|
جنوب أفريقيا عصر مابعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد)
خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 3873 - 2012 / 10 / 7 - 09:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
جنوب أفريقيا عصر مابعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد) مقالات لعدد من الكتاب وكانت فى الأصل مادة ملف عن تطورات تاريخية فى جمهورية جنوب أفريقيا فى 1994 ترجمة وتقديم: خليل كلفت المحتويات
جنوب أفريقيا: عصر ما بعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد) مقدمة بقلم المترجم ......... 1: تأمين الفصل العنصرى للسلطة الاقتصادية فى جنوب أفريقيا - لورانس هاريس ....... 2: مهمة ضخمة فى انتظار إعادة البناء الوطنية - كريستين عبد الكريم ديلان .............. 3: خلفيات التغير فى موقف الحزب الحاكم فى جنوب أفريقيا - أليكس كالينيكوس ........... 4: المؤتمر الوطنى الأفريقى من السجن إلى الپرلمان - تشارلى كيمبر ..................... 5: من أدب التحرير إلى حرية الإبداع - چان-پيير ريشار ................................. جنوب أفريقيا عصر ما بعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد)(1) مقدمة بقلم: المترجم حدث تاريخى أخيرا... وبعد تاريخ طويل بشع (منذ وصول الهولنديين إلى هناك فى 1652)، وصراع طويل مرير (تأسس المؤتمر الوطنى الأفريقى فى 1912)، ومفاوضات شاقة (طوال 4 سنوات منذ إطلاق سراح نلسون مانديلا فى 1990)، وانتخابات ديمقراطية (27 أبريل 1994 والأيام التالية)... تنتهى "رسميا" سياسة الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا كسياسة رسمية ودستورية ظلت تقتضى، منذ وصول الحزب الوطنى (الحاكم قبل الانتخابات الأخيرة) إلى الحكم فى 1948، أىْ منذ قرابة نصف قرن، أن يعيش الأوروپيون (البيض)، والبانتو (الأفارقة السود)، والملونون (المتحدرون من آباء بيض وأمهات سود)، والآسيويون (الهنود)، فى مناطق منفصلة، وأن يذهبوا إلى مدارس منفصلة، وأن يعبدوا فى كنائس منفصلة - وكل هذا وغيره فوق أرضية تاريخية من الانفصال الجذرى بين تقدم وثروة البيض وتخلف وفقر وحرمان السود، بين هذين العالمين المتجاورين داخل بلد واحد: عالم الرأسمالية العالية التطور فى مناطق البيض والعالم الثالث (أو "الرابع") فى مناطق أو معازل السود. إننا نبتهج مع كل من ابتهجوا فى كل مكان فى العالم ونحن نشهد نهاية الأپارتهيد أىْ الفصل العنصرى كسياسة. وما لم تقع نكسة لا يمكن استبعاد مجيئها من داخل جنوب أفريقيا، من جهات عديدة متربصة، لتضع حدا لهذا التطور ولتعيد عجلة التاريخ، وإنْ مؤقتا، إلى الوراء، سيكون قد تم قطع خطوة هامة على طريق تحقيق أمل من أعز آمال كل من ناضلوا فى هذا العالم ضد نظام الفصل العنصرى. على أن بريق الحدث التاريخى، هذا الانتصار المحدد لكن المهم، لا ينبغى أن يخطف أبصارنا أو يعمى بصائرنا إلى حد فقدان الموضوعية الضرورية للوصول إلى إدراك واضح لطبيعة وحقيقة وأبعاد ما حدث فى جنوب أفريقيا. والحقيقة أننا فى أزمنة رديئة، وهذه الأزمنة تمنع بحكم التعريف تحقيق انتصارات كاملة أو حتى شبه كاملة، وإنْ كانت تنطوى مع ذلك على آليات تنتهى بنا إلى حالة من الاستعداد النفسى لإسقاطات وأوهام بلا حدود. وما من شك فى أن الفصل العنصرى بوصفه سياسة وأيديولوچية رسمية ودستورية مباشرة تتبناها الدولة ينتهى الآن رسميا، غير أن هذا لا يعنى فى حد ذاته نهاية كل فصل عنصرى، فعلى أو قانونى، كما أنه لا يعنى بطبيعة الحال، ومن باب أولى، القضاء على العنصرية بكافة أشكالها، فليس الفصل العنصرى سوى شكل واحد من أشكال العنصرية وإن كان من أكثرها بشاعة وتدميرا. وهناك بطبيعة الحال ذلك التراكم التاريخى الطويل للفصل العنصرى الفعلى والقانونى، والذى بدأ منذ وصول الأوروپيين إلى تلك المنطقة من العالم فى 1652، أى منذ ثلاثة قرون ونصف القرن. وعندما وصل الحزب الوطنى (الحاكم قبل الانتخابات الأخيرة) إلى الحكم فى 1948 وتبنى الأپارتهيد (الفصل العنصرى) كسياسة رسمية وكأيديولوچية نوعية وكأساس دستورى، لم تنشأ هذه السياسة من فراغ بل كانت امتدادا (بأشكال جديدة) لسياسة البيض فى حكم وعزل وفصل السود وغير الأوروپيين خلال ثلاثة قرون سابقة على هذا التاريخ. أما الآن فلدينا دستور جديد مؤقت، يُفترض أن يحل محله دستور دائم بأغلبية الثلثين بعد خمس سنوات، وجرت انتخابات ديمقراطية على أساس الدستور المؤقت، وفاز المؤتمر الوطنى الأفريقى بأكثر من ثلاثة أخماس مقاعد الپرلمان الجديد، وتشكلت حكومة وحدة وطنية. وهكذا يمكن القول إن سياسة الفصل العنصرى قد انتهت رسميا، ما دام السكان بمختلف أعراقهم سيشكلون معا كمواطنين وعلى قدم المساواة (من الناحية الدستورية) دولتهم الواحدة. لكن هل تبشر نهاية الفصل العنصرى كسياسة وأيديولوچية للدولة بنهاية قريبة للفصل العنصرى بتراكمه التاريخى الفعلى (والذى كان قانونيا أيضا منذ البداية) طوال قرون؟ سوف نرى من خلال متابعة هذا التقديم، وبالأخص من خلال قراءة المقالات المشار إليها، أن التفاؤل الشديد فى هذا المجال ليس له أساس حقيقى. جمهورية كونفيدرالية تحت سيطرة البيض من البديهى أن كل تفكير فى تحويل جمهورية جنوب أفريقيا إلى دولة ديمقراطية عادية من الطراز الغربى تقوم على مبدأ المساواة فى الحقوق بين مواطنين ينطوى على عقدة مستعصية تتمثل فى أن هذه الدولة تتناقض مع مصالح الأقلية البيضاء كما يفهم قادتها العنصريون هذه المصالح. مثل هذه الدولة قد تفكر فى إعادة بناء الحياة الاجتماعية والاقتصادية، انطلاقا من التأميم أو حتى انطلاقا من تطبيق نظام ضريبى جديد ملائم لمثل هذا الهدف. و"الضحية" فى كافة الأحوال هى المصالح الاقتصادية للأقلية البيضاء التى تحتكر ثروات البلاد. بل يمكن أن يتحول مجرد البقاء الآمن لأقلية تضطهد السكان الأصليين على مدى القرون اضطهادا لا هوادة فيه ولا رحمة، إلى مشكلة مستعصية فى حالة سيطرة المضطهَدين (بفتح الهاء) على الدولة. وأمام هذه المخاوف المنطقية للبيض وبالأخص لقادتهم، من السذاجة أن نتوقع أن تقبل الأقلية البيضاء فى جنوب أفريقيا، ومهما كانت الضغوط أو الأهداف، بدولة ديمقراطية لمواطنين متساوين فى الحقوق. وباستبعاد مثل هذه الدولة من خيارات الأقلية البيضاء، لا يبقى أمامها، بافتراض استحالة استمرار نفس النظام السابق، سوى أحد أمرين: إما السعى إلى تقسيم البلاد وإما تفريغ الدولة الموحدة من مضمونها كدولة عادية. ولا نريد أن نقف طويلا عند فرضية استحالة استمرار نفس النظام السابق. ذلك أن مصلحة الأقلية البيضاء فى الإصلاح ترتبط بتفادى ويلات نظام الفصل العنصرى، وبالرغبة فى الحصول على جوائز التخلص منه. وهكذا يمكن القول إن الأهداف من وراء الإصلاح تتمثل فى: 1- تصفية النضال الوطنى الأفريقى بكافة أشكاله، 2- العلاقات مع البلدان المجاورة باعتبارها "المجال الطبيعى" للنمو والسيطرة، 3- العلاقات الطبيعية مع العالم بعد إلغاء العقوبات الدولية بسبب سياسة الفصل العنصرى. وفى ظل موازين قوى مواتية لقوى الاستعمار والرجعية فى كل مكان فى العالم، وغير مواتية للشعوب ولحركات التحرر الوطنى، بدا للأقلية البيضاء أنه لا مناص من الإصلاح لتفادى النتائج السلبية لسياسة الفصل العنصرى وللحصول على جوائز إلغائها، استغلالا لموازين القوى العالمية المواتية، واستغلالا لانهيار أوضاع الدول الأفريقية المجاورة، واستغلالا أيضا لواقع أن حركة التحرر الوطنى فى جنوب أفريقيا بقيادة المؤتمر الوطنى الأفريقى بعيدة تماما (بحكم ضعفها العسكرى وبحكم تداعى حلفائها إقليميا وعالميا) عن أن تكون فى أوضاع تسمح لها بأى قدر من التشدد، أىْ استغلالا لواقع أن المؤتمر الوطنى الأفريقى سيكون مستعدا، شأنه فى ذلك شأن غيره من حركات التحرر الوطنى فى بقية أنحاء العالم، للركض وراء الفرصة الأخيرة، وراء تسويات الأزمنة الرديئة التى تنذر بأزمنة أكثر رداءة، وراء هذا الشر الذى لابد منه حسب تعبير السيد چو سلوڤو الزعيم التاريخى للحزب الشيوعى لجنوب أفريقيا والمستشار الرئيسى لنلسون مانديلا، انطلاقا من أن الشعب الأسود لا يملك الوسائل اللازمة للإطاحة بالسلطة، ولأنه لن تكون لأىّ حرب أهلية طويلة الأمد نتيجة سوى أن تقود البلاد إلى الدمار (لوموند ديپلوماتيك، عدد يناير 1994، مقال پيير بوديه). فما هو الخيار الذى كان ممكنا ومرغوبا من جانب الأقلية البيضاء والذى كان وراء مبادراتها ومفاجآتها التى لم تنقطع منذ سنوات؟ رأينا منذ قليل أن الدولة الواحدة ذات الأهلية الكاملة والسيادة الكاملة والتى يحكمها المقهورون على مرّ القرون كانت مرفوضة بطبيعة الحال من جانب الأقلية البيضاء. ولم يكن أمامها سوى أمرين: إصلاح يُعطى شكل هذه الدولة مع تفريغها من أهليتها وسيادتها وسلطتها كدولة أو السعى إلى تقسيم البلاد. وهنا ينبغى أن نلاحظ أن السيطرة مع التقسيم والفصل كانت تمثل إطار سياسة الفصل العنصرى. أىْ أن هذا التقسيم الذى يحمى البيض داخل مساحاتهم الشاسعة وثرواتهم الواسعة وصناعتهم المتقدمة، ويعزل السود داخل مساحاتهم وجيوبهم الضيقة وبؤسهم الشديد، مع إدخال هذا التقسيم فى إطار دولة واحدة تضمن السيطرة للبيض، هو نقطة الانطلاق قبل التسوية الأخيرة. ولا غرابة فى أن أىّ حل قابل للنقاش كان ينطلق من الحفاظ على هذا التقسيم المقدس. التقسيم بالتقسيم المباشر إلى دولة للبيض ودولة أو دول للسود والملونين والآسيويين، أو التقسيم من خلال الدولة الموحدة شكلا والمقسمة بحكم الأمر الواقع لحماية المناطق البيضاء من تجاوزات أية دولة كاملة الأهلية، ولحرمان المناطق السوداء والملونة والآسيوية من امتداد برامج التطوير الحقيقى إليها على أيدى أية دولة تملك الوسائل الضرورية لمثل هذا التطوير. وبطبيعة الحال كان كلا الاتجاهين (اتجاه التقسيم المطلق واتجاه التقسيم مع السيطرة من خلال دولة مشلولة) قائمين داخل الأقلية البيضاء (وبعض حلفائها). أما اتجاه الدولة المركزية الموحدة فكان بطبيعة الحال اتجاه المؤتمر الوطنى الأفريقى الذى تخلى عنه أمام معارضة الحزب الوطنى ومختلف القوى السياسية والاجتماعية الممثلة للأقلية البيضاء. وقد طالبت اتجاهات بيضاء يمينية متطرفة بأن تصل سلطات المقاطعات إلى حد تحييد الحكومة، وكذلك بمقاطعة مستقلة، بـ "وطن قومى"، للأفريكانر. وكان شعار تحالف الحرية (الذى تشكل فى أكتوبر 1993 كائتلاف يوحد جبهة شعب الأفريكانر والحزب المحافظ وحركة إنكاثا و"إدارات" بانتوستانات كوازولو، وبوفوثاتسوانا، وسيسكاى) هو شعار حق تقرير المصير