|
قِصّةُ الآيَاتِ الشَّيْطانِيَّة (4)
زاغروس آمدي
(Zagros Amedie)
الحوار المتمدن-العدد: 3878 - 2012 / 10 / 12 - 22:43
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
آراء ومواقف أهل الشيعة من قصة الغرانيق: يذهب أغلب أهل الشيعة فيما يتعلق بهذا الموضوع ومواضيع إسلامية اخرى كثيرة مذهباً مختلفاً كلياً عن مذاهب أهل السنة والجماعة، ففيما يتعلق بموضوع الآيات الشيطانية فقد أنكره معظم أهل الشيعة إنكاراً تاماً، واعتبروا أن قصة الغرانيق هذه، قصة مختلقة وضعها بعض المشركين أو المنافقين أو الزنادقة ممن أرادوا تكذيب نبوة محمد والنيل من أهل البيت ،وأنه إنسان عادي كغيره من الناس غير معصوم عن الخطأ، وبإمكان الشيطان أن يلقي في قلبه مايشاء، كما يذهب المغالون من الشيعة إلى تكفير من يصدق هذه القصة، على عكس أنداهم من أهل السنة الذين كفروا من ينكر هذه القصة، كما فعل الشيخ ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب .ويبدو أن للشيعة أسبابها في إنكار وقوع هذه القصة،والسبب الأعظم هو أن هذه القصة تلغي العصمة عن "النبي الأمي"، وإذا الغيت عصمة النبي فمن البديهي أن تلغى معها عصمة أهل بيته بمن فيهم "الأئمة الأثني عشر"، وبالتالي من الممكن أن يلغى المذهب الشيعي من أساسه، لأن أساس المذهب الشيعي يقوم على "عصمة الأئمة الأثني عشر".
ولذلك من الطبيعي أن تستميت الشيعة في سبيل إنكار هذه الآيات الشيطانية وتعمل على إلغاءها من الذاكرة والتاريخ ، ولعل ماأفتى به آية الله الخميني بتكفير الكاتب المسلم البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي الذي ألف رواية " الآيات الشيطانية " وحلل قتله، ورصدت جائزة مالية ضخمة لمن يغتاله، بينما وقف الأزهر السني وجهات سنية كثيرة من سلمان رشدي موقفاً ليبرالياً أقل صلابةً بل موقفاً معتدلاً ، وصرح رئيس الأزهر بأنه لايجوز تكفيره أو إعتباره مرتداً إلا بعد محاكمته محاكمة عادلة. وقد وافقت فتوى الخميني مواقف أهل الشيعة عموماً،وأجد هنا من المناسب إيراد بعض مواقف وآراء الشيعة حول قصة الغرانيق،للتعرف عن قرب إلى مواقفهم من هذه الغرانيق العلى ، التي كانت يوماً آلهة للعرب، ينحرون عندها الأنعام ويقدمون إليها الأضاحي، وقبل هذا وذاك كانوا يعتبرونها وسائل إتصال بالله إله السموات والأرض.
اُسطورة الغرانيق المختلقة!
تحت هذا العنوان "اُسطورة الغرانيق المختلقة" تحدث الفقيه المفسّر آية اللّه العظمى الشَّيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي عن الآيات الشيطانية قائلاً: " جاء في بعض كتب السنّة رواية عجيبة تنسب إلى ابن عبّاس، مفادها أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان مشغولا بتلاوة سورة «النجم» في مكّة المكرّمة، وعندما بلغ الآيات التي جاء فيها ذكر أسماء أصنام المشركين "أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثّالثة الاُخرى " ألقى الشيطان على النّبي هاتين الجملتين وجعلهما على لسانه: " تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى!" أي إنّهن طيور جميلة ذات منزلة رفيعة ومنها ترتجى الشفاعة!. وقد فرح المشركون بذلك، وقالوا: إنّ محمّداً لم يذكر آلهتنا بخير حتّى الآن. فسجد محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وسجدوا هم أيضاً، فنزل جبرائيل عليه السلام على الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم محذّراً من أنّه لم ينزل هاتين الآيتين وأنّهما من إلقاءات الشيطان. وهنا أنزل عليه الآيات موضع البحث (وما أرسلنا من قبل من رسول ...) محذّراً الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين. ورغم أنّ عدداً من أعداء الإسلام نقلوا هذا الحديث وأضافوا عليه ما يحلو لهم للمساس برسالة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، إلاّ أنّه مختلق يبغي النيل من القرآن وأحاديث الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم."
