مع انعقاد البرلمان الكردستاني العراقي تكون القضية العراقية والعامل الدولي قد قطعا شوطاً توّجه الوعي الكردي باستعادة الطبيعة الموحدة للبرلمان الذي يتوجب ان يكون مؤسسة دستورية لا تتشطر جراء الخلافات الحزبية. لكن هذا الوضع الدستوري المطلوب يرتبط وجوده الطبيعي بزوال الحالة غير الدستورية المتمثلة بالنظام الحاكم وهذا يعيدني الى عام 1991 حيث قدمت دراسة الى الأمين العام للاتحاد الوطني مام جلال وكانت بعنوان "نحن والوقت المراقب" وقد ثبتُّ في الدراسة حقيقة مفادها أن الحصارات لا تسقط النظم الدكتاتورية بل تزيدها قدرة ومرونة نتيجة المناطق الرخوة في القانون الدولي والعلاقات الإقليمية التي تسمح بالممارسات الطفيلية للنظام عداك عن عدم وجود وحدة ذات طابع حيوي لقوى المعارضة ورأيت في قيام جبهة للقوى المعارضة تأخذ من كردستان العراق وقواه السياسية منطقة حيوية وذلك يعطي للقوى الكردية العراقية دوراً ريادياً في تغيير النظام وهذه الريادة مصدرها الأرض والتجربة الديمقراطية في الإقليم ويوم ذهبت لمناقشة الدراسة مع مام جلال اعتذر لأنه لم يتمكن بعد من قراءتها فقد كان مشغولاً مع فخري كريم زنكنة (. . .)
لم أجب بشيء فقد عدت حاملاً وعائلتي الحقائب بعد ان أدركت بأن دراستي في منطقة متوهَمة أو خارج اشتغالات المعنيين.. وهكذا غادرت العراق الى أوستراليا . . وها نحن بعد عشر سنوات أمام تجربة البرلمان الكردي الذي أمامه لغة التغيير " تغيير النظام " ولديه منجزاته في التعدد وحرية الصحافة وصيانة الحياة المدنية للناس وقد تم ذلك في منافسة إيجابية بين الحزبين الرئيسيين إضافة الى القوى السياسية الكردية والثقافية في الإقليم.
وانعقد البرلمان الكردي والقوى العراقية المعارضة (الأطراف الستة والشيوعي العراقي وحزب الدعوة) قد حسموا أمر موقفهم من العامل الدولي باعتباره عاملاً حاسماً في التغيير، وقد أنجز المثقفون العراقيون هذه الخارطة النوعية من الرؤى ذات العلاقة بالوضع العراقي رغم محاولات النظام وبعض النوايا الطيبة واللغة التي لا تتنفس الهواء الطلق والتي حاولت الوقوف بالضد من العامل الدولي معتمدة ذات المفردات وسقوفها التي تهاوت في واقع العالم المتغير ووتائره المتسارعة ولقد تمثل هؤلاء بالمنسحبين من النظام لأسباب شخصية ويراهنون على التغيير السطحي للنظام تقودهم مواقفهم من الشيعة ومن القضية الكردية الى التمترس العروبي الذي فقد وهجه في امتحانات الرؤى الإنسانية الحديثة في الحرية والإبداع وحقوق الإنسان. وهكذا تقاطع موقفهم مع قوى المعارضة ومع الغالبية العراقية المطلقة التي تتطلع الى الخلاص من أسوأ أنظمة الحكم في التاريخين القديم والحديث.
وانعقد البرلمان الكردي عبر إصغاء واضح للرسالة الأمريكية التي اعتمدت تجربة البرلمان الكردي نموذجاً للبرلمان العراقي القادم بعد طرد مخلفات النظام ومفرداته وذلك بالإصغاء الى الطابع الحيوي لأسئلة المثقفين العراقيين الذين تحملوا ظلم الضفتين الحاكمة والمعارضة وان بنسب مختلفة في الوقت الذي تمكن فيه المنسحبون من النظام لأسباب شخصية من امتلاك نفس المكانة التي انسحبوا منها عند المعارضة حتى اصبح المثل العراقي يلائم وضعهم في الضفتين (هيعونج ويالبيتج على الشط منين ما ملتي غرفتي) والمثل ينطبق على أكثر من نموذج معروف (. . .)
المثقف الحيوي . . دوره ومكانته:
لقد عرفت الشعوب تاريخاً مميزاً عبر توظيف قواها السياسية الحية الخطاب الثقافي في توجهاتها فصارعت حروباً . . وفي مراحل السلام متسلحة برؤى مبدعيها وان على مسافة من تلك الوحدة الحصينة التي يتمترس خلفها المبدع وهو ينظم إنجازه للحرية والعدالة والجمال.
