محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 1128 - 2005 / 3 / 5 - 10:57
المحور:
القضية الفلسطينية
دعاء طفلة فلسطينية تعمشقت في غفلة مني نياط القلب وانضمت لمجموعته وحجزت لنفسها فيه زاوية صغيرة في إحدى زواياه....دعاء هي الطفلة الفلسطينية التي انتظرت أن أضمها منذ أن انطلقت الإنتفاضة الأولى ونحن نشاهد عبر شاشات التلفاز استشهاد محمد الدرة في حضن أبيه....دعاء هي التي ذكرتني بلينا النابلسي عندما اغتالتها اليد الغاشمة وهي تصنع غدها في يوم الأرض عام 76 والتي أنشد فيها أحمد قعبور:(لينا كانت طفلة تصنع غدها..لينا سقطت لكن دمها كان يغني )... دعاء جعلتني أعيد صور كل أطفال فلسطين الذين كنا نراهم يرمون جنود الإحتلال بحجارتهم بأيديهم الناعمة بمواجهة دبابات الصهاينة, أطفال الحجارة الذين قال عنهم نزار قباني في إحدى قصائده:(( بهروا الدنيا وما في يدهم إلاّ الحجارة...وأضاؤوا كالقناديل وجاؤوا كالبشارة...قاوموا وانفجروا واستشهدوا وبقينا دببا قطبية سطحت أجسادها ضد الحرارة...قاتلوا عنا إلى أن قتلوا وجلسنا في مقاهينا كبصاق المحارة))...دعاء هي الحراك الذي قدم إلي من بلاد الحراك وأنا في منفاي المدينة الصغيرة ضمن منفاي الكبير ألمانيا....كنت أقوم بأداء خدمة إنسانية عبر تطوعي في منظمة إنسانية بالقيام بالترجمة لعائلة عراقية أمام مكتب الأجانب مقر إقامة طالبي اللجوء عندما سمعتها تتكلم مع أبيها باللهجة الفلسطينية..التفت إليها واتجهت نحوها, كانت تتشبث بتلابيب والدها بعيون تجول دون تحديد هنا وهناك بطريقة أدركت منها أن لديها مشكلة في الرؤية..وعندما أنهيت مساعدتي التي كنت منخرطا بها استعجلت شغوفا بالتوجه نحو الغرفة التي تقطنها مع أبيها في ذلك السكن التعيس..كان والدها شاب أسمر بشعر أسود مجعد بهيأته الفلسطينية وعينين فلسطينيتين سوداوين...طرحت السلام وعرفت عن نفسي ثم لما فرغت من التعرف على أبيها سألتها: ما اسمك يا شاطرة؟ قالت: دعاء, دعاء موسى...تابعت : من أي بلد قدمت؟ أجابت من فلسطين, من غزة, من معسكر الشاطيء, وأردفت تسألني: وأنت مين؟ صرحت لها باسمي وتابعت أكسب رضاها: وأنا أيضا فلسطيني متلك...صمتت قليلا ثم استنكرت ادعائي وقالت: لأ, انت مش فلسطيني لانك ما بتحكيش فلسطيني..الفلسطينية ما بيحكو متلك بيحكو متلي....صدمتني إجابتها ... كيف يمكنني التفسير لها أن لهجتي ضاعت لأنني ابتعدت عن الإختلاط مع البنية المجتمعية الفلسطينية اضطرارا فترات عملنا هنا او هناك على امتدادات سوريا الجغرافية, وأنني كنت الفلسطيني الوحيد في سنوات سجني بين اختلاط المدن السورية.... أعادتني دعاء لكل الذي سببته لي إزدواجية الإنتماء هذه من معاناة ومحن..ومع ذلك, ها أنا ذا ترفضني فتاة فلسطينية و تنكر فلسطينيتي عني...ذكرني الحوار معها بالجلاد أبو العز..وكيف كان يخصني بضرب وتعذيب أكثر من رفاقي بسبب فلسطينيتي..ذكرني كيف رفاقي كانوا يهمهمون عندما أبدي برأي لا يعجبهم ويتهامسون حول فلسطينيتي, ذكرني كلامها بحوارياتي التي كنت أجريه مع أبناء جلدتي عندما تركت الساحة السياسية الفلسطينية وانخرطت في العمل السياسي من أجل القضايا السورية, كانوا يقولون لي عاتبين:(( الي بيطلع من أواعيه بيعرى...توب العيرة ما بدفي...الي ما بياخد من ملتو بموت بعلتو...الي بيشلح أواعيه ما في حدا يغطيه...إلخ)) وعندما ضاعت سنوات الشباب خلف القضبان وأطلق سراحي كانوا يعلقون علي ساخرين:(( انتو شو مفكر راح رفاقك يقدرولك تضحيتك...