غير القابل للتصرف لكل شعوب جنوب أفريقيا. غير أن الحل الذى جاء به الدستور المؤقت الذى جرى إقراره فى 22 ديسمبر 1993 هو الذى حظى فى نهاية المطاف بموافقة القوتين الرئيسيتين: الحزب الوطنى (الأبيض) والمؤتمر الوطنى الأفريقى، ثم بموافقة أحزاب أخرى أبرزها إنكاثا فيما بعد. وهذا الحل هو الذى يحقق فى الواقع مصالح الأقلية البيضاء ويحيطها بكافة الضمانات من خلال "دويلات" مستقلة ذات سلطات واسعة، تضمها جمهورية كونفيدرالية فى حقيقتها لأنها كرئاسة وحكومة مجردة من السلطات والوسائل، مع ضمان السيطرة لإحدى هذه "الدويلات" أى "دويلة" البيض بحكم الأمر الواقع، أى بحكم سيطرتها على معظم مساحة البلاد، وعلى ثروات واقتصاد البلاد، وبحكم جيشها القوى الذى يلعب دور الجيش "الفيدرالى" فى حقيقة الأمر. وحسب الدستور المؤقت (انظر مقال پيير بوديه حول الكثير من المعلومات الخاصة بهذه النقطة) فإن "الأقاليم"، التى سوف تسمى من الآن فصاعدا "مقاطعات"، ستكون لها سلطات تنفيذية فى عدد كبير جدا من المجالات: الزراعة، التعليم الابتدائى والثانوى، الصحة، الإسكان، الحكومات المحلية والتنمية الحضرية، التجارة، الشرطة. كما ستكون لها سلطات واسعة فى المجال المالى. وقد جرى إضعاف السلطة التنفيذية وفقا للنظام المعقد الذى أعده خبراء الحزب الوطنى. فرئيس الدولة سيكون إلى جانبه نائبان أحدهما يمثل أحزاب الأقلية (بشرط حصولها على 20% على الأقل من الأصوات). وستعمل الرئاسة "بالإجماع". وكما كان متوقعا فقد تم تشكيل حكومة وحدة وطنية، ونتائج الانتخابات هى التى تفرض منح حقائب وزارية لكل حزب يحصل على 5% من الأصوات. ومثل هذا الاقتسام للسلطة قد يصيب الحكومة بالشلل. وهكذا نجد أنفسنا إزاء مقاطعات ذات سلطات واسعة، ودولة "كونفيدرالية" مشلولة بحكم واقع أن سلطات المقاطعات إنما تتسع على حسابها، وبحكم قلة مواردها، وبحكم عجزها عن اتخاذ أية إجراءات اقتصادية جذرية، وبحكم أنها تتمثل فى رئاسة جمهورية يقيد النائبان ونظام الإجماع دورها وفى حكومة متعددة الأحزاب وبالتالى حكومة وحدة وطنية وبالتالى مهددة بالعجز عن اتخاذ قرارات. ومقابل هذه الدولة، التى قد يصل نفوذها إلى أغلب مناطق أو مقاطعات السود والملونين والآسيويين، لكنه لن يصل أبدا إلى مناطق البيض، والتى لا تتمثل سلطات مقاطعاتها غير البيضاء فى حقيقة الأمر إلا فى عجزها الحقيقى وحرمانها من الموارد وانطوائها على بؤسها الأزلى، مقابل هذا نجد المنطقة البيضاء سليمة كما هى باقتصادها وجيشها لم تقم فى الواقع سوى بإلقاء عبء حكمها "للمناطق" وحماية أمنها "من المناطق"، على كاهل قوى كانت هى ذاتها عبئا على أمنها وبالأخص المؤتمر الوطنى الأفريقى، وفى مقابل هذا التنازل عن العبء ضمنت لنفسها ليس فقط استقلال وحماية مصالحها، بل كذلك سيطرتها على الدولة الجديدة، بحكم القوة الاقتصادية والعسكرية المتفوقة بلا منازع، وبحكم القيود الدستورية والواقعية على هذه الدولة الجديدة، كما ضمنت التعاون الواسع النطاق مع عالم إنما كان يعارض سياسة معلنة، وسيكفيه أنه جرى الآن إلغاؤها. هل هناك مستقبل آخر؟ لقد وصل الهولنديون إلى جنوب أفريقيا فى 1652، وأعادوا تسمية رأس العواصف (كما سماه قبلهم بزمن طويل أوروپيون آخرون) برأس الرجاء الصالح. وحتى منذ 1660 (أى بعد وصولهم إلى هناك بحوالى ثمانية أعوام) نجدهم يصدرون فرمانات مثل منع دخول غير الأورپيين إلى منطقة رأس الرجاء الصالح إلا بغرض التجارة (وسوف تتوالى الفرمانات والقوانين والدساتير التى تكرس التمييز العنصرى والفصل العنصرى إلى أن يصبح الأپارتهيد سياسة وأيديولوچية رسمية للدولة منذ 1948)، ونجدهم يتفوقون بسهولة على الهوتنتوت والبوشمان الذين سيختفون من جنوب أفريقيا تماما، ونجدهم يتوسعون شمالا منذ سبعينات القرن الثامن عشر، وهناك يلتقون، شمالى وشرقى نهر "جريت فيش ريڤر"، بالبانتو (السكان الأصليين) وتندلع حروب بين البوير (الهولنديين والذين سيكون اسمهم فيما بعد الأفريكانر) والبانتو طوال مائة سنة، وهى أشبه ما تكون بالحرب بين المستوطنين البيض والهنود الحمر فى أمريكا. ولكنهم لا ينجحون نجاح غزاة العالم الجديد فى الإبادة الكاملة أو شبه الكاملة للبانتو. وهكذا يكون لدينا الهولنديون (البوير، الأفريكانر)، وسيأتى من أوروپا مستوطنون آخرون من موظفى الإدارة الاستعمارية البريطانية لجنوب أفريقيا، ولدينا البانتو الذين وصل إليهم الهولنديون (أخيرا، فى أواخر القرن 18) واختفى السكان الأصليون الآخرون (الهوتنتوت والبوشمان)، ومن هؤلاء وأولئك، من الآباء البيض والأمهات المحليات، ستنشأ ذرية من الملونين، وسيأتى التجار والصناع الآسيويون أو الهنود لتستوطن البلاد جماعة ثقافية أخرى أيضا. وفى خطوط تتقاطع مع كل هذا التنوع العرقى والثقافى، ومع الانقسامات الاجتماعية والطبقية، نشأ انشطار على الأرض الواحدة وفى البلد الواحد بين عالم رأسمالى متقدم لكن أبيض وعالم ثالث أو رابع لكن غير أبيض (أسود أو ملوّن أو آسيوى)، وكما استحال تآخى الجماعات العرقية والثقافية المتباينة بفضل أنانية الرجل الأبيض، استحال اندماجها فى اقتصاد واحد بفضل احتكار الرجل الأبيض لإنجازاته الاقتصادية، لجعلها سلاحا للسيطرة والاستغلال وليس سلاحا للحياة الكريمة المشتركة التى تتآخى فيها الشعوب وتتطور. وهكذا يبدو الأبيض والأسود، الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الرأسمالية وما قبل الرأسمالية، العالم الرأسمالى المتقدم والعالم الثالث المتخلف، يقفان ليس عبر القارات والمحيطات، ليس فى مشارق الأرض ومغاربها، بل على أرض واحدة، على أقل من مليون وربع مليون كيلومتر مربع، على مساحة لا تزيد كثيرا عن مساحة مصر، وإنْ كانت من أغنى بقاع الأرض، هكذا يبدوان يقفان متباعدين وكأن كل شيء يدفعهما إلى هذا التباعد، بعيدا عن كل حل إنسانى، وبعيدا عن كل تثاقف صحى. وهذا المشهد، العنيد عبر القرون، ينطق بحقيقة أن التنافر كامن فى النظام الرأسمالى وفى أنانيته وفى كافة شروره. والآن... ونحن على أعتاب القرن الحادى والعشرين، القادم فى أزمنة رديئة، حدث شرخ فى الجدار يتمثل فى هذا الانتصار المحدد ضد الفصل العنصرى، لكنه لا يمس النظام الرأسمالى من قريب أو بعيد. فهل هناك مستقبل آخر تتآخى فيه هذه الشعوب عبر نضال مشترك، سياسى وإنسانى وثقافى، ضد كل ما قهر هذه الشعوب بما فى ذلك الشعب الأبيض ذاته؟ هل هناك مستقبل آخر تعيش فيه شعوب جنوب أفريقيا، ليس فقط بدون الفصل العنصرى كفلسفة، وليس فقط بدون الفصل العنصرى كحماية من الغرق فى مستنقع العالم الثالث أو من انتقامه وبالتالى كضرورة للسيطرة عليه، بل كشعوب تهنأ جميعا بالحرية والرفاهية باعتبارهما حقا لكل شعب ولكل إنسان وللبشر جميعا؟ الحقيقة أن كل ذلك يمثل قضايا مستقبل طويل من المعاناة والنضال. أما الآن فإننا نشهد على الأقل شيئا بسيطا جدا لكن بالغ الأهمية رغم كل شيء: إنه هذا الاعتراف الرسمى من جانب الشعب الأبيض بأن هؤلاء السود الذين اضطهدوهم وأبادوهم وعزلوهم وفصلوهم واستغلوهم فى كافة الأحوال، بشر مثلهم ومن حقهم أن يتمتعوا مثلهم بحقوق دستورية وانتخابية متساوية، ورغم أن الاعتراف الرسمى لا يعنى بعد الواقع الفعلى، فلا مفر من أن نعترف بدورنا بأن هذا الانتصار على الفصل العنصرى، أن هذا الاعتراف ببطلانه، أن هذا الاعتراف بالمساواة بين هذه الجماعات الثقافية والإثنية المتباينة، سيكون أو يمكن حقا أن يكون بداية وعى جديد وضمير جديد لدى البيض ولدى السود على حد سواء. إشارة 1: نُشر هذا المقال فى مجلة القاهرة العدد 139 يونيو 1994 كتقديم لملف بعنوان التاريخ يتغير من جنوب أفريقيا يشتمل على أربعة مقالات (ترجمة خليل كلفت) عن التطورات فى جمهورية جنوب أفريقيا؛ وهذه المقالات هى: مقال لورنس هاريس عن تأمين الفصل العنصرى للسلطة الاقتصادية فى جنوب أفريقيا، ومقال كريستين عبد الكريم ديلان عن المهمة الضخمة التى تنتظر السلطة الجديدة والتى تتمثل فى متطلبات الإصلاح الاجتماعى والاقتصادى فى المناطق غير البيضاء (وهذان المقالات مترجمان عن لوموند ديپلوماتيك عدد أبريل 1994)، ومقال أليكس كالينيكوس عن خلفيات التبدل فى موقف الحزب الحاكم فى جنوب أفريقيا، ومقال تشارلى كيمبر عن خلفيات قبول المؤتمر الوطنى الأفريقى لمثل هذه التسوية (وهذان المقالان مترجمان عن المجلة البريطانية سوشياليست ريڤيو، الشهرية البريطانية، عدد أبريل 1994). أما مقال من أدب التحرير إلى حرية الإبداع، بقلم چان-پيير ريشار، فهو مترجم عن لوموند ديپلوماتيك عدد يونيو 1994. 1 تأمين الفصل العنصرى للسلطة الاقتصادية فى جنوب أفريقيا بقلم: لورانس هاريس أستاذ الاقتصاد بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن
فى الفترة من 26 إلى 28 أبريل 1994، سيقوم ملايين السود بالتصويت فى الانتخابات للمرة الأولى فى جنوب أفريقيا. وأخيرا ستكون للبلاد حكومة يختارها بحرية مواطنون لن يعودوا سُودًا، أو بيضًا، أو ملونين، بل سيكونون ناخبين متساوين فى الحقوق. وسيصبح السيد نلسون مانديلا رئيسا للجمهورية؛ كما أن أغلب أعضاء الپرلمان وأعضاء الحكومة سيكونون منتمين إلى المؤتمر الوطنى الأفريقى. وسيكون على الأقلية البيضاء أن تتخلى عن سلطة مورست بوحشية وبلا شريك. غير أن الأمور لن تكون بمثل هذه البساطة. وعندما يظهر السيد نلسون مانديلا ووزراؤه المنتمون إلى المؤتمر الوطنى الأفريقى على المسرح العالمى بوصفهم المُمْسكين بالسلطة السياسية فإنهم لن يمارسوا أية سلطة تقريبا فى مجال الاقتصاد ولن يكون بمستطاعهم تقريبا أن يغيّروا أوضاع حياة شعبهم. وفى هذا المجال، على الأقل، ستواصل النخبة البيضاء حكم البلاد. وشأنه فى ذلك شأن كل حركات التحرر، ارتبطت شرعية المؤتمر الوطنى الأفريقى باقتناعه الراسخ بأن السلطة السياسية سوف تؤمّن له السيطرة على الاقتصاد وتسمح له بالتالى بتحسين الوضع المادى للشعب. ولم يشغل تحويل الهيكل الاقتصادى سوى مكان ثانوى بين مطالبه الأخلاقية والسياسية: كان طريق التحرر يمرّ عبر حق الانتخاب وعبر إلغاء الأشكال القانونية للتمييز العنصرى. على أنه ما دام الأپارتهيد ظل يمثل نظاما اقتصاديا تمثيله لغير ذلك على الأقل فقد استندت شرعية المؤتمر الوطنى الأفريقى كذلك جزئيا إلى الإمكانية المستقبلية لامتلاكه للسلطة الاقتصادية. وكان يبدو من جهة أخرى أن تقاليد جنوب أفريقيا تبرر مثل هذا التحليل. والواقع أن نظام الأپارتهيد، بعكس الصورة التى أعطاها لنفسه باعتباره نظام المشروع الحر والسوق، أقام اقتصادا خاصا لعبت فيه الدولة دورا