|
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية في فوضى الشرق الاوسط 6- تنبه الكرد لذاتهم في كردستان ، وموجز قصير عن المقاومة
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1126 - 2005 / 3 / 3 - 10:56
المحور:
القضية الكردية
6 – تنبُّه الكرد لذاتهم في كردستان، وموجز قصير عن المقاومة: بينما عملنا على تعريف هذا الموضوع على طول هذا الفصل، لِنَسْعَ إلى إكماله عبر خلاصة ونتيجة مختزلة. تبدأ الثورات السياسية الأوروبية عندما تتنبه الشعوب إلى ذاتها، وإلى مدى اختلافها عن النظم المَلَيكة. يتعلق هذا الانتباه أولاً بكون تاريخ تلك الشعوب مختلف عن تاريخ المَلَكية. حيث تدرك الشعوب أن كل التواريخ المدونَّة، ليست إلا جزءاً من المسار الكلي، معنياً برواية قصص تَكَوُّن المَلَكيات والإمبراطوريات واستمرارها. يتكاثف هذا المفهوم بصدد التاريخ في منطقة الشرق الأوسط بنحو أكبر. حيث يصبح الملوك والأباطرة إلهاً بالذات أو ظلالاً للإله، ليعبِّروا عن القوة المعيِّنة المطلقة لكل شيء يهم المجتمع. من المحال التفكير في وجودٍ أو بدنٍ مستقل عنهم. ولا يمكن أن يجد الأفراد الرقيق (العبيد) معناهم، إلا بكونهم جزءاً من جسد المَلَكية. أما التحلي بهوية مستقلة، أو حقوق الإنسان، أو حتى الديمقراطية؛ فهي مواضيع لعينة، يتوجب ألا تتواجد حتى في الفكر. إنها تمثل الحقائق اللعينة مقابل قدسياتهم. شُرِع بالنقاش حول هذا المفهوم من قِبَل بعض المتنورين والمؤرخين في إنكلترا وفرنسا، قُبَيل الثورة الإنكليزية عام 1640، وفي بدايات القرن الثامن عشر. والخلاصة أنه تم البلوغ إلى فكرة وجود هوية خاصة بالشعب والقوم والبلد، مستقلة عن المَلك. وأنه ثمة تاريخ لتلك الشعوب والأقوام، مستقلة عن تاريخ المَلَكية. ومن بعدها بوشر بتحديد مختلف المطالب الطبقية تحت اسم الحقوق القومية. وذهبت كل طبقة إلى مطابقة ذاتها بالأمة. هكذا برزت موجة القوميات الكبرى أولاً في أوروبا، لتعقبها بعد ذلك الحركات الطبقية على التوالي. أما في منطقة الشرق الأوسط وتركيا، فخُطِيَت أولى الخطوات نحو اكتساب الوعي بوجود شعبٍ وأمة مختلفين عن الباشوية في عام 1840، عبر حركة "جان تورك" و"العثمانيين الشباب"، بعد حركة الإصلاح الاجتماعي. وبدأ المتنورون في نظام الحكم الدستوري الأول والثاني، بالحديث رويداً رويداً عن الفارق الكامن بين الباشوية والأمة. حيث نطقوا بالجمهورية والأمة التركية، على نحو بالغ الراديكالية. وقد خطا أتاتورك خطوة عظيمة, من حيث تطويره مفهوم الأمة المختلف عن العثمانيين، وتطبيقه إياه؛ رغم وجود الجوانب السلطوية الأبوية لديه. لقد كان شديد التأثر بالمفهوم القومي الفرنسي. وكان منتَظَراً تطوير مفهوم قومي راديكالي في أجواء الاحتلال. وبعد التحرير قام بقمع الواقع الاجتماعي بتأثير من التوحيدية القومية المفرطة. بالتالي، بقيت قيمته الثورية محدودة. أما القوموية اللاحقة لأعوام الخمسينات، فتحاملت على المجتمع بنسبة ملحوظة، عبر الفاشية. وبينما قادت التركيبة التركية – الإسلامية الجديدة اللاحقة لأعوام الثمانينات إلى الخلط بين القوم والأمة، أدَّت بذلك إلى فساد التناقض والصراع الطبقي جيداً. بالمقدور