|
في ضوء مداولات اجتماع تشرين الاول/اكتوبر 2012 للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي
صالح ياسر
الحوار المتمدن-العدد: 3905 - 2012 / 11 / 8 - 09:32
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في الثاني عشر من تشرين الاول/اكتوبر 2012، اجتماعا اعتياديا ، بحثت فيه التطورات والمستجدات السياسية في البلاد منذ انتهاء اعمال المؤتمر الوطني التاسع للحزب (ايار 2012)،
استنادا الى مسودة موضوعات سياسية أعدها المكتب السياسي. وإضافة لذلك تناول الاجتماع جوانب الوضع التنظيمي للحزب، بما فيها العمل القيادي ونشاط منظماته ولجان الاختصاص المركزية، والمجلس الاستشاري. واقر الاجتماع مجموعة من التوجهات والإجراءات الهادفة الى تطوير اداء الحزب، ومواصلة بناء منظماته والارتقاء بها افقيا وعموديا، وشدد المجتمعون على ضرورة تماسها الوثيق مع المواطنين وهمومهم، ودفاعها الثابت والدائب عن مصالحهم، ومؤكدين اهمية تحريك الجماهير واستنهاض هممها في النضال لنيل حقوقها. كما نوه الاجتماع بالحاجة الى ادامة الزخم الذي اطلقه انعقاد المؤتمر الوطني التاسع للحزب ومجراه ونتائجه، والى استلهام ما توصل اليه والانطلاق منه في العمل من اجل المشروع الوطني الديمقراطي البديل. كما شملت المداولات نشاط الحزب الشيوعي الكردستاني- العراق وخصوصا انعقاد مؤتمره الخامس (تموز 2012) ما توصل إليه من قرارات وتوصيات لتطوير عمل الشيوعيين الكردستانيين وتفعيل نشاطهم. وصدر عن الاجتماع بلاغ ضاف نُشر في جريدة (طريق الشعب) يوم الثلاثاء المصادف 16/10/2012. الظروف التي انعقد فيها الاجتماع
- استمرار وتعمق الأزمة التي تواجهها البلاد. في مقاربتها للأوضاع الراهنة التي تمر بها البلاد، انطلقت مداولات اللجنة المركزية من ما توصل اليه المؤتمر الوطني التاسع (ايار 2012) وأشارت الى ان تقديرات وتقييمات المؤتمر ما زالت تتمتع بأهميتها وراهنيتها بصدد الاوضاع السياسية بشكل عام. فالبلاد ما زالت، في واقع الأمر تعيش ازمة متفاقمة رغم لحظة التهدئة التي تعيشها البلاد عشية انعقاد الاجتماع والتي فرضتها جملة من العوامل من بينها: • عدم قدرة الاطراف المتصارعة على حسم الامور مما يدفعها الى التريث بانتظار تشكل ميزان قوى جديد يتيح لبعضهم فرض شروط على الاخرين. • شعور المتنافسين ان هناك تصاعدا لحالة من الجزع والتذمر والملل التي انتشرت في الشارع العراقي. وخشية انفجار الاوضاع هو ما دفع المتنفذين، مجبرين وليس مختارين، الى التهدئة المؤقتة لعبور الازمة بـ " اقل الخسائر " لان سلوك طريق التعنت قد يؤدي الى نتائج تهدد نظام امتيازاتهم. وهكذا ورغم انهم اختلفوا على كل شيء إلا انهم اتفقوا على ابقاء الحال على ما هو عليه لأنه وحده الذي يمكنهم من عبور الأزمة ولو مؤقتا. • العاملين الدولي والإقليمي – وبالملموس الضغط الامريكي والضغط الايراني وكل منهما له حساباته لاعتبارات خاصة به. وطبيعي ان اللاعبين الاقليميين ممن لهم تأثير على بعض اللاعبين المحليين عندنا لا يرغبون بل وغير مستعدين لمنح الملف العراقي الاولوية والدخول في صراعات قد تلهيهم عن الملف الاكثر سخونة وهو (الملف السوري) وما يحمله من تداعيات اقليمية ودولية. رغم محاولات التهدئة... الازمة البنيوية تتفاقم هكذا اذن فانه ورغم محاولات التهدئة شخصت مداولات اللجنة المركزية مجددا استمرار وتعمق الأزمة التي تواجهها البلاد وهي ازمة بنيوية الطابع: سياسية واقتصادية – اجتماعية وثقافية ... الخ. فلم تعد هذه الازمة مجرد ازمة حكومة او ازمة علاقات بين المتحاصصين فقط.. بل هي ازمة نظام المحاصصات الطائفية – الاثنية الذي قاد البلاد الى ما هي عليه اليوم. والأزمة المذكورة هي في واقع الامر تعبر ايضا عن حقيقة صراع المصالح بين الاطراف الماسكة بزمام الحكم والمتعارضة المصالح والأهداف. وتعكس بالمقابل نمط تفكير الحاكمين ورهانهم على تكتيكات وممارسات لا تؤمن بالديمقراطية بل تتسم بالتعنت وعدم احترام الرأي الاخر وانعدام المرونة من جهة أخرى لذا لا غرابة ان تستمر هذه الازمة وتزداد تفاقما. وما شهدناه خلال الاشهر الاخيرة من إجراءات على كل الصعد، ادى الى تكريس الازمة لان كل الجهود كانت تستهدف تقليص الفجوة بين المتصارعين على السلطة والثروة والنفوذ. وبدا ان تلك القوى في واقع الامر لا تملك حلولا للمشكلات قدر مسعى بعضها لتفجير الامور والعودة الى المربع الاول. فما ان تتصاعد الجهود لتقريب وجهات النظر حتى تنفجر الازمة باعتماد تكتيكات التخوين والاتهامات المتبادلة مما يوتر الاجواء. تحديد طبيعة الازمة.. ليس ترفا فكريا ! من الطبيعي ان تحديد طبيعة الازمة الراهنة التي تمر بها البلاد يتمتع بأهمية خاصة واستثنائية، لأنها المفتاح لفهم كل التعقيدات الاخرى وأيضا الاداة لبلورة خطاب قادر على الجذب حول اهداف ملموسة ومحددة ومهام ناضجة. وكما هو معروف فقد قدم المؤتمر الوطني التاسع اطروحة مهمة حين شخص الازمة التي تواجهها البلاد بأنها " أزمة نظام المحاصصة الطائفية والأثنية ". وإذا دفعنا هذه الاطروحة الى نهايتها المنطقية امكننا ان نستنتج ان ما تواجهه البلاد اليوم ليس ازمة محصورة في الحقل السياسي، ازمة حكومة فقط فمثل هذا التوصيف يعكس جانبا واحدا من الازمة. فما تواجهه البلاد هو ازمة متعددة الصعد: اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية ... الخ. أي انها ازمة تطول القاعدة الاقتصادية والبناء الفوقي بشقيه السياسي والإيديولوجي وليس فقط السياسي منه أي ازمة حكومة. بهذا المعنى نحن امام ازمة نظام، وتشكل الازمة السياسية احدى تمظهرات ازمة النظام وليست الوحيدة. وتطويرا للمناقشة حول هذه الاشكالية النظرية والعملية في الوقت ذاته فان من المهم التأكيد هنا، بداية، على تجنب تعريف السلطة (والنظام عموما) انطلاقا من ممارساتها السياسية فقط. قد يكون ممكنا القبول بمثل هذا التعريف للسلطة (أي ممارساتها السياسية وما اذا كانت دكتاتورية او استبدادية او قمعية.. الخ) لأنه قد يتيح إمكانية استخدامه كأداة منهجية لتفسير جانب من هذه الإشكالية المعقدة " السلطة وطبيعتها " ونقصد به هنا جانبها السياسي فقط، ولكنه في الوقت نفسه لا يتيح الإمكانية لتحديد طبيعة السلطة بشكل متكامل، من وجه النظر الماركسية. فمن المعلوم أن المنهج الماركسي يشترط، من بين ما يشترطه، تعريف السلطة باعتبارها علاقة قوى طبقية. ويتعين فهم علاقات القوة هذه ليس باعتبارها علاقة بسيطة، خطية، علاقة سياسية بين متخاصمين، إنما هي علاقة مركبة من جهة وغير متكافئة، من جهة ثانية، وتحددها في نهاية المطاف القوة الإقتصادية، ثالثا. أي ان ثمة حاجة الى مقاربة تنظر الى هذه الاشكالية من زاوية جدل العلاقة بين البناء الفوقي بطوابقه المتعددة وبين الاساس الاقتصادي الذي يقوم عليه هذا البناء. ولا بد للمقاربة هذه أن تنطلق من سؤال مركب مهم: ما هو المضمون الطبقي لهذه السلطة، ما هو أساسها الاجتماعي وما هي طبيعة " الطبقة المسيطرة " أو " الائتلاف الطبقي المهيمن " ؟ والأهم من ذلك كله ما هي التطورات الفعلية التي حدثت على الصُعد المختلفة (القاعدة والبناء الفوقي) خلال السنوات الأخيرة بحيث يمكن اطلاق هذه الصفة عليها دون غيرها ؟ وبهذا المعنى فإنها - أي الأزمة الراهنة - تعبير عن أزمة نظام، أكثر مما هي تعبير عن أزمة حكومة بذاتها. وما يدلل على ذلك انه ورغم تعاقب ثلاث حكومات (علاوي – الجعفري – المالكي بدورتين) إلا ان الازمة بقيت دون حل، بل حتى تفاقمت وازدادت تعقيدا. العناد والتعنت سيد المواقف.. رغم تعمق الازمة! على الرغم من تعمق ازمة البلاد واشتداد مخاطرها وانفتاحها على مختلف الاحتمالات، فإن مواقف القوى المتنفذة والكتل السياسية التي تمثلها لا يزال يتصف بالتعنت وعدم الاستعداد لتقديم التنازلات. وهنا ثمة سؤال يطرح نفسه: لماذا هذا التعنت والعناد؟ هل انه ناجم عن عوامل نفسية، كما يتصور البعض، تكمن في ان المتخاصمين لا يحبون وجوه بعضهم البعض ! ام ان ذلك مرتبط بعوامل ومصالح متقاطعة ؟ في معرض البحث عن اجابات على هذه الأسئلة وغيرها الكثير، اشارت مداولات اللجنة المركزية الى ان الامر يعود الى جملة عوامل من بينها على سبيل المثال: أ. الصراع المحموم بين القوى المتنفذة لاقتسام وإعادة اقتسام الحصص في مواقع السلطة والنفوذ، وللسيطرة على المال العام ومصادر الإثراء، وتضارب المصالح المادية للقوى السياسية وعناصرها... ب. الصراع على الزعامات السياسية للطائفة والكتل التي تدعي تمثيلها. د. غياب المشروع السياسي الوطني العابر للطوائف والقوميات. وأرجعت المداولات هذه العوامل والأسباب الى جذرها الطبقي - السياسي، أي الى: * طبيعة النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والأثنية. فقد أعطت التطورات السياسية التي عرفتها البلاد منذ 9/4/2003 وعبر كل التجارب الانتخابية والاستشارية، ديمقراطية ناقصة، مشوهة، لأن طبيعة وبنية نظام الحكم في العراق والتوازنات التي تحكمه تجعل من السلطة غير قابلة للتداول بالمعنى الديمقراطي الصحيح. * وطبيعة الاقتصاد المتخلف و الريعي – الخدماتي، الذي يجعل القوى المذكورة عاجزة عن ايجاد الحلول لمشاكل البلاد المتفاقمة، ومواجهة تحديات الواقع بجوانبه وأصعدته المختلفة، بل ان هذه القوى تشعر ان أي حلول من هذا النوع قد تهدد نظام سيطرتها وامتيازاتها. يمكن القول ان المساعي والجهود التي بذلتها القوى المتنفذة تدور كلها في اطار ما يمكن ان نطلق عليه " منع التدهور " أو " ايقاف التردي " أي ان المطروح ليس حل الازمة جذريا بل اعادة انتاجها في " ظروف افضل "!. فالخلل يكمن، إذن، في بنية النظام السائد وفي طبيعة المشاريع والاستراتيجيات التي طبقت بعد 2003 والتي لا يمكن أن تنتج غير هذه البنية. وبهذا المعنى فان هذه البنية تعاني من تناقض بنيوي لا يمكن حله إلا بتفكيك نظام المحاصصات وخلق الارضية لنظام جديد هو النظام الوطني والديمقراطي في ان. - وبالمقابل، انعقد الاجتماع والبلاد تشهد اتساع الخروقات الأمنية من جانب قوى الارهاب وتوالى اقدامها على عمليات نوعية استهدفت الدوائر والمؤسسات والأجهزة الامنية المسؤولة عن مكافحة الإرهاب ومراكز الشرطة ونقاط السيطرة، اضافة إلى الاغتيالات المتزايدة لضباط ومنتسبي الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية ومنتسبي الجهاز القضائي كما طالت وجوها اجتماعية. هذا طبعا اضافة الى عمليات هروب وتهريب العشرات من عتاة المجرمين والإرهابيين المحكومين بالإعدام، والــتي ما كان لها أن تتم لــــولا تواطؤ عناصر نافذة بين القائمين على ادارات العديد من السجون وحمايتها، وشيوع الفساد في مفاصلها اضافة الى ضلوع سياسيين فاسدين في تنظيم عمليات الهروب هذه. وبعيدا عن العموميات، فقد شخصت المداولات الخلل، في هذا المجال، لا باعتباره مجرد اهمال او عدم كفاءة أو فساد بعض الإفراد وإنما الامر يكمن في: • الاسس الخاطئة التي تم بناء اجهزة الجيش والشرطة بموجبها، اسس المحاصصة والولاءات الحزبية الضيقة؛ • وعدم اعتماد الكفاءة والنزاهة والتجربة في توزيع المسؤوليات؛ • إضافة إلى استشراء الفساد والمتاجرة بالمواقع.