مسيطرا. وحتى بداية الثمانينات، كانت القطاعات الرئيسية للصناعة ملكية للدولة، وكانت المشروعات والأسواق منظَّمة بأدق تفاصيلها، بينما كانت الصناعات الرئيسية المرتبطة بالقطاعات المنجمية والطاقة تحت حماية الدولة. وحتى إذا كان المؤتمر الوطنى الأفريقى لم يقم فى المنفى بإعداد إستراتيچية اقتصادية فقد كان بوسعه فى هذه الحالة أن يأمل فى أنه سيكفيه الاستيلاء على السلطة ليحقق السيطرة على الجهاز الاقتصادى. غير أن نهاية نظام ووصول قوى سياسية جديدة إلى الحكم لا يشكلان أبدا انتقالا بسيطا للسلطة. ففى جنوب أفريقيا كما فى كل مكان آخر اقتضى ذلك تحويلا لشكل الحكم استوجب أربع سنوات من المفاوضات الدستورية المعمقة. والواقع أن النظام الاقتصادى وكذلك السلطة التى تنبع منه قد تبدلا إلى حد أن مسئولى المؤتمر الوطنى الأفريقى سوف يكتشفون، فى اللحظة التى يجلسون فيها خلف مكاتبهم فى پريتوريا، أن مفاتيح الاقتصاد إنما توجد فى مكان آخر. تلك محصلة إستراتيجية وقائية أرادها النظام القديم، حتى إذا كان للظروف الخارجية دور فيها. والحقيقة أن البيض ذوى الامتيازات فى جنوب أفريقيا، بقيادة نخبتهم السياسية والاقتصادية، فعلوا كل ما هو ضرورى لئلا تكون السيطرة على الثروات وعلى السياسة الاقتصادية فى أيدى الدولة ولجعلها فى مأمن من كل إشراف سياسى. شلّ الحكومة المقبلة هروب الرساميل هو الوسيلة الأكثر مباشرة لتفادى خطر التأميم أو خطر فرض الضرائب ورغم واقع أن البنك المركزى لجنوب أفريقيا يتمتع بنظام فعال للغاية لرقابة النقد فقد تضاعفت التحويلات المالية إلى الخارج منذ عدة سنوات. وهناك تقديرات بأن صادرات الرساميل بلغت 50 مليار دولار بين 1970 و1988، وحسب معلومات كشف عنها البنك المركزى فإن هجرة الرساميل تتسارع. وفيما يتعلق بالشركات الضخمة التى تقع مقارّها فى جنوب أفريقيا فإنه لا يكفيها استثمار رأسمالها فى الخارج. ولكى تحمى نفسها من القرارات الاقتصادية التى قد تتخذها الحكومة الجديدة التى ستتمخض عنها الانتخابات فقد كان من الضرورى أيضا أن تصبح هذه الشركات ملكا لشركات أجنبية. كذلك فإن الشركات عبر القومية لجنوب أفريقيا، مثل أنجلوأميريكان أو رمبرانت، نجحت خلال السنوات الأخيرة فى تأسيس شركات فى أوروپا ستكون مالكة لكافة أسهمها خارج جنوب أفريقيا. وفيما كان رأس المال الخاص يقوم بإعادة توطين نفسه، قامت الحكومة البيضاء (التى ظلت، حتى تأسيس المجلس التنفيذى للانتقال فى نهاية 1993 المسيطرة على السلطة بلا منازع) بإعادة هيكلة الدولة بحيث يجرى الحدّ من قدرة الحكومة القادمة على التأثير على الأنشطة الاقتصادية. وفى دولة جنوب أفريقيا، كان النمو الاقتصادى مرتبطا إلى حدّ كبير بالاستثمارات الحكومية الضخمة فى المشروعات الرئيسية للقطاع العام، مثل إسكون (إنتاج الكهرباء) أو ساسول (المنتجات الكيماوية، بوجه خاص). وفى الآونة الأخيرة، انطلقت الحكومة البيضاء فى تطبيق برنامج للخصخصة يستهدف وضع هذه المشروعات فى مأمن من السيطرة المباشرة للحكومة الديموقراطية الجديدة. وبذلك انخفض القسم الذى تسيطر عليه الدولة من الاقتصاد انخفاضا كبير. فى الوقت ذاته، تم تحويل المؤسسات العامة إلى هيئات، الأمر الذى منحها المزيد من الاستقلال. وأخيرا، وليس بلا صلافة، منح الموظفون ذوو الأصل الأوروپى لأنفسهم مزايا خاصة، حيث سيكون بوسعهم الحصول على معاشهم بمعدل أفضل مع مواصلة العمل فى الوقت ذاته. وسيؤدى هذا الترتيب إلى زيادة أمن ومداخيل الموظفين، وإلى ترك أزمة فى صناديق المعاشات للحكومة المقبلة. وقُرْب نهاية السنة الماضية وفيما كانت المفاوضات الدستورية تتجه إلى إصابة الهدف، ظهر عنصر جديد فى إستراتيچية النظام فى سبيل الاحتفاظ بالسلطة الاقتصادية: إضفاء الطابع المؤسسى على استقلال البنك المركزى. ومستلهمة اتجاها عالميا، أعلنت العقيدة القويمة الجديدة أن السياسة النقدية مسألة أخطر من أن يجرى تركها للمسئولين السياسيين؛ وسيكون من المفضل بالتالى أن يُعهد بالسياسة النقدية دستوريا إلى بنك مركزى يتألف من محافظين غير منتخبين. وفى جنوب أفريقيا، يرتدى هذا التغيير دلالة خاصة: كان البنك المركزى ولا يزال معقلا محافظا، أشد سرية من المعاقل الأخرى وكذلك أقل انفتاحا على الحقائق السياسية الجديدة(1). وحالما تؤثر معدلات الفائدة وتعادلات سعر الصرف والتسهيلات الائتمانية تأثيرا مباشرا فى الاقتصاد بمجمله فإن استقلال السياسة النقدية سيهدد إلى حد كبير بإضعاف وسائل التأثير الاقتصادى للحكومة القادمة. وقد أثارت هذه المشكلة، من جهة أخرى، مناقشات داخل المؤتمر الوطنى الأفريقى وفيما بين مستشاريه الاقتصاديين قبل التوصل إلى تسوية مؤقتة فى سبيل إحراز تقدم فى المفاوضات الدستورية. والحقيقة أن هذا الإضعاف للسيادة الديموقراطية لا تنفرد به جنوب أفريقيا: العديد من بلدان العالم الثالث تخلت عن مسئولياتها الاقتصادية من خلال اتفاقات يتم التفاوض عليها سرا مع صندوق النقد الدولى والبنك الدولى. وبهدف تقييد أيدى الحكومة المقبلة، سارت دوائر الأعمال فى جنوب أفريقيا فى نفس الطريق. غير أنه على العكس من أغلب عملاء صندوق النقد الدولى فإن جنوب أفريقيا ليست بلدا من بلدان العالم الثالث يضعه خلل هائل فى ميزان مدفوعاته فى وضع ميئوس منه. على العكس تماما: منذ أزمة الديون فى 1985 وتأجيل الدفع (الموراتوريوم) الذى أعقبها، استطاعت جنوب أفريقيا أن تسدد قروضها بفضل فوائض ميزان مدفوعاتها بالذات وهى ليست مدينة إلا بمستوى من أضعف مستويات المديونية لكافة البلدان ذات الأوزان المشابهة. وهكذا إذن فبافتراض أن مشاريع إعادة البناء لدى الحكومة الجديدة تستتبع عجوزات كبيرة فى الحساب الجارى (وهذا غير متوقع)، سيكون من الممكن تماما تمويل هذه العجوزات بمساعدة الأسواق المالية الدولية دون أن تكون هناك أية حاجة إلى اللجوء إلى قروض صندوق النقد الدولى وفقا للمعايير المعتادة. ورغم ذلك فإن المسئولين الاقتصاديين والسياسيين قد تصرفوا بحيث يحكم منح قرض جديد على القادة المقبلين للبلاد بالخضوع لإشراف صندوق النقد الدولى. وهكذا جرى التفاوض فى 1993 على الإقراض على سبيل تسهيل التمويل التعويضى. ومن المفارقات أن النخبة القديمة فى نفس الوقت الذى كانت تناور بهدف الاحتفاظ بالسيطرة على مفاتيح الاقتصاد فقدتْ كل مبرر للخوف على ثروتها: الواقع أن المؤتمر الوطنى الأفريقى لا يملك أىّ برنامج جذرى يستهدف تحويل الاقتصاد، أو مراقبة الشركات الخاصة، أو إعادة توزيع الثروة. ورغم أنه عمل فى إطار تحالف وثيق مع الحزب الشيوعى فى جنوب أفريقيا واتحاد النقابات العمالية لجنوب أفريقيا فإن برامجه لم تُشر، إلى الآن، إلى أقل معاداة لعالم الأعمال. ولم يكن هذا ملحوظا فى بداية الأمر. وحتى إطلاق سراح السيد نلسون مانديلا، فى فبراير 1990، كان سكان ضواحى پريتوريا، وچوهانسبورج، والمدن الإقليمية، يرون فيه رأس رمح الشيوعيين، والعنصر المحرك الذى انطلق من الكفاح فى سبيل الحقوق السياسية ليشعل ثورة اجتماعية. وكانت الحكومات الغربية تشاطرهم هذا الرأى: هكذا شنت مسز مارجرت ثاتشر هجوم حفاوة إزاء بوتيليزى زعيم الزولو حتى عندما كانت تعامل المؤتمر الوطنى الأفريقى بازدراء. ولكن المؤتمر الوطنى الأفريقى لم يكن لديه فى الواقع، خلال سنوات المنفى، أية استراتيچية اقتصادية، بل كان بوسع المرء أن يتساءل ما إذا كان قادته لم يفعلوا كل ما كان بمستطاعهم فى سبيل أن تمضى الأمور على نحو مختلف. وكان ما يقوم مقام البرنامج لديه هو ميثاق الحرية وهو نص أساسى تم إعداده فى 1955 أثناء ذلك التجمع الديمقراطى الكبير والفريد والذى تمثل فى مؤتمر الشعب. وفى هذا الميثاق، وإلى جانب إعلانات المبادئ المؤيدة لحقوق الإنسان، كانت هناك سلسلة من التوجهات الكبرى ذات الطابع الاقتصادى والاجتماعى. وعندما تم إطلاق سراح السيد نلسون مانديلا، كان أغلب أعضاء المؤتمر الوطنى الأفريقى يعتقدون بالتالى - وكان هذا ما يخشاه القادة البيض - أن عددا من الخطط كالتأميم، وتعزيز نظم الرقابة، وإعادة توزيع الأراضى، سرعان ما ستُوضع موضع التطبيق، وفقا للمبادئ التى أعلنها ميثاق الحرية: "الثروة القومية لبلادنا (...) سيتم ردُّها إلى الشعب؛ الثروات المنجمية، والبنوك، والصناعات، ذات المركز الاحتكارى ستصبح ملكا للشعب بأسره؛ كافة التجارات والصناعات الأخرى ستُوضع تحت الرقابة (...) وستُوزع كافة الأراضى على أولئك الذين يفلحونها تفاديا لأخطار المجاعة والجوع إلى الأرض". أساس أيديولوچى جيد الإعداد ومنذ انخرط المؤتمر الوطنى الأفريقى فى المفاوضات مع السلطة البيضاء، منذ أربع سنوات، فإنه لم يجعل هذه الأهداف [الواردة فى ميثاق الحرية] من عناصر التفاوض على الإطلاق. ويتهيأ مسئولوه لقيادة بلاد ستستمر فيها الأمور كما كانت من قبل. وأمام هذا التغيير المفاجئ للاتجاه يمكن لرد فعل ذى طابع يسارى أن يتحدث عن "الخيانة" أو "الاستسلام". غير أنه فى هذه الحالة الخاصة لا معنى لهذه الاتهامات مادامت تضع الآليات التى سوف يتشكل من خلالها مستقبل جنوب أفريقيا أمام ورطة لا مخرج منها، لأن منظور تحويلٍ جوهرىٍّ للنظام الاقتصادى والاجتماعى لم يجر إسقاطه سهوا: لقد جرى إقحام هذا المنظور بصورة منهجية طوال جدال محتدم وسلسلة تأثيرات مدروسة بقدر ما هى فعلية، وقد جرى كلا الأمرين على هامش المفاوضات الرسمية. وفى 1990، عندما صار من الجلى أن المؤتمر الوطنى الأفريقى (الشرعى منذ ذلك الحين) سيصل إلى السلطة، استولى على الشركات الضخمة التى تسيطر على جنوب أفريقيا الشعور بأن هناك خطرين سيهددان رفاهية البلاد: من جهة، التأميم؛ ومن جهة أخرى، الأمل المتفجر فى إجراء تحسين لدخول السود. ولمنع هذين الخطرين جرى شنّ معركة أفكار، مستهلمة جزئيا من مثال المجمّعات [الشركات المتعددة النشاطات] الأنجلوأمريكية التى أرادت، عبر آليات المساهمة والمشاركة، إثبات أن الرأسمالية ليست كما يدعى اليسار. وظهرت "سيناريوهات" مستقبلية تستند إلى معطيات اقتصادية ويجرى تقديمها فى شكل سهل الإدراك للغاية لتصبّ فى استنتاج فولاذى: سيكون تحقيق زيادة فى الإنتاج الشرط المسبق لكل تحسينٍ لمستوى معيشة السود، ولن يكون بالإمكان زيادة النفقات العامة، وبوجه عام سيكون المستقبل رهنا باطمئنان دوائر الأعمال. ومن ثم جرى نشر هذه السيناريوهات بين مسئولى المؤتمر الوطنى الأفريقى، والنقابات، وقادة الرأى. وقام مديرو المشروعات الجنوب-أفريقية والأجنبية بتنظيم كافة الاجتماعات والمؤتمرات اللازمة فى سبيل تحقيق أوضح إدراك للأخطار التى ستشكلها التأميمات