|
بصمات عثمانية على الجدران السورية
بدر الدين شنن
الحوار المتمدن-العدد: 3883 - 2012 / 10 / 17 - 15:35
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
القذيفة التي انفجرت في القرية السورية " آكجا قلعة " التي جرى تتريكها ، بعد استلابها مع بلدات ومدن سورية أخرى وضمها إلى الجمهورية التركية عام 1923 ، رسمت حولها دوائر متعددة ، مثل حجر ألقي في مياه ساكنة ، وكشفت ما كان يموه عليه إعلامياً وسياسياً على الحدود السورية التركية ، وبخاصة مخاطر تداعيات استخدام الحدود بين البلدين من قبل المسلحين ، الذين ينفذون أجندات ، لاعلاقة لها بالاحتجاجات الداخلية السورية المشروعة إلاّ لتوسلها ذريعة للمواجهات ، ولاعلاقة لها بمفاهيم وقيم الحرية والديمقراطية إلاّ للتمويه على التدمير والدماء البريئة المسفوكة ، ولاتعبر عن أية تجليات روحية تعيش في ضمائر الناس وتصقل وتهذب أخلاقهم وعلاقاتهم وإنسانيتهم .
أولى هذه الدوائر : هي توظيف حكومة أردوغان دماء ضحايا هذه القذيفة ، لتحريض الشعب التركي ، وتعبئته ، لتنفيذ سيناريو التغيير الليبي في سوريا ، تمهيداً لتحقيق أجندة تزعم استنهاض امبرطورية عثمانية منهارة منذ قرن .. ثاني هذه الدوائر : هي توجيه شحنة من الدعم المعنوي للمسلحين المقاتلين في الداخل السوري ، مفادها ، أن جبهة جديدة قد فتحت ضد سوريا ، سوف تخفف عنهم الكثير من ضغط القوات المسلحة السورية .. ثالث هذه الدوائر : هي استخدام المسلحين في الداخل السوري مثل هذه الانفجارات ، لمنح تركيا مبررات ممارسة دور عسكري مباشر ، لدعم المشروع الذي يقومون بتنفيذه ..
على أهمية هذه الدوائر الثلاث ، هناك الدائرة الأكبر والأهم : وهي فتح ملف التاريخ الاستعماري العثماني البشع في سوريا " بلاد الشام " و إثارة مسألة الأراضي السورية ، التي استولت عليها تركيا ، في نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية زمن الامبراطورية العثمانية ، التي تضم فيما تضم من مدن وقرى ، تضم كلز وعينتاب وأورفة وماردين ، ومن ثم الأراضي التي منحتها فرنسا لتركيا عام 1939 ، لتضمن حيادها في الحرب العالمية الثانية ، والتي تضم فيما تضم من مدن وبلدات وقرى تضم مدن أضنة واسكندرون وأزمير وانطاكيا ، وبذلك تبلغ مساحة الأراضي السورية المسلوبة على امتداد ألف كيلو متر من أضنة وانطاكيا غرباً إلى ماردين شرقاً أكبر من مساحة سوريا الحالية . ما يعني أن إثارة مسألة الأراضي السورية المسلوبة من محرق " آكجا قلعة " تفتح ملفاً مفتوحاً على احتمالات صراعات وحروب لاتنتهي .. ولايمكن السيطرة عليها ، ومعرفة نتائجها على الإقليم كله وعلى السلم العالمي .
ولذلك ، فإن الأسلوب العنفي المتوتر ، الذي تعامل به رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان ، مع حدث " آكجا قلعة " يتسم بغباء مركب . فهو عدا عن أنه يثير ويستفز السوريين في سوريا ويستفز حلفاءهم على المستويين الإقليمي والدولي ، فإنه يستفز السوريين الذين جرى تتريكهم رغماً عنهم ، واحتجزوا بالقوة مع مدنهم وأراضيهم داخل الحدود التركية . وليس من المستبعد ، إذا استمر التصعيد التركي السياسي والعسكري ، أن يتأتى عن ذلك حراكاً شعبياً ، سوف يذهب إلى ما هو أبعد من الاحتجاجات في الأراضي السورية المسلوبة ، وبشكل لن يستطيع أردوغان ومعه حلف الناتو من السيطرة عليه . بل ويحاول أردوغان ، أن يخطو من " آكجا قلعة " خطوة كبيرة ، نحو مدينة حلب المنكوبة بالمسلحين المتطرفين والمأجورين القادمين من لدنه عبر الحدود المشتركة ، باتجاه مشروع بعث الامبراطورية العثمانية المقبورة . وذلك عبر إثارة العصبيات المذهبية المفوتة في البلدان العربية ، التي كانت تشكل جزءاً أساسياً من الكيان العثماني ، لتوفير امتداد حيوي ديني سياسي ، يمكنه من وضع مشروعه الامبراطوري المزعوم قيد التطبيق .
