|
أحزاب تونسية تدّعي الوسطيّة .. وسطيّة أم انتهازية ؟
يوسف بلحاج رحومة
الحوار المتمدن-العدد: 3906 - 2012 / 11 / 9 - 14:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الوسطية مصطلح جميل ورنان تصف به التيارات السياسية التونسية نفسها للظهور في ثوب "المعتدل" البعيد عن "التطرف" . وهذه الظاهرة عاشتها تونس بعد "الثورة" التي أسفرت عن هروب الرئيس بن علي، فكثير من التيارات السياسية تحاول قدر الإمكان إدعاء الوسطية واحتكارها مقابل إظهار الخصوم السياسيين في ثوب "المتطرف" سواء يمينا أو يسارا. الوسطية في المخيال الشعبي التونسي هي مزيج بين مفاهيم إسلامية وسياسية واقتصادية... وسطية إسلامية بما يحيلنا على الإسلام الصوفي التونسي المستنير الذي يميل نحو التسامح والاعتدال في المسائل التربوية و الاجتماعية والتشريعية، إضافة إلى العمق التاريخي والثقافي المرتبط بالموروثات الثقافية والقيميّة كالأدب والموسيقى والتسامح والكرم والمقاومة. وسطية سياسية تعني مفهوما أنتجته الدولة التونسية في الفترة البورقيبيّة بعد الاستقلال سنة 1956، حيث كانت الدولة تحتكر مشروعية تمثيل المجتمع و التعبير عنه إضافة إلى ضبط الاتجاهات السياسية والاقتصادية والثقافية للبلاد وإعطائها للمجتمع على شكل جرعات و "عقاقير" جاهزة. وهذا ما أدّي إلى إنتاج "التحديث القسري" و"الجمود" بحيث ظلّ الفرد سلبيا ولم يجد البيئة المناسبة ليكون مختلفا وليحوّل اختلافه إيجابيا عبر الاندماج في حراك سياسي وثقافي ومدني حرّ ومتنوّع. وكان بورقيبة يقود عملية التحديث بشخصية كاريزمية وذكاء وتفتح، لكنه كان يُوغل في محورية الذات والتسلّط والزعامتية. ولم تكن عملية التحديث هذه نتاج ديناميكية اجتماعيّة ومدنيّة جعلت المجتمع يطالب بها وينسجم معها بل كانت قسريّة، كما لم تكن صورة بورقيبة مختلفة عن صورة الحاكم المسلم الذي يستعين بالفقهاء المستعدّين لتبرير أي شيء باسم الدين والاجتهاد والشريعة، فلقد استعان بورقيبة بالمشائخ والفقهاء لخدمة مشروعه التحديثي وتبريره... هناك من يرى أن بورقيبة كان سابقا لعصره وربح الوقت وحقق إنجازات باهرة لفائدة المرأة والأسرة والمجتمع، لكن هذه "القفزة" لا تخلو من السلبيات التي ذكرناها آنفا (التحديث القسري والجمود والسلبية)... وسطية اقتصادية ليس لها ملامح واضحة باعتبار الخمول والجمود السياسي والفكري والثقافي الذي عاشته تونس طيلة حوالي نصف قرن منذ الاستقلال، ما جعل الفرد سلبيا وباحثا عن "الدولة الأب" أو "النظام الأب" الذي يقرّر السياسات ويمثّل المجتمع مكانه، كما أنّ هذه الوسطية في الاقتصاد مستمدّة من صور جامدة وقراءات نمطية للتاريخ بما يحيل على الخوف من التجارب الاشتراكية التي ارتبطت بالدموية والانهيار مثلما شهده الإتحاد السوفياتي ومشتقاته، وعلى المستوى الوطني اقترنت صورة الوسطية الاقتصادية بنبذ التجربة التعاضدية الاشتراكية الفاشلة التي عرفتها تونس بين سنوات 1964 و 1969، هذه التجربة التي كانت مسقطة ولم تكن نتاج تفاعل وديناميكية سياسية واجتماعية، مما جعلها تحمل معها عوامل فشلها وزوالها، فبعد فشل هذه التجربة وانهيارها دخلت البلاد في تجارب اقتصادية لم تكن أقلّ بغضا وأدّت إلى تفقير نسبة كبيرة من الشعب واستفحال البطالة. ولم تكن فترة بن علي الذي حكم البلاد منذ انقلابه الأبيض على بورقيبة يوم 7 نوفمبر 1987 أفضل حالا بل كانت فترة سبات وجمود سياسي واجتماعي وثقافي، فكان التنوع السياسي والنشاط الثقافي والفكري عبارة عن استعراضات فارغة وبهرج لخدمة وتزيين النظام الديكتاتوري القائم، إلى أن جاءت الانتفاضة الشعبية التي أرغمت بن علي على الفرار إلى السعودية يوم 14 جانفي 2011 وفتحت مجالات غير مسبوقة من الحرية في جميع المجالات، وظهرت على الساحة أحزاب سياسية متنوّعة، وبدا المشهد السياسي طبيعيا، ولكن بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 وبعد الشروع في أوّل تجربة للتدافع والتنوّع السياسي، انتكص المشهد، وسرعان ما رجع إلى حالة الجمود المستمدّة من الفترة البورقيبية التحديثية التي كان فيها التحديث قسريا ولم يكن نتاج ديناميكية اجتماعية و سياسية وثقافية نابعة من العمق الاجتماعي. انتكص المشهد إلى صراع بين كل ما هو "إسلامي" من جهة وكل ماهو "علماني" من جهة أخرى، وهو المشهد المسيطر على الساحة هذه الأيام، مشهد ينمّ عن خلل وفراغ وحلقة ضائعة في مسيرة المجتمع التونسي، فتحصلنا على ما أصبح يسمّى بالاستقطاب الثنائي، وهو استقطاب مغشوش لا علاقة له بالأهداف التي قامت من أجلها "الثورة" ، فالتجاذبات أضحت متركزة بين تيارين يمينيّن لهما نفس البرامج والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتبر امتدادا لسياسات الرئيس الهارب بن علي، أحدهما ديني إسلاموي يتمعش قادته من شعارات الدين و الهويّة والأصالة متمثّل في حركة النهضة "الإسلامية" ومشتقاتها، والآخر حداثوي يتمعّش قادته من شعارات البورقيبية والحداثة والمكتسبات الحداثية متمثّل في حزب نداء تونس ومشتقاته، وكلّ تيار يتغنّى بالوسطيّة ويعمل جاهدا على احتكارها وتجريد الآخرين منها. وهذا المشهد الذي وصلت إليه تونس هو نتاج طبيعي للمجتمع وانعكاس لما شهدته تونس خلال العقود الماضية التي تلت الاستقلال. وتحوّلت الوسطيّة إلى مطيّة تستغلها التيارات السياسية لممارسة السفسطة وللتغزّل بأكبر عدد ممكن من الناخبين وذلك من خلال تقديم الخصم السياسي على أنه "غير وسطي" وبالتالي فهو "متطرّف" ويشكّل خطرا على البلاد والعباد، كما تحوّلت الوسطية إلى ذريعة لمهادنة رأس المال المتوحّش والمنظومة الاستبدادية القائمة والمحافظة على نفس السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة والتي كانت سببا في استفحال البطالة و التسوّل وتفقير نسبة كبيرة من الشعب التونسي. وتحولت الوسطية أيضا إلى وسيلة لبث طمأنينة مغشوشة لدى الوعي العام، واستغلت التيارات السياسية شخصية المواطن التونسي التي تميل نحو المهادنة واللامبالاة والحفاظ على ماهو قائم والخوف من التغيير والدخول في تجارب جديدة، وهذا مثلما أشرنا سابقا ناتج عن "السلبيّة" التي استبطنها التونسي منذ فترة بورقيبة والّتي بقيت ممتدة ومتجمّدة أثناء فترة حكم بن علي، فغابت ثقافة المبادرة كما غابت الرؤى السياسية والاقتصادية و الاجتماعية الواسعة لدى عامّة التونسيين. إنّ المشهد الاجتماعي والسياسي التونسي