التفكير في الإسلاموية الحديثة كخلاف لهذ الاتجاه. شوهدت مستجدات مشابهة في كل من الساحتين الإيرانية والعربية أيضاً. حيث كانت ظاهرتا التنبه للذات مجدداً والمقاومة تغذيان بعضهما بعضاً. يستمر هذا التنبه للذات في يومنا الراهن بتجذره في ميادين الأيكولوجيا والفامينية والساحة الثقافية الأدنى. ثمة صلة وثيقة بين استيعاب التعددية والاختلاف، وبين الحرية. من المحال تخطي التأثير المخدِّر والاستعبادي للتكاملات، إن لم تُدرَك التعدديات. تمهد الهويات المعتمدة على التعددية السبيل إلى مجتمعات أكثر حرية وخلاقية. أما تَنَبُّه الكرد لكونهم أمة وشعب في كردستان، فقد حدث في وقت متأخر أكثر. فرغم إيقاظ التمردات المندلعة في القرن التاسع عشر لعواطف الكردياتية، إلا إنها لم تتخطَّ نطاق الباشوية والمَلَكية كمصطلحَين أساسيَّين. فالكردياتية المختلفة كانت تعني كردياتية مَلَكية لا تفكر كثيراً في الانقطاع عن مفهوم سلطنة العصور الوسطى. لذا، فإن الوعي القومي والشعبي الكردي كان بعيداً عن الاستيقاظ والانتباه منذ القرن التاسع عشر، وحتى أواسط القرن العشرين. بدأ إسدال الستار عن واقع الشعب الكردي في النصف الثاني من القرن العشرين، عبر الجدالات الدائرة بين المتنورين. حيث بدأ هذا التيار أساساً بين صفوف التقاليد اليسارية في تركيا. في حين أن الكردياتية، التي يغلب عليها طابع العشيرة والمشيخة في جنوب كردستان، كانت مفتقرة إلى القدرة على تجاوز الاتجاه الكلاسيكي. حيث لم تكن عميقة في مفاهيمها، بل منحصرة في المفهوم القائل بضرورة مجيء المَلك الكردي محل المَلك التركي أو العربي أو الفارسي. كذلك هي حال الأحزاب الاشتراكية المشيدة والشيوعية، والأحزاب البورجوازية الصغيرة والإقطاعية، حيث كانت بعيدة عن بلوغ مصطلح أمة أو شعب كردي مختلف بحد ذاته. واكتفت فقط ببعض التنويهات التكتيكية في هذا الشأن. وبقيت عاجزة عن القيام بنشاط تاريخي وسياسي حقيقي يذكر. أما التقاليد اليسارية في تركيا، فقدمت مساهمة مهمة في تثقيف وتوسيع نطاق وعي الشعب الكردي، وخاصة عبر حملتها في أعوام السبعينات. فهتافات "دنيز كزميش" بالأخوّة والحرية الكردية – التركية، وهو على منصة الإعدام؛ تتميز بمعاني تاريخية جليلة. كذلك هي الحال بالنسبة لانطلاقات العديد من الثوريين المنادين بأخوّة الشعوب، وفي مقدمتهم "ماهر جايان" و"إبراهيم قايباقايا". لكن الشعارات لوحدها بعيدة عن تأمين المقاومة والعملية. فالمقاومة تتطلب البدء بمرحلة جديدة بحد ذاتها. بدأ اختلاف الشعب الكردي وتمايزه بتطور ذي بُعدَين متداخلَين. حيث تطور بالانقطاع عن المفهوم القومي الشوفيني التركي من جانب، وبالانفصال عن القوموية الكردية البدائية من جانب ثانٍ. لم يكن من السهل قطعياً النفاذ والخلاص من أوساط القمع والاضطهاد القاسية التي مارستها الهيمنة الأيديولوجية الثقيلة الوطأة والمنهارة، والتي تتظاهر بالثورية اليسارية المؤسسة من كلا الطرفين المذكورين آنفاً من جهة، وكذلك التي مارستها القوى المهيمنة المحلية المتواطئة مع سلطة الدولة من الجهة الأخرى. فالتسلط الأيديولوجي والفعلي المتفشي، كان يستلزم القدرة الثقافية والتنظيم كضرورة حتمية. هذا