اكذوبة شنيعة!
أما آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي مؤلف كتاب الوجيز في معرفة الكتاب العزيز فكتب عن قصة الآيات الشيطانية يقول: " هذا وان كثيرا من كتب التفسير قد لهج بأكذوبة شنيعة ، وهي ما زعموا من ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قرأ سورة النجم في مكة في محفل من المشركين ، حتى إذا قرأ قوله تعالى: " أَفَرءَيتُمُ اللاّتَ وَالعُزَّى، وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخرَى. قال صلى الله عليه وآله وسلم في تمجيد هذه الأوثان وحاشا قدسه: " تلك الغرانيق العُلى منها الشفاعة ترتجى" فأخبره جبرائيل بما قال ، فاغتم لذلك ، فنزل عليه في تلك الليلة آية تسلية ، ولكن بماذا تسلّيه بزعمهم تسلية بما يسلب الثقة من كل نبي وكل رسول في قراءته وتبليغه.الآية هي قوله تعالى في سورة الحج :" وَما أرسَلّنا مِن قَبلِكَ مِن رَّسُول وَلاَ نَبي إلاَّ إذا تَمَنَّى أَلقَى الشَّيطَنُ فِي أُمنِيَّتِهِ " فقالوا : معنى ذلك إذا تكلّم أو حدَّث أو تلا وقرأ ادخل الشيطان ضلاله في ذلك. إذن فما حال الامم المساكين ، وما حال هداهم مع هذا الادخال الذي لم يسلم ـ بزعمهم ـ منه نبي أو رسول ولم يسلم منه شيء من كلامهم أو حديثهم أو تلاوتهم على ما يزعمون.".
وعلى هذا المنوال يتابع أهل الشيعة في استهجان هذه الآيات الشيطانية التي ألقاها الشيطان على قلب "الصادق الأمين"،وقد قال موسى الصدر عن هذه القصة قائلاً: "عجيب ما رواه الطبري وإبن حجر من أسطورة الغرانيق فهي مما يكفي في فضحها أن تقابل بدعوة النبي وسيرته." ثم يحاول كغيرة نفي صحتها وأنها اختلقت من قبل الزنادقة.
الآيات الشيطانية من إختراع أهل مكة!