ما يثير الانتباه ان قضية الفساد لم تعد قضية شكلية قطعا بل خطيرة للغاية، حيث تنمو وتستشري بسرعة وتكاد تلف كل مفاصل الدولة ومؤسساتها ويغلب عليها " الطابع المؤسسي " مما يعني وصولها الى مرحلة خطيرة وتحتاج الى اجرءات جذرية وليس ترقيعية. ويكمن خطر الفساد في ارتباطه الوثيق بالإرهاب من جهة، وبالفقر والاستقطاب والتهميش الاجتماعي الذي تعاني منه قطاعات واسعة من المجتمع من جهة ثانية، وبالاحتلال ونشوء ظاهرة ما يطلق عليه بـ " الفساد المستورد " من جهة ثالثة. فمع الاحتلال تدفقت على البلاد وسائل مبتكرة للمفسدين ذوي المؤهلات التكنولوجية العالية، في كيفية نهب الموارد وامتصاص الاستثمارات وإفراغها من محتواها الحقيقي. - ومن جهة ثالثة، انعقد الاجتماع في ظروف شهدت تفاقم الخلافات والتقاطعات بين مختلف الكتل بل حتى داخل الكتلة الواحدة. وأشّرت مداولات اللجنة المركزية بان ما يجري ليس عملية سلسلة ومستقيمة، إذ يتداخل فيها الكثير من العقبات حيث تنطلق الكتل والقوى السياسية المتنفذه، خصوصا، من مصالحها الضيقة، وتتسارع وتيرة انتاج وافتعال الأزمات لتزيد الوضع السياسي العام ارباكا وتعقيداً وتوتراً، وتشدد من معاناة الناس وشكواهم. فتداعيات وآثار المأزق السياسي تلقي بظلالها الثقيلة على حياة الناس اليومية من خلال تردي الاوضاع الأمنية وارتفاع عدد العمليات الارهابية وبلوغ اعداد الضحايا احجام كبيرة. وترافق هذا التدهور مصاعب وأعباء اضافية على المواطنين، ناجمة عن الاجراءات الأمنية غير الفعّالة، كزيادة السيطرات وغلق الطرق. كما تؤثر هذه الاوضاع سلباً على حركة الاقتصاد والتجارة وعلى مستوى اداء اجهزة ومؤسسات الدولة وتوفير الخدمات العامة، فتشهد بمجملها انحساراً وتراجعاً، يقابله اتساع في مديات الفساد وتفاقم في المصاعب المعيشية للفئات الشعبية. - ومن جهة رابعة، تعاظم التدخلات الاقليمية والدولية في الشأن العراقي. وقد توقف الاجتماع عند هذه النقطة بالتحليل واستخلص وجود علاقة طردية بين اشتداد الخـــلافات بين اطراف العملية السيــــاسية وخصوصا المتنفذة منهم، وتعاظم التدخلات الخارجية وتوتر العلاقات مع دول الجوار والدول الإقليمية مما يشكل خرقاً صـــارخاً لسيادة العراق. وما يميز الوضع هنا هو انه لم تقابل هـــذه التدخلات على الدوام بنفس الرفض والحزم المطلوبين من قبل الحكومة وبعض الاطراف المتنفذة، تعزيزا وتأكيدا لمبادئ وأسس علاقات حسن الجوار والاحترام المتبادل لسيادة كل بلد واستقلاله. ويبدو أن بعض الدوائر الإقليمية تسعى للإبقاء على التدهور الأمني والاستعصاء السياسي في العراق، و هذا يرتبط بأجندتها وأهدافها الإقليمية. كما ان العامل الإقليمي بتنوع مكوناته وبأطرافه المختلفة وما له من امتدادات محلية وتضارب المصالح يسعى للتوحد حول منع تطور التجربة العراقية الجديدة ، ويبذل مختلف الجهود الحثيثة لمنع التوصل الى توافق سياسي بين الأطراف العراقية. أما دور العامل الدولي فرغم تشعبه وتضارب مصالح أطرافة إلا انه يتعلق أساسا بدور الولايات المتحدة في التأثير على العملية السياسية في العراق مما اكسبها هذه الملامح دون غيرها. لهذا هناك حاجة لربط ما يجري في بلادنا بما يحدث في البلد الذي يمثل اللاعب الرئيسي في هذه القضية، ونعني به الولايات المتحدة. فقد بيّن مسار الأحداث خلال السنوات الماضية ان ما يجري هناك من صراع بين الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديمقراطي، خصوصا في هذه الأشهر التي تسبق الانتخابات الرئاسية هناك، يجد انعكاسه على الوضع العراقي، وأيضا على الإستراتيجية الأمريكية لإدارة الأزمة في العراق وهي التي بذلت، ولا تزال وستستمر ببذل، من منطلق " الفوضى البناءة "، مختلف المحاولات لمنع توصل الفرقاء العراقيين الى حلول تنبع من الحاجات الفعلية لبلادنا في لحظة تطورها الملموسة، لحسابات معروفة لا تخفي على احد. الاتجاهات التي تتنازع الحياة السياسية في البلاد في المرحلة الراهنة وفي ضوء الأطروحات السابقة، وبهدف معرفة طبيعة الأحداث الجارية والوجهة التي تتخذها دون غيرها، يمكن الاشارة الى الاتجاهات التالية التي تتنازع الحياة السياسية الراهنة في بلادنا، في اللحظة الراهنة: يتمثل الاتجاه الأول في تعاظم الحراك المجتمعي واتساع دائرة القوى المنخرطة فيه، تلك القوى الطامحة الى التغلب على الازمة البنيوية ومسبباتها، وتجاوز نظام المحاصصات الطائفية - الاثنية واستكمال مهمات العملية السياسية وتجاوز صعوباتها وحالات الاستعصاء التي تعاني منها بين حين وآخر، والانطلاق على طريق بناء الدولة المدنية الديمقراطية العصرية مما يضع حدا لمعاناتها البؤس والحرمان، ويضمن حقها المشروع في الحياة الحرة والعيش الكريم، في عراق ديمقراطي فيدرالي حر ومستقل وسيد نفسه. لقد اكدت المداولات على ان وطأة معاناة هذه القوى تشتد مع استمرار الصراعات بين الكتل والقوى السياسية الرئيسية، وعجز قياداتها عن تسوية خلافاتها وتوحيد مساعيها لمعالجة المشاكل المعلقة، والخروج بالبلاد من حالة التدهور القائمة. ويترك هذا كله تأثيراته السلبية على أوضاع الملايين وعلى معنوياتها، مغذيا مشاعر الإحباط والقلق والسخط في أوساطها من جهة، ويصعد مطالباتها بمعالجة المعضلات المعيشية والخدمية والاجتماعية التي تطحنها من جهة ثانية. واستنتج البلاغ انه ارتباطا بهذه الأوضاع وما تعاينه قطاعات واسعة من الناس من تهميش وإقصاء يلاحظ اشتداد ضغط الفئات والشرائح الشعبية الواسعة والقوى السياسية المعبرة عن مصالحها، ويتخذ هذا الضغط اشكالا متنوعة ودرجات متفاوتة، ويشكل بنحو متزايد تيارا متسعا. - أما الاتجاه الثاني فيجد تعبيره في انشغال معظم الكتل والقوى السياسية، لا سيما المتنفذة منها، بالصراع مع بعضها، وترتيب كل منها أموره في هذا الصراع بما يؤمـّن مصالحه الخاصة الآنيّة، خصوصا الحصة الأكبر في السلطة والنفوذ وفي مراكز صنع القرار، هذا من جانب. وبما يتيح له من جانب ثانٍ دورا اكبر في رسم ملامح عراق المستقبل، وبما ينسجم مع مصالحه وطموحاته. وبسبب صراع المصالح أيضا، وتمسك كل طرف بموقفه، وعزوفه عن إبداء المرونة وعن المبادرة الى تقديم التنازلات، فشلت محاولات التوصل الى توافق سياسي بين الأطراف مرةً بعد أخرى. وقد شخصت المداولات ان التحسن في الأوضاع الأمنية يبقى هشا ويسهل الانقلاب عليه، إذا لم يستند الى تحسن في الميادين الأخرى، وفي المقدمة منها السياسية والاقتصادية – الاجتماعية. - يتمثل الاتجاه الثالث في توتر العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان. توقفت مداولات اجتماع اللجنة المركزية عند العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان والتي عانت خلال الفترة الماضية من بعض الخلافات وشابها بعض التوتر والجفاء بشأن جملة من القضايا من بينها: * اشتداد الخلافات مع الاقليم حول العقود النفطية وتسديد الالتزامات المالية المتقابلة للاقليم والحكومة الاتحادية. * الحكم على طارق الهاشمي وافراد مكتبه بتهمة الضلوع بالإرهاب. * التأزم والتوتر في المناطق "المتنازع عليها". * ورغم الجنوح إلى التهدئة وتخفيف التوتر من قبل الطرفين لاحقاً، تجدد التصعيد والتوتر في الايام الأخيرة إثر اعلان تشكيل قوات دجلة لترتبط بها القوات في كركوك وديالى. وفي هذا الاطار أكدت مداولات الاجتماع على ضرورة تجنب توتر الأجواء بين الطرفين داعية الجميع الى التمسك بالحكمة وطول النفس والمرونة وعدم مراكمة المشاكل وحل القضايا بالحوار وبروح الشعور بالمسؤولية المشتركة، وإيجاد حلول واقعية مقبولة لجميع الأطراف، والانطلاق من المصالح العليا للبلاد ومراعاة خصوصيات الإقليم في الوقت ذاته. - الاتجاه الرابع فيتمثل بالتغيرات في البيئة الاقليمية والدولية وما تتركه من اثار على المشهد السياسي المحلي. ان التطورات المتسارعة الاقليمية تطرح جملة من التحديات والانعطافات الجيو- سياسية مما تلقي ايضا بآثارها على الوضع في البلاد وتساهم في مفاقمته وتبلور اصطفافات ومحالفات جديدة. ومن اجل فهم التعقيدات والصعوبات المشار إليها أعلاه والمعرفة الدقيقة لاسبابها ووضعها في إطارها الصحيح، هناك ضرورة لتجنب رد الأوضاع ومساراتها الصعبة والمعقدة الى العوامل والأسباب الداخلية فقط، رغم ان هذه العوامل هي المقررة في " نهاية المطاف "، بل لا بد من ربط ذلك بالعوامل الخارجية (الإقليمية والدولية) وتأثيراتها وتفاعلاتها مع العوامل الداخلية وما تتركه محصلة تلك التفاعلات من آثار على المشهد السياسي العراقي. لقد خلقت الاتجاهات السابقة منطقها المؤثر على المشهد السياسي برمته محدثة جملة من التفاعلات، حيث نلاحظ ان عملية اصطفاف جديد للقوى تجري بالفعل سواء داخل الكتل الواحدة، أو في العلاقة بين الكتل المختلفة. وهذه العملية في حالة صيرورة ولم تستقر بعد على حال، وشمل ذلك مختلف الكتل، وان تميز " التحالف الكردستاني " بحالة استقرار ملحوظة في قوامه. ولكن هذا الحراك بقى محكوما في غالبيته بالسعي للحصول على النفوذ والسلطة وتقاسم المغانم. " ورقة الاصلاح " ... جعجعة بلا طحين