هكذا ردد الفرنسيون مقولة جان جاك روسو وكذلك قصيدة إيلوار وكذلك تنفس الأمريكيون أغاني والت ويتمان وثمّن السياسيون قدسية الديمقراطية التي ضففت بها أغانيه، وهكذا كان تولستوي وديستوفسكي ومايكوفسكي عند الروس وكل الشعوب التي يقترب سياسيوها من الهاجس الثقافي تَصعد لغة التغيير في تفكيرهم الى الحيز الحيوي من طموحات وآمال الشعوب التي يطمحون الى قيادتها . . وفي عالمنا الراهن يستند تيار الزعماء الى آراء المثقفين وقد أثبتت الإدارة الأمريكية حالة نوعية في الإصغاء والممارسة التي وصلت الى اعتماد حساسية ثقافية في خطابات المسؤولين ويتضح هذا في معالجة الملف العراقي الذي يصل احياناً بالخطاب الأمريكي الى درجة التماس مع خطاب المثقف العراقي في معالجة قضية النظام وتفاصيل حقوق الإنسان في العراق.
سقت ذلك لما يعانيه المثقف الحيوي العراقي الذي يواجهنا كل يوم برؤى جديدة ويعتمد لغة حديثة في المخاطبة والشرح مستفيداً من المساحة التي وفرتها الحداثة من فضائيات ومواقع الكترونية ليبرهن عن مستوى تناغمه مع موضوعه العراقي رغم اختلاف التضاريس في خارطة الرؤى التي يبثها المثقفون العراقيون في كتاباتهم . . هذه الآراء التي حتى في الاستيلاء عليها دون الإشارة لأصحابها يمثل حالة إيجابية تنعم بها حركتنا السياسية المشكوك بإجادة قادتها القراءة . . وأثبتها بوضوح كم من رأي ضاع سدى عند قائد سياسي من قادتنا وبعد سنوات يتبناه لا لأنه عاد وقرأه بل لأن مصدره هذه المرة جورج بوش أو كولن باول أو كونداليزا رايس مما يجعل المثقف يفكر وبغية الفائدة المرجوة من الكتابة مباشرة الى المذكورين أعلاه بدلاً من الكتابة الى القادة الذين يستقبلون بحفاوة رسل المخابرات العربية والدولية وينأون بعيداً عن المثقفين ونرجسيتهم المريضة (. . .) أو يضعونهم مع خانة الكلمات المتقاطعة باعتبار هذه الخانة تأتي من مكملات الصحيفة أو الحزب أو المؤسسة (. . .) ويحدث ذلك رغم المسافة التي قطعها المثقفون العراقيون ولا أدري هل سيستمر قادتنا بالبحث عن "المثقف الفأرة" الذي يبيع خاضعاً عندِياته المشوهة في أول هرولة لقادة لا نريد لهم الاستمرار المتأثر بسلوكية صدام وان اختلفت درجات الاغتيال على مستوى الجسد أو التهميش (. . .) وهل آن الأوان لامتحان علاقتهم مع مثقفي العراق الذين لا يستجدون مكانتهم بل ان هذه المكانة تزداد رسوخاً نتيجة وعيهم الذي كشف عن طفيلية النظام ودمويته وتخلفه منذ العام 1968 ونتيجة لإصرارهم الحر في إبداء أراء من شأنها تحريك عملية الحياة في ماكنة السياسة العراقية المعاصرة من أجل توثيبها وتثمير الجانب الإنساني المضيء فيها.
أسئلــة:
1- الغياب الذي سجله التركمان في عودة البرلمان الكردستاني يشكل ظاهرة غير مريحة ونحن على أبواب لغة جديدة يستند فيها الجميع الى الديمقراطية ونواتها التجربة البرلمانية في كردستان العراق؟
2- ظاهرة غياب أو تغييب أو تغيّب الحضور العراقي المعارض عن البرلمان ظاهرة لا نعرف كيف والى أين نردها .. هل بسبب قوة النظام الدكتاتوري في عاصمة الإقليم (. . .) ؟ أم بسبب عدم تمكن المعارضة من تمثل التجربة البرلمانية في الإقليم (. . .) ؟
أم بكليهما معاً ؟ . . . .
هامش:
* ذكرت مام جلال الطالباني للأمانة التأريخية المتعلقة بالمقال ولأنه الوحيد الذي تعاملت معه استناداً لرأي رسّخه عندي الفقيد الشيخ حسن النهر والرأي يتعلق بثقافة جلال الطالباني العراقية وحيويته التي رأيته عليها في إعلان جبهة "جوقد" إضافة الى عدم مغادرته جبال كردستان العراق واهتمامه ومتابعاته الذي ميزته عن بقية القادة العراقيين.
* للأمانة التأريخية ورد اسم فخري في المقالة الذي أختلف مع سلوكه الذي لا أدري فيه إلا تطبيقات لأبجدية صدام الوصولية وخطورة تاريخ هذا السلوك انه يلبس أي لغة تؤدي الى الهدف فهو الجبهوي الأول في مؤتمر الحزب الشيوعي الثالث وهو المستثمر الأول لتاريخ ومالية الحزب في المنفى وهو صاحب العلاقات المتميزة جداً مع الأجهزة العربية السورية . . ! عليه ورد اسمه للأمانة التأريخية المتعلقة بالموضوع وليس لدلالة أخرى.
الشاعر غيـــلان
7/10/2002