|
رؤية الواقع ورؤى الخيال فى (أغنية الدمية)
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 3869 - 2012 / 10 / 3 - 21:08
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ُرؤية الواقع ورؤى الخيال فى ( أغنية الدمية) طلعت رضوان طغتْ شهرة عزالدين نجيب الفنان والناقد والمؤرخ لحركة الفن التشكيلى ، على إبداعه فى فن القصة القصيرة ، رغم أنه واحد من أوائل جيل الستينيات فى هذا المجال ، إذْ قدّم أكثرمن ثلاث مجموعات قصصية : ففى عام 1960اشترك فى مجموعة مع خمسة من الكتاب ، بمقدمة كتبها أ. يحيى حقى بعنوان (عيش وملح) وفى عام 62صدرتْ للفنان عزالدين نجيب مجموعته القصصية الخاصة الأولى بعنوان (أيام العز) وفى عام 68صدرت المجموعة الثانية بعنوان (المثلث الفيروزى) عن هيئة الكتاب المصرية بمقدمة مهمة كتبها أ. يحقى حقى أيضًا ، وفى عام 75 صدرت المجموعة الثالثة بعنوان (أغنية الدمية) ضمن مطبوعات إتحاد الكتاب العرب بدمشق ، ثم صدرتْ الطبعة الثانية منها عام 87 عن دارالفكربالقاهرة ، مُزوّدة بقصتيْن جديدتيْن، رغم كل ذلك فإنّ الدراسات النقدية والمقالات والملفات التى تتناول كتاب القصة القصيرة – فى الغالب – تتجاهل إبداع عزالدين نجيب فى هذا المجال . صحيح أنّ الفن التشكيلى إحتلّ أغلب مساحة الضوء فى شهرة عزالدين نجيب ، ولكن هل يجوزلناقد جاد أنْ يتكىء على هذا السبب فيتغاضى عن إبداعه القصصى ؟ أعتقد أنّ قراءة قصص عزالدين نجيب سوف تــُشكــّــل وحدها أساس الحكم على مدى عدالة هذا الموقف النقدى من إبداعه. وقد اخترتُ مجموعة (أغنية الدمية) التى شدّنى إليها ملمحيْن من ملامح البناء الفنى لديه. المكان شريان فى البناء : يُــشكــّــل المكان فى أغلب القصص الإطارالعام لبناء القصة ، ومع ذلك لاتوجد كلمة واحدة تـُشيرإلى هذا المعنى ، لأنّ للمكان وجودًا حيًا نابضًا ، مـُشتبكـًا فى النسيج العام مع لحظة شعورية مُحدّدة . إننا إزاء جسرمنسوج ومُلتحم ، أحد أطرافه المكان (بحرأوقلعة أوصحراء) والطرف الآخرشبكية عين أوعضلات أذن أوحاسة شم أودبيب قدم أولمسة أنامل . فى قصة (مشهد من وراء السور) نجد أنفسنا إزاء كائن أسطورى لايـُعرّفه الكاتب تعريفـًـا قاطعًا ، ينتفض مُهاجمًا شاطىء البحرالمُزدحم بالمـُصطافين ، على حين تهتف شخصيات القصة أنه (سفينة فضاء) أو(صاروخ ذرى يُرسل إشارات ضوئية) أوأنّ هذه الكتلة المـُـنقضّة ما هى إلاّ (إنعكاسات الشمس) وقــُــبيل الهلع العظيم الذى أدركوا منه أنهم يزحفون نحوبوابات الموت ، عندما ألقى البعض بنفسه إلى الرمال يُحاول دفن نفسه فيها ، والبعض الآخرإلى البحر(يلقى بنفسه بين الأمواج يحتمى فيها ، وحين يـُشرفون على الغرق يرفعون رؤوسهم إلى أعلى) فماذا يرون ؟ هنا – ومع ذروة التوتر والذعر- يكون لهذه الكتلة الخرافية وصف آخرينبع من العيون المذعورة حيث ((تصفع عيونهم الكتلة الوحشية السوداء المُـتعدّدة الرؤوس ، التى أصبحتْ الآن هائلة الضخامة لشدة قربها من الأرض)) فى هذه اللحظة المُـختارة ، أمام هذه الكتلة الأسطورية التى تـُثيرالذعر، وتـُبدّد الأمان ، يضعنا الكاتب إزاء رمال ساخنة شاسعة ، وبحرمُمتد ، وفضاء لا تـُدركه العين وسور((يمتد على طول البلاج الضيق اللانهائى الطول ، من خلف صف الكبائن الحجرية المـُتآكلة ، ويحجب تمامًا ما وراءه من بنايات المدينة)) هذا الوصف للسور(لاحظ عنوان القصة : مشهد من وراء السور) يتجاوزالمستوى الواقعى ، ليخلق واقعًا فنيًا ، مُوازيًا له ومُستقلا عنه. والمُبدع يوغل فى ذلك حتى يتحوّل المكان من مسرح للحدث إلى نسيج فى البناء ، هذا الوصف للسوراللانهائى الطول ، الذى يضع أناملنا على ((نتوءات أحجاره)) وتطل علينا ((فتحاته الرأسية الحادة المـُتباعدة)) تلك الفتحات التى تبدو ((كفتحات للبنادق أومزاغل الرماة فى الحصون القديمة)) فى هذا الوصف حيث تمتزج (( آثار التهدم بالتجريح)) حيث تتداخل