على اطمئنان المستثمرين. وانتشرت فى بيئة خصبة تلك الأطروحة التى زعمت أن جنوب أفريقيا أفقر من أن ترفع مستوى معيشة السود وأنه لا ينبغى عمل أى شيء يمكن أن يثير مخاوف دوائر الأعمال. وعلى أى حال فقد كان المؤتمر الوطنى الأفريقى حركة تحرر وطنى متعددة التيارات، ولم تزعم ذات يوم أنها ملتزمة بالمبادئ الاشتراكية. حتى الحزب الشيوعى، القوى النفوذ للغاية داخله، بدا متأثرا بخطاب أرباب العمل: فى مارس 1991، أكد لنا أحد قادته فضلا عن ذلك أن المسئولية الرئيسية لحزبه ستكون احتواء أمانى العمال؛ وأعلن آخر، أثناء اجتماع لاقتصاديِّى الحزب، أن التأميم لن يكون فى جدول الأعمال (حتى إذا ظل احتمال حدوثه متوقعا من جانب النصوص الاقتصادية للمؤتمر الوطنى الأفريقى). والحاصل أنه بدا أن الوضع الدولى يؤكد حُجج دوائر الأعمال. فقد بدا أن انهيار النموذج السوڤييتى - الذى كان يرجع إليه القادة الشيوعيون لإيضاح الصورة التى سيكون عليها اقتصاد جنوب أفريقيا - إنما يبرهن على تفوق المشروع الخاص. كما أن أزمة الاشتراكية الديمقراطية فى السويد والدنمارك تُضعف مركز العناصر غير الشيوعية فى المؤتمر الوطنى الأفريقى والتى توقعت أنه سيكون من الممكن، بفضل دولة رفاهية قوية، تحسين مستوى معيشة السكان. ومجردا على هذا النحو من إستراتيچية اقتصادية حقيقية (مثل أغلب حركات التحرر الوطنى)، دخل المؤتمر الوطنى الأفريقى فى بداية التسعينات فى سلسلة من المباحثات الاقتصادية التى انتهت إلى تقارب هائل فى وجهات نظر مجموع المسئولين السياسيين. واليوم يوافق الجميع على أن الأولوية للنمو الاقتصادى، وأنه يحتاج إلى مشروعات تصديرية تنافسية، وأن إصلاح المسكن، والصحة، والتعليم، يتوقف بدوره على تنمية الإنتاج. أما المسألتان الأكثر تعقيدا، وهما مسألة التأميم ومسألة إعادة توزيع واسعة النطاق للأراضى، فلا مكان لهما تقريبا فى وثائق المؤتمر الوطنى الأفريقى. ونحن لا نجد فيها كذلك مشروع إنشاء وزارة أو هيئة مسئولة عن تخطيط الاقتصاد. وحسب إعلاناته فى ديسمبر 1993، ليست لدى المؤتمر الوطنى الأفريقى نية لإعادة هيكلة المجمعات العملاقة التى تسيطر على الاقتصاد، ولا لفرض شروط التنافس عليها. وقرب نهاية العام الماضى، صبّتْ المشاريع المرتبطة بالمؤتمر الوطنى الأفريقى وباتحاد النقابات العمالية بجنوب أفريقيا فى ثلاثة أنماط من البرامج. برنامج الإستراتيچية الصناعية وهو عبارة عن دراسة قطاعية للسياسات التى من شأنها أن تساعد على النمو. و(مشروع) مباشرة العمل الديمقراطى والذى سيكون بمثابة إطار للسياسة الاقتصادية الكلية، وهو عبارة عن دراسة معدة بناء على طلب مجموعة البحث الاقتصادى الكلى. وأخيرا مشروع لبرنامج إعادة البناء. والحقيقة أن الاستقبال الإيجابى الذى أعدته الصحافة الليبرالية الجديدة باللغة الإنجليزية لهذه المشاريع الثلاثة يرمز بكل جلاء إلى مدى الاتفاق القائم بين المؤتمر الوطنى الأفريقى وحلفائه، من جهة، ودوائر الأعمال، من جهة أخرى. أما كُتّاب الافتتاحيات الذين حيرهم مدى ضآلة المادة التى يعيبونها على البرنامج الذى قُدِّم لهم فقد كان عليهم أن يلجأوا إلى أحد العناصر المقدمة من جانب مجموعة البحث الاقتصادى الكلى، وهو ذلك الخاص برفض استقلال البنك المركزى، وكأن الفكرة ينبغى وفقا لها أن يصبح هذا الأخير ملكا عاما وخاضعا لإشراف الدولة لا تتفق مع ممارسة مألوفة فى عدد من البلدان الغربية. مجادلات داخل الحزب الشيوعى رغم تقارب وجهات النظر بين المسئولين السياسيين، تُواصل دوائر الأعمال ارتيابها إزاء أولئك الذين هم، فى نظرها، ساسة. فضلا عن ذلك، بقدر ما يُعدّ المؤتمر الوطنى الأفريقى والمنظمات الأخرى للتحالف ضد الأپارتهيد تكوينات ديناميكية، من وجهات نظر بالغة التنوع، يغدو الخط السياسى لمسئولى المؤتمر الوطنى الأفريقى عرضة لإعادة النظر. والحقيقة أن اتحاد نقابات عمال جنوب أفريقيا وبعض المنظمات الأخرى المنتمية إليه قد طالبت بإستراتيچية ذات طابع اشتراكى، بل طالبت، فى بعض الحالات، بتأميم الصناعات الرئيسية. ويذعن بيان الحزب الشيوعى(2) أمام ميول المنتمين إليه مانحًا دورًا للملكية الجماعية وللرقابة الديمقراطية للصناعة أكثر مما تفعل قيادة الحزب ذاتها. وحتى داخل المؤتمر الوطنى الأفريقى ذاته فإن المشارع التى أعدّها مسئولو إدارة الاقتصاد والتخطيط جرى تعديلها فى اتجاه أكثر جذرية من جانب المندوبين المنتخبين(3). وفى سياق هذه الأوضاع، ارتأت دوائر الأعمال أنه سيكون أكثر فطنة القيام بتفريغ الدولة من محتواها الجوهرى. فالاتفاق الدستورى سيتكفل بأن يغدو المؤتمر الوطنى الأفريقى مكتوف اليدين: ستستند الحكومة إلى أساس من اقتسام السلطة ولن يكون بالإمكان تبديلها قبل خمس سنوات. وفضلا عن ذلك، يكاد يكون من المؤكد أن مسئولين بيضًا عن الاقتصاد اصطنعوا لأنفسهم، منذ حوالى عقد من الزمان، صورة التكنوقراط سيحتفظون بمركز نفوذ: هناك، على سبيل المثال، السيد ديريك كيز، الذى أصبح وزير للمالية بعد فترة من النشاط فى مجال الأعمال، والذى سيحتفظ على الأرجح بمنصبه. أو أيضا السيد كريس ستالز، محافظ البنك المركزى لجنوب أفريقيا، الذى استطاع توطيد علاقات جنوب أفريقيا مع البنوك العالمية رغم العقوبات الدولية، والذى سيقتضى الأمر بقاءه بدوره فى منصبه. وفى نهاية شهر أبريل الجارى، سيسيطر شعور بالابتهاج عندما تنتقل السلطة بين أيدى شعب جنوب أفريقيا وأيدى حكامه. غير أنه فى الوقت الذى سيتساءل سود هذه البلاد عما إذا كانوا قد ورثوا السلطة الحقيقية فإن دوائر الأعمال فى كل مكان فى العالم سوف يتنفسون الصعداء. إشارات 1: إلى ذلك الحين، لم يكن البنك المركزى مستقلا بنص الدستور لكنه لعب دورا هجينا. كان هذا البنك هو المؤسسة الوحيدة تقريبا من هذا النوع فى العالم لأنه كان عبارة عن شركة يتم تسعير أسهمها، المملوكة للقطاع الخاص، فى البورصة ويتم تعيين أعضاء مجلس إدارتها، وكذلك محافظها، بقرار من رئيس الدولة. على أن حريته فى المناورة كانت تتوقف، بوجه عام، على علاقات القوى بين المحافظين والوزراء. 2: Building Worker s Power for Democratic Change, Umsebenzi Publications, Johannesburg, janvier 1992. 3: قارن، بهذا الشأن، مع الفصل المخصص للسياسة الاقتصادية فى وثيقة: “Ready to Govern: ANC Policy Guidelines for a Democratic South Africa” وهى الوثيقة التى أقرها المؤتمر العام للمؤتمر الوطنى الأفريقى المنعقد فى الفترة من 28 إلى 31 مايو 1992، والبرنامج المطروح للمناقشة وكان قد نُشر فى 27 أبريل 1992.
2 مهمة ضخمة فى انتظار إعادة البناء الوطنية بقلم: كريستين عبدالكريم ديلان صحفية، پاريس يصل عدد سكان جنوب أفريقيا إلى 37.7 مليون نسمة (وسيصبحون 47 مليونا فى سنة 2000)، منهم 75% من السود، و13% من البيض، و9% من الملونين، و3% من الهنود. وبأغلبيتهم الساحقة، يشكل السود، داخل هذه البلاد، "عالما ثالثاً"، بالغ التخلف (لا يتلقون سوى 27% من الدخل القومى)، وفنيًّا (46% منهم تقل أعمارهم عن تسعة عشر عاما)، ونافد الصبر، بعد سنوات من النضال ومن الحرمان من كافة الحقوق الأساسية. وخلال السنوات الخمس التى سيكون على الجمعية التأسيسية المنبثقة عن صناديق الاقتراع فى 27 أبريل أن تحول فيها الدستور المؤقت الراهن إلى الدستور الدائم، سيتعلق الأمر بالنسبة للمؤتمر الوطنى الأفريقى وحلفائه الحزب الشيوعى واتحاد نقابات عمال جنوب أفريقيا والحركة المدنية بأفضل تحقيق لبرنامج إعادة البناء والتنمية الوطنية المتمحورة حول خمسة أهداف رئيسية: إشباع الحاجات الأساسية، وتنمية الموارد البشرية، وبناء الاقتصاد، ومقرطة الدولة والمجتمع، وتطبيق البرنامج(1). ويشرح السيد چاى نايدو، رئيس اتحاد نقابات عمال جنوب أفريقيا وعضو قيادة المؤتمر الوطنى الأفريقى، الأمر قائلا: "يتمثل أحد أهم الأهداف فى أن نضمن لغالبية الناس الذين جرى استبعادهم من الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، لهذه البلاد إدخالهم الآن فيها بطريقة تسدّ حاجاتهم". وبكلمات أخرى فإن المطلوب هو القضاء على انشطار البلاد إلى قسمين، من خلال حلول سريعة بخصوص الإسكان، والصحة، والتوظيف، والأبنية التحتية الصحية، والتربية. ويمثل الأفريقيون 95% من أصل 18 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر، 60% منهم فى حالة فقر كلى. ويبقى ما بين 8 و 9 ملايين من الأشخاص على قيد الحياة بفضل الإعانة الاجتماعية. وفى حين يمثل السود 64% من السكان العاملين فإنهم لا يشغلون إلا 15% من الوظائف المهنية، أو شبه المهنية، أو التقنية. ومن المتوقع تطبيق سياسة "عمل إيجابى" تقتضى منح الأولوية لتوظيف السود، غير أن هذه السياسة ستصطدم فى الحال بالمستوى الهزيل للتدريب، وحتى بالأمية (48% للأفارقة مقابل 1% للبيض) وستستلزم تطبيق برامج ضخمة للتدريب وكذلك تحويلا جذريا للتعليم. كما سيكون على هذا البرنامج للتوظيف أن يأخذ فى اعتباره حاجات النساء، أوّل ضحايا الأپارتهيد، والشباب، وأن يتم إدراجه فى إطار مترابط للتنمية الشاملة. ستون ألف مالك عقارى يحتكرون 87% من الأراضى ومشكلة الإسكان حاسمة كذلك. والواقع أن المدن السوداء الكبرى من كروسرود إلى كيپتاون، من سويتو وألكزاندرا إلى چوهانسبورج، إذا اكتفينا بتلك الأوسع شهرة، وخاصة المناطق الواسعة لملاك الأراضى بوضع اليد حيث تصطف أكواخ الصفيح على امتداد كيلومترات، كما هو الحال فى خايليتشا فى الكاپ أو أومجابابا إيناندا-كونجو فى ديربان، الواقع أن هذه المدن والمناطق تعطى فكرة عن العمل الضخم الذى ينبغى القيام به. وسيكون من اللازم بناء مليونين من الوحدات السكنية فى غضون خمس سنوات. وينبغى أن نضيف إلى ذلك التهيئة اللازمة لملايين المساكن فى المدن السوداء وكذلك الأبنية التحتية الصحية. ووفقا لتقرير لبنك تنمية جنوب أفريقيا، والذى تُعتبر تقديراته أقلّ من الحقيقة، لا يستفيد 40% من 22 مليونا يشكلون سكان المدن إلا من الحد الأدنى من أنابيب المياه والصرف الصحى، وهو "حد أدنى" لا يتوفر فى مناطق "المساكن غير الرسمية". وأخيرا، فى المناطق الريفية حيث يعيش الآن 16 مليون نسمة، هناك 14% فقط فى متناولهم "مراحيض محسَّنة"، و53% فى متناولهم مياه صالحة للشرب. وفيما يتعلق بالكهرباء، لا يزال 65% من سكان جنوب أفريقيا محرومين منها. وعلى سبيل المثال فإن 19000 مدرسة (86%) و17000 مركز صحى للسود لا تزال محرومة منها. ويأمل واضعو برنامج إعادة البناء فى تنمية مجتمعات جديدة بالقرب من مواقع الإنتاج، والمراكز الاقتصادية، والمراكز