يعيش حالة إنتكاص وجمود وتشويه رغم كل ما نراه من تجاذبات، لكنها تجاذبات فارغة لا تعبّر عن ذلك الاختلاف الإيجابي الّذي يولّد حركيّة فكرية واجتماعية ثريّة تهدف إلى البحث عن واقع اقتصادي اجتماعي جديد، فهناك صراع على مسائل بدائيّة حسمتها البشرية منذ قرون ( شكل الدولة، نمط المجتمع، الحريات الفردية ...). ولعلّ المجتمع التونسي اليوم يدفع ضريبة مؤجلة لمرحلة التحديث التي قادها بورقيبة دون خوض ديناميكية اجتماعية وسياسية حقيقية تفرز تقبلا طوعيا للتطوّر. إنّ المجتمعات والشعوب لا تتطوّر ولا تتقدّم في غياب التجاذبات الإيجابية الّتي يتمّ بموجبها تحويل الخلاف إلى اختلاف ثم تحويل الاختلاف إلى تنوع، فيكون التنوع مصدر إثراء وتناغم داخل المجتمع وانطلاقا منه يولد التطور والازدهار والتقدم، وهذا يتطلب ديمقراطية قوية تقوم على القانون والمؤسسات، كما يتطلب ثقافة الديمقراطية التي لا تُستورد من وراء البحار ولا تُدرّس في الأكاديميات بل تُنتج على المستوى الوطني من خلال التفاعلات الاجتماعية الشاملة انطلاقا من التربية و التعليم وصولا إلى مؤسسات المجتمع المدني و الأحزاب ومؤسسات الدولة و الدوائر السياسية الرسمية، هذا مع وجود ثقافة متنوعة وإعلام حر ومسؤول. فالمجتمع النمطي الذي تغيب فيه التجاذبات والاختلافات الإيجابيّة والتنوع لا يتطور ولا يبدع ولا يتقدم، ويبقى تحت سيطرة الشعوب والأمم الأخرى. ويبقى التساؤل مطروحا حول دور التيارات اليسارية والقومية التقدّمية من كل هذا، فلقد بقيت هذه التيارات متشرذمة وبعيدة عن العمق الاجتماعي، لكن هناك بوادر عمل جدّي من خلال تأسيس الجبهة الشعبية التقدمية التي ضمّت أطيافا يسارية وقومية ومستقلّة قد يكون دورها مهمّ في دفع المشهد السياسي وإعطائه الصورة التي يجب أن يكون عليها لدفع التقدّم و التطوّر وتحقيق الأهداف الحقيقية التي قامت من أجلها "الثورة" التونسيّة. يوسف بلحاج رحومة
#يوسف_بلحاج_رحومة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النزعات التبريرية لدى -الإسلاميين- في تونس
-
أحوال الأمّة بين سكرة العاطفة وسيكولوجيا التبرير
-
الثورة التونسية في مستنقع الحسابات الانتخابية... المسكوت عنه
...
-
الثورة التونسية بين مطرقة الرجعية وسندان الانتهازية
-
تونس لازالت مستعمرة
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يزور مرقد الإمام الخميني (ره)
-
خطيب المسجد الأقصى يؤكد قوة الأخوة والتلاحم بين الشعبين الجز
...
-
القوى الوطنية والاسلامية في طوباس تعلن غدا الخميس اضرابا شام
...
-
البابا فرنسيس يكتب عن العراق: من المستحيل تخيله بلا مسيحيين
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: ندين المجزرة الوحشية التي ارتكبها العد
...
-
البوندستاغ يوافق على طلب المعارضة المسيحية حول تشديد سياسة ا
...
-
تردد قناة طيور الجنة على القمر الصناعي 2024 لضحك الأطفال
-
شولتس يحذر من ائتلاف حكومي بين التحالف المسيحي وحزب -البديل-
...
-
أبو عبيدة: الإفراج عن المحتجزة أربال يهود غدا
-
مكتب نتنياهو يعلن أسماء رهائن سيُطلق سراحهم من غزة الخميس..
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|