والبعض الآخر من أهل الشيعة زعم أن بعض أهل مكة اخترع هذه الآيات لرد الإعتبار إلى آلهتهم ، رداً على محمد الذي سفهها وأعابها، فقد جاء في " العقائد الإسلامية " وتحت عنوان " واخترعت قريش قصة الغرانيق انتصاراً لللات والعزى " " مايلي: " ومن الواضح أن الصراع في تلك المرحلة كان يتفاقم بين الاِسلام والمشركين ، وكان أهم ما يتسلح به المشركون ويطرحونه سبباً لمقاومتهم الاِسلام هو " أن محمداً قد سبَّ آلهتنا وسفَّه أحلامنا " . وقد كان موقف النبي صلى الله عليه وآله من آلهتهم موقفاً صريحاً قوياً لامساومة فيه ولامهادنة .. وقد اتضح ذلك من السور الأولى للقرآن ، وآياتها القاطعة في مسألة الاَصنام . .ولم تكن سورة النجم إلا استمراراً لذلك الخط الرباني الصريح القوي ، بل هي الحسم الاِلَهي النهائي في المسألة ، ووضع النقاط على الحروف بتسمية أصنام قريش المفضلة " اللات والعزى ومناة " بأسمائها ، وإسقاطها إلى الاَبد ! ومن الطبيعي أن تكون هذه الآيات شديدة جداً على قريش ، وأن تثير كبرياءها وعواطفها لاَصنامها ، وأن تقوم بردة فعل بأشكال متعددة . وقصة الغرانيق ما هي إلا واحدة من ردات الفعل القرشية . . ! لكن متى اختُرِعَتْ ومن اخترعها ؟ ! يغلب على الظن ماذكره الشريف المرتضى من أن المشركين عبدة هذه الاَصنام الثلاثة لما سمعوا ذمها في آيات السورة حرَّفَ بعضهم الآيات ، ووضع بعد أسماء الاَصنام الثلاثة عبارة " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى " ، فأعجب ذلك القرشيين ، وتمنوا لو يضاف هذا المديح لآلهتهم في السورة ! ولكن كيف يمكن ذلك ؟ وكيف ينسجم مع السياق ، والسياق كله حملة شديدة على فكر الاَصنام وأهلها ؟ ! ! وهكذا ولدت قصة الغرانيق على ألسنة القرشيين ، ولكنها كانت هذياناً ولغواً في القرآن من قريش المشركة لا أكثر ! ولكن الجريمة الكبرى عندما حولت قريش المنافقة هذا اللغو في القرآن الى آيات الغرانيق واتهمت بها النبي بعد وفاته صلى الله عليه وآله لاِثبات أنه لم يكن معصوماً عصمة مطلقة لتكون كل تصرفاته وأقواله حجة ، بل كان يخطىَء حتى في تبليغ الوحي ! وفي ذلك فوائد عديدة لقريش للاِلتفاف على أوامر النبي صلى الله عليه وآله وتبرير أخطاء حكامها ومخالفاتهم لسنته !! وهكذا سجلت مصادر السنيين قصة الغرانيق التي تزعم أن النبي صلى الله عليه وآله قد ارتكب خيانة والعياذ بالله في نص القرآن ، وشهد بالشفاعة لاَصنام اللات والعزى ومناة ، وسجد لها لكي ترضى عنه قريش ! وقد طار منافقو قريش بهذه القصة فرحاً ، ثم طار بها فرحاً ورثتهم الغربيون!."
الآيات الشيطانية اسطورة لاأكثر ولاأقل!
ويتحدث آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي في تفسيره من هدي القرآن ،عن هذه القصة بلهجة أقل حدة قليلاً من أمثاله من رجال الدين الشيعة،ويكاد يقر بوقوعها في النهاية. لكنه يبدأ بشرح ضعيف محاولا الإمساك بعنق الآية التالية وثنيها بشكل يكاد أن يقطع أنفاسها،فبعد ذكره لهذه الآية: "و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " ، يحاول آية الله العظمى المدرسي تفسيرها على الوجه التالي: " و يبدو ان معنى ذلك ، ان النبي و الرسول و الامام