هنا لا بد من وقفة بشأن " ورقة الاصلاح " العتيدة التي لم تنشر تفاصيلها لحد الان ولكن تم تسريب بعض بنودها. فقد صدرت تصريحات متناقضة من مختلف الكتل، بين من ينفي وجود مثل هذه الورقة وبين من يشككك بجدية (التحالف الوطني) و (دولة القانون) في القيام بإصلاحات ومشددة على تنفيذ التعهدات والالتزامات التي نص عليها (اتفاق أربيل) الذي تشكلت على اساسه "حكومة الشراكة الوطنية". واتضح لاحقاً ان لا وجود لهذه الورقة، وإنما هناك افكار وتصورات مطروحة على الكتل السياسية من قبل (التحالف الوطني)، لمناقشتها وصولا إلى توافقات بشأنها. ومن جانبه دعا حزبنا إلى الكشف عن ورقة الاصلاح ان كانت موجودة واعلانها للرأي العام، والى الخروج بالمناقشات والمداولات من الحلقة الضيقة لقيادات الكتل المتنفذة الى فضاء اوسع. فمثل هذه " الورقة " تحتاج الى تفكيك لمعرفة مضامينها والنوايا الحقيقية لمعديها وما يقف ورائها من اهداف. ومن خلال ما تناثر من تصريحات حول ورقة الاصلاح العتيدة، يمكن القول ان " الاصلاح " الذي تروج له القوى الماسكة بتلابيب السلطة هو عبارة عن تكتيك يندرج في اطار استراتيجيات هذه القوى للبقاء لاطول فترة ممكنة معاندا رياح التغيير المطلوبة بعد ان اثبت عجزها عن ايجاد حلول ومخارج مقبولة للازمة البنيوية، بل ادت كل ممارستها الى اعادة انتاج هذه الأزمة وأيضا عجزه عن التعاطي مع التغيرات العاصفة التي شهدتها البيئة الاقليمية والدولية خلال الاشهر الاخيرة. قد يتيح هذا النوع من الاستراتيجيات للنظام الراهن احتواء الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية، والتكييف مع الضغوط الداخلية والخارجية من اجل التغيير، لكن من دون ان يؤدي ذلك بها الى تقاسم السلطة فعليا مع الاطراف الاخرى. وما يميز هذه " الاصلاحات " هي انها من صنع بعض القوى المتنفذة بدلا من ان تكون محصلة لنقاش وطني بين كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين من دون اقصاء او تهميش. والمشكلة المثيرة للانتباه هنا هي ان ما يروج له من " اصلاحات " تنطلق من فرضية اقتصاد السوق وان الليبرالية الاقتصادية تؤدي الى ليبرالية سياسية. في حين ان التجربة في العديد من البلدان اثبتت عدم صحة هذه الفرضية، حيث لم يؤد تحرير الاقتصاد الى تحرير الحقل السياسي وتكريس الديمقراطية، بل افضى الى نكوص سياسي وديمقراطي وتفاقم التناقضات المجتمعية وانفجارها. والمثالان التونسي والمصري يدللان على ذلك حيث كانا يقدمان على انهما نماذج لنجاح " التحرير الاقتصادي " بحسب وصفة صندوق النقد الدولي . اضافة الى ذلك فان " التحرير الاقتصادي " لم يؤد هو الاخر الى بناء اقتصاد سوق على النموذج الليبرالي، بل ترتب عليه استفادة شرائح من "شبكات المصالح " من المرتبطين بالنظام الحاكم، حيث استولت هذه المجموعات على الجزء الاعظم من الثروة الوطنية. كما لم تتمكن العديد من الدول من التخلص من اقتصاد الريع وبناء اقتصاد منتج. بمعنى اخر ان التحرير السياسي والاقتصادي لا معنى له ان لم يسبقه تغيير في القواعد التي تحكم العملية السياسية. بعبارة ادق واكثر وضوحا، ان ما يترشح من معلومات عن " الاصلاح " المزعوم يتيح القول انه لا يرتقي الى تطلعات العراقيين على اعتبار ان الامر لا يتعلق بالإصلاح بحد ذاته، بل بمضمونه ومدى قدرته على تغيير الاضاع، وان هذا التغيير يجب ان يكون شاملا وتشارك فيه كل القوى المعنية، من دون أي اقصاء او تهميش. ولهذا دعا الاجتماع إلى الكشف عن ورقة الاصلاح ان كانت موجودة وإعلانها للرأي العام، والى الخروج بالمناقشات والمداولات من الحلقة الضيقة لقيادات الكتل المتنفذة. ولهذا فانه عند تدشين النقاش حول " الإصلاحات الاقتصادية المنشودة "، المناسبة لظروفنا الملموسة، يتوجب التأكيد هنا على القضايا التالية: • الإصلاح المنشود يجب ان يكون جزء من رؤية إستراتيجية ينبغي أن تحدد أهدافها بوضوح وبعيدا عن أية رطانة. • الدولة في هذه المرحلة ينبغي ان تلعب دورا متوازنا ومتكاملا مع السوق لا طرفا ثانويا ومهمشا كما يريده صقور الليبرالية الجديدة. • القطاع الخاص المحلي في العراق وبسبب أوضاعه المعروفة يحتاج ولوقت طويل الى الدولة ودعمها، ومن الخطأ – في ظروفنا الراهنة - طرح الأمور من منطلق أولوية قطاع على حساب آخر بل من خلال الوحدة الجدلية والتأثير المتبادل والاستفادة من كل القطاعات: الحكومي، الخاص، التعاوني، المختلط.. الخ. • الانتقال من الطابع الريعي والأحادي الجانب للاقتصاد العراقي الى تنويع الاقتصاد وتحريره من الاعتماد المفرط على عوائد النفط. وهذا يتطلب التطبيق الفعال لسياسة نفطية متسقة موجهة بإستراتيجية اقتصادية ورؤية مستقبلية بعيدة المدى وواضحة الأهداف ومتناسقة داخليا. عدا ذلك يصبح الحديث عن " الاصلاحات " مجرد رطانة سياسية، وكسبا للوقت.. أي جعجعة بلا طحين. في الشأن الاقتصادي
وفي الشأن الاقتصادي، توقفت مداولات الرفاق اعضاء اللجنة المركزية عند جملة من القضايا التي يعاني منها المشهد الاقتصادي ويمكن بلورتها في عدم وجود رؤى واضحة، وبشكل خاص في المجال الاقتصادي، بل وعدم القدرة على انتاج مثل هذه الرؤى والتصورات والأهداف والأولويات المشتركة. وأرجعت المداولات قضية عدم وجود رؤى مشتركة الى نظام المحاصصة، الذي لا يتيح بسبب خلل بنيوي فيه الى انتاج مثل هذه الرؤى نتيجة تضارب المصالح والأجندات. وفي المشهد الاقتصادي ما يدلل على انعدام الرؤية ومن بينها: - ان السلطة تفتقد الفهم الواضح لطبيعة اقتصاد السوق. - القطاع الخاص، وخصوصاً الصناعي والزراعي والخدمي المنتج، لا يزال يشكو من الاهمال وضعف الدعم والمنافسة غير المتكافئة التي يواجهها من جانب المنتجات المستوردة نتيجة الانفتاح المنفلت للسوق العراقية. - وما يزال قانون النفط والغاز معلقـــاً على مدى ست سنـــوات بســـبب الخلافات حــوله، رغم اهمـــيته الكبرى في تنظيم وإدارة هـــذا القطاع ، سواء على صعيد تأمــين ترجمة عملية لنص المادة الدستورية 112، او على صعيد توفير اطار وبيئة قانونية واضحة، يتم التعامل على اساسها مع الشركات والعالمية. - وأخيرا النقاش الذي اندلع اخيرا حول " مشروع قانون البنى التحتية " وما شهده من خلافات وتقاطعات، اشارت مداولات اللجنة المركزية ان تلك الخلافات والتقاطعات اكدت التوظيف السياسي الضيق لقضايا مهمة بالنسبة للاقتصاد الوطني خدمةً للصراعات بين الكتل وللحسابات الانتخابية، والنظرة الجزئية القاصرة الى البناء والتنمية الاقتصادية. وإذ اكدت المداولات على الحاجة إلى تأهيل البنى التحتية المهترئة في البلاد وإنشاء الجديد منها، فإنها في المقابل ذكّرت بان صيغة الدفع بالآجل تلجأ اليها البلدان بعد استنفاد الصيغ الاخرى في التمويل والتعاقد، وبعد ضبط آليات المراقبة والإشراف عليها، وفي ظل وجود خطط واضحة تحدد المشاريع الإستراتيجية التي تحظى بالأولوية، الى جانب التوازن والعدالة في توزيعها وبما لا يتعارض مع اعتبارات الجدوى الاقتصادية. وأشّرت المداولات ان مسودة مشروع قانون البنى التحتية جاءت ناقصة ومفتقرة لكثير من هذه العناصر، وقد اثارت نقاشاً واسعاً لا يزال مستمراً، وهو في جانب منه سياسي بحت، لكنه في جانب آخر علمي ومهني تخصصي، صدرت عنه اضافات وتعديلات مقترحة تعالج ثغراته. بداية، لا بد من الاشارة الى ثمة ملاحظة شكلية تتعلق بالتسميه الممنوحة للقانون. فمن خلال قراءة مشروع القانون يلاحظ انه يدل بشكل واضح ان ما يراد منه هو ابرام عقود لمشاريع البني التحتيه ( من دون تحديد دقيق وواضح عن هذه المشروعات) في اطار الدفع بالآجل، أي أن مشروع القانون لا يتجاوز مفهوم منح صلاحيات لجهاز حكومي ( ربما امانه مجلس الوزراء) لعقد تنفيذ مشروعات بالدفع الاجل. أي ان مشروع القانون يطمح الى تجاوز تخصيصات خطه الموازنه الاستثمارية السنوية من خلال توفير مصادر تمويل خارجية لتنفيذ مشروعات في قطاعات الاقتصاد العراقي برمته (او بمعني اخر خلق دين ورهن جديد للنفط يتولى بموجب القانون مجلس الوزراء التصرف به لمشروعات اطلق عليها بني تحتية وخدمات). بالمقابل، فان مشروع قانون البنى التحتية يثير مجموعة من القضايا والتساؤلات من بينها انه لا تختلف كثيراً، من ناحية الجوهر، عن تقرير البنك الدولي/الامم المتحدة الذي وضع في 2003 او وثيقة وزارة التخطيط عن الاستراتيجية الوطنية او وثيقة العهد الدولي أو، أخيرا، وثيقة خطة التنمية الوطنية 2010-2014. فجميع هذه الوثائق على توسعها في وصف وتفصيل السياسات وحتى التقديرات المتعلقة بالاستثمارات الكلية والقطاعية فهي لم تحتوي على قوائم تفصيلية للمشاريع حسب المناطق والقطاعات.. ومن المؤكد ان هذه الطريقة في التخطيط لا تؤدي الى نتيجة مرضية. وهناك العديد من الخبراء الاقتصاديين ممن أشار بصواب، الى ان هذه الطريقة ليست سوى مجرد عملية سياسية من الواضح انها جرت في ذات الاطار " التوافقي " الذي تجري من خلاله عملية اقرار القوانين المختلفة. في حين ان انشاء البنى التحتية هي عملية فنية/اقتصادية ذات طابع وطني تحتاج الى تحديد مسبق ومشاورات وتنسيق مهني/اقتصادي/فني على مستوى الدولة بإشراف وتنسيق وزارة التخطيط ومجلس الوزراء. ويفهم من حيثيات مشروع القانون ان الآلية المستخدمة تتمحور في الدخول في مفاوضات مع دول او شركات عالمية. من هنا تبرز جملة من الاسئلة حول مدي إمكانية الاجهزة العراقيه على تحديد كلف المشروعات المستقبلية ومدي قبول الدول والشركات الاجنبية في الولوج في مثل هذه العمليه بما تحمله من مخاطر سياسية وتجارية وأمنية ... الخ. وأخيرا ورد في الاسباب الموجبه للقانون النص التالي: " بهدف تنفيذ المشاريع الاستراتجيه والخدمية واعادة اعمار المنشات البني التحتية بطريقه الدفع بالآجل ... ". ومن هنا يطرح السؤال التالي: هل ان الموارد الماليه الحاليه للعراق غير كافيه لتنفيذ عمليات اعاده البناء مما يتطلب الذهاب الى طريقة الدفع بالآجل؟ سؤال برسم الاجابة. تسرب رؤوس الاموال العراقية إلى الخارج توقفت المداولات ايضا عند احتدام السجالات حول سياسة وأداء البنك المركزي، والحديث عن وجود تراخٍ في وضع الضوابط على عمليات مزاد بيع الدولار إلى القطاع الخاص، والتي تستخدم كما يبدو لغسل الأموال وتهريبها، والافادة منها حتى من قبل بعض دول الجوار التي تتعرض الى عقوبات دولية. وتكشف ارقام المبالغ الضخمة التي يجري تحويلها إلى الخارج عبر هذا المزاد حقيقة كونها تفوق كثيرا قيمة السلع والخدمات التي تستوردها الشركات والجهات التي تقوم بشراء الدولار، وان مصدر هذه الاموال بالدينار هو الانفاق من موازنة الدولة. وبداية، لا بد من الاشارة الى ان ضعف الضوابط والإجراءات المعتمدة في مراقبة عمليات مزاد الدولار وبيعه ايضا عبر المصارف الاهلية تحت عنوان " تمويل استيرادات القطاع الخاص من البضائع والسلع الاستهلاكية " قد ادى - طبقا للتقديرات - الى " هروب " اكثر من 40 مليار دولار خلال الاثني عشر شهرا المنصرمة ومن دون ان يكون لتلك المليارات أي اثر ايجابي على الدورة الاقتصادية المحلية ناهيك عن الاضرار الفادحة التي سببها هذا النزيف الهائل للموارد المالية. وبالمقابل فان " هامش " الربح الاحتكاري لمجموعة من " تجار العملة " وشركات التحويل المالي قد بلغ ارقاما خيالية حيث قدر في عام 2011 بحوالي 6 تريليون دينار (أي ستة آلاف مليار دينار) هذا مع العلم ان الايرادات المتأتية من الضرائب في نفس العام (2011) قد بلغت 1.1 تريليون دينار فقط. كل هذا ادى الى جملة واسعة من المشاكل والتحديات والأضرار الفادحة التي لحقت بالاقتصاد العراقي. هكذا، إذن وبعد ما يقارب العشر سنوات على رحيل النظام الدكتاتوري وتدشين " المرحلة الانتقالية "، لم تلد بلادنا اقتصاداً بملامح محددة لعدم وجود رؤية vision واضحة لدى القوى المتنفذة في وقت غابت فيه انماط من الشراكة بين السوق والدولة لتكتفي البلاد بعلاقة سوق غير مكتمل الانتقال. وهكذا لم يوفر " الاقتصاد الانتقالي " في العراق بعد العام 2003 من اسس هذا النمط من الاقتصاد الى اقتصاد السوق إلا مسببات الصراع المتمثلة بالتحرر المالي الواسع وخلق سوق مالية توازي تحرر منفلت في التجارة الخارجية، في حين لم تشهد عناصر الاقتصاد الانتقالي الاخرى اي حراك ممكن ان يتكامل مع " التحرر المالي ". وقد ادى ذلك الى " زواج غير مقدس " بين طفيليي وكومبرادوريي المرحلة الراهنة، وتمركز هائل لرؤوس الاموال خارج البلاد، اضافة الى السهولة " النسبية " لتهريب متحصلات الفساد المالي والإداري وأموال الجرائم الاقتصادية. وبهذا تكتمل اسس التحالف الثلاثي المهيمن: الطفيلية – الكومبرادورية – البيروقراطية. وارتباطا بالملاحظات اعلاه يمكن القول ان " الديمقراطية المالية " الراهنة هي اليوم واحدة من مصادر الصراع وتوليده المستمر عبر إشكالية لم تُحل بين رأسمالية الدولة الريعية ورأس المال المالي الخاص. وفي ظروف الاقتصاد الريعي، حيث يشكل انكماش القطاعات الانتاجية المعلم الاساس لهذا النمط من الاقتصاد، يصبح امر الاستثمار محليا محدود الامكانية. وفي ظل الشراكة الناقصة – بحسب بعض الاقتصاديين – بين مكونات راس المال، يعوض الرأسمال المالي الخاص عوائق نموه المحلية عبر الاندماج غير المتكافئ في السوق الرأسمالية المالية العالمية. وهكذا وبدلا من اندماج راس المالي المحلي بالاقتصاد الوطني ليكون احدى قاطرات تحريكه تصبح السوق المالية المحلية قناة لانتقال الثروة وترحيلها الى الخارج وتوظيفها هناك مع كل ما تحمله هذه العملية من مخاطر وخصوصا فيما يتعلق برؤوس الاموال المستثمرة في قطاع المضاربات. من هنا فانه بدلا من الرهان على تحقيق استثمار محلي حقيقي عبر تنمية مستدامة، يصبح هدف تكثير الاموال او تحويلها الى خارج البلاد أو حتى المضاربة بالعملة الاجنبية بمثابة اولوية يمارسها السوق المالي غير المكتمل ، وبذا يتحول الاقتصاد الى ما يطلق عليه " اقتصاد الكَازينو ". وفي ضوء ذلك يمكن الاتفاق مع الاطروحة القائلة ان آلية العمل في الاقتصاد الانتقالي المالي اليوم اصبحت " سببا في تفجر الصراع بين رأسمالية الدولة المالية (المالك الريعي الكبير) والرأسمالية المالية الاهلية (المالك الصغير) المتطفل على الريع المركزي ". تشابك رأس المال والسلطة وآثاره
ايضا توقفت الموضوعات التي قدمت للاجتماع ومداولات الرفاق اعضاء اللجنة المركزية عند ابرز معالم التشابكات بين رأس المال والسلطة حيث لوحظ نشوء فئات وشرائح من كبار التجار والسماسرة الطفيليين والمقاولين فاحشة الثراء، وذات صلات ووشائج وثيقة مع كبار المتنفذين في السلطة من الكتل السياسية الحاكمة. وهناك معطيات كثيرة تشير إلى ان عملية تداخل وتشابك المصالح هذه باتت تنعكس بصورة اكثر جلاء في تبلور علاقات تعاون وإسناد متبادلة بين اصحاب رؤوس الأموال والكتل السياسية المتنفذة، حتى بات معروفاً ان عدداً من كبار التجار والمقاولين، المستحوذين على نسبة هامة من مشاريع الدولة الكبيرة، يقومون بتمويل قوائم وأحزاب وشخصيات سياسية تملك القرار السياسي والاقتصادي ان الملاحظات اعلاه تستدعي وقفة اكثر تفصيلية. فعلى خلفية تعاظم الريوع النفطية نتيجة زيادة اسعار النفط الخام في السوق العالمية تنامت سمات الطابع الريعي والخدماتي للاقتصاد العراقي التي وظّفتها " النخبة السياسية " في توسيع شبكة "الزبائنية" الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية، وتطوير آليات الاستيعاب والسيطرة. وقد استفادت بعض الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية، بدرجات متفاوتة، من هذه الطبيعة المزدوجة للاقتصاد العراقي: الريعية – الخدماتية. وقد نمت في إطار ذلك فئة بيروقراطية متموضعة في الشرائح البيروقراطية الحكومية والسياسية والعسكرية والأمنية العليا التي تنحدر في الأساس من الفئات الوسطى والفقيرة. إن نقطة تكوين هذه الفئة حدثت جراء "حيازتها" لجهاز الدولة، أي انها "تملك" الدولة من خلال" حيازتها" لأجهزتها. وقد آلت إلى هذه الفئة، بفعل عملية نهب المال العام الشديدة، حصة كبيرة من ثمار " النمو الاقتصادي" الناجم بالأساس عن تعاظم الريوع النفطية. ويعني ذلك، بمصطلحات العلوم الاجتماعية، إن هذه الطبقة قد امتلكت مصدراً اقتصادياً جديداً و"خاصاً" لقوتها يعزّز قدرتها على تطوير الشبكات "الزبائنية. وبسبب طبيعة التشابك بين الثروة والسلطة وإعادة توزيع الادوار لوحظ وبشكل متزايد بروز ادوار اقارب الماسكين بزمام السلطة والحكم من ابناء وأصهار وأقارب، ونشوء انواع مختلفة من الشبكات "الزبائنية" التي شكلت مصدراً اقتصادياً جديداً يعزز قدرة هذه " الشريحة " ويعد واحدا من محددات " قوتها " الاجتماعية. كما تنامى دور البورجوازية الطفيلية التي باتت تضم شرائح "رجال الأعمال الجدد " الذين عمل بعضهم مقاولين ثانويين للقطاع الحكومي وقبلها مع (مؤسسات اعمار العراق) التي انشأها الاحتلال، أو في مجال الوساطة في عقود التجارة الخارجية التي كانت "العمولة" تشكل نسبةً كبيرةً من قيمتها الإجمالية. وخلال هذه الفترة نشأ التحالف " غير المرئي" بين " النخبة " البيروقراطية وبين الفئة الطفيلية في إطار ديناميات العلاقة الزبائنية بينهما. إن المجموعات الطفيلية التي نمت بعد سقوط النظام السابق هي – مع بعض الاختلافات غير الجوهرية - امتداد لتلك التي كانت قد ترعرعت في كنفه، وشكلت أحد مكونات الائتلاف الحاكم آنذاك. وتقوم مجموعات من هذا النوع بدور حلقة وصل بين أقسام من رأس المال الدولي في الخارج، وبين عمليات تفكيك وتصفية ركائز العمليات الإنتاجية، وانتشار الفساد الاقتصادي الواسع في الداخل. ومن جهة أخرى يتعين التأكيد أن الطفيلية ليست ظاهرة قاصرة على القطاع الخاص أو النشاط الخاص، بل إنها تمتد الى القطاع الحكومي، ويعني هذا أن الطفيلية مرتبطة بالفئات المختلفة للبرجوازية. ثمة ملاحظة مهمة لا بد من ابرازها هنا ونقصد بذلك التسييس المتعاظم لقطاعات من " البرجوازية الجديدة "، وتحتاج هذه الملاحظة الى دراسات عيانية للبرهنة عليها. ولكن يمكن ملاحظة هذه الاتجاهات بالعين المجردة ايضا! فنظرة سريعة الى الاحزاب الحاكمة والبرلمان تبيّن انهما اصبحتا احدى الساحات المهمة لنشاط " الرأسماليين الجدد " السياسي. ويبدو أن " رجال الأعمال الجدد " هم احدى الفئات التي تشهد معدلا مرتفعا للتسييس في المجتمع العراقي الآن. وهناك تيار بدأ يستجيب لمقتضيات قيام حلف رأسمالي/طبقة وسطى حديثة ببلورة " فكر إسلامي جديد "، يتبنى فكر "الحرية" الاقتصادية جامعا بين " الحداثة " والعمامة بألوانها المتعددة.. فالمصالح الطبقية واحدة وان اختلفت ألوان العمائم او اللباس العصري!. هنا ثمة سؤال يطرح نفسه: هل نحن بصدد " أسلمة " الرأسمالية أم " رسملة " للإسلاميين؟ بعبارة أخرى هل علينا البحث عن جذور الظاهرة في آليات نمو الإسلام السياسي، أم في آليات تبلور طبقة تبحث عن إيديولوجيا؟ يبدو اننا أمام ما يمكن تسميته بـ "التوافق الورع "، حيث الاتجاه نحو اقتصاد مفتوح على العالم (الذي يعتبره البعض كافرا !) مع تركيز على " آليات إسلامية " لإعادة توزيع الثروة. وما يثير الانتباه هنا ان هذا يماثل تماما نمط "مبادرة الإيمان" التي دعى إليها في حينه الرئيس الامريكي السابق ( جورج دبليو بوش)، التي كانت تهدف إلى تفويض بعض وظائف الدولة "للوسطاء الدينيين" ! انها مفارقة ظاهرية لكن المفاجأة تزول لان الاساس واحد ومشترك عند الطرفين وهو عدائهما المفرط للدولة ومحاولات تحويلها الى مجرد خفير! ومن جهة أخرى لابد من تأشير حقيقة قوامها أن صفوف هذه " البرجوازية الجديدة " اتسعت بضم فئات اجتماعية عديدة إليها، وبخاصة الفئات والقوى الإقطاعية الحاكمة من قبل، والفئات الرأسمالية التجارية والمالية القديمة والبرجوازية النامية داخل الجيش والشرطة والقطاع الحكومي، أي البرجوازية البيروقراطية. لقد تدعمت، وان بمستويات متفاوتة، مواقع المؤسسة الامنية والعسكرية وكبار المسؤولين فيها بفعل السيطرة على مقاليد السلطة والانتفاع بها، واستشراء الفساد والإفساد واستنزاف ثروات البلاد. ويمكن الاشارة ايضا الى حدوث " تلاحم متين " بين جناحي البيروقراطية، المدني والعسكري، وسيكون لذلك تأثير كبير بل وحاسم على اتجاهات التطور التي ستشهدها البلاد خلال الفترة التالية. فالمعطيات تشير الى اننا على ما يبدو امام بدايات التأسيس لعسكرة متعاظمة لا بد من اطلاق ناقوس التحذير من مخاطرها، المرتبطة بتعاظم الريوع النفطية والتوزيع السيئ لها، على بناء الديمقراطية لأنهما ضدان لا يلتقيان مهما امتدا. وبالمقابل لابد من الاشارة الى ان اطلاق العنان لاقتصاد السوق المنفلت (الذي لا تنظم نشاطَه قوانين وضوابطٌ محددة)، واعتماد سياسةِ الانفتاح التجاري والمالي وبدون حدود، في ظل شيوع الفساد المالي والإداري والسياسي، على نطاق واسع، وإبقاء ميزانية الدولة معتمدة ً اساسا على موارد النفط ( وبالتالي تأكيد الطابع الريعي للاقتصاد العراقي)، وتردي القدرةِ الانتاجية الوطنية الى ادنى المستويات، وانتشارُ الفوضى في ادارة اقتصاد البلاد، وفي جميع مرافق الحياة العامة، ان هذا كله لا يمكن ان ينتجَ إلا اقتصادا ريعيا رأسماليا مشوها، وحيدَ الجانب، تابعا، ولا يمكن ان يفرزَ إلا استقطابا اجتماعيا وطبقيا، يهمين فيه تحالف البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية مع الكومبرادور. حيث تتراكم بأيدي القلة ثرواتٌ هائلة، مقابلَ الاغلبيةِ الساحقة من ابناء الشعب، وبالخصوص الكادحين منهم، وبالذات الطبقة العاملة والفلاحون المعدمون، الذين يعانون الفقرَ والعوزَ والحرمان، والاستغلالَ الظالم في ظل غياب القوانين المنظّمةِ للعملية الإنتاجية والضامنةِ للعدالة الاجتماعية. ان عدم تبلور استرايجية اقتصادية – اجتماعية لدى القوى المتنفذة التي تتالت على الحكم، استراتيجية ترتكن الى رؤية محددة تعرف ماذا تريد، افضى الى ان تتخذ اللوحة الطبقية هذا المسار بحيث أصبح يهيمن عليها التحالف الثلاثي المشار اليه اعلاه. تكمن خطورة هذا الاستقطاب، اضافة الى عناصر أخرى في وظيفته الايديولوجية التمويهية من جهة، كما انه يحقق نوعاً من وظيفة "تقاسم السلطة" وإدارة المواقف المختلفة فيها. نحن هنا اذن امام ما يطلق عليه البعض " آليات الاستيعاب/الإقصاء "، معطياً الأولوية لآليات الاستيعاب وتوسيع قنواتها لضمان ديمومة سيطرة الائتلاف الحاكم من دون اية عوائق ! وأخيرا، يمكن القول ان افق المرحلة التي تمر بها البلاد اليوم ليس محسوما لصالح طرف او اطراف عدة بل يبقى مرهونا بمدى قدرة جماهير الشعب والمجتمع المدني بكل مكوناته على التحرك والضغط للإصلاح والتغيير لإخراج البلاد من أزمتها وفتح فضاءات التطور الديمقراطي الحقيقي، السياسي والاجتماعي، والسير على طريق الاعمار والبناء وإقامة دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية، الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية، كاملة السيادة. الحركة المطلبية.. إحدى روافع النضال الأساسية.. الواقع والرهانات الكبرى توقفت الموضوعات السياسية المقدمة الى الاجتماع وكذلك مداولات الاجتماع ذاته عند تنامي الحركة الجماهيرية والمطلبية وسبل تطويرها وإنهاضها. وفي ظروف النضال المجتمعي/الديمقراطي الذي يخوضه شعبنا بمختلف قطاعاته وطبقاته وفئاته وشرائحه الاجتماعية، تبرز الأهمية المحورية للعمل الجماهيري والنشاط الاحتجاجي وضرورات المشاركة الواسعة في إطاره والتأثير على اتجاهاته الرئيسية، باعتباره أحد روافع النضال الأساسية، التي لن يكون بمقدور الحزب أن يؤدي رسالته التاريخية، إلا إذا اعتمد بجدارة على الجماهير الشعبية واجتذبها الى النضال من منطلق الأهداف والمهمات والشعارات التي تنسجم مع المصالح والحاجات الحيوية لهذه الجماهير في اللحظة التاريخية الملموسة ولكن غير المقطوعة عن أفق المستقبل وخياراته الكبرى. ومن الطبيعي الاشارة الى أن تعزيز علاقات الحزب بالجماهير، لا يمكن الوصول إليه آليا عبر الاكتفاء بإصدار البيانات والبقاء في المكاتب، إذ أن الكلمة المحكية المسموعة مباشرة في آذان الجماهير تملك تأثيرا طاغيا أكبر بما لا يقاس من كلمات البيان السياسي على أهميته ودوره. فالعلاقة المباشرة مع الجماهير في مواقعها، عبر المشاركة في الأنشطة والفعاليات التي تقام، هي إحدى الوسائل الهامة للتواصل مع الجماهير والتعبير عن قضاياها. ان الطابع الطبقي لحزبنا يقاس بمدى قدرته على الدفع الصبور، يوما بعد يوم، للنشاط الواعي والمنظم والواسع للناس حول ابسط مصالحهم الحقيقية والمادية والإنسانية اليومية واكتشاف طرق وأشكال توحيد هذه الانشغالات في خضم الصراع من اجل بناء عراق ديمقراطي حر ومستقل وسيد نفسه. وإذا كانت مسألة العلاقة مع الجماهير وإيجاد الاشكال الملائمة لاستنهاضها تشكل مسألة أساسية بالنسبة للشيوعيين في كل الظروف، فهي، في الظروف الراهنة من نضال الحزب، ترتدي اهمية استثنائية. فالوضع الراهن كما هو معروف، يتميز، باحتدام الصراع وتفاقم الاستقطاب الطائفي والمشكلات الاجتماعية وتعمق الازمة البنيوية وتردي الخدمات ..... الخ. وبكلام اخر فان افاق تطور العملية السياسية الراهنة ستتحدد، ولمرحلة مقبلة من الزمن، في ضوء هذا الصراع. وما من شك في ان دور الجماهير يشكل عاملا اساسيا في حسم هذا الصراع الشامل المحتدم. فقد بينت التجربة انه وبدون ادخال العمل الجماهيري لن تحل الازمة البنيوية المتفاقمة فهو الوسيلة لتغيير الواقع. وفي هذا الاطار لا بد من التحذير من ثلاثة اتجاهات: • الأول الاتجاه الذي يبخس هذا الشكل النضالي ويعتبره نشاطا نخبويا. • الثاني، المبالغة في هذا الدور، والنظر اليه باعتباره الشكل الوحيد وليس في وحدته الجدلية وارتباطه الوثيق مع اشكال النضال الاخرى. • اما الثالث، فيتمثل في النظرة الى العمل الجماهيري باعتباره مجرد نشاطات عفوية غير مرتبطة بإستراتيجية محددة، اي تنطرح بقوة هنا اشكالية النشاط الواعي والمنظم. خلال الفترة التي تلت انعقاد المؤتمر الوطني التاسع لوحظ تنوع أشكال النضال المطلبي. ويمكن تمييز الاتجاهات التالية: - مبادرات وتحركات جماهيرية عديدة لمجموعات شبابية، عكست رغبتهم في التغيير، وقدرتهم على ابتكار اشكال جديدة للتحرك والتنظيم. - فيما اتخذ الحراك الشعبي اشكالاً متنوعة اخرى وشمل فئات وشرائح اجتماعية وقطاعات اقتصادية ومناطق جغرافية مختلفة. فقد تم تنظيم العشرات من الفعاليات والنشاطات الاحتجاجية في بغداد والمحافظات احتجاجاً على تردي الخدمات، وبعض التشريعات المقيدة للحريات وللمطالبة بتحسين الاجور وتوفير فرص العمل. - كما شهدت العديد من الجامعات اعتصامات وإضرابات طلابية من اجل توفير اقسام داخلية وضد التدخلات والقيود على الحريات الشخصية، وخصوصاً على الطالبات، ولتحسين ظروف الدراسة وغيرها من المطالب المتعلقة بظروف دراسة ومعيشة الطلبة. - تصاعد الحراك على الصعيد الثقافي انعكس بالفعاليات والمبادرات والنشاطات التي تقيمها الاتحادات والجمعيات والمنتديات الأدبية والفرق المسرحية ونوادي الشعر والمعارض التشكيلية. - كما نشط ايضاً خلال الفترة الماضية المتقاعدون فأسسوا جمعية لهم امتدت فروعها إلى جميع المحافظات العراقية وقاموا بالعديد من المظاهرات والاعتصامات في معظم المحافظات العراقية دفاعاً عن حقوقهم ومطالبهم العادلة. - وفي الاسابيع الاخيرة دخل عنصر جديد ونوعي في الحركة المطلبية اكسبها اضافة الى طابعها الاجتماعي العام مضمونا طبقيا حيث تصاعدت النشاطات العمالية دفاعاً عن حقوق العمال وحرياتهم النقابية ضد تدخلات المؤسسات الحكومية في شؤونهم، وشرعوا بتنظيم انتخابات ديمقراطية للجان النقابية شارك فيها آلاف النقابيين في جميع محافظات العراق. وبعد استعراضها لطبيعة الحركة المطلبية واتجاهاتها الأساسية استخلصت المداولات، استنتاجا قوامه ان هذه الحركة تبعث على الثقة والتفاؤل، وتبين ايضا القدرات والطاقات التي يختزنها شعبنا والتي تكشف بعضها هذه الفعاليات، و الحضور والمشاركة الفاعلة للشباب فيها، وامتدادها على جميع المناطق بما في ذلك الاحياء الشعبية. ومن هنا تأكيد الاجتماع على ضرورة إعارة الاهتمام لذلك ورعاية هذه الحركات والمساهمة فيها ، بعيدا عن إضفاء طابع حزبي ضيق عليها. ان تحليل النشاطات السابقة يؤكد على جملة من الحقائق من بينها ما يلي: أ. ان مسألة العلاقة مع الجماهير، وإيجاد الأشكال الملائمة لاستنهاض وتطوير الحركة الجماهيرية، تعتبر مسألة أساسية، في كل الظروف، بالنسبة للحزب الشيوعي. بل ان هذه المسالة تشكل احد المعايير الأساسية لنشاط الحزب، ومحكا لجدوى نضاله وفعاليته. ب. ونظرا لان الوضع الراهن كما هو معروف، يتميز، باحتدام الصراع وتفاقم الاستقطاب الاجتماعي وما يرافقه من مشكلات، وتعمق الأزمة الاقتصادية وتنوع الخيارات المطروحة لحلها، فان آفاق تطور العملية السياسية الراهنة ستتحدد، ولمرحلة مقبلة من الزمن، في ضوء هذا الصراع وما ينتج عنه. وما من شك في ان دور الجماهير يشكل عاملا أساسيا في حسم هذا الصراع. ومن جانب اخر فان امتلاك القدرة على تحقيق هذا الدور من جانب الحزب انما يفرض الأخذ بالاعتبار، وبثبات، جملة من المنطلقات الاساسية أبرزها: • التحديد الصحيح لطبيعة المرحلة والحلقة المركزية التي يواجهها الصراع الطبقي والاجتماعي في هذه المرحلة. • اعتماد اشكال النضال التي تفرضها طبيعة المرحلة وظروف البلد، والقدرة على معرفة اختيار الشكل الرئيسي بينها، وبالأخص الاستعداد لاستخدام كافة اشكال النضال وللانتقال من شكل الى آخر كشكل رئيسي، عندما يفرض ذلك تغير الظروف أو تطورها. وإذا كان النجاح في اختيار الشكل المناسب للظرف المناسب يعتبر احد الشروط الاساسية للنجاح في استقطاب الجماهير واستنهاضها وتطوير الحركة الجماهيرية، فان من هذه الشروط ان يترابط الاستعداد لكافة اشكال النضال مع التوجه نحو اعداد الجماهير لها. • ايلاء اهتمام خاص للقضايا الملموسة، والمباشرة، التي تهم الجماهير الشعبية من الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة. • الحرص على العلاقة الجدلية بين الاستراتيجية والتكتيك وممارسة التقدم والتراجع في إطارها وآخذا بعين الاعتبار ميزان القوى ومستوى وعي الجماهير واستعدادها الكفاحي. • اعتماد اللغة المفهومة لدى الجماهير في معالجة القضايا وطرح البرامج والشعارات. • اهمية الحفاظ على الوجه المستقل للحزب الشيوعي وطرح برنامجه والتوجه الى الجماهير على هذا الأساس، وبالمقابل بناء التحالفات الضرورية لتحقيق برنامجه وأهدافه في الفترة التاريخية الملموسة. • الدفاع الثابت عن قضايا الديمقراطية والحريات العامة والخاصة للجماهير والنضال في سبيلها تشكل على الدوام، كما هي في ظروف الوضع الحالي، قضية اساسية من قضايا العمل الجماهيري. • خوض الصراع الفكري وايلاء المزيد من الاهمية والجهد، خاصة مع تزايد دوره في الظروف الراهنة واتجاهه اكثر فأكثر نحو الجماهير الواسعة. إن التاريخ هو المختبر الوحيد للعلوم الاجتماعية، وبدون معرفة دروسه، فلن يكون ماركسي اليوم إلاّ "طالب طب" يرفض الدخول إلى غرفة التشريح. وقد اكدت التجارب الملموسة للحزب أنه بدون العمل بين الجماهير لا يمكن للمرء أن يكون شيوعياً حقيقياً، ذلك أن كل مغزى تميّز الحزب في حزب طبقي ووطني مستقل يكمن، الى حد كبير، في أنه يمارس هذا العمل ويستنهض الطاقات لخلق حركة شعبية واسعة وواعية، دون أن يسمح لأية عواصف سياسية أو اجتماعية طارئة أن تبعده عن هذا الينبوع المتدفق والنشاط الحي، الضروري على الدوام، في مختلف الأزمنة. هذا هو الطريق السليم لأن يتحول امر تنشيط الحركة الجماهيرية المطلبية الى جزء عضوي من إستراتيجية الحزب الرامية الى بناء حزب جماهيري وانتخابي ..... حزب للأمل والعمل معا دون ان يعني ذلك ان يكون وصيا على تلك الحركة بل ناشطا ومحفزا ومنظما من خلال فاعلية رفاقه ورفيقاته. إنها لصائبة كلمات ماركس المشهورة في هذا المجال: " يحتاج المربي هو ذاته للتربية ". فهذه الكلمات تصف بصورة دقيقة واقع الحال هذا. يتكامل مفهوم ماركس في الواقع بالفكرة التالية: فقط " في النشاط الثوري (…) يتطابق تحويل الذات مع تحويل الظروف". ان هذا الفهم قائم على إدراك أن النظرية لا تبرهن على مبرر وجودها إلاّ في علاقتها بالنضال الملموس. الآفاق... نحو اصطفاف سياسي مدني ديمقراطي واسع
