أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عامر عبد زيد - السلطة وأثرها في تشكيل المخيال السياسي العراقي القديم















المزيد.....


السلطة وأثرها في تشكيل المخيال السياسي العراقي القديم


عامر عبد زيد

الحوار المتمدن-العدد: 3878 - 2012 / 10 / 12 - 00:30
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


انها آلية التخيل التي تؤثر في تشكيل الخيال الفردي والاجماعي عبر الغاية ( فالسلطة هي القدرة على التأثير فعلياً على الأشخاص والأمور ، باللجوء إلى مجموعة من الوسائل تتراوح بين الإقناع والإكراه. أما" ماكس فيبر" فيعرف السلطة بالإمكانية المتاحة لأحد العناصر داخل علاقة اجتماعية معينة ، ليكون قادراً على توجيهها حسب مشيئته).( ).ولهذه السـلطة وظيفة الدفاع عن المجتمع ضد نقائصه الخاصة والمحافظة عليه ( ... ) وتخضع السلطة لحتميات داخلية تظهر كضرورة ويخضع لها كل مجتمع ، فهي تبدو أيضاً كنتيجة لضرورة خارجية إن كل مجتمع كلي على صلة بالخارج. وهو مرتبط ، مباشرة أو عن بُعد ، بمجتمعات أخرى يعدها معادية ، واستناداً إلى هذا التهديد الخارجي. نتيجة المجتمع إلى تمجيد وحدته عبر سلطة الرمز .( )التي تظهر عبر المخيال الاجتماعي ،انه منظومة من البداهات والمعايير والقيم والرموز ، فهو ميداناً لتحصيل المعرفة بل هو مجال لاكتساب القناعات ، مجال تسود فيه حالة الإيمان والاعتقاد .( ) هذه القناعات الاجتماعية تأتي على مستوى من الفعل الاجتماعي :
الأول: عند (( ماكس فيبر )) يكون العمل أو أي فعل إنساني ، اجتماعياً في إطار الهدف الذاتي الذي يرتبط به الفرد أو الأفراد ، اخذين في الاعتبار مشاركة الآخرين ووجودهم العنصر الأول هو وجود الآخـر والثاني هو المغزى أو الهدف من الفعل الأول هو وجود الآخرين ورد فعلهم العلمي ( ).
الثاني: عند دوركهايم يتكون الفعل الاجتماعي من ( وسائل عمل ، ووسائل تفكير وشعور خارج الفرد الموهوب ، وهذه الوسـائل تكون قادرة على الإكراه ، والقسر ، ولها فعالية إجبار لا يملك لها احد رداً) ( ). حيث يضع دوركهايم داخل الفعل الاجتماعي النشاطات الفردية والتفكير والمشاعر الوجدانية في إطار النشاطات الجماعي وتفكير الجماعة ومشاعرها وإعمالها. ولكن ماهي هذه السلطة الفاعلة والمؤثرة في تشكيل المخيال السياسي عند البحث عن طبيعة تلك السلطة في الثقافات السابقة للرأسمالية أولا، يطالعنا التحليل التالي: تكون لدى إنسان الشرق القديم ايديولوجيا تربط بين التصورات الاجتماعية والتصورات الكونية في مفهوم الدولة ـ التي من النمط الخراجي ( بدل الآسيوي ) ـ إيديولوجيا قوامها منظومة من المفاهيم والتصورات المركبة المتداخلة ، هي من اخص خصائص العقلية التي من النمط الخارجي ، تصورات توحد وتجمع بين: (1) الألوهية ؛ (2) الطاغية ؛ (3) وظائف السياسية القانونية ، وظائف التنظيم ( القانون الأخلاقي والديني ، القانون السلطوي القمعي ) الذي تقوم به الدولة الخراجية ؛ (4) نظام حركة الكون ؛ (5) خصوبة الحقول. وتتأسس الوحدة بين هذه العناصر في ذهن الرجل الشرقي القديم على الاعتقاد في الأصل الإلهي لسلطة الطاغية الحاكم المستبد والاعتقاد في القوانين التي يسنها. بإلهام من الإله ، هي قوانين مكملة بطبيعتها ، للقوانين الطبيعة ينتج الخصب ، خصب الأرض: هناك وحدة بين الأمر التشريعي الصادر عنه وبين الحركة الكونية كالليل والنهار والفصول ( وبالتالي خصوبة الأرض ) لأنها جميعاً من الله. ويقدم مقارنة بين المجتمع اليوناني والمجتمع الخراجي الشرقي ( الشرقي القديم البابلي والمصري الفرعوني ) حيث يظهر في النمط اليوناني انه ( كان العبيد في أثينا وروما قد عانوا من كف ألسنتهم وعدم السماح لهم بالاعتراض ولا بالاحتجاج ، او قلما يسمع منهم ذلك ( ... ) ففي المجتمع العبودية في أثينا ينتمي المفكرون جميعاً إلى طبقة (( المواطنين ))مما يجعل الصراع الإيديولوجي بينهم ، على المستوى الفلسفي ، يتحرك دائماً في سماء هذه الطبقة وحدها ، يعكس الصراعات الجارية فيها وحدها متجاهلاً تماماً الصراع بين هذه الطبقة العبيد ). ( )
أما المجتمع الخراجي ، فأنه الكثرة الكاثرة من الشعب المسخر تتألف من الفلاحين وقد كانوا يشكلون بالفعل الوسط المُلْهِم لبعض الاتجاهات الفلسفية. وهكذا فأولئك الذين كان يصدر عنهم في المجتمعات الخراجية ما ينم عن المعارضة الأيدلوجية لهيمنة الأرستقراطية واستبدادها لم يكونوا يحتلون مواقع في صفوف هذه الارستقراطيه نفسها ، كما كان الشأن في اليونان , بل كانت مواقعهم في الجهة الأخرى من الحاجز الذي يفصل بين الطبقات الاجتماعية ، أي الجهة التي يوجد فيها الكثرة الكاثرة من الشعب ( ... ) فالطبقة التي تحرك الفكر الاجتماعي المعارض هي نفسها الطبقة المستقلة وهي تتمتع بحرية نسبية على عكس العبيد.( ).
فالملاحظ إن المجتمع الخراجي يرتبط بالاحتجاج على الدولة بالاحتجاج على الآلهه وتوجيه النقد لها كما يلاحظ في النصوص البابلية ، وذلك بسبب العلاقة المباشرة التي يقييمها الرجل الشرقي القديم بين الحاكم الطاغية وبين الآلهه: فالحاكم الطاغية هو المالك الوحيد ، واعتباره كائناً يجمع بين السلطة والملكية يجر إلى إعطائه أبعادا كونية واعتباره يمتلك أسرارا إلهية. هذا من جهة ومن جهة أخرى فالخصب في نظر الفلاح الخراجي مرهون، كما رأينا من قبل، بإرادة الطاغية. ومن هنا ينظر أليه كشريك للسماء في موضوع هو أصلاً من اختصاص الآلهة، اعني الماء والخصب. وهكذا فهذا النوع من الجمع والتوحيد بين الآلهة والطاغية يقود ضرورة إلى النفي الديني الآلهة. إن تسييس المتعالي أدى إلى التعالي بالاحتجاج السياسي، إلى الارتفاع به إلى المستوى الإلهي .( )