ولأن مشروع بعث الامبراطورية العثمانية يأتي في وقت ينهار فيه نظام الامبراطوريات ، لحساب إعادة التوازن الدولي والشرعية الدولية وفق معايير لاتخضع للدول العظمى وقرصنتها الامبريالية ، فإنه يلفت إلى أن أردوغان يعيش خارج التاريخ ، أو أنه يلعب دوراً مريباً يتسم بالتخبط والارتباك وضبابية الأفق في الشرق الأوسط . وهذا ما يثير الكثير من الأسئلة ، حول حقيقة عزمه على بعث الامبراطورية العثمانية ، الذي يتنا قض مع طروحاته السياسية في بدايات تسلمه السلطة ، ومع واقعه التركي والإقليمي المعاصر والمعاش . ولعل أهم هذه الأسئلة هي :
هل حقاً ، أن مشروع أردوغان هو إعادة الحياة إلى الامبراطورية العثمانية وإعادة استعباد الشعوب ، التي مزقت بنضالاتها من أجل الحرية والاستقلال هذه الامبراطورية ، في شرق أوربا ، وشمال أفريقيا ، وبلاد الشام ، والتي أجهز عليها الشعب التركي التواق إلى الانعتاق من الاستبداد والفساد والتخلف ، من أجل اللحاق بركب الحضارة الإنسانية والتقدم إلى مصاف الشعوب المتطورة ؟ .
هل نسي أردوغان التخلف الذي كان يكتنف الامبراطورية العثمانية ، والاستبداد والفساد الذي كان يمارسه السلطان العثماني بأدواته القمعية ، وانكشاريته ، وباشاواته ، وبكواته ، وأفندييه ، وجواسيسه ، وولاته ، وكيف كان استقرار الامبراطورية يقتضي تعميم الإعدامات على المشانق والخوازيق في ساحات المدن العامة ، ويقتضي استخدام الإبادات الجماعية بحق الشعوب المتطلعة إلى الحرية والكرامة التي طالت الملايين من العرب والكرد والأرمن ، ويقتضي أيضاً تجنيد ملايين الرجال في الامبراطورية للموت في حروب السلاطين وفتوحاتهم ، حيث كانت كلمة " سفر برلك " مرعبة أكثر من الطاعون ، لأنها تعني الموت لحساب خزائن السلطان ، وحيث كانت الأمراض الوبائية مثل الكوليرا " الوباء الأصفر " والسل والملاريا ، التي كان حضورها القاتل يتزامن ويتوازى مع الحروب والقحط واستفحال القمع . وبماذا تفسر حرب أردوغان الحالية ، ضد الشعب الكردي في شرقي تركيا .. ألاتعني استمرار مفاعيل العثمنة في القرون الماضية في الوقت الحاضر ؟ .
وهل نسي أهم وأصدق ما كتب عن امبراطوريته العتيدة ، التي يبشر بعودتها ، هو كتاب " طبائع الاستبداد " الذي ألفه المناضل الحلبي العربي الكبير عبد الرحمن الكواكبي ، الذي شرح وفضح فيه استبداد ورذائل وظلم هذه الامبراطورية ، وأصبح هذا الكتاب صنو الكتب المقدسة عند الشعوب العربية عامة وعند سكان بلاد الشام بخاصة ؟ .
وهل نسي ، أن العرب الذين يبشرهم بعودة هيمنة الامبراطورية العثمانية عليهم ، كانوا هم من أشعلوا ثورة كبرى ضدها ، امتدت من الحجاز إلى بلاد الشام . وكانت هذه الثورة رغم نواقصها وعيوبها ، هي التي حطمت أقوى الأذرع العسكرية الضاربة خارج حدود الامبراطرية ؟ .
وهل نسي أن من يتحالف معهم الآن من الدول الغربية لنشر امبراطوريته على الساحة العربية بالقوة التدميرية المتوحشة ، هم ألد أعداء الامبراطورية العثمانية الراحلة و" القادمة " الذين قاتلوها حتى دمروها وتقاسموا ولاياتها ، وهم ألد أعداء الشعوب العربية ، لاسيما في بلاد الشام ، وهم الذين أقاموا دولة " إسرائيل على ولاية القدس " فلسطين " لاستدامة التدخل الاستعماري في شؤون هذه الشعوب وسرقة ثرواتها والتحكم بمصائرها ، وهذا التحالف عدا عن أنه غير مشرف ، فهو ينزع عن المشارك فيه صفة المنقذ والصديق للبلدان العربية ؟ .
وهل نسي أن الوضع الدولي الغربي الراهن ، الذي يرفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي ، ويحتكر معظم ثروات ومصادر قوة العالم ، لم ولن يسمح لدولة مثل تركيا ، أن تشكل مركز ثقل دولي امبراطوري منافس . ولعله يكره أن يتذكر ، كيف جرى تفكيك الامبراطورية العثمانية في أواخر عهدها ، وكيف جرى اقتسامها مثل عجل مذبوح ؟ .
