيقة :
"عامل التذاكر: لا تعرف قدري .. يا جاهل
قسماً ، سأروضك كما روضت المهر الجامح "
إن فصل البناء الدرامي في هذه المسرحية بين الفعل القولي أو المسموع (حوار الراكب وحوار عامل التذاكر) والفعل المرئي (الوصف السردي للفعل التطبيقي المرئي المادي في حكي الراوي وهو الدال على تحقيق الأقوال) هو بمثابة فصل بين الشعار وتطبيقاته ؛ فما أن يطلق (عامل التذاكر) تهديده ، حتى يصف لنا الراوي منظومة أفعاله تحقيقاًَ لقوله :
" الراوي : تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيمن
يستخرج سوطاً ملفوفاً
تمتد يد الإسكندر في الجيب الأيسر
يستخرج خنجر
تمتد يد الإسكندر في ثنية سرواله
يستخرج غدارة
تمتد يد الإسكندر في حلقه
يستخرج أنبوبة سم
تمتد يد الإسكندر في جيب خلفي
يخرج حبلاً ..
يتحسسه خجلاناً ، ويقول :
عامل التذاكر : هفواً .. هذا مات به أغلى أصحابي
أعطيت صديقي الحبل ليلعب به
فأساء استعماله "
حكي يستعيد صور إرهاب الحاكم الفردي المتسلط ، الغازي ، فكل الغزاة والعسكريون الحكام مختزلون في هذه المسرحية في شخص الإسكندر. ذلك الغازي الأول باسم العولمة الثقافية ، متشحاً براية الفكر تحت شعار توحيد العالم تحت راية الفكر اليوناني ، تتويجاً لفكر أرسطو ، سلباً لهويات ثقافات الأمم الأخرى ، فسرعان ما ينزع قناع الفكر ويتدرع بقناع القهر المسلح؛ في مواجهة الآخر غير الخانع ، حتى إذا كان تابعه وأداة تحقيق إرادته وأقرب المقربين إليه؛ وهو يصفيه تصفية جسدية ثم يعلن على الملأ عبر وسائله الإعلامية بأن الرجل قد انتحر – بعد انتهاء مهمته- :
"هل تدري ؟
كلماتي في معناه صارت من مذخور التاريخ الأدبي
لم أكتبها ، لكني شاهدت وزيري يكتبها
وصرفت له خبزاً ونبيذاً ، حتى أنهاها
حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول "
هكذا يمسك الشاعر بطرف حبل التداعيات ، يرخى للصورة بالقدر الذي لا يسمح لمفردات التكوين في التعبير الدرامي الشعري بالانفلات أو التشتت الذهني للمتلقي . وتلك خاصية من خصائص سر الصنعة عند صلاح عبد الصبور تشير إلى بعد من أهم أبعاد العملية الإبداعية وهو السيطرة على السياق والإمساك بالجزئيات والتحليق فوق أسوار الكل بما يسمح بالتنقل بين الكل والأجزاء بشكل ديالكتيكي وبما يسمح بالنمو المتصاعد للعمل الإبداعي وللمبدع أيضاً، فالمبدع ينمو مع عمله ويكتسب خصائص هذا العمل "
لذلك لا نتشتت ذهنياً عندما ينتقل في تخلص درامي وجمالي من وصفه لحال صديقه الذي أعطاه المسؤولية (الحبل) فشنق بها نفسه ، إلى استعراضه الموجز لتاريخ حبل السلطة ودور وزيره في تمجيدها وتدريبه على إلقائها . والتأريخ لها في مقابل خبزه ونبيذه (ببطنه) وصولاً إلى طمع ذلك الوزير في ولاية ثمناً لأداء وظيفته :