إن هذه النصوص التي يسوقها عابد الجابري تدفعنا إلى تحليل الترابط بين الرعوية السياسية والرعوية الإلهية التي ما تزال حاضرة في اللاشعور الخفي فهناك اطروحات في السلطة والدين منها.
1- الفرضية الأولى التي يقدمها ( غوشيه ) عن الظاهرة الدينية في المجتمع البدائي حيث يتناول مسألة الانفصال الأصل الذي يشكَّل جذر الواقعة الاجتماعية بما هي كذلك.
وبالفعل ، فان التنقيب الذي قام به (( غوشيه )) عن جذور الواقعة الدينية ، كما تتجلى في معظم المجتمعات البدائية يكشف عن جانب هام من جوانب الاجتماع البشري يمكن تلخيصه بالقول: ثمة انقسام اصلي يخترق المجتمعات البشرية منذ البدء ، ثمة فاصل بين المجتمع ونفسه لأقوام لأي مجتمع بشري من دونه ، ثمة تنافر يلازم ، منذ الأصل ، اتحاد البشر وتجمعهم. لذا يعقل غوشيه الحيز الاجتماعي بتعابير جديدة، مفادها ( إن لا مجتمع واحد بطبيعته ) .
وهذا الانفصال ـ الذي يشكل البنيان السياسي الكامن في اصل كل واقعة اجتماعية ، وبشكل شرط أمكان كل سلطة ـ تجلَّى في البدء من خلال الشكل الديني ، الذي يقضي بأن يوضع مرجع المجتمع في ( خارجه ) أي ، بان يبعد خارج المجتمع ، المبدأ الذي يؤسسه ويحميه كيانه ، والمصدر الذي يكسبه شرعيته ونظامه ، والمكان الذي يستمر ـ ابتداءً منه ـ معنا ويعقل ذاته.( )
فان الانفصال هو عندما يفترض المجتمع إن قوانينه جاءت من قوى مفارقة هي الآلهة. وكانت هذه بنظر غوشيه محاولة من المجتمع البدائي دون ظهور الدول فالاعتقاد بان مصدر التشريع والتقرير يأتي من خارج المجتمع إنما هو رفض المجتمع لقيام سلطة داخلية تملك حق التقرير وإعطاء الأوامر ، والتسليم بارتهان البشر للعالم الأخر ، إنما هو محاولة الجماعة لمنع (( ارتهان الإنسان للإنسان )).( ).
فالدين هو في أصله دَيْن البشر للعالم الآخر وللكائنات العلوية وللقوى الفائقة. وفكرة الدين هي التي تتيح المجال حسبما يرى غوشيه لإدراك طبيعة السلطة للوقوف على ماهية الاجتماع ذاتها. وبيانه ، إن الدين يتضمن أولا مبدأ ( الخارجية ) أي القول بأن المجتمع يستمد قوانينه من خارجه لا من ذاته. ويتضمن ثانياً ، مبدأ (( المغايرة )) أي القول بأن البشر مدينون بمعنى وجودهم إلى غيرهم وليس إلى بشـر مثلهم ، ويتضـمن ثالثاً ، مبدأ
(( الانفصال )) ، أي القول بوجود فارق أو مسافة بين المجتمع ومصدره ، ، وبين الجماعة والمبدأ المؤسس لها. فأن هذه المباديء تحدد أسـس الواقعة الدينية البدائية فإنها تشــكل من جهة أولى شروط أمكان الدولة ؛ لان نشوء الدولة ما كان ممكناً الإ أن يعقل المجتمع نفسه بواسطة مبدأ خارج عنه.( ).
اذا كانت هذه آلية المجتمع البدائي في المحافظة على وحدته من التمايز فإنها تسهم في خلق عالم مفارق وأسبغ الشرعية على الملوك اذ في حين هي جزء من نظام تشريعي ماضي من الثقافة الشفاهية بوصفه عرفاً يضفي القدسية على الوضع السياسي يرجع تشريعاته إلى الآلهة وجوب الخضوع لها ويعلي من شأن الملك في نفس الوقت.
فهذه الآلية تم استخدامها على ما قاله ( غوشيه ) في المجتمع البابلي القديم الذي كان يخضع لهذه الجبرية التي ينسبها إلى الالهة وهي صدى لجبرية سياسية واجتماعية التي تجد تمظهراتها في الظاهرة الدينية عبر الحديث عن الرمز والمقدس والاعتقاد والأسطورة والطقوس تتحرك فيها الأهواء بطرق قد لا تجد غير القوة وسيلة للتعبير عن ذاتها فالدين نسق متضامن من الاعتقادات و الممارسات المرتبطة بأشياء مقدسة ؛ فانه يولد حدوداً وممنوعات ، وأوامراً ونواهياً ، وقواعد أخلاقية تؤسس النمط العلائقي للجماعة ، فالدين بوصفه نظاماً رمزياً وعقائدياً متكاملاً شاملا مقدساً ، ومن خلاله ينحت المؤمن عالماً يتحرر فيه من عزلته ومن تيهه.( )، لكن هذا الدين يكون عرضة للتغير بفعل الصراع السياسي الذي يتم التعبير عنه وكأنه استجابة لإرادة كونية ، حيث يقوم الرهان السياسي إعادة تغير الرموز وبقاء الذاكرة.
الفرضية الثانية: وهي العائدة لـ ( كلاستر ) الذي كان يعد التفكير ضد التيار شرطاً لأي تفكير حقيقي ، عرض قاده ذلك إلى رفض التصّور السائد في الفكر الغربي ـ وكذلك الامر عند ابن خلدون الذي يعد السلطة لا تنشأ إلا بالغلبة والقهر ـ عن السلطة ، من خلال إعادته النظر في مفهوم السياسي آخذاً في الحسبان الاعتبارات الاتية:
أولا: إن السـلطة السياسـية امرّ ملازم للحياة الاجتماعية ، بمعنى انه لا مجتمع من دون ســلطة ، وهذا يصح على التجّمعات البدائية ؛ بحيث لا يجوز اعتبارها سـابقة على السياسي ، أو مرحلة جنينية للمجتمع السياسي.
ثانياً: إن المؤسسـة السـياسية ، وان كانت غائبة عن المجتمعات البدائية ،فان غيابها
يخفي شيئاً ما ، هو بالتحديد ذو طبيعة سياسية.
ثالثاً: إن السلطة السياسية ، ليست بالضرورة قسرية ، مادام ثمة أمكان لوجــود سلطة لاتقوم على القهر والعنف. وهذا ما افترضه كلاســتر منذ البدء ، ومــا سـتثبته له الدراسات الميدانية فيما بعد ، وفي مقالته ( أثريات العنف ) وهــي مقالة يحلّل فيها ، بشـكل رئيـس ظاهرة الحرب ، ويختلف مع ( هوبز ) في مـا خص الحرب ليفي شتراوس فيما يختص بالتبادل ، فان كلاسـتر يركز علـــى الاتجاه الطبيعي فيما يركز الثاني على الجانب الاقتصادي ، اذ يرى الحرب تنتمـي إلى عالم الثقافة وليس الطبيعة وموقفه من الثاني إن الحرب لا يفسرها الاقتصــاد على السياسة.

وعلى هذا فان الحرب هي وسيلة سياسية بالدرجة الأولى للحفاظ على استقالات كل مجموعة وحريتها لذلك يقوم منطق الاجتماع البدائي على ( التشتت والتعدد ) انه منطق يولد الفوارق ، و يتعارض مع منطق التبادل الشامل ، الذي هو منطق التماهي والتوحيد ( ... ) فالجماعات البدائية تحرص على المساواة ، لذا فهي ترفض الانقسام الاجتماعي داخلها ، وتعمل على استبعاد اللامساواة ومنع الارتهان. ونمط الإنتاج المنزلي لما يخدم هذا الهدف بالذات بمنعه أمكان الاستقلال. غير إن الحرب تفضي لا غالب ولا مغلوب ، وبالتالي فأن حرب كل واحد لكل واحد تفضي ، لا محالة ، إلى إقامة علاقات سيطرة يمارسها الغالب ، وهذا يعني اضمحلال المجتمع البدائي أن يرتضي الصداقة الشاملة ولا العداء الشامل ، لان الأولى تفقده هويته ، والثاني وحدته وانسجامه. ومن هنا لجوء الجماعة البدائية إلى التحالف ، فاستحالة حرب الكل ضد الكل تدفع الجماعة إلى تصنيف الآخرين إلى الأصدقاء وأعداء ، ( ... ) وهي إذ ترتضي التحالف ، فإنما تفعل ذلك مكرهة ، لأنه من الخطورة خوض الحرب بصورة منفردة ، فالتحالف وسيلة لاهدف ( ... ) وإذا كانت الحرب وسيلة لغاية سياسية ، هي الإبقاء على استقلال الجماعة وتمايزها والحفاظ على كينونتها ( ).