في ضوء هذه اللوحة السياسية الاجتماعية المعقدة بفعل جملة العوامل التي جرت الإشارة إليها أعلاه، وإزاء التحديات الوطنية الكبرى في المجالات المختلفة التي تواجه البلاد، وما جرّه عليها المشروع الطائفي من أزمات، أكدت المداولات على ان ثمة تطلع ووعي يشق طريقه وسط قطاعات متنامية من الشعب وفي سائر أرجاء الوطن، يؤكد انشداده إلى إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية اتحادية ومدنية عصرية. ويعبر هذا النزوع عن نفسه بأشكال متنوعة وفي مناسبات مختلفة. واستنتجت المداولات انه لا فكاك من أزمة نظام المحاصصة الطائفية والاثنية إلاّ بتغيير ميزان القوى السياسي في المجتمع، لصالح بناء نظام عابر للطوائف وخنادقها المتقابلة والذي هو ليس سوى المشروع الوطني الديمقراطي، الذي سيخلق الشروط لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية العصرية على اساس المواطنة والحريات والعدالة الاجتماعية. فالكتل السياسية النافذة التي تتقاسم السلطة والمغانم، لا مصلحة موضوعية لها في انهاء نظام المحاصصة أو الشروع بالخروج منه، رغم معرفتها بمساوئه وانتقادها العلني له. تحتاج البلاد اليوم، إذن الى بديل اخر. غير ان تحقيق ذلك مرتبط بعوامل عديدة من بينها بل وأهمها هو تبلور الكتلة التاريخية القادرة على انجاز هذه المهمة وهذه عملية وليس لحظة. ونظرا لأنه لا يمكن الحديث عن البديل بشكل مجرد بل ملموس فان الخطوة الاولى هنا هي تحديد القوى القادرة حقا على بناء هذا البديل الذي ينبغي ان لا ينحصر همه في الانتخابات القادمة فقط، على اهمية ذلك، بل بالرهان على طرح مشروع اخر يشكل نفيا لمشروع المحاصصات والعمل على تحقيق البديل. وأكدت مداولات اللجنة المركزية ان القوى المدنية الديمقراطية المؤتلفة في اطار (التيار الديمقراطي) تتحمل اليوم المسؤولية الأولى في الشروع ببناء ائتلاف انتخابي واسع، يعمل على اخراج العراق من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية، وتوفير شروط ومستلزمات اقامة الدولة المدنية الديمقراطية، الى جانب برنامج عملي لتحقيق العدالة في توزيع الموارد واستخدام الثروة النفطية. وأشارت المداولات الى انه من الممكن ان يتسع نطاق هذا الائتلاف ليشمل جماعات سياسية وطنية متنوعة المنطلقات الفكرية، شرط ان يجمعها الالتزام بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والعمل من اجل دولة المواطنة. وأكد الاجتماع على ان انتخابات مجالس المحافظات القادمة توفر فرصة للمبادرة الى اجراء الاتصالات واللقاءات مع الأطراف السياسية المختلفة، للتباحث بشأن المشتركات وتنسيق الجهود من اجل توفير شروط الانتخابات النزيهة وأيضا تدشين الارضية لائتلاف وبناء تحالفات عريضة تضم شرائح اوسع بدأت تعبر عن نفسها بأشكال متعددة. وفي هذا السياق توقف الاجتماع عند الخطوات التي تحققت على طريق تفعيل نشاط الشيوعيين في اطار التيار الديمقراطي والتي تضع أطراف ومكونات هذا التيار، ومنهم حزبنا، أمام مسؤولية العمل الجاد والمثابر من أجل استنهاضه وتنشيط دوره في الحياة السياسية. واستنتجت المداولات بان النشاطات التي جرت لحد الآن تمثل بداية طيبة هذا من جهة. ومن جهة أخرى فان هذه النشاطات التي قام بها التيار ورغم الاستجابة الواسعة لها، بحاجة إلى تطوير وتوسيع في فعالياتها وضم قوى وأطراف جديدة. وهنا لا بد من الإشارة الى ان عموم مبادرات الحزب أكدت، في الكثير من المناسبات، على أهمية التيار الديمقراطي وعلى ضرورة اللقاء والتشاور وفتح نقاش عميق متحرر من " الصياغات الجاهزة "، نقاش يصوغ أسئلة حقيقية حول الواقع الراهن ومشكلاته الفعلية، ويرسم الأهداف الكبرى التي يناضل من اجل تحقيقها في المستقبل. والآن وقد تأسس هذا المنبر/التيار فان هذه الوجهة ما زالت هي التي تحكم نشاط منظمات الحزب ورفاقه. فالشيوعيون لا ينظرون الى نشاطهم ضمن التيار الديمقراطي من منظور تكتيكي عابر بل ينطلقون من مقاربة استراتيجية لدور هذا التيار ومن فكرة بناء بديل للنظام الراهن، نظام المحاصصات المستند الى الهويات الفرعية وليس الى الهوية الوطنية. وهم على قناعة تامة ان تحقيق هذا البديل يحتاج الى أفق أوسع والى قوى جديدة وتحالفات واسعة تكون قادرة على احداث تغيير حقيقي في تناسبات القوى الفعلي وليس اعادة انتاج النظام الراهن الذي اصبح عائقا امام بناء الدولة المدنية الديمقراطية العصرية. وإذ يرى الحزب الشيوعي العراقي ان مستقبل التيار الديمقراطي واعد حقا، فانه ومنعاً لأي التباس في فهم مضمون هذه الأطروحة لا بد من التأكيد على أن الأمر لا يتوقف على حتمية قدرية ولا ضربة حظ ، بل على جملة من المستلزمات والشروط تعمل قوى التيار الديمقراطي على توفيرها. اليسار ايضا في قلب المشروع العابر للطوائف ومن جانب اخر فانه وعلى طريق بناء اصطفاف سياسي مدني ديمقراطي واسع فإن الحاجة الموضوعية لنهوض اليسار العراقي وزيادة فاعليته تزداد إلحاحاً في الظروف الراهنة للمجتمع العراقي حيث نظام المحاصصات هو السائد وما يقترن به من استقطاب طائفي يحرف الحراك الاجتماعي عن وجهته الحقيقية وبالتالي يعطل الجدليات الاجتماعية لصالح تأبيد المحاصصات الطائفية والقومية والاثنية وإعادة انتاجها. وفي تناوله لهذه القضية اشار المؤتمر الوطني التاسع للحزب – عبر التقرير السياسي – الى ان لا شيء يمنع التقاء القوى والتنظيمات اليسارية وتعاونها وإيجاد صيغ للتنسيق، من دون وضع ذلك في تعارض مع بناء وحدة القوى الديمقراطية، ومع تفعيل الدور السياسي للتيار الديمقراطي. وتبين التجربة انه ليس هناك من سبيل أمام قوى اليسار للوجود الفاعل في المجتمع العراقي سوى توحيد الصفوف والعمل الجاد نحو الوحدة في اطار التنوع. فما موجود من أحزاب وتنظيمات وتجمعات يسارية، وهي ليست قليلة، يمكن أن يتحول إلى شئ أكبر من مجموعها الحسابى الصرف إذا ما عقدت هذه القوى العزم على بناء تكتل يساري واسع، وذلك انطلاقاً من المهمات المطروحة في المرحلة الحالية وما تحمله من آفاق. ولا شك أن نقطة البدء الصحيحة على طريق بناء تكتل يساري واسع هو الحوار الذي يتعين أن يكون حواراً موجهاً لفعل، يدخله الجميع بهدف بناء كتلة يسارية عريضة، وبذهنية التوصل إلى توافقات مشتركة، وليس فرض رؤية مسبقة. وكلما دار الحوار حول قضايا البرنامج المشترك بهذه الروحية كلما ازدادت فرص التوصل إلى نتائج صحيحة والقيام بأعمال محددة وملموسة. ويمكن ان يتوج هذا النشاط بعقد مؤتمر، على غرار مؤتمر قوى وشخصيات التيار الديمقراطي، لإقرار برنامج للعمل المشترك، مرحلي وربما بعيد المدى، يخلق الامكانية لان تشكل هذه الكتلة التاريخية قوة مؤثرة في المشهد السياسي في بلادنا في لحظة تطوره المتوترة اليوم وأن تكون قطباً للوحدة والعمل والأمل. و لا طريق أمام القوى اليسارية المتنوعة المشارب والمرجعيات غير اعمال العقل والحوار المتفتح بهدف الوحدة وبدون مواقف مسبقة أو مقاربات تحمل أجوبة معلبة وجاهزة تجاوزها الزمان! التطورات في البلدان العربية
وبالمقابل توقفت المداولات عند الوضع في البلدان العربية وأكدت على ان الاستنتاجات التي توصل اليها المؤتمر الوطني التاسع بشان الانتفاضات الشعبية، التي جرت في العديد من هذه البلدان ورؤية الحزب لها، ما زالت صحيحة في توجهاتها العامة ومنطلقاتها الرئيسية. وبالمقابل توقفت المداولات عند الجديد الذي شهدته هذه الانتفاضات بعد المؤتمر الوطني التاسع وما يثيره تطورها ومآلاتها من اسئلة وقضايا تستحق التوقف والمعالجة. اشكالية مقدمات " الربيع العربي " ونتائجه
ومن بين القضايا التي تتطلب التوقف هو السجال الساخن الذي لا يهدأ حول مفهوم " الربيع العربي" لدرجة ان البعض بدأ يتحدث عن " الخريف العربي " خصوصا بعد فوز قوى الاسلام السياسي في الانتخابات التي جرت في بعض البلدان العربية. غير أن الكثير من الدراسات والأبحاث حول هذه القضية قد لا يساعد على توضيح سجال يشوبه الكثير من الالتباس والغموض، حتى تحول ما حدث في العديد من البلدان العربية الى أسطورة عصية على التفكير والفهم، وليس مفهوماً قابلاً للتفكيك والفهم والنقد. ومن هنا فان ثمة سؤالاً مهماً يطرح نفسه بحدة علينا: من أين منبع التشوه الذي ولده مصطلح " الربيع العربي " ؟ قبل الاجابة على هذا السؤال لا بد من الاشارة الى ان هذا المفهوم، على ما يبدو، يواجه نفس مصير مفهوم العولمة وما نتج عنه من تشوش. وبالنسبة لمفهوم العولمة يمكن القول ان هذا التشوش كان قد نبع من التناقض الكامن في ظاهرة العولمة: بين الوعد الإنساني الذي تحمله باعتبارها ظاهرة موضوعية وبين شكل تمظهرها الحالي، العولمة الرأسمالية. فالعولمة، كظاهرة موضوعية، تستند إلى التقدم الهائل في تقنيات المعلومات والاتصالات وتحول المعرفة العلمية إلى قوة انتاجية مباشرة، اما إشكال تجليها حاليا والقوى المتحكمة في اتجاهاتها ومسارها فهي تخضع لمنطق الرأسمال والربح، وبالتالي باتت شكلاً جديداً من أشكال السيطرة والهيمنة. لذلك فانه عندما يجري الحديث عن ضرورة التصدي للعولمة فإن المقصود بذلك ليس الظاهرة الموضوعية ذاتها، إنما رفض تجليها الراهن أي العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تشق طريقها اليوم لصالح حفنة محدودة من الشركات متعدية الجنسية وبعض القوى المسيطرة في قلاع رأس المال ضد مصالح الشعوب. نفس الشئ ينطبق على مفهوم " الربيع العربي " اذ يجب التمييز وعدم الخلط بين ما حققه الحراك الاجتماعي والانتفاضات الشعبية العارمة من منجزات تجلت باسقاط انظمة وانفتاح الافق لمرحلة جديدة من النضال، وبين المسار الذي اتخذته في بعض البلدان وصعود قوى لم تكن قد شاركت بفعالية في تلك الانتفاضات او شاركت فيها لاحقا. نعم، هذه الانتفاضات مجيدة، علما ان صعود بعض القوى التي كانت على هامش الثورة لا يقلل من أهمية تلك الانتفاضات، فلابد أن نرى الأحداث على حقيقتها. نحن نتحدث عن ثورة لم تنجز بعد بحسب ما نعنيه كماركسيين. الثورة بالمعنى الماركسي تعني تغيير النظام الاجتماعي، واستبداله بنظام جديد بملامح جديدة. وهذه العملية لم تستكمل بعد فهي في مراحلها الأولى، مرحلة الانتفاضة الثورية السلمية التي هزت العروش وأسقطت رموز ولكنها لا زالت لم تؤسس البديل المطلوب الذي ما زال موضع التطبيق الفعلي. وهذا يدفعنا للتاكيد على ضرورة التمييز بين مفهومين اساسيين: مفهوم الانتفاضة ومفهوم الثورة وضرورة الاخذ بهما عند المعالجة المنهجية لهذه القضايا فلا يجوز التلاعب بالمفاهيم خصوصا وان الامر لا يتعلق في تأمل نظري بل بتشخيص المرحلة وتناقضاتها الملموسة وطبيعة قواها المحركة وتناسبات القوى السائدة فيها، في مثل هذه اللحظات المتوترة والمفتوحة على مختلف الاحتمالات. خلاصة القول انه ومهما كانت مآلات الحراك الاجتماعي الذي شهدناه ونشهده الآن فإن مرحلة جديدة قد بدأت، من سماتها الانتقال من طور الاستبداد الى طور التحولات الديموقراطية. وهو طور انتقالي واستثنائي يختلف في مدته الزمنية وانعطافاته، صعودا ونزولا، من بلد عربي الى آخر. وببساطة شديدة نحن امام معركة بدائل مفتوحة بين القوى التي تريد تغير النظام – الثورة الاجتماعية – وبين تلك التي تريد تغيرا في النظام – الثورة السياسية. وسنشهد خلال الفترة اللاحقة تنافسا بين القوى حول طبيعة و مدى التغيير المطلوب؛ وفيما إذا يجب المضي بالتغيير نحو مزيد من التجذير ليشمل لا فقط تغيير القادة والمسؤولين الكبار ومحاسبة الفاسدين وإصلاح النظام، بل ليمتد إلى إحداث تغيير جذري في بنية الحكم و طبيعة النظام القائم. المعركة إذن ستظل مفتوحة حول طبيعة ومضمون البديل الذي تستحقه شعوب البلدان التي انتفضت. وبالمقابل سنلحظ ايضا محاولات محمومة لاحتواء الحركات الثورية والالتفاف عليها وسرقة منجزها. لا شك أن السيرورة فتحت وحُقّق تقدم ملحوظ باتجاه كسر احتكار السلطة لمصلحة تداولها، التي من الصعب بعد اليوم أن تكون من نصيب حزب واحد إلا من خلال صناديق الاقتراع فثمة انتخابات جرت، ومراحل انتقالية هي في طور الاستمرار، دون أن يعني الأمر أنّ النتائج مضمونة، فصناديق الاقتراع لا تختصر الديموقراطية، وتلك الأخيرة لا تعني شيئاً دون تحقيق تطور سياسي/ اقتصادي يحقق مطالب الطبقات الشعبية المفقرة اقتصاديا، والشعب الذي يتطلع إلى المشاركة الفعالة في صناعة القرار. أين موقع الطبقات الشعبية في الصراع حول افق الانتفاضات الشعبية؟
المعركة ما زالت مفتوحة
لا تزال النظم في البلدان العربية عبارة عن رأسماليات تابعة، لكن علينا ان ننتبه الى حقيقة ان الطبقات الشعبية لم تثر ضد التحالف البيروقراطي – الطفيلي - الكومبرادوري من أجل تحقيق تغيير في شكل النظام. وإذا كانت عاجزة حتى الآن عن تحقيق التغيير الجذري الذي يحقق مصالحها، فإنها سوف تظل تناضل إلى أن تحقق هذه المصالح. بمعنى اخر أنّ التغيير الذي تحقق لن يقود إلى تهدئة هذه الطبقات، بل سيكون " مرحلياً "، وبالتالي فان المعركة ستظل مفتوحة وستشهد الفترة المقبلة احتدام الصراع الاجتماعي، صراع البدائل.. فمآل الانتفاضات الشعبية ما زال مفتوحا بين بديلين كبيرين: بين بديل يريد تقميط هذه الانتفاضات في افق النظام الراسمالي التبعي، بغض النظر عن التجليات التي يتخذها، الذي يعيد انتاج الاستغلال مع بعض التلطيف للتناقضات الاجتماعية، وبين بديل يتجاوز هذا النظام. إن ما يجب أن يلمس اليوم هو " روح " الانتفاضات التي بدأت، لا شكل التغيير الآني، لأنّ خروج المارد، أي الطبقات الشعبية، من القمقم قد فتح الأفق لصراع لن ينتهي إلا بتحقيق مطالب هذه الطبقات. المطلوب اليوم في مواجهة التحالف البيروقراطي – الطفيلي – الكومبرادوري الذي سقط والاقتصاد الريعي الذي قام عليه، تغيير النمط الاقتصادي الريعي هذا من أجل تأسيس اقتصاد منتج، هو وحده الذي يضمن حلا حقيقيا لمشكلات الطبقات الشعبية التي عانت من مرارات الاستقطاب والتهميش والاقصاء من حقلي الانتاج والاستهلاك في النظم الريعية التي انهارت او التي ما زالت في طريقها للرحيل. ولا شك في أنّ هذا النهوض الثوري الذي أفضى الى اندفاع الطبقات الشعبية المفقرة والمهمشة الى خوض الصراع، والى انخراط الشباب منهم فيه، يفتح على أفق جديد، لكن ذلك يحتاج الى وقفة من أجل إعادة صياغة الرؤية انطلاقاً من فهم الواقع، وأساساً إعادة صياغة الوعي لدى المنخرطين الجدد في النضال الطبقي/الاجتماعي وتجلياته الجديدة. ومن هنا وفي هذا السياق، فإن بناء البديل الديمقراطي، مشروط بقدرة القوى الديمقراطية واليسارية على الالتحام الحقيقي في صفوف الجماهير لمزيد من توعيتها بمصالحها وبمستقبلها وصوب المزيد من وضوح رؤاها وبرامجها في إطار البديل المنشود. التدخلات الاقليمية .... محاولات محمومة لحرف مسار الانتفاضات الشعبية وبالمقابل هناك التدخلات الاقليمية التي تحاول التاثير بالأحداث وفقا لأجندات الدول المحيطة. وفي هذا المجال يمكن الاشارة الى تعاظم الدور التركي (وورائه بعض البلدان كالسعودية وقطر مثلا) ومحاولاته التأثير في مسار الانتفاضات الشعبية. وهنا يمكن ملاحظة سعي تركيا للعب دور الحاضنة والدولة- المرجعية لكل حراك سياسي في المنطقة ومحاولتها اضفاء طابع طائفي عليه. وهو ما ظهر مثلا من خلال تبني الحكومة التركية لأخوان سوريا ومصر. وقد حرص الأتراك ومن خلفهم الولايات المتحدة ان تكون التجربة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية؛ بمثابة نموذج يحتذى في البلدان العربية وعلى الثورات السياسية العربية اقتفاء أثره. هذا مع العلم ان الدور الجديد المناط بتركيا كعضو في حلف شمال الأطلسي في المشروع الأميركي للشرق الأوسط هو ان تعمل كعرابة لما يسمى بـ " الإسلام السياسي السني " في مواجهة ما سمي بـ " التمدد الشيعي " القادم من إيران. تركيا إذاً منوطا بها موازنة الصعود الإيراني بالمعنى السياسي والاقتصادي والثقافي مدعومة من أمريكا وستكون النموذج أو الموديل البديل عن الموديل الإيراني. الوضع في سوريا توقفت المداولات ايضا عند تطورات الاوضاع في سوريا من زاوية تأثيراتها وتداعياتها الاقليمية وعلى الاوضاع في بلادنا وإمكانيات توظيفها من طرف المتخاصمين من القوى المتنفذة لبناء تحالفات جديدة او تفكيك التحالفات القائمة. ونظرا لان الحزب قد عبر سابقا عن وجهة نظرة بشان ما جرى ويجري في سوريا في مناسبات عديدة فانه من غير المناسب هنا تكرار المواقف السابقة. وفي هذا الصدد يمكن التركيز على القضايا التالية: • مع الشعب السوري في خياراته فهو وحده المسؤول عن تقرير مصيره بنفسه. ومن هنا نحن ضد أي تدخل اجنبي وتحت اية مبررات كانت لقناعتنا وانطلاقا من تجربتنا الملموسة انه – أي التدخل الاجنبي – وخيار الحرب قد يسقطا نظام ما لكنهما لن يجلبا الديمقراطية. واستنادا الى تجربة بلادنا، وبلدان اخرى بعدها وقبلها، تبين ان قضية تغيير انظمة الحكم بالقوة العسكرية تندرج ضمن استراتيجية " الفوضى المنظمة " التي اطلقتها الولايات المتحدة وتتبناها العديد من البلدان الاوربية. • ضد اية ممارسات قمعية للشعب حينما يعبر هذا الاخير عن مواقفه بطرق سلمية وديمقراطية. علما أن رهان النظام على الحل الامني – العسكري ادى الى تعقيد الازمة وليس الى ايجاد حلول لها. • دعم التوجه الديمقراطي المدني وادانه التطرف والارهاب والعنف واستخدام السلاح من أي طرف كان لحل مشكلات سياسية تواجه البلاد. • ضد سياسة المحاور والوقوف مع هذا الطرف او ذاك عند تعامل السلطات في بلادنا مع هذه الازمة. لذا يتعين على الحكومة العراقية تجنب الانخراط في لعبة المحاور الاقليمية او الدولية، والانطلاق من مصالح العراق الاساسية عند تعاملها مع الازمة السورية وما يطرح لها من مشاريع حلول. الوضع الدولي – بعض معالم القديم/الجديد
اكدت المداولات على ضرورة تضمين الموضوعات السياسية المظاهر والتجليات الجديدة التي شهدها العالم الراسمالي المتطور خلال الاشهر الاخيرة حيث شهد تفاقم الصراعات الطبقية وتعمق الازمة البنيوية المتعددة الصدد وتجليها الصارخ في الازمات المالية التي طالت العديد من البلدان الاوربية. وبعيدا عن العموميات، يمكن القول ان ثمة العديد من السمات المميزة للأزمة العالمية الراهنة توضح حجم مخاطرها وما تركته وتتركه من تحديات أيضا. ومن بين سمات هذه الازمة حدّتها وعمقها، وبعدها العالمي، وعولمة اجراءات مواجهتها، والتوزيع غير العادل لأعبائها، وأخيرا كون هذه الازمة ليست مفاجئة ولا بنت لحظتها كما يروج البعض، بل هي تمثل لحظة اختتام التناقضات المتفاقمة التي كانت تعتمل في القطاع المالي منذ عدة سنوات. وفي إطار الصراع بين المراكز الرأسمالية الكبرى حول الهيمنة والنفوذ، اعتادت الدوائر الأوروبية المهيمنة ان توجّه اتهامات مباشرة للمضاربين. وفي اطار هذا الصراع فان بعض المصارف ووكالات الاقتراض وخاصة الأميركية تغذي الأزمة الحالية بحثا عن الكسب أولا ولإلحاق أكبر قدر من الضرر بمنطقة اليورو والعملة الأوروبية، دون ان تتحدث ايضا عن السياسات النيوليبرالية المسؤولة عن تلك الازمة والتي وفرت لهؤلاء المضاربين والمصارف ان يمارسوا نشاطهم بحرية وفقا لسياسة " اليد الخفية " ومفاعيل السوق المنفلتة من أي ضوابط. ومن جانب اخر شهدت الاشهر الماضية تفاقم الازمة المالية في الاتحاد الاوربي مما عرض منطقة اليورو ومعها الاتحاد الاوربي الى الانفجار على وقع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية وانعكاساتها المدمرة على كل البلدان الأوروبية دون استثناء، بدءا باليونان ووصولا الى ألمانيا وان تفاوتت من بلد لآخر من حيث عمقها وحدّة مفاعيلها. ورغم كل ما اتخذ من تدابير لوقف التردي فانها لم تعد مهددة بالإفلاس فقط تلك البلدان مثل اليونان وايرلندا واسبانيا وايطاليا بل حتى فرنسا وبريطانيا وألمانيا. وعند الانتقال من العام الى الخاص ولنأخذ اليونان مثالا ملموسا سنرى ان هذا البلد عاش خلال الاشهر الاخير واحدة من اسوأ واخطر الازمات التي تمظهرت اولا في الجانب المالي ثم تحولت بسرعة الى ازمة بنيوية كان من نتائجها اسقاط ذراعي الأوساط المالية هناك: الحزب الاشتراكي (باسوك) وحزب الديموقراطية الجديدة اليميني، نتيجة الازمة المتفاقمة وإذعان النخبة الحاكمة في اليونان لبرنامج التقشّف، الذي أملته الأوساط المالية في الاتحاد الأوروبي وبالتعاون مع المؤسسات المالية والنقدية الدولية الرأسمالية وفرضته فرضاً على الشعب اليوناني. ويمكن القول أن أزمة اليونان الحالية تعد من أكبر تحديات " النظام العالمي الجديد " منذ سبتمبر/ايلول 2008 وأكبر تحد للاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه نظرا الى ما يمكن أن تؤدي إليه ضغوطها المتزايدة من عواقب وخيمة، تهدد بانتقال العدوى إلى بعض بلدان الاتحاد الأوروبي ولا سيما البرتغال وإسبانيا وبدرجة أقلّ أيرلندا وإيطاليا. وقد ادت الازمة الى تصاعد النضالات الطبقية ضد ارباب العمل وضد القمع الذي تقوم به الحكومات في هذه البلدان ومؤسساتها الامنية. هكذا اذن يبيّن مسار الاحداث ان الاتحاد الاوربي وخصوصا (منطقة اليورو) تعد واحدة من الحلقات الضعيفة في الاقتصاد العالمي حيث شهدت السنوات التي تلت انفجار الازمة في عام 2008 تداعيات اقتصادية كبيرة. ففي البداية ضرب تسونامي الازمة بلدان " الاطراف " في منطقة اليورو: اليونان والبرتغال وأيرلندا. غير ان الازمة لم تظل محصورة في منطقة " الاطراف الاوربية " بل ما لبثت ان انتقلت الى " مركز " المنطقة لتطول بلدان مثل اسبانيا وايطاليا وهذان البلدان يحتلان موقعا مهما في منطقة اليورو حيث يمثلان 17% و11% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه المنطقة على التوالي. وفي خطوة ذات دلالة وافق الاتحاد الأوروبي على تقديم دعم لليونان لإنقاذ اقتصادها المعرض للانهيار بسبب الفساد و السياسات الاقتصادية والمالية التي اتبعت في سنوات الوفرة المالية وسهولة الحصول على التسهيلات الائتمانية من المؤسسات الأوروبية العاملة في نطاق الاتحاد ومن مؤسسات التمويل الدولية، مما ضاعف من الديون المترتبة على هذا البلد وعجزه عن السداد. والحقيقة أنه لم يكن أمام (الاتحاد الأوروبي) إلا القيام بمثل هذه الخطوة لمحاصرة الأزمة اليونانية ليس دفاعا عن اليونان بحد ذاتها بل من اجل وقف تداعياتها وامتدادها لبقية أعضاء الاتحاد، ذلك لأن العجز عن السداد أو إعلان الإفلاس سيكبد المؤسسات المالية والمصارف الأوروبية مليارات من اليورو. والمتابع للأحداث سيلاحظ حجم التأثير الذي يمكن أن يحدث إذا ما تفاقمت الأزمة على مستوى اقتصاد أوروبا بشكل خاص وعلى الاقتصاد العالمي بشكل عام، بخلاف الأضرار السياسية التي يمكن أن يتكبدها الاتحاد الأوروبي. والخلاصة التي يمكن استخلاصها هي أن مسار الأحداث الفعلي لتطورات الأزمة اليونانية بيّن أن هناك خللا بنيوي تعاني منه المنظومة الرأسماليّة العالمية. وهذا الخلل يترجم في شكل انفجار فقّاعات متتاليّة في قطاعات نمت بطريقة مصطنعة. وبلغة الاقتصاد السياسي، يمكن الاستنتاج أن هذه الأزمة وعمقها وتداعياتها والإجراءات التي اتخذتها السلطات اليونانية، بالتعاون مع الأقطاب الرأسمالية الأخرى وتحت ضغوطاتها، تبين أننا أمام أزمة بنيوية عميقة وليس أزمة مالية عابرة. وسيكون الخروج من هذه الأزمة مكلفا وسيستحث تبلور أنماط جديدة من التحالفات ذلك لان التناقض بين الامبرياليات يفاقم الازمة مما يفرض ترتيبا جديدا ايضا للعلاقات فيما بينها: صعود قوى جديدة، تبدل الامبريالية المهيمنة، تكتلات .....الخ. إن انتقال الصراع إلى داخل الامبرياليات نفسها (الحراك الراديكالي في اليونان واسبانيا والبرتغال وايطاليا يعبر عن ذلك بوضوح بالغ) يشير الى أن الأمور مرشّحة لتفاعلات لا يمكن حصرها أو توقّعها. وأوّل هذه التفاعلات هي تشكّل الطبقات الاجتماعية في إطار الصراع القائم واحتلالها صدارة المشهد حالياً. وبالمقابل تتبلور أشكال جديدة للتراكم نتيجة بحث راس المال المتعولم بسرعة عن تحقيق فائض قيمة بمعدلات عالية وهذا يدفعه – عند اجراء عملية اعادة الانتاج – الى الاحتفاظ بالأقسام ذات المعدلات المرتفعة لفائض القيمة، ومحاولة التخلص من/ او تقليل الاعتماد على الاقسام التي تعاني من الأزمة، وبالمقابل يدفعه ذلك الى التحديث او الابتكار التكنولوجي. وهذه كله يتطلب آليات جديدة للمنافسة عن طريق فرض تقسيم عمل دولي يتلاءم دائما مع مصالح رأس المال على الصعيد العالمي. لقد بيّن مسار الاحداث الفعلي أن للازمة " المالية " اليونانية تداعيات تتجاوز الجانب المالي لتطرح تساؤلات حادة حول البنية الاقتصادية المشوهة التي أنتجت هذه الأزمة والدور الذي تتحمله القوى المتنفذة في مفاقمتها وعلاقات الإنتاج التي أنتجتها. ولا بد من إثارة الانتباه الى أن الإجراءات التي اتخذتها القوى المسيطرة في اليونان بينت أن الرأسمالية ما زالت قادرة على إيجاد مخارج لأزماتها من خلال تغيير المسارات التي تسلكها وتعميم اعبائها على المتضررين منها بالاساس. لذلك تعودت هذه القوى دوما أن لا تكلف نفسها بطرح السؤال الاستراتيجي عن التكاليف الاجتماعية المرافقة للخروج من تلك الأزمات بل المهم اعادة انتاج سيطرتها بـ " اقل التكاليف " علما ان معظم التكاليف تتحلها الطبقات والفئات الكادحة. وهكذا يجري " تشريك الخسائر " في حال حدوث الازمة، و " خصخصة الارباح " عند عبور تلك الازمة. خلاصة القول: كاد صقور العقيدة النيوليبرالية أن ينجحوا في إقناع بسطاء الناس بـ "نهاية التاريخ " حتى بات الجميع مسرورين بكون الرأسمالية قد اصبحت الشكل النهائي للتنظيم الاجتماعي ! غير ان الزلزال المالي المذهل الذي وقع في يوم " الاثنين الاسود " أي في 15/9/2008، والذي تحول فيما بعد الى ازمة اقتصادية عالمية البعد تتفاعل الى الان وما زالت مفتوحة، قد وقع بضربةٍ واحدة على هذه التركيبة الذهنيّة. ففي نيويورك، رفع متظاهرون أمام " وول ستريت "، لافتات كُتب عليها "ماركس كان على حقّ!". وفي فرانكفورت، أعلنت إحدى دور النشر بأنّ مبيعاتها لكتاب "رأس المال" قد ازدادت بنسبة ثلاثة أضعاف. وفي باريس، فنّدت مجلة معروفة، في ملفٍّ خاص، "أسباب ولادة جديدة" لمن قيل عنه بأنّه مات نهائياً، أي (كارل ماركس). كانت الرسالة من كل هذا واضحة: ها هو التاريخ يعود ليفتح أبوابه ! نشير الى هذه الكلمات واليوم (7 نوفمبر) تمر على البشرية الذكرى الـ 95 لقيام ثورة أكتوبر العظمى، تلك الثورة التي غيّرت مجرى التأريخ العالمي. فرغم الاختلاف في تقييم المآل الذي آل إليه النظام المنبثق من ثورة أكتوبر، قلَّ من لا يتفق في أن هذه الثورة كانت أحد أهم أحداث القرن العشرين. فقد طبعت بصماتها على الاتجاهات الأساسية لتطور عالمنا خلال القرن العشرين الذي انقضى معظمه في ظل نظام القطبية الثنائية. فالمؤرخ الماركسي الكبير (اريك هوبسباوم) الذي رحل عنا قبل عدة اسابيع ختم آخر أعماله بعنوان مثير: " عصر التطرفات "، راسماً صورة القرن العشرين بأنه قرن أكتوبر، القرن القصير الذي ابتدأ، برأيه، متأخراً في 1917، وانتهى مبكراً في 1991، سنة صعود (يلتسن)، مثلما ان القرن التاسع عشر كان قرن الثورة الفرنسية. ورغم اللحظات المشوبة بمشاعر مختلطة بين حلم مؤجل وأمل آت إلا أن مجرد استذكار هذا الحدث الذي غير العالم لأكثر من سبعين عاما إنما يعني ان هذه الثورة ومبادئها الكبرى في: السلم والخبز والأرض لم تتسربل بالنسيان، فما زال بيرق النضال ضد الاستغلال والظلم والعسف يرفرف.
#صالح_ياسر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ضوء المؤتمر الوطني التاسع طبيعة المرحلة وقواها وتناقضاتها
...
-
في ضوء المؤتمر الوطني التاسع (2) .. ماذا بعد انعقاد المؤتمر
...
-
في ضوء المؤتمر الوطني التاسع (1) .. ماذا بعد انعقاد المؤتمر
...
-
ديالكتيك الجمع بين مختلف أشكال النضال..مذكرة الحزب الشيوعي ا
...
-
عادل كوركيس ... سنديانة عراقية أخرى ترحل بصمت
-
في ضوء مداولات اجتماع نيسان للجنة المركزية للحزب الشيوعي الع
...
-
24 شباط 1848 ذكرى صدور(البيان الشيوعي)...
-
الإقتصاد السياسي للميزانية الجديدة للولايات المتحدة
-
المجد للذكرى 160 لصدور (بيان الحزب الشيوعي) ملهم ومنظم ملايي
...
-
المجد للذكرى التسعين لثورة أكتوبر العظمى!
-
بعض معالم التحولات في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة ب
...
-
الجزء الثاني ... بعض الدروس المستخلصة من تقييم تجربة الحزب ا
...
-
بعض الدروس المستخلصة من تقييم تجربة الحزب الشيوعي العراقي لل
...
-
الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري
...
-
بعض معالم الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة
بعد 11 سبت
...
-
تحليل : «اعادة تقييم الوضع النووي» - بالون إختبار أم عقيدة ن
...
-
مؤتمر الدوحة : بين وهم الوعود الزائفة وحقائق الواقع الصارمة
-
العولمة تسير وفقا لمنطق قانون التراكم الرأسمالي
-
انعكاسات الأزمة الراهنة على " البلدان النامية "
المزيد.....
-
قمة كوب29: الدول الغنية ستساهم ب 250 مليار دولار لمساعدة الد
...
-
حدود العراق الغربية.. تحركات لرفع جاهزية القطعات العسكرية
-
وقف الحرب في لبنان.. فرص الاتفاق قبل دخول ترامب البيت الأبيض
...
-
أرامكو ديجيتال السعودية تبحث استثمار مليار دولار في مافينير
...
-
ترامب يرشح أليكس وونغ لمنصب نائب مستشار الأمن القومي
-
بالفيديو.. منصات عبرية تنشر لقطات لاشتباكات طاحنة بين الجيش
...
-
Rolls-Royce تخطط لتطوير مفاعلات نووية فضائية صغيرة الحجم
-
-القاتل الصامت-.. عوامل الخطر وكيفية الوقاية
-
-المغذيات الهوائية-.. مصادر غذائية من نوع آخر!
-
إعلام ألماني يكشف عن خرق أمني خطير استهدف حاملة طائرات بريطا
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|