الصحية والتربوية، من أجل إعادة خلق نسيج اجتماعى متماسك، مع أخذ الجانب البيئى والمناخى فى الاعتبار. والواقع أن أكثر من ثلثى مساحة البلاد لا تتلقى سوى 11% من الأمطار، كما أن السدود والأبنية التحتية لتنظيم المياه مرتّبة وفقا لاحتياجات المناطق التى يستثمرها أو يقطنها البيض. وهناك مشكلة كبيرة أخرى هى أن الإصلاح الزراعى يمثل من جهة أخرى واحدة من أخطر الصعوبات التى سيكون على القادة المقبلين حلها. هناك 60000 ألف من الملاك البيض يمتلكون 87% من الأراضى المزروعة ويؤمِّنون 90% من الإنتاج. وحسب "المؤسسة الحضرية"(2)، يعيش 11 مليون نسمة من سكان المناطق الريفية تحت خط الحد الأدنى للفقر، معظمهم من النساء. وفى كافة القطاعات، تكون الاختلافات ملحوظة مع السكان السود الحضريين. وهكذا فإن معدل وفيات الأطفال بالنسبة للسكان السود بلغ، خلال الثمانينات، 204% فى جراهامستاون الواقعة فى المنطقة الريفية، مقابل 27% فى چوهانسبورج(3). ولم يعد من الوارد تأميم الأراضى الزراعية أو تطبيق نظام جماعى عليها كما نادى ميثاق الحرية، برنامج حركة التحرر الوطنى والذى أقره فى 1955 مؤتمر الشعب فى كيپتاون: يكفل برنامج المؤتمر الوطنى الأفريقى كافة أشكال الملكية. مع ذلك، يبقى الكثير من المسائل بلا حل لفرط تعقيد الموقف الذى خلفته قوانين الأپارتهيد فى هذا المجال. وسيكون على الإصلاح العقارى على كل حال أن يستند إلى مبدأين: إعادة توزيع الأراضى السكنية والإنتاجية على أولئك الذين يحتاجون إليها لكنهم لا يملكون وسائل الحصول عليها - إعادة الأراضى المصادرة إلى أولئك الذين صودرت منهم. وتتعلق صعوبة أخرى بفقر البيانات الرسمية الخاصة بملكية الأرض. خامات معدنية يتلمظون عليها يتمثل قطاع آخر حاسم لإعادة بناء البلاد فى قطاع المناجم الذى يشكل، مع البنوك والمالية، القطب المسيطر لاقتصاد جنوب أفريقيا، والذى يتركز مع ذلك فى أيدى أربع شركات (أنجلوأميريكان، وچينمين، وأنجلوڤال، وجولد فيلدز) وشركتين حكوميتين سابقتين (ساسول وإسكور)، والذى تصب فروعه فى كافة مجالات الاقتصاد. وهذه الصناعة المنجمية، المصنفة فى عداد تلك الأكثر غنى فى العالم، لا يزال يغلب عليها إنتاج الذهب، الذى يمثل 70% من الصادرات المنجمية و80% من الدخول. وفى 10 فبراير الماضى، أعلن السيد نلسون مانديلا، فى پريتوريا، أمام المؤتمر الوطنى لاتحاد نقابات عمال المناجم، القوى النفوذ، أن: "الخامات المعدنية لجنوب أفريقيا ستكون ملكا للدولة"، فأثار بذلك عاصفة من الذعر. ثم اتهم [مانديلا] السيد دى كليرك بأنه باع ملكية الحقوق المنجمية للشركات بثمن بخس تحسُّبًا للتغييرات التى لا مفر منها بعد الآن (اقرأ مقال لورنس هاريس)رسمية الخاصة بملكية الأرض. لى أولئل الذين صودرت منهم. الإنتاجية على أولئك الذين يحتاجون إليها لكنهم ل. وكما هو الحال بالنسبة للأرض فإن التأميم ليس واردا. وفى رأى السيد چاى نايدو: "لا ينبغى النظر إلى التأميمات باعتبارها الأداة الرئيسية. وكان علينا أن نعترف بالواقع. لكننا نعتقد أن هناك دورا بالغ الأهمية تلعبه الدولة فى القطاعات الرئيسية للاقتصاد". وهكذا فإن "مقرطة" القطاع المنجمى ستمرّ عبر إقامة مؤسسات داخلة فى إطار تشريعٍ لمكافحة التروستات وفى إطار آليات قانونية. كما أن من المتوقع التعامل مع هذه المواد الأولية محليا. كيف سيتم تمويل هذا البرنامج لإعادة البناء؟ يعتمد الحكام المقبلون على الموارد الموجودة، التى سيكون من الواجب ترشيد استخدامها وفقا للأهداف والمبادئ المعلنة. وهناك تفكير فى إعادة هيكلة للميزانية وكذلك فى إعادة تنظيم للنظام الضريبى. وبالإضافة إلى ذلك، سيتم حثّ القطاع الخاص على تمويل مشاريع، خاصة فى مجال المساكن. ويرى عالم الأعمال سوقا ضخمة جديدة تنفتح أمامه، سواء داخل البلاد أو فيما وراء الحدود، ويُبْدى تفاؤلا ظاهرا. وفى الغرفة التجارية سجل "مؤشر الثقة" أعلى مستوى له منذ 1988. كما ترصد الميزانية الأمريكية التى قدمها السيد وليام كلينتون إلى الكونجرس اعتمادا خاصا قدره 250 مليون دولار لتعزيز الاستثمارات الأمريكية فى جنوب أفريقيا. ويقول السيد چاى نايدو: "الاستثمارات الأجنبية ينبغى قبل كل شيء أن تجد هنا بيئة مستقرة. إننا نقدم لهم سوقا مفتوحة تماما، ولاتزال متخلفة. غير أننا [كما يوضح] لا نريد مستثمرين ينتهكون حقوق شعب جنوب أفريقيا، إننا نريد استثمارات مضمونة وبالأجل الطويل". وكما نرى فقد تم استخلاص دروس التاريخ. يقول چيريمى كرونين، أحد قادة الحزب الشيوعى، هذا التنظيم الحاضر للغاية فى مجموع عملية المفاوضات الراهنة: "يمكن إجراء مناقشات جميلة حول الليبرالية، أو الاشتراكية، أو الاشتراكية-الديمقراطية. ولن يكون أىّ نظام من هذه النظم ممكنا إذا لم يكن هناك أولا، فى جنوب أفريقيا، إقامة حد أدنى لنظام ديموقراطى". حقا لقد دقت ساعة التغيرات، غير أن هذه "الواقعية" سيكون عليها أن تحمل ثمارها بسرعة بالغة لأن الوضع الاجتماعى متفجر الآن. إشارات 1: Macro-Economic Research Group (MERG), Making Democracy Work: A Framework for Macro-Economic Policy in South Africa, Johannesburg, 1993. 2: Urban Founation, Rural Development: towards a New Framework, Policies for a New Urban Future, 1991. 3: Centre for Health Policy, A National Health Service for South Africa, part I and II, ANC Health Department avec l aide de l OMS et de L UNICEF, A National Health Plan Four South Africa.
3 خلفيات التغيُّر فى موقف الحزب الحاكم فى جنوب أفريقيا بقلم: أليكس كالينكوس شهد التاريخ القريب العديد من الانقلابات المفاجئة والدرامية. لكن قلة منها فقط كانت تشكل مثل ذلك المشهد المذهل الذى اتخذه التحول الذى مرت به جنوب أفريقيا. ففى غضون أقل من خمس سنوات انتقل الحزب الوطنى الحاكم من الدفاع بالقوة عن الأپارتهيد، نظام السيطرة العنصرية، الذى أنجزه خلال أربعة عقود من وجوده فى السلطة، إلى المشاركة فى انتخابات تقوم على أساس صوت واحد للشخص الواحد. وكنتيجة للتسوية الدستورية التى وافق عليها كل من الحزب الوطنى والمؤتمر الوطنى الأفريقى فإن هذين التنظيمين اللذين كانا يشتبكان فى حرب بينهما بالفعل على مدى عدة سنوات سيخدمان معًا فى حكومة واحدة. فما الذى جعل الحزب الوطنى، بقيادة ف. و. دى كليرك، يخطو هذه الخطوة المجهولة العواقب؟ من الناحية الجوهرية كانت الأزمة العميقة فى مجتمع جنوب أفريقيا هى التى واجهت دى كليرك عندما تسلم رئاسة الدولة فى أغسطس 1989. فمن جهة، كانت انتفاضات المناطق الإدارية الحضرية الكبرى فى 84-1986 قد أظهرت أن الأغلبية السوداء لم يعودوا مستعدين للعيش فى ظل الأپارتهيد. ولم تقدم حالة الطوارئ التى كان قد فرضها سلف دى كليرك، أى ب. و. بوثا، فى يونيو 1986، للنظام سوى وقت قصير. فبحلول 1989 كان التنظيم الجماهيرى والنضالية الجماهيرية يزدهران من جديد. وكان يشكل أساس انتفاضات أواسط الثمانينات - وتلك التى كانت قبلها فى 1976 و 1980 - تغيُّر هيكلى فى اقتصاد جنوب أفريقيا. ومع انتقال السود بصورة متزايدة إلى الأعمال الماهرة لذوى الياقات الزرقاء وذوى الياقات البيضاء تعاظمت قوتهم الجماعية كعمال. وكانت النقابات العمالية المستقلة - المنظمة بصفة رئيسية من خلال اتحاد نقابات عمال جنوب أفريقيا - مكوّنا حاسما من مكونات نضالات أواسط الثمانينات وكانت العامل الرئيسى فى دعم المقاومة السوداء أثناء حالة الطوارئ. ومن جهة أخرى، دفعت الأزمة السياسية الرأسمال العالمى إلى اتخاذ قرار بعدم الثقة فى جنوب أفريقيا. وعجّل خطاب مشئوم لبوثا يرفض فيه المفاوضات مع المؤتمر الوطنى الأفريقى فى أغسطس 1985 الهروب الواسع النطاق للرساميل. وكانت جنوب أفريقيا عاجزة عن جمع القروض الأجنبية المطلوبة لتمويل أى شيء أكثر من معدل النمو الأكثر بؤسا. وبعد استلام السلطة سرعان ما أدرك دى كليرك أن الطريق الوحيد لإعادة اجتذاب المستثمرين الأجانب إلى جنوب أفريقيا يتمثل فى تحقيق تسوية سياسية مع المؤتمر الوطنى الأفريقى، القوة المسيطرة فى صفوف المقاومة السوداء. كانت مثل هذه الصفقة تعنى تفكيك الأپارتهيد ومنح صوت واحد للشخص الواحد. لكن دى كليرك كان يأمل فى أنه بالإمساك بالمبادرة واستغلال يد المساومة الأقوى نسبيا (فى أواخر الثمانينات كان ميزان القوة العسكرية لايزال لصالح النظام بصورة ساحقة) سيكون بمستطاعه أن يحقق مساومة مواتية لكبار رجال الأعمال البيض، وهم أهم أنصاره. وهكذا فاجأ دى كليرك العالم - والمؤتمر الوطنى الأفريقى - فى فبراير 1990 برفع الحظر عن التنظيمات الرئيسية للمقاومة وإطلاق سراح نلسون مانديلا. وفى المفاوضات اللاحقة ضغط الحزب الوطنى من أجل دستور من شأنه تقييد سلطة الأغلبية فى پرلمان منتخب ديمقراطيا عن طريق نقل معظم المسئوليات إلى الأقاليم فى ظل نظام فيدرالى، وعن طريق فرض حكومة ائتلافية دائمة تتشكل من الأحزاب الرئيسية. وفى الوقت ذاته، تعامى دى كليرك، على أقل تقدير، عن حكم الإرهاب الذى تنظمة إنكاثا وحلفاؤها من قوات الأمن فى الوحدات الإدارية الحضرية - وقد وضعت هذه الحملة المؤتمر الوطنى الأفريقى فى موقف الدفاع وأضعفت منظماته المحلية. هل نجحت هذه الإستراتيچية؟ نعم ولا. فلا شك فى أن دى كليرك بالغ فى الاعتماد على قوته فسمح بانهيار الجولة الأولى من المحادثات المتعددة الأطراف فى مايو 1992 بسبب مطالبه الخاصة بحق ڤيتو للبيض. وفى الوقت ذاته، أدى العنف فى الوحدات الإدارية الحضرية حركة ارتجاعية مفاجئة فى صفوف الأغلبية السوداء. وجاءت نقطة التحول فى أبريل 1993 عندما اغتيل كريس هانى، زعيم الحزب الشيوعى لجنوب أفريقيا والذى يُعَدّ بطلا بين مناضلى المؤتمر الوطنى الأفريقى، على أيدى اليمين الأبيض المتطرف. وقد أظهر الانفجار الهائل للغضب الشعبى الذى أعقب ذلك فى آن معا مدى التأييد الذى يتمتع به المؤتمر الوطنى الأفريقى وكذلك دوره الذى لا غنى عنه فى ضبط ذلك الغضب. ويقول پاتى ڤالدماير فى الفاينانشال تايمز إن مقتل هانى: "جعل ... ميزان القوة … يميل بصفة دائمة لصالح المؤتمر الوطنى الأفريقى". وكان دى كليرك مضطرا إلى قبول تسوية دستورية لم تعط على وجه الإجمال الضمانات الراسخة للسلطة البيضاء والامتياز الذى ظل الحزب الوطنى يضغط من أجله. وفى الوقت ذاته يتمثل سبب من الأسباب وراء واقع أن من الواضح أن رجال الأعمال البيض غير منزعجين لغياب هذه الضمانات فى أنها لا تبدو ضرورية. ومنذ فبراير 1990 بذل مانديلا وبقية قيادة المؤتمر الوطنى الأفريقى جهودا خاصة من أجل طمأنة الرأسمال المحلى والأجنبى إلى أنهم لا يعتزمون إجراء أى تغييرات اجتماعية واقتصادية جذرية. وقد أظهر مَسْح لآراء 100 من كبار زعماء رجال الأعمال نُشر فى چوهانسبورج فى ويكلى ميل آند جارديان فى ديسمبر الماضى أن 68% منهم أيدوا مانديلا باعتباره أول من يفضلونه رئيسا للجمهورية، ويدل هذا المسح على أن تلك الجهود كانت ناجحة. فضلا عن ذلك، بدا أن التطورات التى جرت منذ إقرار مسودة الدستور فى نوڤمبر 1993 تعمل لصالح الحزب الوطنى. فقد قرر تحالف الحرية - وهو ائتلاف متنافر من اليمين الأبيض المتطرف وزعماء مواطن متباينة - مقاطعة انتخابات أبريل. وكان وراء هذه الإستراتيچية التهديد المبطن بالعنف - من جانب الفاشيين من أتباع حركة مقاومة الأفريكان (البيض)، وربما من جانب المتعاطفين العسكريين مع الچنرال كونستاند ڤيلچوين، زعيم جبهة شعب الأفريكان والرئيس السابق لقوات دفاع جنوب أفريقيا، وقبل كل شيء من جانب أنصار حزب الحرية إنكاثا الممثل لقبائل الزولو. وأشارت استطلاعات للرأى إلى أن إنكاثا لم تحظ إلا بتأييد أقلية حتى فى الناتال حيث يقطن أغلب الأفارقة الناطقين بالزولو. غير أن لدى إنكاثا تنظيما جماهيريا هائلا تم بناؤه بعون قوات الأمن ويدعمه جهاز الدولة فى موطن الكوازولو الذى يسيطر عليه زعيم إنكاثا جاتشا بوثيليزى. وفى الشهور السابقة للانتخابات كانت هناك تقارير عديدة تؤكد أن فرق إنكاثا، التى تدربها وتسلحها جبهة شعب الأفريكان، تم نشرها فى كل مكان فى الناتال لعرقلة الانتخابات. وردّت قيادة المؤتمر الوطنى الأفريقى على ابتزاز تحالف الحرية عن طريق عرض سلسلة من التنازلات عليهم بهدف إقناعهم بالاشتراك فى الانتخابات. وجرى تغيير الدستور الجديد لمنح سلطات أكثر للمقاطعات، ولتعزيز سلطة ومكانة ملك الزولو، ولضمان قيام "موطن" أبيض يتمتع بالحكم الذاتى - كل هذه التدابير التى كانت ملائمة لهدف دى كليرك المتمثل فى الحد من سلطة الأغلبية السوداء فى "جنوب أفريقيا الجديدة". وعلّقت الويكلى ميل آند جارديان بقولها: "للمرة الأولى سيكون بوسع الحزب الوطنى الآن أن يدعى بعض على مائدة المفاوضات". ولحسن الحظ أثبتت الجماهير السوداء كيف يمكنها أن تستردّ فى الشوارع ما فرّط فيه زعماؤها على مائدة المفاوضات. ففى أوائل مارس، قبل الانتخابات بستة أسابيع لا غير، أطاح العصيان الشعبى بلوكاس مانجوبى رئيس موطن البوفوثاتسوانا. وكان مانجوبى ومستشاره الرئيسى روان كرونچى، الوزير السابق فى النظام الروديسى العنصرى الأبيض السابق، بوصفهما عضوين قياديين فى تحالف الحرية، يرفضان السماح بالانتخابات فى البوفوثاتسوانا. غير أن الحركة التى بدأت كإضراب للموظفين العموميين، خشية أن يحاول مانجوبى سرقة معاشاتهم، تطورت إلى انتفاضة عامة تطالب بإعادة إدماج البوفوثاتسوانا فى جنوب أفريقيا والمشاركة فى انتخابات أبريل. وانضم الطلبة وبقية العمال إلى الموظفين العموميين فى الشوارع. وعندما تمرد جنوده وشرطته طلب مانجوبى اليائس من ڤيلچوين أن ينقذه. وأصدر ڤيلچوين أوامره بالقتال لعدة آلاف من اليمينيين وبصفة رئيسية من الجناح شبه العسكرى لحركة مقاومة الأفريكان. وبفضل التأييد الشعبى، تمكنت قوات دفاع البوفوثاتسوانا من رد الفاشيين على أعقابهم، وقتلوا فى سياق ذلك أحد "چنرالات" حركة مقاومة الأفريكان. ووجدت قوات دفاع جنوب أفريقيا نفسها مجبرة على التدخل لاستعادة "النظام" لكن لقاء التخلص من مانجوبى وإعادة إدماج البوفوثاتسوانا فى جنوب أفريقيا. وتثبت انتفاضة البوفوثاتسوانا أن خدعة أقصى اليمين يمكن كشفها. ولا شك فى أن بوثيليزى خصم أقوى من مانجوبى، غير أنه سيكون لا مناص، عاجلا أو آجلا، من مواجهة استئساده وسفاحيه - بالقوة بالتأكيد تقريبا - إذا كان لجنوب أفريقيا أن تحصل على أى نوع من المستقبل الديمقراطى. على أن الانتفاضة كانت تنطوى حتى على درس أساسى أكثر. مرة أخرى كان العمال والشباب السود هم الذين دفعوا سرعة التغيير - كما فعلوا طوال الثمانينات ثم من جديدة بعد اغتيال هانى. فمتى يحصلون على قيادة سياسية تعتمد على قوتهم وشجاعتهم بدلا من السعى إلى كبحهم؟
4 المؤتمر الوطنى الأفريقى من السجن إلى الپرلمان بقلم: تشارلى كيمبر عندما يفوز المؤتمر الوطنى الأفريقى فى انتخابات جنوب أفريقيا فى نهاية هذا الشهر [أبريل الماضى -المترجم] سيكون ذلك انتصارا لكل شخص ناضل ضد الأپارتهيد [سياسة الفصل العنصرى]. إن الحزب الذى أعلن الحزب الوطنى الحاكم أنه سيجرى "سحقه باعتباره حزب الإرهابيين" سيصبح هو الحكومة. وستكون هزيمة العنصريين مدعاة للابتهاج الحقيقى. لكن ما نوع التغيير الذى سيأتى به نلسون مانديلا والمؤتمر الوطنى الأفريقى للأغلبية السوداء؟ كان المؤتمر الوطنى الأفريقى، الذى تم تأسيسه فى 1912، تحت سيطرة الزعماء التقليديين - الشيوخ القبليين - والمثقفين الذين أغضبتهم السيطرة العنصرية المتزايدة للبيض. وكانوا يريدون بوجه خاص أن ينظموا صفوفهم ضد إلغاء حق غير البيض فى عضوية الپرلمان، وضد الإعداد الذى كان يجرى على قدم وساق لإصدار قانون للأراضى يحدد الملكية السوداء بـ 10% من مساحة البلاد. وعلى مدى 35 سنة شدّد زعماء المؤتمر الوطنى الأفريقى على "القيم المسيحية"، واللاّعنف، والمعاداة المسمومة للشيوعية. وكان أسلوبهم المفضل لمقاومة العنصرية يتمثل فى تقديم الالتماسات إلى الحكومة البريطانية لإقرار المساواة. وكما هو متوقع لم تلق تلك الالتماسات أىّ استجابة. غير أن المؤتمر الوطنى الأفريقى ظل مخلصا لمبادئه. وباعتباره هيابا ومهذّبًا، أدار ظهره للاضطرابات العمالية المتنامية فى أعقاب الحرب العالمية الأولى. واستخدم أصحاب مؤسسات التعدين والرأسماليون زعماء المؤتمر الوطنى الأفريقى بصفة متكررة فى إقناع العمال بالتخلى عن الإضرابات لصالح التفاوض و"الانضباط". مثل هذا التنظيم، لو أنه لم يتحول، كان لا مناص من أن يموت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. ذلك أن أعدادًا كبيرة من العمال السود كان قد تم تعيينهم فى المصانع وأحسُّوا بقوة جديدة. وأظهر إضراب عمال المناجم فى 1946 بوضوح، رغم هزيمته، وجود مزاج جديد فى صفوف العمال المنظمين. بالإضافة إلى ذلك حارب الآلاف من السود فى حرب كان من المفترض أنها ستجلب الحرية. وبدلا من ذلك عادوا ليجدوا الإعداد الجارى على قدم وساق للتطبيق الكامل لسياسة صارمة تماما للفصل العنصرى - الأپارتهيد. وطالب جيل جديد من الزعماء بأساليب جديدة للنضال وبروح جديدة للمقاومة. "لم نعد ذاهبين لنتسّول، إننا ذاهبون لنأخذ"، هذا ما قاله أحد المتحدثين فى اجتماع للمؤتمر الوطنى الأفريقى فى 1949. وبفضل هذا التبدل الخطابى استطاع المؤتمر الوطنى الأفريقى أن يظل تنظيما قابلا للحياة. وقد شنّ سلسلة من الاحتجاجات الجماهيرية الملتزمة بمبدأ اللاعنف المنظمة بهدف اجتذاب السود من كافة الطبقات إلى النضال من أجل الديموقراطية. وخلال الستينات والسبعينات واجه المؤتمر الوطنى الأفريقى قمعا صارما من جانب الدولة بل جرت إبادته بالفعل فى أنحاء عديدة من البلاد. ولم يجر إحياؤه إلا نتيجة للتنظيم العمالى المتعاظم فى أوائل الستينات والتمرد الطلابى فى سويتو فى 1976 - رغم أنه لم يَقُدْ لا الإضرابات ولا الانتفاضة. وبحلول التسعينات كان قد توطد برسوخ باعتباره القوة الرئيسية المعادية لسياسة الفصل العنصرى، محليا وعالميا على السواء. والحقيقة أن التضحيات البطولية لمناضليه (رفض قادته أن ينحنوا أمام السجن، والتعذيب، والموت) كانت تعنى أن الأكثرية الساحقة لسود جنوب أفريقيا كانوا يتطلعون إليه ليجلب الديمقراطية. غير أن المؤتمر الوطنى الأفريقى ظل حركة وطنية (قومية) أكثر منها اشتراكية. وكان يشدد على المفاوضات أكثر من الثورة كطريق للوصول إلى الحرية. وقد ألحّ على ضرورة الاحتفاظ بالسُّود من كافة الطبقات فى حركة واحدة وكذلك على أن تعتدل الطبقة العاملة فى مطالبها من أجل الحفاظ على هذا التحالف. وطوال تاريخه فى الآونة الأخيرة ظل المؤتمر الوطنى الأفريقى يقوم بألعاب بهلوانية. فمن أجل تأمين التغيير من حكم وحشى إلى حكم مقيَّد، كان مضطرا إلى أن يقوم على الأقل بتعبئة قدر من قوة الجماهير والعمال. والحقيقة أنه ما كان بمستطاع المؤتمر الوطنى الأفريقى أن يصل على الإطلاق إلى مائدة التفاوض لولا الإضرابات، ولولا المظاهرات الضخمة، ولولا التهديد بالإطاحة ليس فقط بسياسة الفصل العنصرى بل كذلك بالرأسمالية. غير أنه فى نفس الوقت كان زعماء المؤتمر الوطنى الأفريقى يخشون دائما أن تخرج الأمور من أيديهم، وألاّ تكترث الجماهير بزعمائها عندما يؤون أوان وَقْف الاحتجاجات وبدء الانتخاب لپرلمان يعمل داخل رأسمالية يقودها السود. ومنذ إطلاق سراحه فى 1990 ظل نلسون مانديلا يقوم ببراعة بهذه الألعاب البهلوانية. وقد نجح فى تركيز اهتمام المؤتمر الوطنى الأفريقى على المباحثات مع الحكومة ولم يسمح لشيء بأن يعترض الطريق إلى تسوية مع دى كليرك. غير أنه استخدم أيضا ضغوط العمل الجماهيرى لتحسين شروط تلك التسوية وللعمل كصمام أمان لإحباط وغضب المناضلين الذين عانوا كثيرا جدا وطويلا جدا. وحقق مانديلا المأثرة الرائعة المتمثلة فى أن يظل الزعيم الأسود الأكثر شعبية بكثير وكذلك فى أن يكون الرئيس المفضل لأكثرية ساحقة من رجال الأعمال. وفى بعض اللحظات الحاسمة تعرضت زعامة مانديلا لتوتر خطير. وبعد مذبحة بويپاتونج فى يونيو 1992 والتى لقى فيها 41 شخصا مصرعهم رميا بالرصاص أو تقطيعا بالسواطير على أيدى أعضاء المجموعات الإرهابية التابعة لإنكاثا بمساندة قوات الأمن، طفا إلى السطح كل نفاد الصبر مع بطء سرعة التغيير. وهنا قام مانديلا، الذى انتقده الشباب على تصرفه "مثل الحمل بينما تذبح الحكومة شعبنا"، بوقف المباحثات. ودعا أنصار المؤتمر الوطنى الأفريقى فى النقابات العمالية إلى إضرابات. غير أنه حالما انتهت حالة الطوارئ استؤنفت المفاوضات. وتمثلت محنة أقسى أيضا فى مقتل كريس هانى زعيم المؤتمر الوطنى الأفريقى والحزب الشيوعى منذ سنة. وضمت الإضرابات العفوية والمظاهرات الضخمة الملايين. وكانت البلاد بأكملها فى حالة غليان. وأصابت الحركة بالقشعريرة أولئك الرأسماليين الذين كانوا قد ترقبوا انتقالا مستقرا نسبيا من رأسمالية الفصل العنصرى إلى رأسمالية يقودها المؤتمر الوطنى الأفريقى. غير أنه، كما كتبت البيزنيس ويك الأمريكية: لقد نجح المؤتمر الوطنى الأفريقى فى اختبار للقيادة... ذلك أنه وسط الاضطراب كان نلسون مانديلا هو الذى لعب دور رجل الدولة. فعلى مدى ثلاث ليال فى الفترة