" حتى علمني أن ألقيها إلقاء مأساوياً
يخضع لأصول النحو
فأنا أخطئ دوماً في الفاعل والمفعول
كان وزيري طماعاً ، إذ طالبني بولاية
ثمناً لدخول التاريخ ككاتب
فوهبت وزيري الأرض بأكملها كي يرقد فيها "

ليس الفاعل والمفعول هنا سوى الجاني والمجني عليه . إن الاستعارة والكناية وألوان التورية المجازية تصنع المسكوت عنه في التعبير الدرامي الشعري والنثري ، لذلك لا جب فهم الصورة الإبداعية من ظاهر القول . يقول الشاعر الأمريكي إدجار ألن بو : " يوجد في كل التعليقات المكتوبة عن شكسبير خطأ جذري لم يفطن إليه أحد . إنه يتمثل في محاولة شرح شخصياته لا على أساس أنها من صوغ العقل الإنساني ، وإنما على أساس أنها موجودات فعلية على وجه الأرض "
لا يستغرق فهم طبيعة فعل الحاكم الفرد المتسلط الكثير من التفكير مع اختزال الشاعر لأبعاد الشخصية ، حيث لا نكاد نرى ملمحاً واحداً من ملامح بعده الجسمي أو الاجتماعي أو النفسي، وإذا كان رسم الشخصية النمطية رسماً تجريدياً وفق ما جرى عليه مخططات الاتجاه الحداثي في إبداعاته التفكيكية ، وهنا يتبين لنا دور المؤلف الشاعر في تمليك شخصياته خبراته هو نفسه ، ومعارفه ، بحقنها في دماء تلك الشخصيات ، بوصفها من خلقه وصلاح عبد الصبور هنا ، إذ يتستر خلف (الراوي) ويجعله خليفته على كون خليقته إذ يقعده على عرش المستوى السردي الأول ، فإنه يملكه أمر كشف تاريخ حاضر شخصياته الرمزية (الراكب) و(عامل التذاكر) بوصفهما شخصيتين رمزيتين ، وكشف مبكر لفعلها المستقبلي ، فيما هو أقرب إلى مخطط أو دراسة جدوى تشخيصية لفعلها القادم قبل أن يقوم أحدها بإعادة إنتاجه امامنا . فالراكب وعامل التذاكر كلاهما لا يمتلك أي منهما تاريخاً ، سابقاً ، لذلك رأينا " "أنا " : الراوي " لما رغبت في التقاء الآخرين سعت إلى الالتجاء تحت رعاية الـ "هو" (المؤلف) أي تحت رعاية نظام رموز ممتلئ ، حيث الوجود ، لا يتداخل والعلامة وبالمقابل فإن ظلاً من الماضي يتخلل حُبسة الناقد إزاء الـ (أنا) "
هكذا التقت (أنا) : (الراكب) السارد الثالث – تشخيصاً تشكيلياً سردياً – بـ(هو) : (الراوي / السارد الأول) وكذلك فعلت (الأنا) عامل التذاكر المتوالدة أو المتشظية في أنوات متعددة ومتباينة – تشخيصاً سردياً تشكيلياً – وبذلك أصبحت للراكب طبيعته الخانعة تبعاً لجموده في درجته على السلم الاجتماعي ، بينما تملك شخصية (عامل التذاكر) صوراً متعددة للحاكم الفرد المتسلط المستعبد لتلك (الأنا) الخانعة الرابضة في موقعها الطبقي الساكن .