فان هذه الافتراض الذي يظهر حضورا سياسيا في بداية الاجتماع الإنساني الذي يعتمد الحرب كوسيلة لمحافظة على كيان الجماعة الزراعية أو الرعوية فإنها في ظل الزراعة عاشت حروبا حولت المزارع القديمة إلى مقرات عسكرية يتوسطها بيت الإله والحاكم الذي هو القائد فان الحرب والرموز سرعان ما حولت الجماعة إلى كيان يخضع إلى الحاكم في ظل مدينة يتحول الحاكم المستبد بها إلى وسيط بين الإله والشعب الذي خضع ، فالتجربة العراقية القديمة قد مرت به الجماعات البدائية الزراعية والرعوية المرتحلة حتى استقرت في مدينة لها نظامها الديني ومخيالها العقائدي وفيه يحصل ارتهان الإنسان إلى الإنسان إلا انه يعبر عنه إلى ارتهان الإنسان لغاية كونيه دينية وهذا ما يظهر في الأدب العراقي ملحمة جلجامش وارتهان شعب اوروك للملك الذي يتم التعبير عنه بإرادة إلهية تخلق له خصماً هو انكيدو..
الفرضية الثالثة:عن السلطة الرعوية يطرحها مشيل فوكو حيث يحدد الفــرق بين (( السلطة الرعوية )) في الشرق القديم والفكر السياسي عند اليونان ، وذلك من خلال المقارنات الآتية:
أ‌- يلاحظ أولاً إن الراعي في الفكر الشرقي القديم يمارس سلطته على ( قطيع ) يرعاه ، وليس على الأرض كما في الفكر اليوناني. وهكذا تختلف العلاقة بين الآله والبشر هنا عنها هناك: فالآلهة عند الإغريق يملكون الأرض ، وهذه الملكية هي التي تحدد العلاقة بين الناس وآلهتهم ، وبعبارة أخرى إن علاقة الآلهه بالناس تمر عبر الأرض: الآلهة يتصرفون في الناس بوساطة الأرض من خلال ( التحكم في الفصول والخصب وأحوال الناس. أما في الفكر الشرقي القديم فليس هناك مثل هذا ( التوسط ) في العلاقة بين الإله الراعي ورعيته. إن العلاقة بينهما علاقة مباشرة: الإله الراعي يمنح الأرض لشعبه أو هو يعده بها. فالآلهة في الفكر اليوناني تملك الأرض ومن خلالها وبواسطتها تتصرف في أقدار الناس ، أما الفكر الشرقي القديم فالإله يملك العباد وقد يعطيهم الأرض ، وقد يعدهم بها.