الرئيسية للتليڤزيون طالب بالهدوء. وقد بدأ زعماء الأعمال يقدرون دور المؤتمر الوطنى الأفريقى تقديرا عاليا. قامت الشركات بتغطية نفقات كثير من جوانب جنازة كريس هانى. ودفعت شركات التعدين الكبرى بصورة مشتركة أكثر من 140 ألف جنيه إسترلينى لهذا الغرض بينما قدمت شركة كوكا كولا المياه الغازية مجانا. ويفسر الأمر مسئول تنفيذى كبير فى قطاع التعدين قائلا: "على دوائر الأعمال أن تقوم بتعزيز مركز ذلك القسم من قيادة المؤتمر الوطنى الأفريقى الذين يناضلون فى سبيل تحقيق انتقال مستقر نسبيا". ويشتمل البيان الانتخابى للمؤتمر الوطنى الأفريقى على عدد من الوعود الجذرية تماما. فهو يتعهد بطرح برنامج أشغال عمومية تستخدم 2.5 مليون شخص على مدى السنوات العشر القادمة المقبلة لتوفير المنازل، والمياه، والكهرباء، والمستوصفات، والمدارس، والطرق. ويقول إنه سيكون هناك تخفيض ضريبى لكل من يكسب أقل من 800 جنيه إسترلينى فى الشهر (الأغلبية الواسعة من السود) وإلغاء ضريبة القيمة المضافة على السلع الأساسية. على أن زعماء المؤتمر الوطنى الأفريقى أوضحوا بكل جلاء أنه لن يكون هناك أى هجوم على الرأسمالية. وفى حديث إلى المزارعين البيض ألحّ مانديلا على أنه ليس هناك ما يخشونه من حكم المؤتمر الوطنى الأفريقى وأنه لن يحدث تأميم أراضيهم. وقال لرجال الأعمال فى لندن: "أصدرنا قانون استثمار يضمن أنه لن يكون هناك تجريد من الملكية أو الاستثمارات. وسيكون من حق المستثمرين الأجانب إعادة حصصهم وأرباحهم إلى بلادهم". وفى الشهر الماضى قال پالو چوردان منسق سياسة التعدين والطاقة فى المؤتمر الوطنى الأفريقى إنه لم يجر التفكير فى تأميم شركات التعدين أو حقوق التعدين. وهناك حديث عن أن دريك كيز، وزير المالية الحالى، وكريس ستالز، محافظ البنك المركزى، سيُطلب منهما البقاء فى منصبيْهما بعد الانتخابات. أدت هذه التنازلات الخطيرة للرأسمالية وكذلك القلق المتزايد بشأن مقدار ما سيحصل عليه من الحكومة الجديدة إلى مؤتمرات نقابية عمالية عديدة ناقشت فكرة حزب عمالى منفصل عن المؤتمر الوطنى الأفريقى. وطالبت نقابة عمال الملابس والنسيج بجنوب أفريقيا والتى تصل قوتها العددية إلى 170 ألف عامل اتحاد نقابات عمال جنوب أفريقيا بقطع علاقاته مع المؤتمر الوطنى الأفريقى بعد الانتخابات. وضد نصيحة قيادتها صوتت النقابة الوطنية لعمال التعدين والتى تصل قوتها العددية إلى 220 ألف عامل لصالح النظر فى تأسيس حزب عمالى وقطع الصلات مع حكومة وحدة وطنية بقيادة المؤتمر الوطنى الأفريقى. لا يعنى أىّ شيء من هذا أن العمال لن يصوتوا لصالح المؤتمر الوطنى الأفريقى. فقبل كل شيء آخر ليس هناك بديل جماهيرى. وفضلا عن ذلك فإن الكثير من العمال سيرغبون فى أن يروا المؤتمر الوطنى الأفريقى فى موضع الاختبار فى الممارسة العملية قبل أن يفكروا فى التخلى عنه. على أن هذا يعنى حقا أن العمال قد بدأوا بالفعل فى الانتقال من السؤال عن كيف يمكن التخلص من الأپارتهيد إلى السؤال عن نوع المجتمع الذى سيعقب الانتخابات. وسوف يظل المؤتمر الوطنى الأفريقى كما كان دائما - حركة قومية يسيطر على قيادتها السياسية أشخاص يريدون أن يروا رأسمالية سوداء. وبالنظر إلى الأعمال الضخمة المطلوبة لتحسين مستويات معيشة السود فإن سياسات المؤتمر الوطنى الأفريقى ستصل على الأرجح إلى مأزق فى المستقبل القريب نسبيا. وقد لا يمرّ وقت طويل قبل أن نرى الإضرابات الأولى التى يقوم بها العمال مطالبين بما هو أكثر مما يمكن أن تكون حكومة للمؤتمر الوطنى الأفريقى مستعدة لتقديمه. وعندما يحدث ذلك فإن احتمالات نشوء تيار اشتراكى حقا سوف تتزايد بشدة. وفى سبتمبر الماضى ألقى نلسون مانديلا خطابا لافتا للنظر. وفيما كان يخاطب مؤتمر اتحاد نقابات جنوب أفريقيا وضع أوراق مذكراته جانبا فى نهاية خطابه وأعلن: "كم مرة عملت حركة التحرر الوطنى سوية مع العمال ثم خانت العمال فى لحظة الانتصار؟ هناك أمثلة عديدة لذلك فى العالم. فقط عندما يقوم العمال بتقوية تنظيمهم قبل وبعد التحرير فإنه يمكنكم أن تنتصروا. أما إذا استرخت يقظتكم فإنكم ستجدون أن تضحياتكم كانت عبثا. أيِّدوا المؤتمر الوطنى الأفريقى فقط طالما قام بتسليم السلع. أما إذا لم تقم حكومة المؤتمر الوطنى الأفريقى بتسليم السلع فإنه ينبغى أن تفعلوا بها نفس ما فعلتموه بنظام الأپارتهيد". وهو محقّ تماما عندما يشير إلى عيوب الحركات المشابهة للمؤتمر الوطنى الأفريقى. والمهمة التى ينبغى القيام بها هى بناء تنظيم اشتراكى يمكنه أن يقدم بديلا عنه.
5 من أدب التحرير إلى حرية الإبداع بقلم: چان-پيير ريشار عشية إطلاق سراح نيلسون مانديلا، فى فبراير 1990، اقترح ألبى زاكس، أحد قادة المؤتمر الوطنى الأفريقى، بشيء من الدعابة، أن يُحظر "لمدة خمس سنوات" على أعضاء المنظمة (المؤتمر) اتخاذ الثقافة سلاحا فى معركة التحرير، وأخذ يشكو: "نحن لا ندفع فنانينا إلى تطوير أنفسهم؛ يكفى أن يكون الفنان صحيحا سياسيا"(1). وكان أدب المقاومة قد ظل منغلقا داخل عالم رمادى ظل يستبعد ألوان الحياة: الغرابة، الإبهام، الحب، إلخ. "يبدو الأمر وكأن النظام يخفر كل صفحة، ويلازم كل صورة. ويدور كل شيء حول المضطهد (بكسر الهاء) والأذى الذى ألحقه؛ ولا شيء هناك عنا نحن، عن الوعى الجديد الذى نقوم بخلقه". حقا إن الجدال حول العلاقات بين الفن والسياسة شهد أوقاتا أخرى صعبة، خاصة عند عقد مؤتمرى 1982 فى بوتسوانا ("الثقافة والمقاومة")، و1988 فى أمستردام(2). كما كانت هناك أيضا مجادلات حول الثقافة العمالية السوداء بين الشاعرين چيريمى كرونين وليونيل أبراهامز، فى 1987، فى مجلة "ويكلى ميل" وبين الناقدين مايكل تشاپمان وستيفن واطسون، فى 1989، فى مجلة "ذى ساوث أفريكان ريڤيو أوف بوكس". ويقول عميد أدب السود، إسكيا مفاليلى، عن حق إن "هذا الجدال يدور منذ الخمسينات"(3). غير أن هذا التغيير المفاجئ فى موقف السيد ألبى زاكس أثار سيلا من ردود الأفعال لم يسبق له مثيل فى التاريخ الثقافى الحديث للبلاد. وكما يعلق مايكل تشاپمان فإن المؤلفين المعادين للأدب الملتزم (وهم من البيض عادة) "انطلقوا يكتبون بكل الرطانة القديمة للنزعة الأوروپية الأكاديمية"(4). وهكذا فإن الشاعر دوجلاس ريد سكينير، وكان آنذاك مدير "نيوكونتراست"، المجلة الأدبية للكاپ، وصف الفكرة الخاصة بثقافة تكون "سلاحا نضاليا" بأنها فكرة "بلهاء، وتحريضية، وسخيفة، وساذجة، وخطرة، وجاهلة جهلا مطبقا"(5). أما الاستاذ الجامعى ستيفن واطسون فإنه يبتهج بأن "النقاد يمكنهم من الآن أن يقدّروا الأدب الجيد وأن ينتقدوا الأدب الردئ دون خوف من الاتهامات الاعتباطية"، مدركين، كما يرى، أن "الفن الردئ يظل محدَّدا دوما بسياقه الاجتماعى-التاريخى، أما الفن الجيد فلا يحدث له هذا أبدا". أما النائب الأبيض دين سمطس فإنه يرى فى تصريحات ألبى زاكس "راية الوصول التى تدل على نهاية النضال"! ويحاول مؤلفون آخرون، دون أن يعارضوا التقييم القاتم الذى يقدمة السيد ألبى زاكس، أن يفسروا: يُسلِّم الشاعر الأسود هين ويليمسه "بأننا، من الناحية الجوهرية، تحدثنا إلى العالم عن بؤسنا"، غير أنه يعزو هذا "التراث من الشكوى والأنين" إلى تأثير الكالڤينية البويرية والبيوريتانية الأنجلوساكسونية". ويضيف أن العلاقة بين البرچوازية (الصغيرة) والأدب جعلت من هذا الأخير تراثا ثقافيا "للمثقفين" مكرسا للتصوير "الرصين" لقَدَر الإنسان أكثر منه للتمجيد الشعبى للحياة. ويرى نچابولو نديبيلى، بدوره، أن "الاستكشاف الأدبى للوضع الجنوب أفريقى كان سطحيا إلى حد بعيد"(6)، وأن الاهتمام انصبّ على الرموز السطحية والمحصلات النهائية أكثر منه على سيرورة الاستعباد أو المقاومة - وهى فجوة لا يعزوها إلى التزام المؤلفين السود، بل إلى تأثير أسلوب الإثارة لدى الديكتاتورية العنصرية. وإذا ما أُضيفتْ إلى ذلك عدوى النزعة الأخلاقية الليبرالية، على نهج ألان پاتون، والتى ظلت تُدين دون تعميق فإن النتيجة هى الرهان على الرموز الأشد دراماتيكية للاضطهاد (التعذيب، السجن، المذابح...) احتكامًا إلى الحسّ الأخلاقى للبيض، بدلا من الوصول بالقارئ إلى إدراك للظواهر الاجتماعية التى يُعتبر "الخير" و"الشر" ضمن نتائجها المنطقية. الخروج من الإطار الكولونيالى الإنجليزى وردًّا على السيد ألبى زاكس شدّد عدد من المؤلفين على إسهامات أدب الاحتجاج منذ ربع قرن. ولا يرى مايكل تشابمان "معازل خيال الأپارتهيد" والتى يأسى عليها قائد المؤتمر الوطنى الأفريقى، بل يرى "الغوص العميق فى مجتمعات محلية بذاتها عند كاتب القصة القصيرة الهندى أحمد إسوپ، وأشكال المزج المبدع، على صعيد الموضوع والبناء على حد سواء، لوقائع ماضية وحاضرة عند الشاعر العمالى كابولا، إلخ.."(7). ويرى الشاعر الأبيض الناطق بالإنجليزية كلوين سول أن "ثقافة التحرير التى ظهرت فى أوائل السبعينات كسرت هيمنة شعرٍ ونقدٍ ليبرالييْن مغتربيْن"، تمحورا حول الكلاسيكيات الإنجليزية، وأدارا ظهرهما لأفريقيا وللالتزام. ويؤكد الناقد جاريث كورنويل أن "حركة الوعى الأسود، خلال السبعينات، والحركة الديمقراطية الجماهيرية، خلال الثمانينات، أحدثتا انقلابا فى أفكارنا المقررة بخصوص الأدب، وأضفتا قيمة على صور مهملة من الثقافة، خاصة ثقافة العمال والمهاجرين، ودفعتا إلى إبداع أدب جنوب-أفريقى ”يتخلص من الإطار الكولونيالى الإنجليزى. كما يؤكد أن "ثقافة التحرير أخرجت من الصمت تشكيلة كاملة من الأصوات التى لم نسمعها من قبل فى جنوب أفريقيا". غير أنه يضيف فى الحال: "تبدو ثقافة التحرير ضيقة الأفق بصورة مفزعة فى نزوعها إلى اختزال الحياة إلى مجموعة من الشعارات، والتى - مهما كانت تحريرية فى بداية الأمر - لا يمكنها على الأمد الطويل إلا أن تكبح ميول الروح والقلب". وهذا الذى ينادى به (جاريث كورنويل)، مع نچابولو نديبيلى، ونادين جورديمر، وكلوين سول، وكثير من الآخرين، لا يعنى مطلقا نهاية التزام الكتاب، بل يعنى نهاية القوالب الجاهزة والشعارات. ولنفكِّرْ، بهذا الخصوص، فيما يقوله ياشار كمال، أشهر الروائيين الأتراك: "فى (...) روايتى: ميميد الناحل، حاولتُ القيام بتخليص الأغوات من أغلال النماذج الأصلية. وقد نجحتُ فى تناولهم، لكننى لم أنجح فى تخفيف طابع الكليشيه الذى يظل لاصقا بهذه الشخصيات. ولا أزال أعانى هذا الإحساس بعدم الرضى لفشلى فى تقديم صورة كاملة عنهم"(8). والحقيقة أن طموح الأدب الجنوب-أفريقى الجديد، فيما يتعلق بمجموعته الهائلة من الشخصيات التقليدية - ربّات عمل وأرباب عمل، رؤساء (عمال) بيض، رجال شرطة، مزارعون، رؤساء عمال، صاحبات بارات غير مرخّصة (ملكات الشيبين - كما تُسمَّى تلك البارات)، أولاد أشرار (تسوتسى) معتقلون، إلخ - أشبه ما يكون بطموح ياشار كمال. ويأسف ألبى زاكس على واقع أن "الإبهام والتناقض كانا مستبعدين من أدب الاحتجاج" ويضيف: "لو كان لدينا خيال كاتب مثل شولوخوڤ لما كان على بطل دون هادئ جنوب-أفريقية أن يكون عضوا فى المؤتمر الوطنى الأفريقى أو اتحاد نقابات عمال جنوب أفريقيا (كوساتو)، بل أحد أنصار حزب الحرية "إنكاثا" (الحزب الرئيسى للزولو - المترجم) الذى يقاوم التغيير، حيث يعانى من الاضطهاد، تتجاذبه يمينًا ويسارًا مشاعر متضاربة، وعبر نضالاته وعذاباته وأفراحه يغوص القارئ فى قلب الكفاح فى سبيل جنوب أفريقيا جديدة. إننا، بدلا من ذلك، نقوم برصّ الأخيار - أبناء شعبنا -على جانب والأشرار على الجانب الآخر"(9). وانطلاقًا من أن هذه المانوية (المثنوية) التبسيطية لا تَعُدّ القارئ لمهمة بناء مجتمع جديد، يعلن الشاعر الاشتراكى كلوين سول: "لقد سئمتُ من هيمنة الفن المسمى [أى المساند للنضال - المترجم] فى جنوب أفريقيا. إن شكل الفن السياسى الذى أفضّله سيدفع دائما إلى التفكير فى الناس وسوف يسبر أغوار معتقداتهم ومواقفهم". ويؤكد نچابولو نديبيلى، بدوره، أن "التفكير أساسى للتصدى لأيديولوچية السوق: إن أدب المقاومة الجيد "لا يبيع" أفكارا للقراء: إنه يستدرجهم إلى فهم تلك (الأفكار) التى أتاح لهم الكاتب إدراكها عبر استدعاء تجربة معيشة بكل تعقيدها"(10). وبدفع استكشافه إلى ما وراء الكليشيهات يكشف الكاتب عن حقائق جديدة، عن تطورات، عن إمكانات تغيير؛ وهكذا فإن الخيال الاجتماعى للمضطهدين (بفتح الهاء) يتسع ويتهيأ بصورة ملموسة لإدارة مستقبل معقد. وربما لم يكن مايكل سيلوما، ومتوتوزيلى ماتشوبا، وبهيكى ماسيكو، وچوويل ماتلو، ومبوليلو مزامانى، وأحمد إسوب، وأتشمات دانجور، وذووه ويكومب، ودينا پاداياتشى، ونچابولو نديبيلى ذاته، ربما لم يكونوا (بعد) شولوخوڤات، غير أنهم أداروا ظهرهم للكليشيهات. وهم جميعا كتاب قصة قصيرة بوجه خاص. وصحيح أن القصة القصيرة تحتل لدى السود، فى جنوب أفريقيا، منذ ظهور مجموعة پيتر أبراهامز: "العهد المظلم" فى 1942، مكانة رفيعة، رغم اختفائها، منذ مذبحة شاربڤيل فى 1960 إلى مذبحة تلاميذ سويتو فى 1978، وكانت هذه فترة من القمع الشديد كان فيها الشعر بمثابة مخبأ ومكبر صوت فى آن واحد حسب تعبير نادين جورديمر(11). والحقيقة أن العصر الذهبى الأول للقصة القصيرة، عند الكتاب السود، تزامن مع نجاح مجلة "درام" [الطبلة] التى بدأ إصدارها (أصدرها البيض) فى 1951 وكانت موجهة إلى سود الهجرة الريفية الكبرى التى أطلقتها الصناعة الحربية حتى 1945. وكانت مجلة "درام" تروى لهم أخبار الرياضة، والجريمة، والجنس، وقد نشرتْ فى ست سنوات تسعين قصة قصيرة، بتوقيعات كانْ تيمبا، بلوكى موديسانى، كاسى موتسيسى، حزقيال مفاليلى، أرثر ميمانى، نات ناكاسا، إلخ.. وكان المراد إبعاد الأفريقى الجديد عن المدن وأمركته، فيما كان النظام ينادى بالعودة إلى القبلية الريفية وفيما كان يقوم بإعداد "الأپارتهيد العظيم" للبانتوستانات. ومن هنا اختيار الشخصيات الفاقعة الألوان: رجال العصابات، والملاكمون، وعازفو الچاز، والسكّيرون، ولاعبو القمار، والمعربدون، على صورة الحياة المضطربة لمركزين ثقافيين كبيرين "غير أبيضيْن": صوفيا تاون (فى چوهانسبورج) وديستريكت سيكس (المقاطعة السادسة) (فى الكاپ) -، وقد دمرتهما بلدوزرات النظام منذ 1955 فصاعدا(12). والحقيقة أن الجيل الحالى يسترد هذا النزوع لكتاب القصة القصيرة فى مجلة "درام". ويصف چوويل ماتلو، فى قصة "رجل ضد نفسه"، يوما عاديا فى حياة عامل منجم: لا شيء بطولى فى حياة الرجل، وهو لم يعد ينسجم مع القالب الجاهز لعامل المنجم المستغل (بفتح الغين) والعاجز. وفى قصة "تحوُّل"، يقطع مايكل سيلوما بدوره علاقاته مع تمجيد البطولة. وهو ينطلق من واقعة مختلفة: صاحب مقهى يسرق، ثم يعتدى على شاب أسود حامل شهادة دراسية. والقسم "الدراماتيكى”لا يمثل سوى ثلث النص، موضوعًا بين زمنين للتفكير، أحدهما فى شكل سرد والآخر فى شكل حوار رشيق: "أرغب فى العودة إلى مقهى هذا الأبيض القذر لأحطم كل زجاج نوافذه. - وإذا طلب الپوليس؟ (...) - (...) عندما يصل سأكون قد ابتعدت. - أحيانا تدهشنى بأفكارك (...) - أو فى ذلك الحين، لو كانت عندى بندقية لقمتُ مباشرة بإطلاق الرصاص على رأسه. - كفى، بصراحة أنت تضحكنى! أنت تعرف كما أعرف أنك لا تملك الجرأة على أن تفعل ما تقول". وهكذا فإن حذلقات وسذاجات چون يجرى نقدها بلا انقطاع من جانب ابن عمه، الذى يُغيِّر وَعْى الضحية ويقود "تحوُّلَه" إلى النضالية: "منذ عدة شهور، دعوتُك إلى الاحتفال بيوم الأبطال. وأجبتنى بأنك لا تمارس السياسة. وأتمنى أن يضع ما حدث لك قليلا من الإدراك السليم فى رأسك الذى تزعم أنه ملئ تماما". إن الأكثر بطولية من هذين الشخصين ليس ذلك الذى نظنه كذلك، وفيما يقوم مايكل سيلوما بتسلية قارئه فإنه يدفعه إلى التفكير. وإنما حول هذه النقطة يتميز المؤلفون الجدد عن مؤلفى مجلة "درام". وقد شدّد بلوكى موديسانى، أحد أفضل المتعاونين مع مجلة "درام"، على حدود النوع الأدبى الذى كرّس له نفسه آنذاك: "هذه الصحافة المثيرة كانت تدفع لنا لنكتب قصصا قصيرة تقدم للأسود صورة قلب بسيط وعاطفى، ميّال إلى الصور الجدارية، والعيد، والعنف الشبقى أو غيره. صحيح أن أبطالى الهروبيين كانوا يصطدمون بالنظام القائم، لكننى لم أدرك أنه كان بوسعى أن أستفيد بقصصى القصيرة فى التفكير فى مجتمعنا"(13). ولم يستثمر مؤلفو مجلة "درام" لهذه الغايات التحريرية ذلك الاحتياطى الهائل الذى استمدوا منه مادة بناء قصصهم. أسلحة كثيرة موجَّهة إلى الاستبداد قدم نچابولو نديبيلى، الكاتب والناقد فى آن معا، نظرية الأدب الجديد، فى مجموعة مقالاته: "إعادة اكتشاف العادى"، كما قدم شرحا بارعا لأطروحاته فى مجموعته: "الحمقى وقصص أخرى" (1983)، وهى مجموعة من خمسة نصوص، منها نصّان يقع كل منهما فى حوالى مائة صفحة. ويمثل أحدهما، "الحمقى"، صورة مرآة لثائر شاب، اسمه زانى، ولمناضل سابق، اسمه زامانى، يوبّخه زانى بأنه "بطل فى الهروب"؛ غير أن فرصة أخيرة لانتزاع النفس من العجز تسنح لزامانى، إنْ هو أقبل على التفكير. والقصة القصيرة الأخرى، وهى بعنوان "عَمِّى"، يرويها طفل صغير يتيم يستفيد بزيارة عمه من التحرر من مخاوفه الطفولية وفى الاتجاه، باكتشاف المرأة، نحو الرجولة؛ وحول بوق العم، رمز الإبداع الفنى والتناسل ستتجمّع القرية للاحتفال بثروتها البشرية، الضمان الأفضل لقدرةٍ على الانتصار ذات يوم على الأپارتهيد. ويستخلص زانى نفس الدرس فى قصة "الحمقى": "كافة مظاهر الوجود، شرط أن ندرسها دراسة خلاقة، هى كذلك أسلحة تواجه بها الحياة من تلقاء ذاتها الاستبداد الأشد وحشية"(14). حقا إن الأدب الجديد يُثريه التزامٌ بالغ العمق. إشارات 1: Albie Sachs, "Preparing Ourselves for Freedom", in Brown et Bruno van Dyk (ed.) Exchanges, South African Writing in Transition, University of Natal Press, Pietermaritzburg,1991, pp 117-125. Voir aussi Ingrid de Kok et Karen Press (ed.) Spring Is Rebellious: Arguments about Cultural Freedom by Albie Sachs and Respondents, Buchu Books, Le Cap, 1990. 2: Cf. les actes de la conférence d Amsterdam: Culture in Another South Africa, Zed Books, Londres, 1989. 3: Exchanges, op.cit. (introduction). 4: Michael Chapman, "The Critic in a State of Emergency", in Kirsten Holst Petersen et Anna Rutherford (ed.), On Shifting Sands, New Art and Literature from South Africa, Heinemann, Portsmouth (New-Hampshire), 1992, p. 2. 5: Les quatre citations qui suivent sont tirées d Exchanges, op.cit. : Douglas Reid Skinner, p. 74; Stephen Watson, p.91; Dene Smuts, p. VII (introduction) ; Hein Willemse, p. 96. 6: Njabulo Ndebele, The Rediscovery of the Ordinary, Essays on South African Literature and Culture, COSAW, Johannesburg, 1991, p. 23. 7: Voir Exchanges, op.cit : Michael Chapman, p. 11; Kelwyn Sole, p. 83; Gareth Cornwell, pp. 16-17. 8: Yachar Kemal, Entretiens avec Alain Bosquet, Gallimard, Paris, 1992, p. 157. 9: Voir Exchanges, op.cit. : Albie Sachs, p. 118; Kelwyn Sole, p. 82. 10: Njabulo Ndebele, The Rediscovery…., op.cit., p. 33. 11: Lire, de Nadine Gordimer, "Le geste essential", le Monde diplomatique, janvier 1985 ; "I1 était une fois..", le Monde diplomatique, décembre 1989 ; "N y a-t-il aucun autre endroit où nous puissions nous rencontrer?", le Monde diplomatique, novembre 1991. 12: Lire, sur Sophiatown: Miriam Tlali, "Une si jolie banlieue", le Monde diplomatique, septembre 1989, Sur District Six: Richard Rive, Buckingham Palace, Belfond, Paris, 1988. 13: Cf. sous la direction de Michel Chapman, The "Drum" Decade, University of Natal Press, Pietermaritzburg, 1989. 14: Njabulo Ndebele, Fools, Complexe, Bruxelles, 1992, p. 101.
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلا الرسول الكريم
-
هل انتصرت الثورة المضادة فى مصر؟
-
حروب القرن الحادي والعشرين مخاوف وأخطار جديدة
-
بورخيس - كاتب على الحافة
-
عالم جديد - الجزء الرابع - فيديريكو مايور
-
عالم جديد - الجزء الثالث- فيديريكو مايور
-
عالم جديد - الجزء الثاني - فيديريكو مايور
-
عالم جديد - الجزء الأول - فيديريكو مايور
-
بدلا من صَوْمَلَة سيناء
-
طبيب الأمراض العقلية - ماشادو ده أسيس
-
سوريا: الطريق إلى الجحيم
-
حدث 25 يناير 2011: ثورة أم ليست ثورة؟ (مفهوم مختلف للثورة ال
...
-
قبل تشكيل حكومة هشام قنديل
-
أثبتت فحوصى الطبية الأخيرة خلوّ جسمى من سرطان الكبد (لطمأنة
...
-
احتمالات الصراع الحالى بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإ
...
-
ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الثانى
-
ثورة 25 يناير 2011 فى النصف الأول من 2012 - القسم الأول
-
هل يتمخض الربيع العربى عن تأسيس دول إسلامية؟
-
الانقلاب العسكرى المكمِّل
-
كلمات فى عشية جولة إعادة الانتخابات الرئاسية فى مصر
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|