المحدث يكاد يتمنى ، و لكنه لا يتمنى لقوله سبحانه: " فينسخ الله ما يلقي الشيطان " في روع الرسول لمقامه البشري الضعيف لولا تأييد الله ونصره . " ثم يحكم الله آياته " فهو يحيط علما بالقلب البشري ، و القاءات الشيطان فيه، وهو ينسخها من ضمير المؤيدين كالنبي و الرسول و المحدث بحكمته. و هذه الآية اكبر شاهد على عصمة انبياء الله وأئمة الهدى . ذلك لان الله لا يسمح للشيطان بأن يوسوس اليهم في صدورهم ، بل يعصم عزائمهم ،و امنياتهم و افكارهم من إلقاءات الشيطان. وتشبه هذه الآية آيات اخرى في القرآن الحكيم ، كقوله سبحانه: " و لقد همت به وهم بها لولا ان رأى برهان ربه " حيث تدل على ان يوسف عليه السلام تعرض لطائف من الشيطان فعصمه الله رأسا ، و قوله تعالى : " و لولا ان ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا " حيث إن الله لم يدع الضغوط الجاهلية تؤثر على مسيرة النبي المستقيمة . ومن المفارقات الغريبة اننا نجد تلفيقات من القاءات الشيطان حول هذه الآية." ويضيف آية الله المدرسي: " وفي بعض الروايات ان رسول الله صلى الله عليه وآله ، كان يقرأ سورة النجم في الصلاة ، فعندما كان يقرؤها فاذا بأحد خلفه يردد آيات الغرانيق فرددها الرسول عدة مرات على غفلة منه ، فنزلت هذه الآية." ويختم المدرسي حديثه عن آية الغرانيق بالقول: "المهم جاءت هذه الآية لتؤكد بان شفاعة هذه الغرانيق لا ترتجى ، وأن هذه القصة ليست سوى امنيات القاها الشيطان ليختبر بها الله عباده المؤمنين ، فما هي إلا اسطورة لا أكثر ولا أقــل. لأن الرسول أرفع من أن ينزل الى مستوى الجهل بأهم أصل من اصول رسالته ،الذي يعتبر الركيزة الاولى التي قام عليها الدين بأكمله وهي التوحيد ، فحتى لو أغمضنا العين بقول ان رسل الله معصومون عن الذنب ، والخطأ والسهو والنسيان وبالذات رسول الله محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله الذي يقول عنه الرب سبحانه : " وماينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى " . ان هذه الآية نقرأها في سورة النجم بالذات التي حولها هذه الاسطورة ثم هل من الممكن ان نتصور رسولا يبعثه الله لابلاغ رسالة التوحيد ثم ينسى هذه الحقيقة ، ويبدلها بخرافة الشرك ؟!. ولو افترضنا جدلا صحة هذه الرواية فلابد ان يكون هذا الكلام من إلقاءات الشيطان في قلوب المشركين ، التي اضافوها الى الآيات ، واشاعوها بين الناس ، ليشبهوا على الناس ، الا ان الله سبحانه الذي وعد بحفظ القرآن عن عبث العابثين وتحريف المبطلين، احكم آياته ، وفضح القاءات الشيطان ،وقد ذكر كثير من المفسرين هذا الاحتمال في هذه الرواية التاريخية." وهكذا يتضح لنا أن مواقف أئمة وفقهاء الشيعة آيات الله الإلغائية والنافية لآيات الشيطان في قصة الغرانيق ناتجة بالدرجة بالأولى عن تمسكهم "بعصمة" النبي محمد والد فاطمة الزهراء و"عصمة" الأئمة الأثني عشر، وليس عن تمسكهم بمنهج "العقل والمنطق" الذي يتباهون به على أهل السنة والجماعة. فالحجج التي ساقوها لنفي هذه القصة أو بيان تلفيقها كلها حجج واهية ضعيفة لاتنطلي إلا على البسطاء من أتباعهم. وماتمسكهم بمبدأ العصمة ليس إلا ضرباً من ضروب