ب‌- مهمة الراعي أن يجمع شمل الرعية ويقودها وليس ثمة شك في إن مهمة الرئيس السياسـي عند اليونان الهدوء والأمن داخل ( المدينة ) وعلى إشاعة الوحدة والائتلاف فيها. ولكن الفرق بين الفكر الشرقي القديم والفكر اليوناني في هذه المسألة فرق واضح أيضاً: ذلك إن ما يجمعه الراعي الشرقي هم الأفراد المتناثرون المشتتون الذين يلبون نداءه اذا دعاهم للاجتماع لصوته و (( ضميره )) ولكن ما إن يختفي الراعي حتى يتشتت شمل القطيع / الرعية.

ج_ الراعي في الفكر الشرقي يضمن الخلاص للرعية. واليونانيون يقولون أيضـا إن الالهه تنقذ المدينة ، وهم كثيراً ما يقارنون الرئيس الفاضل بربان سفينــة يقف فيها بعيداً عن الصخور فيجنبها الارتطام بها. لكن الكيفية التي يخلص بها الراعي في الفكر الشرقي رعيته تختلف عن الكيفية التي ينقذ بها الربان سفينته: فالرعية لا تعني قيادة السفينة وتجنبها الأخطار بوصفها كلاً ، أي كسفينة ، بـل هي رعاية دائمة يقوم بها الراعي لكل فرد من رعيته ، كلاً على حدة.

د_ ويبرز فوكو فرقاً أخر هذه المرة بممارسة السلطة ودوافعها: الرئيس ، رئيـس
المدينة عند الإغريق يصدر فيها عن فكرة الواجب فالواجب ، واجبه رئيســاً هو الذي يفرض عليه. أما الثواب الذي يناله عندما يقوم بما يفرضه عليـــه الواجب ، من الانقطاع إلى العمل من اجل المصلحة العامة ، فهو تخليد الشعب له: فالذين يضحون بحياتهم أثناء الحرب ، من اجل المدينة ، أبطال خالـدون.
أما الراعـي فهو يصـدر رعايته لرعيته ، لا عن فكرة الواجب بل بدافــع ( الإخلاص ) وهو يخلص لرعيته ويسهرعلى رعايتها ، وذلك شغله الدائم من خلال انه يعمل على تدبير طعام قطيعه بينما قطيعه نائم وانه يسهر عليه بعينه التي لا تنام لا يسهو ولا يغفل عن أي فرد منه ( ).
هذا التصور يقدمه محمد عابد الجابري وفيه تظهر أمامنا ثنائية اليونان / الشرقي في حين إن مشيل فوكو يحاول تأصيل مقولة الواجب مقابل مقولة الإخلاص المسيحية التي تمتد بجذورها إلى التوراة وبذلك شكلت جذرا لمفهوم الدولة بإطارها الغربي ( لكي تؤمن المسيحية لنفسها هذه المعرفة الفردية ، امتلكت وسيلتين أساسيتين مستعملتين في العالم الإغريقي: فحص الضمير وتوجيه الضمير لقد تبنتها لكنها أحدثت فيها تغييراً كبيراً ... كان توجيه الضمير يشكل صلة دائمة: لم يكن عضو الرعوية يُساق فقط لكي يجتاز بانتصار احد الممرات الخطرة. كان يُساق فقط لكي يجتاز بانتصار احد الممرات. وأي محاولة للتخلص من ذلك كانت تعرضه حتماً للهلاك. أما فحص الضمير فلم تكن غايته تقوية الإحساس بالذات ، بل تمكين الفرد من أن ينفتح على موجّهه وان يكشف له أعماق النفس )( ).