بالتأكيد لم ينس أردوغان كل تلك العهود الظالمة والممارسات العثمانية الظلامية ، إزاء الشعوب الي قهرها جبرت الامبراطورية العسكري الدموي ، ولم ينس كل تلك المجريات والوقائع التي مرت في تاريخ الامبراطورية ، لكنه مثل كل حامل للعقل الامبراطوري المتسلط ، يعتبر إرهاب الشعوب ، جموعاً وفرادا ، بسطوة القهر والإبادة الجماعية والقمع ، أمر لاغنى عنه لإخضاعها والتمكن من استلاب حريتها وكرامتها وهويتها وثقافتها ومواردها الأساسية . إنه يمارس سياسة الاستغباء للشعوب التي يتوجه إليها بعودة الامبراطورية العثمانية بطبعة العثمانيين الجدد " حزب العدالة والتنمية " التي لاتقل شراسة وبطشاً ودموية عن بطش ودموية العثمانيين الأول " السلاطين " بدءاً من معركة " مرج دابق " بالقرب من مدينة حلب عام 1916 ، حتى هروب قائد آخر خط دفاع عسكري للامبراطرية العثمانية في بلاد الشام " كمال باشا " الذي أصبح فيما بعد " كمال أتاتورك " من شباك مطبخ خلفي لفندق بارون بحلب عام 1918 ، يؤكد ذلك ما يقوم به المسلحون ، الذين يجندهم ، أو يحتضنهم ، ويؤويهم ، ويدربهم ، ويسلحهم ، ويدفع بهم اردوغان ، للحرب في سوريا بالطريقة التدميرية " العثمانية " التي شهدتها مختلف المدن السورية وخاصة مدينة حلب . وإذا نسي أردوغان ماضي الامبراطورية العثمانية ومظالمها ، فإن شعوب البلدان العربية والسوريين خاصة لم ولن ينسوا معاناتهم ومذلاتهم ومجاعاتهم في الزمن العثماني المنقرض ، ولن يقبلوا بعودة أزمان السلاطين والباشوات الجدد ، والمشانق ، والخوازيق ، والسفر برلك ، إلى بلادهم وحياتهم مرة أخرى .
بيد أن مجمل ما ذكرناه من أسئلة ، وغيرها من الأسئلة الأخرى ، التي يستدعيها السياق العام ، عند مقاربة " حلم " أردوغان الامبراطوري ، تكشف ، من جهة " التناقضات الصارخة في ممارسات أردوغان ، وتنفي من جهة ثانية ، المصداقية والعقلانية في مشروعه الامبراطوري المزعوم . فهو يعرف ضمناً ، أن ما هو متاح له فعلاً ، ليس أكثر من دور وكيل تنفيذي في مخططات أورو - أميركية إقليمية ، بعدما فقدت إسرائيل قدرتها " الأسطورية " في خدمة الغرب الاستعماري ، في مرحلة هي الأصعب في الصراعات الدولية حول تقاسم النفوذ والمصالح في الشرق الوسط . وكل ما بيده ، هو أن يحاول تضخيم هذا الدور ، ليقنع ذاته وحزبه بصحة سياساته وطموحاته ومغامراته ، ولينال من " الحركة الإسلامية الدولية " مبايعتها له أميراً للمؤمنين ، وليحصل على ثمن هذا الدور، موقعاً مميزاً في الإقليم .
وإذا كانت كل الدلائل تؤكد على استحالة عودة زمن الامبراطورية ، وأن توجه العالم هو نحو موازين دولية جديدة سوف تخلق عالماً غير الذي يحلم به أردوغان ، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو ، من هو رجب طيب أردوغان ، وما هو الدو الحقيقي الذي يلعبه في المشهد التركي ، وفي المشهد الإقليمي ، في ظروف مصيرية كارثية تطاول بلدان عربية عدة ، وخاصة سوريا ، عبر أجندات باتت مكشوفة إمبريالية - إسرائيلية .. خاصة وأن له ما له من علاقات وتحالفات مع حلف الناتو ومع إ سرائيل ، ومع بلدان الخليج الموبوءة بالعائلات الحاكمة والقواعد العسكرية الأجنبية ، والتخلف السياسي ؟ إن أية إجابة على هذا السؤال ، لابد أن تبدأ بقراءة البصمات العثمانية على جدران المدن المدمرة ، في المشهد السوري عامة ، وعلى جدران الجامع الأموي بحلب خاصة .
#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السؤال الحاسم في الأزمة السورية ( 2 /2 )
-
السؤال الحاسم في الأزمة السورية 1 / 2
-
حتى تتوقف كرة الدم
-
أول أيار وسؤال البؤس والثورة
-
الهروب إلى الحرية
-
لماذا السلاح .. وضد من ؟ ..
-
بين غربتين
-
حتى لاتكون سوريا سورستان
-
من الحزب القائد إلى الدين القائد
-
ضريبة السلاح ولعنة الدم
-
دفاعاً عن الرايات الوطنية
-
إعادة الاعتبار - للثورة - .. واليسار .. والاشتراكية
-
إنتهاء زمن الحزب القائد
-
من سيحدد خواتم الأزمة السورية
-
الباحثون عن الشرعية والدعم خارج القاعدة والوطن
-
العناوين الغائبة في الحوارات والمؤتمرات
-
الثورات السلمية المغدورة
-
سوريا بين عهدين
-
في الحوار واللاحوار
-
إيقاعات رقصة الحوار المر
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|