مفكر إذا صار تغيير واشتركوا بالحكم راح يسلموك منصب...والله ليكبوك متل الكلب...))) وكأنهم يتصورون أنني اخترت الإنتماء إلى الحزب استبدالا لقطر أو لعشيرة أو دينا أو أشخاصا , لا مشروعا أعجبت به وبرنامجا سياسيا كنت أرى فيه إن اكتمل مستقبلا مشروعا تحرريا تقدميا مناهضا للاستبداد والامبريالية والصهيونية ومساهما في إقامة مجتمعا مدنيا متحررا... لم يخطر ببالهم أنني أكبر من القطر والجغرافيا والأشخاص والأحزاب والتنظيمات, لو كنت أطمع في منصب أو مكسب مادي لكان أفضل لي البقاء رفيقا في الجبهة الشعبية حيث بدايتي السياسية والفكرية او انتقلت إلى صفوف فتح لكنت الآن عضوا في مكتب سياسي أو لجنة مركزية, وتجنبت التضحية بسنوات العمر في السجن والملاحقة, ولما كان لدي ابنة معاقة, ولا كنت نوري أندبوري..ولما قدمت قسما من لقمتي تبرعا للخط الذي اخترته بمحض إرادتي....لا طلعنا من هون ولا طلعنا من هون.. هذا الموقف يذكرني كثيرا بوضع الرفاق العلويين الذين انخرطوا في صفوف القوى الديموقراطية للمعارضة السورية, لا هم أرضوا أبناء جلدتهم الذين كانوا ينظرون إليهم بسبب نجاح سياسة السلطة في التفتيت الإجتماعي أنهم تخلوا عنهم وذهبوا للطرف الآخر , ولا الطرف الآخر يأمنهم بل يشكك بهم أيضا بسبب نجاح نفس السياسة التي اتبعتها السلطة من خلال تقسيم المجتمع إلى ما قبل مدني...لم يغفر لنا أهلنا خروجنا من ولاءاتهم القطرية ولم نرضي رفاقنا الذين ذهبنا إليهم فدفعنا ضريبة مضاعفة غير نادمين عليها ما دمنا قد اخترنا أنفسنا وإنسانيتنا وولائنا لقضايا العدل ضد الظلم(حتى لا نستعمل كلمة اشتراكية أو امبريالية)هزتني دعاء بأسئلتها كما هزتني حالتها المرضية..
دعاء طفلة فلسطينية من مخيم الشاطيء في غزة أو من معسكر الشاطيء كما يحلو لها ان تسميه, من مواليد 29.12.1992 تكبر طفلتي ريتا بيومين وطفلتي فينوس سنتين ويومين, تسكن مع عائلتها في بقايا المنزل التي كانت قد هدمت معظمه قوات الإحتلال بسبب نشاط عمها الأسير وعمها الشهيد, أتى بها والدها إلى ألمانيا في محاولة منه لعلاج عيونها التي بالكاد ترى فيها, وبعد مجهود ضخم لدى السلطات الالمانية والمنظمات الإنسانية وافقت السلطات إدخالها المشفى للعلاج, وهناك اكتشفت المصيبة الكبرى التي تحيق بدعاء وهي انها مهددة بحياتها إلى جانب نظرها, فزادت قهرنا قهرا...دعاء تعاني من خوف رهابي فهي دائما متشبثة بتلابيب أبيها ولا تتقبل تناول الدواء ولا الطعام والخدمة إلا من يد والدها أو بحضوره وتشجيعه..ووقفت حائرا أمام هذه الظاهرة..وعندما استطعت استنتاج السبب شرحت للأطباء أن هذه الحالة هي حال كل الأطفال في فلسطين الذين يعانون كل أنواع الترهيب الشارونية اليومية حتى أدت إلى حالة رهاب عند البعض من الأطفال وبالطبع عند دعاء, يضاف إلى ذلك إعاقتها في النظر واضطرارها الإعتماد على الأهل في قضاء حاجياتها.... بقت دعاء في المشفى شهرين تحسنت حالتها فيها كثيرا بسبب تناولها للدواء الغير متوفر سوى للأطفال الأوربيين في ثمنه...بالأمس خرجت دعاء من المشفى بعد أن استطعنا سوية بناء علاقة حميمية , وسعيت أن تبدأ الدراسة في مدرسة خاصة بالمكفوفين, لكنها سألتني : طب أنا كيف بدي أدرس بمدرسة ألمانية وبعرفش أحكي ألماني؟ أجبتها أنا سأعلمك ألماني لكن بشرط.. قالت: وشو هو هادا الشرط ؟ قلت لها مازحا: أن تعلميني كيف أحكي باللهجة الفلسطينية...أجابتني بسرعة بديهية: عدها صارت.......
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