بدوره كان يقود إلى المقاومة. لكن الأوساط القانونية والسياسية، لم تكن تفسح المجال لنشاط ذهني سليم. بل كانت تحتم التحرك بطراز سيدنا محمد في مكة المكرمة، وطراز سيدنا عيسى في القدس، وطراز غاليليو غاليلي وجيوردانو برونو في أوروبا النهضوية. لدى محاولتي سرد تلك المرحلة على شكل حكاية، باعتباري أحد الأوائل الذين عايشوها؛ ستُدرَك الحقيقة على نحو أفضل. حيث كنتُ بدأتُ بالشعور بأن التمايز الكردي سيتسبب بالبلاء لنا، مذ كنتُ طالباً في المرحلة الابتدائية. ومنذ المرحلة الابتدائية حتى الثانوية، كانت الظاهرة تفرض ذاتها على الدوام كقيد يكبِّل الأرجل، إلى جانب عدم قدرتي على ممارسة أنشطة ذهنية متعلقة بهذا الموضوع. وكلما هربتُ منها، كلما طاردتني كظلي. لكني في الوقت ذاته كنتُ عاجزاً عن الإمساك برأس خيط يقودني إلى الجواب الشافي، عبر الأيديولوجيا الرسمية، التي طالما تُلَقَّن بكثافة في المدارس. فحتى لو قَبِلْتَ بالتركياتية تماماً، كانت التقاليد الكردية القديمة تقول لك: "أنا هنا" في كل الساحات المحلية – بدءاً من العائلة – لتُشعِرك بأنك كردي، كلما غُصتَ في أغوارها. لقد كان الشخص وجهاً لوجه أمام ازدواجية مريعة. فالانقطاع عن التقاليد والأعراف كان يسفر عن الرياء والزيف، كالهرب المخادع من قسم كبير من الحقيقة الواقعة. كانت الشخصية تُعَرّى وتُفنى. فالانقطاع عن هويتك الخاصة كان يعني الوقوع في فراغ شاسع تام، تماماً كالوُرَيقة المبتورة من شجرتها. أما من الناحية الشخصية، فكان مفاد ذلك فقدان البنية المعنوية للمجتمع. وكان سيُدرَك بوضوح أكبر مع مرور الأيام، وبمعايشة الأمر، أن إنكار الماضي والتقاليد والمجتمع سيقود إلى شخصية مَرَضِيّة بكل معنى الكلمة. مقابل ذلك، كانت التركياتية – والحال عينها في إيران والساحة العربية – تنشط بشكل حفظي واستظهاري بنمط "الطقوس الدينية" التي لا نفهم لغتها، وبشكل أبعد بكثير من نطاق هضمها الطبيعي. فأنْ تُؤَسْلِم باللغة العربية التي لا تتقنها، بل وتجهلها، أو أنْ تتعلم التركياتية بالمراسيم الرسمية؛ كلاهما كانا يتمخضان عن النتيجة نفسها. أنْ تقول "آمين" للأدعية التي لم تفهمها! بالأصل، فبينما كانت الشخصية الكردية تتخبط في متاهات السطحية والجهالة لقرون عديدة تحت اسم الأسلمة، كانت التركياتية المفرطة تُجَذِّر من فساد الشخصية ونتونتها كمظهر ديني معاصر. لربما يكون اعتناق الإسلام أو الاستتراك في سن ناضجة أمراً مفهوماً. فالاحتياجات الاجتماعية تجعل من التحامات كهذه ذات معنى. لكن ممارسة الإسلاموية والتركياتية اليومية كعبادة، لا يمكن أن يكون موضوع تدريب طبيعي أو عصري، على الإطلاق. أردتُ أن أعطي كلا الأمرَين معناهما. وشعرتُ بالنزوع إلى أن أكون رجل دين حسن وذا أصول تركية، مذ كنت في المرحلة الدراسية الابتدائية. ولكن، إلامَ؟ تطور لديّ العزم في الأوساط اليسارية التثقيفية التي تكاثفت فيها الجدالات، وتم فيها التطرق إلى "القضية الكردية" في السبعينات (1970). فالتعهدات الدينية والتركياتية المستمرة طيلة سنين عديدة، لم تكن قادرة على الصمود إزاء اليسار. فأترابنا (مماثلونا) في سن الشباب كانوا ينطقون بكل جسارة بحرية الشعبين ومساواتهما واستقلالهما، دون التمييز بين الكردي والتركي. هذا ما كان سيحدد الطابع الحقيقي للحياة التي سأختارها وأُفضِّلها. ومع خسران القواد الذين كانوا بمثابة الأبطال الأشاوس بالنسبة لي، غدا اقتفائي أثر هذه القضية في هذا الدرب مسألة شرف لا يمكن الاستغناء عنها. أدى قيامي بتبني "الانتماء الكردي" في هذه المرحلة، رغم الضغوطات الثنائية الجانب المفروضة؛ إلى خطو خطوة تاريخية حاسمة. كانت البحوثات في الظاهرة الكردية، التي مَثَّلت الأنشطة المثالية في تلك الأثناء، تسير بالإمكانيات المحدودة. فتفاسير القوموية البدائية التي يطغى عليها الجانب العاطفي، وتفاسير "حق الشعوب في تقرير مصيرها" الدوغمائية للاشتراكية المشيدة، الموجودة في حوزتنا؛ كانت بعيدة عن تزويدنا بالحقائق. حيث انحصرت النقاشات في: "هل الظاهرة الكردية موجودة أم لا؟" و"هل كردستان مستعمَرة أم لا؟". فلا المعطيات والوثائق كانت كافية لإبداء تقربات تاريخية مجتمعية، ولا كان ثمة تعاليل موضوعية عميقة للسوسيولوجيا. بل كان يصدر الحُكم بشأن الأطراف والجوار في أجواء حالكة داكنة. من جانب آخر، كان الوسط السياسي في توتر دائم. وخوف الدولة التقليدي من المسألة الكردية التي تَقُضُّ مضجعها، كان يقود إلى مواقف متهورة وعجولة. كانت الأطراف المعنية تسعى لإنجاز – أو إنقاذ – بعض الأشياء قبل لحظة. إلا أن المعلومات والتفاسير العصرية المحدودة للغاية، كانت تشير بما فيه الكفاية إلى أن الوضع القائم لا يتضمن أي جانب مقبول، أو يمكن القبول به. دعك من التفكير في إصلاح الوضع القائم، بل إن مجرد القيام بتحديدٍ ظاهراتي اعتيادي وبسيط، كان يقود إلى التجريم به والمحاكمة عليه. أما الأمل في ممارسة نشاط علني، فكان نادراً لدرجة العدم. وفي الجهة المقابلة، كان اليسار الملقَّن والظاهرة الكردياتية يفرضان المقاومة كشرط لا غنى عنه بتاتاً. وكأن عدم المقاومة كان يكافئ التخلي عن الإنسانية. فالشرف الحقيقي كان يستلزم تبني الدعوى والدفاع عنها قبل أي شيء آخر، وتحت كل الظروف. لم نتمكن في هذه الحالة، سوى من تكوين مجموعة شبيبية ضيقة النطاق، ومجموعات مؤيدة محدودة في المنطقة. ورغم أننا كنا نتلقى دروساً مكثفة بصدد الحروب التحريرية الوطنية، ونؤمن بإمكانية تدوين الملاحم المرادة بالأساليب الأنصارية؛ إلا أن ذلك لم يكن له فرصة التطبيق، ولم يكن يذهب أبعد من كونه يوتوبيا. فإنْ عَلِقَت الصنارة كان بها، وإنْ لم تعلق فالله كريم، وما بعدها يأتي التفكير!. هنا أيضاً كانت ظواهر الهجرة من مكة المكرمة، وتناثر الحواريين، وانزواء المحاربين في سبيل العلم وزهدهم، تُبرِز ذاتها. كان محتملاً أن يحدث إطلاق أول رصاصة، أو القيام بأول احتجاج، أو أن تُقَدِّم مجموعة المؤمنين بالقضية شهداءها وأسراها وسجناءها في كل لحظة. لقد كانت مرحلة مأساوية تُقحَم في جدول أعمال الظاهرة الكردية، مشابهة لمثيلاتها التي طالما شوهدت في العديد من الظواهر الاجتماعية على مر التاريخ. كان كل شيء يُرغِم على خوض المأساة. والقضية كانت تطلب فدائييها بشكل مطلق. بمعنى آخر، كانت آلهة الطرف الآخر تطلب قرابينها وضحاياها. لم تؤلَّف أو تُدوَّن بعدْ آداب هذا الوسط الذي مر به التمايز الكردي وتطور. لكن، من الضروري – وبكل تأكيد – تأليفها وتدوينها. بل إنها حقاً مرحلة تستوجب استنفار كل الطاقات الروائية الأدبية، واللجوء إلى العديد من فروعها، كاليوتوبيا والمأساة والدراما والقصة والسينما وغيرها. المسألة هي أنه ثمة بذرة متناثرة. ومن غير المعلوم تماماً لدى تناثرها، أهي فاسدة أم لا؟ أستنمو وتزدهر أم لا؟ فقط وفقط، ثمة أمل معقود عليها. وكأنه يسود الخنوع للمرحلة كالخنوع للقدر. وكأني به يقال: "الأمل خبز الفقير، فليأكله حتى يشبع". مرت فترة تناهز الثلاثة عقود على المقاومة الكردية والتباين الكردي المبتدئ في أعوام السبعينات. لا تنحصر الحقيقة الأهم الظاهرة إلى الميدان في التنوير الحاصل في الظاهرة الكردية وبروز فرص الحل فقط. إنها في الحقيقة تعني انهيار الحالات اللااعتيادية التي تكاد تأسر الشعوب والدول المجاورة إليها أيضاً معها. كما تعني انسدال الستار عن شكل القمع والاضطهاد القومي الأجوف. وتفيد بالبرهان على أنه لا فرصة للحياة أمام نظام يكبِّل كل الشرائح المعنية به، ويجعل من الحاكم أسير السجين، ومن السجين أسير الحاكم. الدرس المستنبَط الآخر هو استحالة وجود أية فرصة للتطور، ما لم يتم تبني الكرامة الاجتماعية للشعب. فالكرامة الاجتماعية تعني تبنّي الذات والثقة بها. إنها القدرة على معرفة الذات وتطويرها. الدرس الآخر المفهوم هو أن المجتمعات غير المتحلية بهذه القدرة، لن تكون لها أية قيمة بين المهيمنين عليها. فمن لا خير فيه لذاته، لا خير فيه لغيره. وبينما يكون الكردي بائساً ويائساً إلى هذه الدرجة، فأي قيمة بإمكانه تقديمها لأيٍّ كان من جواره؟ حتى لو استُعمِر (وطنٌ ما)، يجب ترك الطريق مفتوحاً أمام إمكانية تبنّي قيمةٍ ما للتعبير عنها. لقد كانت الدرب مسدودة حقاً أمام الكردي قبل أن يشقها. كان تائهاً، لا طريق له، وفي حال متشابكة ومعقدة بشكل أسوأ من الغابات الكثيفة الموحشة. قد يقال: هل يستحق الأمر تَكَبُّد كل هذه الآلام والخسائر الفادحة من أجل استنباط عدة دروس كهذه؟ الجواب الأمثل الذي يمكن إعطاؤه على هذا السؤل، بالنسبة للأشخاص والمجتمعات على حد سواء، هو طرح سؤال مقابل له. ألا وهو: أبإمكان المجتمع والأشخاص أن يعيشوا بلا كرامة؟ بمعنى آخر؛ أيمكن أن يكون ثمة معنى أو قيمة للحياة، دون التحلي بالهوية، ودون التعبير عن الذات بحرية، والتي يَعتَبِرها الجميع حقوقاً لا غنى عنها في التاريخ والعصرية؟ أبمقدور الذين فقدوا هذا المعنى وتلك القيمة أن يمدوا الآخرين بقيمة ما؟ إن زمرة الإدارة التركية والعربية، بل والفارسية أيضاً، تخدع ذاتها، عندما تنظر إلى الكردي الأبكم والبائس والفاني المنهار بأنه يشكل حالة ملائمة لها. وإذا كان ثمة مشاركة ساهم فيها الكرد في أحرج أوقات تاريخ تركيا، فإن ذلك ينبع – فقط وفقط – من تحَلّيهم بقيمة ما في تلك الأثناء. هل كان بمقدور الكرد الانخراط في حرب التحرير، لو لم تكن قيمهم تلك؟ لم تكن ثمة هوّة شاسعة آنذاك بين الكرد والترك. بل كانوا يتشاطرون المستقبل بآمال مشتركة معقودة على إحراز التطور. أسيكون الكردي جنباً إلى جنب مع التركي، في حال اندلعت حربٌ ما في راهننا؟ أفضل جواب على هذا السؤال أعطاه كرد العراق. أكان سيقع النظام هناك في حالته المأساوية الحالية حقاً، في حال تشبثه بالكرد إلى جانبه كأشقاء له؟ يجب الإدراك بعين اليقين أن العلاقات الكردية – التركية (وبالتالي الكردية – العربية والكردية – الفارسية أيضاً) تعرضت لحالات طارئة كبرى طيلة القرن العشرين. يدوِّن التاريخ أنه لا مثيل للسلطان ياووز سليم بين السلاطنة العثمانيين، مِن حيث حله المشاكل بالعنف. لكن، حتى هو بالذات، كان يرسل الأوراق البيضاء إلى الكرد، لدى صياغته سياسته الكردية. يقال بأنه كان يقول: "اكتبوا ما شئتم، فهو بمثابة قانون". ذلك أن توقيع السلطان ياووز كان موجوداً في أسفل تلك الصفحات البيضاء. يجب أن يكون هناك درس تشير إليه هذه القصة. وعلى الزمرة الإدارية الحالية، المعاندة في الإهمال والإمهال واللامبالاة التي يصعب تصديقها، أن تستوعب ذاك الدرس. لطالما يتم استذكار أتاتورك كقيمة ثمينة بالنسبة للزمرة الإدارية. لكن، لأتاتورك أيضاً سلوكياته الخاصة إزاء المشاكل. حيث كان يعمل أساساً بالمعنى الاجتماعي لأي مشكلة يواجهها بشكل مطلق. فإن كان لا بد من سحقها كان فعل، وإنْ كانت تستلزم شكلاً آخر من التقرب والسلوك، كان يسهر حتى الصباح مفكراً في الموقف اللازم اتباعه، ليقوم بما يتطلبه. ما من أحد يساوره الشك في أنه كان قائداً على هذه الشاكلة. إلا إنه لم يكن يترك أي مسألة في حالة تضيِّق فيها الخناق بهذه الدرجة على وطنه ودولته، وتُغرِقه في الديون، وتهدده بالخطر الدائم. لكن، جلي تماماً أن الهوية التي تقول "الحرية هي ميزتي"، لا يمكن أن تُشاطِرَها مع أصحاب الطرائق الدينية، باسم إنقاذ الدولة (على حد الزعم). كان الكرد يسعون لتفهم الأمر، مهما تكن هناك قومية تركية كبرى. وكانوا يعملون على إيجاد حل للمسألة، انطلاقاً من مزايا الحرية لديهم. وهل يمكن الشك في ذلك؟ ألم يَذكر (أتاتورك) هذا الاحتمال مرات عديدة قبل اندلاع التمردات؟ لم تكن المشكلة عرقلة الكردياتية أو حرية الكرد، حتى لدى التحامل على التمردات. بل على النقيض من ذلك، ومثلما كان يدرك يقيناً؛ ألم تكن ألاعيب الإمبريالية هي التي ستقضي على الكردياتية والحرية في منتهى المطاف؟ إلامَ سيتم التستر على هذه الحقائق؟ وإلامَ سيستمر العناد في التصرفات الاستفزازية التي ستنمُّ عن مقاومة كردية جديدة؟ كانت الدوغمائية طاغية على المقاومة القائمة في السبعينات. وطبيعي أن تأخذ كل عملية كانت تقوم بها تلك المقاومة، نصيبها من النتائج الناجمة. حيث تشكلت الحزبية والجبهوية والعسكرتارية تحت التأثير الكثيب للذهنية الدوغمائية. ورغم كل المساعي الصادقة والأمينة والمضحية، كان من المحال انتظار الخلاص من التقربات الدوغمائية، التي تركت بصماتها على كافة الأزمنة الاجتماعية؛ من حركة غرة وهاوية للغاية نسبةً إلى زمانها. وكلما سُعِي لتطبيق ما هو مفهوم من الاشتراكية والتحررية الوطنية والأنصارية على أرض الواقع، وكلما عُمِل على صقلها وسحجها؛ كان الواقع الأكثر تحديداً للأمور، وحدوده المرسومة، هي التي تبرز إلى الوسط. كانت النظرية مرغمة بالأغلب على تحقيق التحول حسب الحياة المعاشة، لا العكس. والتطورات المشابهة سارية المفعول