والملاحظ إن الأمر لدى ( فوكو ) كان يقوم على نقد مهمة الدولة الغربية الحديثة ، أما عند ( الجابري ) فهي تقوم على نقد الفعل السياسي العربي وامتداداته ونحن نرى إن مسألة بين العقل والسياسي اليوناني مقابل المسيحي عند فوكو أو الإسلامي عند الجابري ، أما نحن فنرى إن مخيال السياسي العراقي القديم يشكل الأساس الذي تطور باتجاهين الأول التصور العقلاني الميتافيزقي اليوناني الثاني التوحيدي القدسي وسلالته التوراتية المسيحية الإسلامية.

وتناول الموضوع رغم مسافاته الشاسعة جاء فيه إهمال لجذر الشرقي العراقي / المصري الذي مثل البعد الأساس في تشكيل الخيال السياسي اليوناني والتوحيدي معاً.
فالتصور اليوناني للواجب الذي يفضي بتقدير الشعب للحاكم له اساس عراقي قديم وذلك يعود إلى ملحمة جلجامش التي كانت تعكس المخيال السياسي الذي شكلته المدينة العراقية في ذلك الوقت فهذه الملحمة تعطي تصوراً للعالم الأخر الذي هو انعكاس للتصور السياسي ، فالمدينة تجعل من العالم الأخر ( السفلي ) عالماً عبثياً وليس أمام الراعي السياسي ( جلجامش ) من أمل إلا النضال من اجل الحصول على الخلود والذي فشل في الحصول عليه حسب المخيال الملحمي فالذي يبقيه أن يعمر المدينة ويدفاع عنها ليعيش حياته باعتبارها الهدف ، لذلك كانت النتيجة في خلوده في ضمير الشعب الذي يخلد ذكراه وهذا التصور ذاته في الفكر السياسي.

بالمقابل نجد إن الفكر اليوناني ايضاً يتأثر بالفكر المصري الذي يعطي تصوراً سياسياً أخر يوظف فيه مخيالاً سياسياً العالم الأخر فيه أهمية كبرى فيجعل الخضوع للإرادة الالهيه وجبريتها ، نصيباً في الفوز بالجنة في العالم الأخر ، وهذا تطلب محاربة شهوات الجسد وتنقية النفس ، فكان لهذا تأثيراً عميقاً في الفكر الباطني اليوناني الاورخلي والفيثاغوري وسقراط ومقداراتهم.

بالمقابل كان للفكر العراقي السياسي في مرحلة التوحيد البابلي اثر كبير على التوراة ، أما المسيحية فقد جمعت بين الجذر التوراتي والتأثير الاغريقي.
وهكذا كانت تلك التصورات السياسية العراقية ذات اثر عميق فيما بعد وتشكل آصاله إنسانية رائدة..

