|
العلمانيةُ بين المسيحيين والمسلمين
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 3896 - 2012 / 10 / 30 - 08:13
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نشأت ظروفٌ مختلفةٌ بين حضارتي المسيحيين والمسلمين، فحين انتصرت القبائلُ الجرمانيةُ المسيحية على الإمبراطورية الرومانية الغربية الوثنية انتشرتْ المسيحيةُ الكاثوليكية وقامت كنيسةُ روما وغدا رجالُ الدين المسيحيين هم الطبقة المسيطرة على العالم المسيحي الغربي. انقسم الناسُ في عالم السيطرةِ الكنسية بين رجال اللاهوت، والناس العاديين. بين الكهنوتيين والعلمانيين، وكانت التسميةُ تعني أولئك الرجال والنساء الذين لا يشتغلون في الأعمال الدينية. فالذين لا يشتغلون في أمور الكهانةِ ووظائف الكنائس يُطلق عليهم علمانيون. فثمة أناسٌ متخصصون في العمل للآخرة والملكوت القادم الدائم وأناس يشتغلون في مهن الزراعة والحدادة والحطابة وغيرها وكانت حتى المهن الثقافية نادرة فلا شيء يخرجُ من سيطرة الكنسية وثقافة الكنيسة. وهكذا اصطبغت التسميةُ بشكلٍ عملي بين الجانب اللاهوتي والجانب الدنيوي العلماني. وحين تنامت حركاتُ الطبقاتِ الوسطى والصناعة والحداثة أخذت تنتزعُ مساحات العالم اللاهوتي المسيطر، وراحت تزيحُ سيطرةَ الكنائس ذات الأملاك الهائلة والسيطرات السياسية المطلقة، فدخلت الثقافة العلمانية، أي ثقافة الناس الذي لا يشتغلون في المهن الدينية في صراع مع الثقافة اللاهوتية، مع المتكسبين من الدين. ليس العلمانيون هم غير مسيحيين لكنهم فقط راحوا يفصلون العلومَ والسياسات والأفكارَ عن هيمنة الكنائس، لكن الكثير منهم مؤمنون بالمسيحية، ولم تسلمْ الكنيسةُ ومعها الحكوماتُ الكليةُ المتشددة بهذا الحراكِ الديمقراطي العلماني حتى تحولت إلى ثورات وتحولات بحيث أخذتْ الأملاكَ الزراعية والسلطات السياسية وتركت للكنائس مناطق واسعة في الحياة الاجتماعية والثقافية والعبادية، لكن مفاهيم القراءات الدينية المحافظة لشؤون التاريخ والعلوم والطبيعة والثقافة تعرضتْ لانهيارات بسبب اكتساحها من قبل الثورات الفكرية ولهذا تم تغلغل العلمانية في المناهج الدراسية والشؤون الشخصية بحيث توسعت الهوةُ بين الدين المسيحي والمجتمع، إضافة إلى الثورات التي دخلت في الدين نفسه وأنشأت تيارات ومذاهب مغايرة للحياة الروحية التقليدية. في حين أن المسلمين لم يعرفوا هذه الثنائية المتضادة في عصر النهضة، فلم يُقبل في الإسلام نشوء كهنوت، وسيطرة رجال دين على السلطات، ولم يحدث تمييزٌ بين من هو رجل دين ورجل معاش، وعمل كبارُ الصحابةِ والفقهاء في الأسواق والتجارة والأعمال الحرة المختلفة، بل حتى في الأعمال اليدوية البسيطة، فلم يعرفوا في تلك القرون تسمية العلمانية، ولم يعرفوا الانفصال بين الحياة العملية والحياة الروحية. وبالتأكيد فإن الحياةَ السياسية والاجتماعية يهيمنُ عليها الدين، ولكن في الفهم المؤسّس لا يُعتبر الدينُ وسيلةً لتشكيل حزب، أو إقامةِ جماعةٍ سياسية، أو أن الدولةَ هي مخصصةٌ لجماعات دون غيرها، والجماعةُ المسموحُ بها هي فقط جماعة تعمل لنشر الفضائل وليس لوضع خيوط السلطة في يدها. تعبيرُ الإسلام هو تعبيرٌ عن المواطنين ككل، وأن عليهم إذا اختلفوا ألا يختلفوا في الدين بل في فهم المعاش، وقد كانت الدولةُ بحسب التصميم الأولي هي التي تجعل الناسَ يملكون الخيرات، وعندما جاءت أسرُ الأشراف