على نظام القمع والاضطهاد الوطني أيضاً. فلطالما تحرّى النظام أيضاً عن التقربات الدوغمائية وبَحثَ فيها، إيماناً منه بأنه بذلك يجهِّز نفسه لأي احتمال وارد. تتم دراسة المرحلة المقبلة حسب الدروس المستنبطة من الفترة المناهزة للثلاثين عاماً. ليس من حيث المقاومات وعظاتها فحسب، بل ومن حيث التحول الذي شهده العالم أيضاً. هذا وقد شوهدت – ولا تزال – مستجدات مهمة في الظاهرة الكردية ذاتها ضمن كردستان. لكن الأساس هو أن المشكلة تحافظ على حالة الفوضى وتصونها. قد تحقِّق الأساليب السياسية والعسكرية (المجرَّبة من قِبَل الأطراف المعنية) للحل تطوراً ملحوظاً في واقع كردستان المرئي، بقدر ما قد تحصل في عموم منطقة الشرق الأوسط. الدرس الأعظم المستخلَص من مفترق الطرق الذي بلغه التاريخ هو العمل أساساً بالسلم في الحل الديمقراطي للمشاكل العالقة، والتخلي المتبادل عن العنف. وقد طُرِح ذلك بكل عزم وإصرار. وإذا لم يُولَ اعتبارَه بذات العزم، بل وإذا تم سلوك السبل العسكرية بعناد؛ فستتولَّد الحاجة للمقاومة العسكرية الفعالة، بغرض نفاذ الواقع الاجتماعي التاريخي من الفوضى. ستفرض هذه المقاومة العسكرية ذاتها في هذه المرة كحديث الساعة الساخن. لم يكن هناك مفترق طرق بمعنى السبل العسكرية والسبل السياسية في السبعينات. والمقاومة كانت كالقدر المحتوم. لكني سعيتُ في هذه المرافعة إلى إثبات استحالة قول الشيء ذاته من أجل أعوام الألفين. ثمة فائدة كبرى في دراسة وتمحيص التطورات الناجمة عن الفترة الماضية المناهزة للثلاثين عاماً، والمارّة كالإعصار؛ والتدقيق فيها من جميع جوانبها بغرض التمكن من الرؤية الكثيبة للمشاكل وإمكانيات التطور المحتَمَل انبثاقها من أحشاء كلا السبيلين، العسكري والسياسي.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدفاع عن الشعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردي
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية القضية ، الكردي
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردي
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية القضية الكردية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الرابع الظاهرة الكردية ، القضية الكردية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثالث الفوضى في حضارة الشرق الاوسط والح
...
المزيد.....
-
جوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا بشكل رسمي
-
مقرر أممي: قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت تاري
...
-
جنوب السودان: سماع دوي إطلاق نار في جوبا وسط أنباء عن محاولة
...
-
الأمم المتحدة تحذر من توقف إمدادات الغذاء في غزة
-
السعودية تنفذ حكم الإعدام بحق 3 أشخاص بعد إدانتهم بجرائم -إر
...
-
ماذا سيحدث الآن بعد إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت
...
-
ماذا قال الأعداء والأصدقاء و-الحياديون- في مذكرات اعتقال نتن
...
-
بايدن يدين بشدة مذكرات اعتقال نتنياهو وجالانت
-
رئيس وزراء ايرلندا: اوامر الجنائية الدولية باعتقال مسؤولين ا
...
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|