يجرنا هذا التأويل إلى القول مع رولان بارت أن : " الناقد هو من سعى إلى الكتابة ، والذي يملي انتظار عمل أدبي إضافي ، يصاغ خلال البحث عن ذاته . وتكمن مهمته في إكمال مشروع الكتابة ، ومتجنباً إيّاه في الآن ذاته . الناقد كاتب إنما حتى إشعار آخر "
ولأن " الناقد كما الكاتب ، يتمنى من القراء أن يثقوا ويوقنوا أكثر بقراره الذي اتخذه بالكتابة ، ولا يسعه أن يوقّع هذا التمني ، عكس الكاتب ، لذا يبقى محكوماً بالخطأ – وبالحقيقة "
لذا أثنّي على ما سبق لي قوله حول تأثر شخصيات صلاح عبد الصبور بالظواهرية الهيجيلية، حيث " تبدو الظواهرية الهيجيلية في محاولات شخصيات صلاح عبد الصبور لصنع هويتها ، حيث يسطع فكرها سطوعاً جدلياً على الواقع ، ومن ثم يرتد إلى الشخصية كما هو ، لأنه لا يجد في الواقع إلاّ صوراً ذهنية . وهو في رحلة سطوعه على ذلك الواقع لا يطور فيع فعلاً ولكنه ينمي الفكر فحسب ، ويطور العقل . من ثم فإن تحقيق الهوية لا يتمثل عندها إلاّ تمثلاً ذهنياً ، ومن ثم يكون التغيير الذي يمكن حدوثه تغيراً فكرياً فحسب ، وبدا تحقيق محاولاتها للهوية الفكرية المتمثلة في ذهن الكاتب "
هكذا كان (الحلاج) في محاولاته التفاعل المادي للثائر مع العامة ، فالوعي الذي ينقله إلى العامة وعي ذهني . وهكذا كان (الملك) حتى موته غير قادر على المستوى الواقعي على التفاعل المادي للمغازل ؛ فالشاعر يلقنه الغزليات تلقيناً ؛ كما يلقن جواريه :
" الشاعر : معذرة يا مولاي
لكني لقنت الأخرى كلمات مبتكرة
قد ترضي رغبتك الملكية "
"الشاعر : (ملقناً الملك في صوت خفيض)
يتنزل صوتك مثل رنين الجرس الفضي المتفرد ،
يتقطر من برج متشح بمروج الغيم الزرقاء "
" ليس للملك من فعل الغزل إلاّ ظله ، فهو ليس مغازلاً على مستوى قدراته الذاتية الواقعية ، إنما يكرر صورة المغازل التي لم تكن سوى صورة متخيلة في ذهن شخصية الشاعر "
وكذلك الأمر مع جواري الملك :
" الشاعر : لا .. لا .. قد ضاع المشهد . نسيت هذه المرأة أجمل ما فيه
سامحني يا مولاي
(للمرأة) مازال هناك حديث عن قيثارة حنجرتك
والأوتار تناشد مولانا أن يلمسها بأصابعه النورانية
مازال هناك حديث عن إغماضة عينيك
وأنت تغنين لمولانا عندئذٍ
إنك تحترقين شوقاً أن يرقد مولانا
في دفء الأمواج العسلية
وأخيراً كان جلالته سيقول :
خطواتك كالموسيقى إذ تتوافق في ذهن الفنان
عندئذ ستقولين :
بعثر هذي الأنغام على سلم رغبتك الملكية
وبصوت يتقطع آهات في حلقك
الملك : آه .. ما اتعس حظي
راقت لي الألفاظ كثيراً هذه المرة
لكن نسيتها . "
" الملك لا يؤدي بأحاسيسه هو ، ولا المرأة الثانية تفعل ذلك "
ليس للملك ولا لجواريه من الغزلية غير اللفظ ، فالـ(أنا) الشاعرة تمنحه صورة بالخطاب الغزلي ومضمونه دون أحاسيسها ، ولأنه ظل مغازل ، لذلك غابت عن اللفظ الأحاسيس ؛ ومن ثم غابت المصداقية وافتقدت الخصوصية .
والأمر نفسه عند الأميرة ووصيفاتها ؛ إذ ليس لها ، ولا لوصيفاتها غير ظل الفعل ، باجترار ذكريات فعل مضى وانقضى ، بإعادة إنتاجه ، ليخرج تشخيصاً لظل حبيبها الذي هجرها ، وظل أبيها المغدور من ذلك الحبيب الغادر (السمندل) حتى الشاعر الذي جاء مخلصاً (القرندل) هو أيضاً ثائر ظليّ لأنه أتى من حيث المجهول ، ومضى في غياهب المجهول ، كما لو كانت الأرض قد انشقت عنه فجأة أو هبط من السماوات العلى فبدا كمخلص وهمي ، أو غيبي .