الخلاف مع أهل السنة، ليس له أساس أو مسند ديني أوفلسفي، بل بالعكس فأخطاء الأنبياء بادية وظاهرة حتى للعميان، كالأعمى ابن مكتوم الذي أعرض عنه محمد عندما سأله حاجة اثناء حديثه مع بعض أشراف مكة، لكن محمداً هذا الرجل العظيم سرعان مااعتذر لهذا الكفيف الذي راح يبث ألمه من إعراض الرسول عنه وقد أورد القرآن جملة من أخطاء محمد لامناص من إقرارها ، وإنكارها يعتبر إنكاراً للقرآن ولنبوة محمد، ولا أبغي هنا محاربة الشيعة أو تفضيل أهل السنة عليهم، وإنما أبغي شيئاً واحداً فقط وهو التقرب من الحقيقة قدر الإمكان. ومع أني أعتبر أن المذهب الشيعي كان يمكن له أن ينتشر ويتطور لو لم يتمسك بالعصمة والغلو في تقييم أهل بيت محمد، واكتفى بما أتى به "النبي العربي" وما ذهب إليه ابن عمه علي بن أبي طالب في تطبيق وتنفيذ تعاليم "سيد البشر" والد زوجته فاطمة بكل إخلاص ودقة. وأعتقد أن علياً هو الوحيد من الخلفاء المسلمين الذي آمن حقاً برسالة أبن عمه وصدقها، ليس بدافع القرابة فقط وإنما لأن علياً آمن بمحمد كنبي وهو صغير وتلقى العلم منه وهو صغير، لذلك ترسخ الإيمان بالإسلام في قلبه وعقله أكثر من أي خليفة آخر،ولذلك قال عنه الأعسر "شهيد المحراب "وهو يحتضر بعد أن طعنه أحد الموالي بخنجر، وبعد أن طعن هو بإيمان الخمسة من بين الستة الذين اختارهم لخلافته طلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف سعد بن أبي وقاص والنعثل ابن عفان: "إنه لأخلقهم أن يحملهم على المحجة" كما مال "أبوتراب" فدائي الهجرة في سياسته إلى التسمك بالقيم السامية والمبادىء الإنسانية في الإسلام ، وتجنب خلافه الذي احتواه الإسلام أيضاً،وكان الأعلم من بين المسلمين بما نسخ من القرآن، كما كان دوغمائياً في السياسة، على عكس محمد الذي كان براغماتياً، ولذلك لم ينجح في السياسة كما نجح معلمه وابن عمه محمد بن عبدالله.
من الواضح في سياق هذه الروايات المتعددة عن هذه الآية التي نسبت إلى الشيطان ،ولذلك عرفت بالآيات الشيطانية، أن جبريل تأخر عن نجدة محمد من هذا المأزق الحرج، ويرجح أن التأخير كان متعمدا من محمد حتى يتثنى له معرفة وقع هذه الآية على المشركين وردود فعلهم وكذلك على أصحابه أيضا، ومن الممكن أن الوحي قد تأخر أياما،وهذا هو الراجح، وإلا لما شاعت هذه الرواية حتى وصلت الى المهاجرين في الحبشة الذين وصل بعضهم الى مكة، وكذلك لابد أن محمد قد أنتظر وقتاً كافياً لمعرفة رد فعل أهل مكة على ذلك ، وإذا إعتمدنا رواية ابن اسحاق والطبري ، نرى أن الوحي على الأقل قد تأخر إلى اليوم التالي أو حتى المساء، "فلما أمسى أتاه جبريل". وهنا يتساءل المرء: لماذا تأخر جبريل حتى المساء،وما الذي أعاقه، مع أن جبريل في أحيان كثيرة كان يسعفه كلمح البصر أوخلال دقائق، كما حدث عندما نزلت الآية 95 من سورة النساء ، فقد جاء في تفسير ابن كثير للآية: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين "، فاحتج ابن أم مكتوم، وكان أعمى، أنه لا يستطيع الجهاد وبذلك لا يكون من المفضلين عند الله. فقال زيد بن ثابت، كاتب الوحي، وكان جالساً بجوار النبي يكتب: " عندما تكلم ابن أم مكتوم أُوحى للنبي وغشيته السكينة