أما السلطة التي أثرت في تشكيل المخيال السياسي العراقي القديم ، فنحن نجد الفرضيات الثلاث مجالا للاستثمار في دراسة السلطة في العراق القديم حيث نجد إن هذه السلطة قد تغيرت بحسب المراحل التاريخية وبالتالي تغير مخيالها السياسي الذي يسبغ الشرعية عليها ، على وفق الظروف الآتية:

1- في ظل القرية بوصفها تمثل شكلاً سياسياً واجتماعيا واقتصادياً أول داخلها ظهرت أول القوى سواء كانت زراعية أم رعوية ونجد فيها ذلك المجتمع الذي كانت تسوده الاستقلالية والمساواة الذي ظهرت داخل الظاهرة ـ الدينية التي نسب اليها اصل السلطة التي حاول من خلالها أن يقر المساواة بالخضوع إلى قوى مفارقه ، في حين إن هذه الظاهرة هي انعكاس للوضعية الاجتماعية والمستوى السلطوي داخل ذلك المجتمع اذ نجدها بوضوح في عبارة ألام الكبرى وابنها ، ثم في المجتمع الإلهي الذي هو انعكاس للمجتمع البدائي ، وفي هذه المرحلة ، وقد وجد من خلال الظاهرة الدينية تسويغا أسطورياً لوضع الزراعي وتفسيراً لظواهر مثل تغير الفصول وحركة الكواكب وأثرها على الإنسان ، وقد عاشت تلك المجتمعات تغيرات خلقت صراعات كانت تحتمي بالإله ومن الرجال المدافعين مراكز قوى فولد ظاهرة جديدة .

2- في ظل الهيمنة المدينة: التي شكلت ظهور تغير اجتماعي بظهور دور فاعل للرجل بموازاة ألام حيث الانقلاب الذكوري فظهر هذا واضحاً في ملحمة جلجامش حيث أصبح للبشر دور في المجتمع مقابل الآلهه وكان هذا ظهور للرعوي السياسي وكان المجتمع يشكل لذلك تغيراً في طبيعته حيث اختفاء مرحلة المساواة بظهور أنصاف الالهه وأنصاف البشر فإذا كانت الحرب وسيلة للمحافظة على استقلالية المجتمع والمحافظه على المساواة بين أفراده فان الحرب كانت وسيلة لظهور الرعوي السياسي.

3- في ظل هيمنة المدنية الكونية ( التوحيد ): حيث شهدت هذه المرحلة تغيراً كبيراً وذلك بتحول المجتمع من طابعه السياسي الممثل ( بدولة المدنية ) حيث حدث التوحيد السياسي الذي قاده الرعوي السياسي الاكدي ( سرجون الاكدي ) فهذه الوحدة السياسية كانت بحاجة إلى مخيال سياسي وديني فظهرت قصة الخليقة البابلية ، وقوانين حمورابي التي تمثل هذه الشمولية والمرحلة التوحيدية والقضاء على العماء بظهور آله واحد يملك القدرة الحق بالكلمة يخضع له كل الالهه فكان يسبغ الشرعية على الوحدة السياسية ، وكانت المراثي الدينة تمثل انعكاساً حضارياً لهذه الوحدة.

كانت الحقب الثلاثية يمثل كل منها مخيالاً سياسياً يجد انعكاساً في النصوص الملحمية التي تشكل العتبة التي تظهر المرحلة اللاهوتية التوحيدية والميتافيزيقية اليونانية.



#عامر_عبد_زيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحلم العراقي القديم
- قراءة في كتاب قراءات في الخطاب الهرمنيوطيقي للدكتور عامر عبد ...
- أطياف مدني صالح
- اشكالية النهضة ج1 -من كتاب اشكالية المثقف -
- اشكالية النهضة ج2
- الحضارات صراع أم حوار
- التأويل اللاهوتي لتاريخ عند أوغسطين
- نظرية المعرفة
- إشكالية الخطاب الإعلامي والتحول الديمقراطي العربي
- من اجل إحياء العقلانية العراقية الغائبة
- آراء أهل المدينة الفاضلة
- رهانات الحداثة الإسلامية
- التأويل والريبة عند ماركس
- مفهوم الهوية وقبول الأخر
- مقاربة في رواية -الحنين إلى ينابيع الحب -
- تحولات -بروتيوس-(*)
- مجلة قراطيس
- رهان الهوية واليات التعايش في العراق الجديد
- جدلية المثقف والسلطة في الخطاب السياسي عند فلاسفة الإسلام
- مقاربه في المنهج


المزيد.....




- أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن ...
- -سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا ...
- -الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل ...
- صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
- هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ ...
- بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
- مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ ...
- الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم ...
- البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
- قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عامر عبد زيد - السلطة وأثرها في تشكيل المخيال السياسي العراقي القديم