وأمتلكتْ الخيرات نشأتْ الفِرقُ الدينية، وقد كان نشؤها أنها ظهرت لشرح معانٍ دينية وليس بقصد شق صفوف (الملةِ) فظهرتْ على أسس فكريةٍ محضةٍ كشرح معنى القَدر وتفسير مصطلحات القرآن ولكنها تغلغلتْ بين الناس وصارت قوى سياسية دينية. ولم ينشأ مع هذا اختلاف بين المواطنين فيتخصص أناسٌ في الدين دون سواهم، أو أن يظهر كهنوت، ومع هذا فإن الدولَ المسيطرة حولت الفقهاءَ ورجال الدين إلى شراح وواعظين ومؤدلجين لسياساتها، ومسيطرين على الأحوال الشخصية خاصة، فيستفيدون من منافعها وأن لا يقحموا أنفسهم في السياسة. ومع تدهور الانتاج والمعاش وسع رجال الدين من نفوذهم وغدتْ الصوفيةُ دروشةً والفقهُ جموداً. هكذا نشأ الكهنوتُ من خلال سيطراتِ الدول المحافظة، الأمر الذي استدعى تعدد أشكال الكهنوت، والمذاهب، بحيث غدا استغلال الدين في عصور التفكك والانحطاط سلعةً رائجة. هنا تشابه الحال مع عالم البابوية وحكم الكنيسة، على الرغم من أنه ظلت الحكومات العربية مدنيةً، ويُلزم في الحاكم حفظُ الحمى والأمن والمعاش أكثر من أي منحى آخر لديه. تجذرُ المنحى (العلماني) كبيرٌ بهذا المعنى في تاريخ العرب والمسلمين، ولكن انقلاب التطور عن أوروبا هو بسبب ضخامة مخلفات العصر الوسيط المتأخر، ولم يفهم النهضويون المتأوربون الاختلافَ بين عالم المسيحيين والمسلمين، فراحوا يصارعون تاريخَ أوربا الوسيط أكثر من فهم تاريخ العرب، وجاءت الماديةُ العدميةُ وأثارتْ الشكوكَ والصراعات الجانبية فتوسعت التنظيماتُ الدينية المستغلّة للدين في أعمال السياسة، وصورتْ الحياةَ السياسية التحديثية وكأنها مؤامرات للقضاء على الدين، ولكن من المؤكد أنه مع تطور الحياة السياسية الديمقراطية وحدوث ثورة ثقافية وسط العامة سوف يتم توجيه السياسات للصالح العام كما ستتغير صورةُ الدين.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإخوانُ وولاية الفقيهِ
-
موقفُ المتنبي (2-2)
-
موقف المتنبي (1-2)
-
الوعي الفكري عند ماوتسي تونغ (2-2)
-
الوعي الفكري عند ماوتسي تونغ (1-2)
-
الفرديةُ الحرةُ المفقودة
-
المحور الإيراني - السوري يطحن بعنف
-
الماوية وولاية الفقيهِ (2-2)
-
الماويةُ وولايةُ الفقيهِ (1-2)
-
قوى توحيديةٌ بين المعسكرين
-
تجاوزُ التطرفِ المحافظ
-
الأزماتُ والتحولاتُ
-
التوحيدُ والتطورُ السياسي (2- 2)
-
التوحيدُ والتطورُ السياسي
-
سذاجةٌ سياسيةٌ
-
البيروقراطية والديمقراطية
-
انتهى زمنُ العمالِ الآليين
-
كيف تلاشتْ النصوصُ الحكيمة؟
-
صراعٌ طائفيٌّ متخلفٌ
-
الإخوانُ والرأسمالية الحرة
المزيد.....
-
بدء احتفالات الذكرى الـ46 لانتصار الثورة الاسلامية في ايران
...
-
40 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
40 ألفاً يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
تفاصيل قانون تمليك اليهود في الضفة
-
حرس الثورة الاسلامية: اسماء قادة القسام الشهداء تبث الرعب بق
...
-
أبرز المساجد والكنائس التي دمرها العدوان الإسرائيلي على غزة
...
-
لأول مرة خارج المسجد الحرام.. السعودية تعرض كسوة الكعبة في م
...
-
فرحي أطفالك.. أجدد تردد قناة طيور الجنة على القمر نايل سات ب
...
-
ليبيا.. وزارة الداخلية بحكومة حماد تشدد الرقابة على أغاني ال
...
-
الجهاد الاسلامي: ننعى قادة القسام الشهداء ونؤكد ثباتنا معا ب
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|