فرفع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة، فلا والله ماوجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله. ثم قال لما سري عنه: أكتب يا زيد". فأنزل الله على الرسول الاستثناء المعروف " غير أولي الضرر"، فأصبحت الآية: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله". أي لو أن ابن مكتوم لم يحتج على الوحي آنذاك،لوجد العميان والطرشان والخرسان وذوو العاهات من المسلمين أنفسهم مضطرين للجهاد. هنا نجد أن جبريل أدرك محمد بلمح البصر،بإضافة الكلمات الثلاثة " غير أولي الضرر" مع أن الضرورة هنا ليست أهم من الضرورة كما في الآية التي ألقاها الشيطان على محمد" تلك الغرانيق العُلى وإن شفاعتهن لتُرتَجى" والمأزق هنا كان أحرج بكثير من المأزق "غيرأولي الضرر" ومع ذلك لم يسعف جبريل محمدا على الفور. ليس من الصعب هنا أن نستنتج أن تأخير الوحي كان متعمدا، أملاً أن يستجيب سائر الكفار لدعوة محمد،ولاشك أن محمدا قد سُرّ بردة الفعل الأولي من المشركين عندما أبدوا هذا التغيير الكبير لموقفهم منه ومن دعوته،عندما "سجد القوم جميعا معه، ورفع الوليد بن المغيرة وهو والد خالد بن الوليد، ترابا إلى جبهته فسجد عليه, وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود. فرضَوْا بما تكلم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق, ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده, إذ جعلت لها نصيبا, فنحن معك" .ولكن عندما سمع محمد مايردده أهل مكة من أن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه ،هنا أدرك محمد هول المأزق الذي وضع نفسه فيه، وكان ذلك بالطبع قد استغرق وقتا، لكنه مع ذلك استدرك حسن قوله لآلهة الكفار، عندما جاءه الوحي أخيرا يقول" وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ". وهنا ماذا يمكن أن نسمي ماوقع مع محمد الرجل العظيم أو الأعظم كما يسميه الكثيرين؟، إذا كان الوحي يؤكد أن الشيطان يستطيع أن يوحي للنبي في أمنياته، ويلقي كلامه في قلبه، فما الذي يؤكد لنا أن الشيطان لم يوحي لمحمد في مواضع أخرى من القرآن في أمنياته؟ أوْ لمْ يوجه فعلاً من أفعاله؟،ثم إذا كان الأنبياء ليسوا بمنآى عن تأثير الشيطان، فهذا يعني أن الأنبياء ليسوا بمنآى عن إرتكاب الأخطاء، أي أنهم ليسوا بمعصومين عن الخطأ،وهم ليسوا ملائكة، والأمثلة كثيرة حول عدم تمتع الأنبياء والرسل بالعصمة عن إرتكاب الأخطاء والآثام بدءاً من آدم ومروراً بإبراهيم وموسى وإنتهاءاً بمحمد " ولو تيسر لعيسى "الروح القدس" أن يعيش ردحاً طويلاً من الزمن لأرتكب هو الآخر مايكفي من الأخطاء كغيره من الأنبياء." فقتل موسى للمصري، كان جريمة كبرى، وليس فقط خطأً،فهل نقول أن الشيطان دفع موسى لقتل خصم ابن قومه، ثم ألايمكن أن نظن أن الشيطان أثر في إبراهيم عندما كذب مرتين أو ثلاث ، مرة عندما سئل عمن حطم الأصنام ، وأخرى عندما قال عن زوجته بأنها اخته،ومرة أخرى عندما قال بأنه سقيم. وكذلك عندما سأل ابراهيمُ ربَّه "أرني كيف تحي الموتى" وهو نبيه وخليله،وجدير بنا بل وفرض علينا أن نتأسى بالأنبياء، ماذا لو تأسى أحدنا بإبراهيم وسأل الله ماسأل به ابراهيم ربه؟ ونحن أحق بالسؤال منه، لأننا ابعد عن الله من الأنبياء، وأضعف إيمانا بالله منهم ،وهذا يعني أن أهل مكة عندما سألوا محمدا أرنا كيف أسرى بك ربك إلى بيت المقدس؟،كانوا على حق، فهم أولى بالسؤال لأنهم ليسوا أنبياء،ثم إذا كان ابراهيم سأل الله عن كيفية إحيائه للموتى، فلا تثريب على البشر كقوم موسى عندما سألوه ان يريهم الله جهرةً، أوكأهل مكة عندما سألوا محمدا كيف يحي ربك العظام وهي رميم؟. وثمة ملاحظة أخري ، وهي أن محمداً يقول في أحد أحاديثه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ليس منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين قالوا وأنت يا رسول الله قال نعم ولكن الله أعانني عليه فأسلم. مسند أحمد. كما جاء في صحيح مسلم "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ . قَالُوا وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَإِيَّاىَ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِى عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلاَ يَأْمُرُنِى إِلاَّ بِخَيْرٍ. من هذين الحديثين نجد أن الشيطان لايمكن أن يوثر في النبي، لأنه أسلم له، ولايمكنه إلا إن يأمره بخير،فكيف إستطاع هنا الشيطان أن يلقي بكلماته في قلب النبي فيتلوها في الصلاة، ثم هل يقدر هذا الشيطان الرجيم أن يأتي بسجع مثل سجع القرآن؟ مع أن القرآن تحدى الإنس والجن بأن يأتوا بمثله، وإذا كان الشيطان قادراً على الإتيان بآية، أفلا يمكن أن يأتي بسورة وبالتالي بقرآن كامل؟ ثم لماذا تأخر جبريل في إخبار محمد بسجع الشيطان متأخراً ؟ ولماذا لم يسعفه في الحال كعادته عندما كان محمد يحتاج لذلك؟. من أكثر الإحتمالات صحة، هو ماروي أن محمداً لجأ إلى هذا الصلح الذي عرضه عليه بعض أشراف مكة،ويبدو وكأن هذا الأتفاق كان بمثابة إعتراف متبادل بين الطرفين، لكنه اُلغي سريعاً لعدم توفر شرط أساسي في أي إتفاق وهو التقارب في توازن قوى الطرفين حسب التعبير العصري، فمحمد لم يكن عنده سوى عشرات المؤمنين به أغلبهم نزحوا إلى الحبشة، بينما كان زعماء مكة يتمتعون بقوة مادية ومعنوية لاتكاد قوة محمد تساوي شيئاً منها، وأعتقد أن "يتيم قريش" اضطر إلى إلغاء الإتفاق هذا ، بعد أن وجد أن لاثمة فائدة من تعظيم آله مكة ، لأنه حسب مايمكن إستنتاجه من الروايات المختلفة أن معظم أهل مكة لم يعيروا إهتماماً لتراجع محمد عن إهانة آلهتهم وإعادة الإعتبار إليها،إذ ليس من السهل أن يقبل أهل مكة هذا بمجرد سماع تعظيم محمد لأصنامهم ، ولاأعتقد أن الذين كذبوا محمداً طوال هذه الفترة وسخروا منه ومن وحيه، يصالحونه بهذه السرعة، وأعتقد أن ثمة حلقة مفقودة هنا، لأنه لو صح أن أهل مكة مالوا لهذا الصلح ، لما غير محمد رأيه بما قال حول الغرانيق العلى وشفاعنهم، ولوجد مخرجاً أنسب ، وفضَّل حالة السلم مع أهل مكة على التراجع عما قاله بشأن آلهتهم ، لكني ارجح أن الذين سجدوا خلف محمد في يوم الغرانيق العلى كانوا بعض أهل مكة وليس جميعهم وأن هذا البعض لم يمثل سائر أهل مكة فيما ذهبوا إليه ، وفضلوا البقاء على دينهم ، ولاسيما أنهم يعتقدون من قبل بشفاعة آلهتهم