لذلك يمكن القول إن صلاح عبد الصبور ، قد صنع شخصياته المسرحية ظلالاً لواقع سحري، واقع لا يشبه الواقع الحياتي . ذلك أن "الشعر عندما ينأى بعيداً عن إيقاع لغة الحياة ومصطلحاتها الجارية ، يفقد حيويته ، لذا فهو يميل إلى تقطير لعنته الخاصة من لغة الكلام العام المعتاد "
يقول إليوت : " إن كاتب الدراما الشعرية ، ليس مجرد إنسان ماهر ، في فنين اثنين ، وحاذق في أن ينسجها معاًَ . وهو ليس الكاتب الذي يستطيع أن يزخرف مسرحيته باللغة الشعرية والأوزان وإنما عمله يختلف عن عمل (الكاب المسرحي وعمل الشاعر) لأن نموذجه أكثر تعقيداً ، وأكثر أبعاداً .. بكل قواعد الدراما البسيطة الصريحة ، ولكنها تغزلها غزلاً عضوياً في تصميم خاص ، أكثر ثراء . "

كان الشعر ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، كما كان المسرح ومازال مرتبطاً بمواقف رومنسية ، ولئن جسد المسرح الشعري مواقف الحياة اليومية وفق تقنيات الواقعية أو وفق تقنيات التعبيرية والملحمية ؛ فقد جسد مسرح صلاح عبد الصبور الشعري شخصيات عبثية في مواقف عبثية وفق تقنيات مسرح العبث ، فكان ذلك فتحاً في مجال المسرح الشعري. فالتداعيات وعدم الترابط الفكري واللغوي والمقاربات أو المجاورات المعرفية المتواثبة وتجريد الشخصيات والمواقف والآلية والتكرار وسمات الحكي الناقص والتناقض فيما بين القول والفعل واستهداف الدهشة ، ماثلة في (مسافر ليل) ، وفي (الأميرة تنتظر) وفي (بعد أن يموت الملك) وهي حداثية تفكيكية ، تفكك النسق الاجتماعي والسياسي في واقع أنظمتنا السياسية ويفكك خطابها الديماجوجي وظاهرة تسلطها التاريخية على شعوبها ، كما يفكك خطاب استكانة الإنسان العربي وإذعانه المهين ، ويفكك دوره في صناعة حكامه المتسلطين على مدار تاريخه الطويل .

الهوامش :



#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسرح بين أدب السيرة والتراجم الأدبية
- هل يمكن تعلم الإخراج
- الناقد يتأبط نظرية
- استلهام الكاتب المسرحي للتراث بين الارتباك الاتصالي والوعي ا ...
- تشريح نصوص مسرحية
- الإبداع بين الحرية والالتزام
- هوامش مهرجاناتية
- الثقافة الجماهيرية من ثروت عكاشة إلى فاروق حسني
- مسرح الثقافة الجماهيرية بين المد والجذر
- درامية التعبير الصوتي في فن الأداء المسرحي
- فنون التمثيل داخل التمثيل بين بيرانديللو ومحمود دياب
- ثقافة التناكح في حياة المسلم
- ذكريات .. لزمن آت
- ضوء أسود وحوائط عازلة
- حرية العقيدة في القرآن
- الفاعل الفلسفي في المسرح الوجودي - المومس الفاضلة نموذجا -
- كتابة الصورة المسرحية بين أفلاطونية التقديس والتدنيس
- خيوط الاتصال بين الناقد والباحث
- الممثل وبناء الدور المسرحي بين البواعث والدلالات
- مدرسة المشاغبين فبي ميزان النقد


المزيد.....




- وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور ...
- بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
- ” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس ...
- قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل ...
- نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب ...
- اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو ...
- الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
- صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
- بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021 ...
- كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أبو الحسن سلام - فكرة المخلص ( المستبد العادل ) في المسرح الشعري