وإعتراف محمد بتلك الشفاعة وإقراره بها لايشكل فضلاً له عليهم، فضلاً عن موقف محمد الضعيف بالمقارنة مع موقف صناديد مكة، لذلك لم يهتم أغلبية المشركين لهذا الإتفاق أو الصلح الذي أشار إليه الرواة. والمرجح ان محمداً تراجع عن هذا الصلح لهذا السبب،لأنه شعر وكأنه خُدع بهذا الإتفاق، لأن هذا الإتفاق لم يحظى على إجماع المشركين، ولم يسر به أصحابه بالتأكيد. وخوفاً من أن يخسر بعضهم بسبب هذه الإنقلاب الخطير في رأيه تجاه أصنام مكة ، أسرع في إيجاد مخرج لهذا المأزق باللجوء كالعادة إلى جبريل الذي اتهم الشيطان بقول ذلك على لسانه. وهكذا شكلت هذه القصة مع قصة الإسراء والمعراج ضربتين متتاليتين كادتا أن تقصم ظهر "النبي الأعظم" الذي أعلن ديناً جديداً للعرب،ولكنه بحسه المرهف وعبقريته الفذة وإرادته القوية أدرك أنه قد استنفد كل طاقته في الحوار والجدال العقيم مع المشركين عبدة الاصنام من أهل مكة من ثنيهم عن معتقداتهم القديمة والإيمان بقرآنه، وخوفا من زعزعة إعتقاد البضع العشرات من المؤمنين الذين آمنوا برسالته من إعدام دعوته، قرر أن يواصل كفاحه بعيداً عن هؤلاء القوم الذين سخروا منه ومن قرآنه وإسرائه ومعراجه، فسمح لأتباعه الباقين بالهجرة الى المدينة، ثم مالبث أن تسلل محمد بنفسه ومعه صاحبه أبوبكر سراً تحت جنح الظلام الى المدينة، لعلمه أن إنتقام المشركين منه سيكون وشيكا كما ذكرت سالفاً، ويبدو أنه قد عاهد نفسه أن يفرض رسالته بأي شكل من الأشكال، وبأي وسيلة من الوسائل. وهاهو بعد قليل في يثرب يعد العدة ويستعد لمحاربة قريش ليحطم أصنامهم فوق رؤوسهم، وليححق بالسيف ماعجز عن تحقيقه بالكلمة، ليثبت من جديد وفي مرحلة هامة من مراحل البشرية، وفي بيئة صحراوية قاحلة أن الرجال هم الذين يصنعون الظروف ، وأن الحياة تتحول إلى عجينة أمام إرادتهم القوية ليجعلوها بالشكل الذي يريدون،وعلم الرجل أن بضعة سيوف يمكن أن تكون خيراً من مئات والوف الآيات، مؤكداً القاعدة الأبدية بأن القوة هي التي تصنع الحق، وأن المفاهيم والقوانين البشرية واحدة في منشئها وأصلها وجوهرها في كل مكان وزمان، ولاتختلف إلا بصياغاتها وتأويلاتها وأشكالها وألوانها ليس إلا.
#زاغروس_آمدي (هاشتاغ)
Zagros__Amedie#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قِصّةُ الآيَاتِ الشَّيْطانِيَّة (3)
-
متى كان أكراد سوريا يلجؤون للسلاح؟
-
ألا يمكن تدمير إسرائيل دون تدمير سوريا؟
-
كَيف لِمَنْ يَخافُ ريشَةَ رَسامٍ سَاخِرْ أنْ يقاومَ أوْ يُما
...
-
المسيح يقول: -زوجتي- إكتشاف جديد، عن صحيفة ألمانية
-
قِصّةُ الآيَاتِ الشَّيْطانِيَّة (2)
-
قِصّةُ الآيَاتِ الشَّيْطانِيَّة (1)
-
هل الوصاية الدولية على سوريا يمكن أن يكون حلاً ؟
-
لاتَقتُلوا بَناتَكمْ وَأَوْلادَكمْ
-
بعض المستور في حياة -سيف الله المسلول-
-
تأريض الإسلام 10
-
تأريض الإسلام 9
-
(8) تأريض الإسلام
-
(7) تأريض الإسلام
-
(6) تأريض الإسلام
-
(5) تأريض الإسلام
-
(4) تأريض الإسلام
-
تأريض الإسلام-الفصل الأول الحلقة الثانية
-
(1) تأريض الإسلام
-
(2) تأريض الإسلام
المزيد.....
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|