الألوان وتتعدد طبقاتها ، حيث الكثافة تتلوها شفافية ، وكأننا نـُشاهد فانوسًا سحريًا ، هذا الوصف – بمـُفرداته وتراكيبه الدالة- أضفى على المكان طابعًا أسطوريًا ، أوجعل القارىء كالمسافرعبرالتاريخ ، ومن هنا جاء التآلف الهارمونى بين المكان الأسطورى وبين ((الكتلة الوحشية السوداء المتعددة الرؤوس)) ومن هذا التآلف يتولـّد فهمنا للركن الثالث فى القصة : انعكاسات هذا الجوالأسطورى على البشر، من ذعر، وردود أفعال مـُتباينة وتفسيرات مـُتناقضة ومـُحاولات للخلاص الفردى العشوائى ، ولولا هذا التجانس بين المكان الأسطورى والكائن الأسطورى ، لافتقدتْ القصة الكثير، ومن هنا تأتى أهمية إيغال المـُبدع فى ربط المكان بالحدث ، فخرج المكان فى النهاية كجزء من النسيج فى بناء القصة ، إنْ انفصل عنها انهدم البناء . 000 فى قصة (قطارالشمال) نجد شخصيتيْن غريبتيْن ومهمة غريبة ومدينة أشد غرابة. البطل يصطحب صديقته معه فى مهمة لتوصيل بعض الأشخاص إلى مكانٍ ما ، ولكن الصديقة تـُقرّر النزول من القطارفى مدينتها ، وتضع البطل أمام اختيار: هل سينزل معها أم لا، فيسألها عن مصيرالأشخاص المسئول عنهم ، فترد عليه ((هاهم لايشعرون بك.. ولن يهتموا إذا نزلتْ )) وصف البطل لحظة الاستجابة لرغبة صديقته قائلا ((مدّتْ لى يدها فجأة لتـُصافحنى . لم أمد يدى . ظلـّتْ يدها مُعلـّقة. تعلـّقتْ عيناى بعينيها . لم يستطع صفاؤهما أنْ يخفى الحسم المفاجىء القاطع الذى بدا وكأنه يطفومن أعماق سحيقة فيها ، كأنه كان مـُختبئـًا داخلها كل هذه السنين وأنا لا أعرف . أرعبتنى النظرة المُباغتة أكثرمما أرعبنى صوت البوق الأول . كنتُ حتى آخرلحظة أعتقد أنها فى النهاية- رغم قرارها بالنزول – ستبقى معى ، وأنّ مدينتها التى تحلم بالعودة إليها ممكن أنْ تحتفظ بها كألبوم ذكريات إذا ما اضطرتْ إلى الاختياربينها وبينى . كنتُ حتى آخر لحظة أعتقد أنّ حياتى يمكن أنْ تستمربدونها ، وأننى أعرف دائمًا ما ينبغى أنْ أفعل.. أما الآن ، فأنا لا أعرف أى شىء أكثرمن أنّ يدى تنجذب بقوة دوّامة بحرية لتلتقط يدها المُعلـّقة تتشبّث بها) إنّ هذا المقطع البديع ، يبدوضروريًا كمدخل للدخول إلى المدينة الغامضة. وتضحية البطل بالمهمة المـُكلـّف بها . فما هوسرهذه المدينة ؟ غادرالبطل وصديقته القطار. فماذ كان فى انتظارهما ؟ ((الصمت وحده هوالذى استقبلنا فى المحطة. صمت معدنى سميك ، صفعنا بحدة بعد تلاشى ضجة القطارالمُبتعد)) كان طبيعيًا أنْ يبحثا عن البشر((لم تلتق أعيننا بإنسان)) تأملا حجرات موظفى المحطة ((ولا أحد)) وكانت هنا (فَرْشِة) بائع الصحف وعليها جميع الجرائد والمجلات ((ولا أحد)) وكشك سجايرومرطبات (ولا أحد) وسلة سميط مُمتلئة بالكعك الطازج ((ولا أحد)) دخلا مخبأ المحطة. وجداه خاليًا تمامًا ((أصبح للصمت فى المخبأ صوت غريب ، كأنه بقايا صيحات وهمسات الناس المذعورة حين كانوا مـُكدّسين فيه منذ لحظات)) خرجا إلى الميدان ، لم يجدا أحدًا ((وكل الشوارع المـُتفرّعة عنه خالية تمامًا . سرنا نتلفتْ حولنا . كانت الدكاين مفتوحة ومـُكدّسة بالبضائع ، وحبال الغسيل فى شرفات البيوت مـُحمّـلة بالملابس المغسولة. وبعض النوافذ مفتوحة. والكراسى على الأرصفة أمام المقاهى فى غيرنظام ، توحى بأنّ الزبائن لم يُغادرونها إلاّمنذ لحظات قليلة)) ورغم كل مظاهرالحياة هذه ((فلا أحد)) وكأنّ (( المدينة كلها قد هاجرتْ )) إزاء هذا الغموض الأسطورى المُخيف الآسر، ماذا يكون رد فعل البطل ؟ ((رحتُ أجرى فى كل إتجاه وأدورحول نفسى ناشرًا ذراعىّ مـُـقهقهًا ، فيتردّد صدى ضحكاتى فى الشوارع الصامتة ويعود إلىّ فى غموض . واختطفتُ يدها وانطلقنا نجرى .. نجرى .. نصرخ .. نـُقهقه.. وفجأة تلقتْ عيناى صفعة ضوئية عنيفة ، من فوق سطح النهرالذى يلتمع كالسيف تحت الشمس الأصيلية)) وتستمر رحلة الغموض الجميلة. لاينشغل العقل بأى تفسيرواقعى . فالمبدع امتلك سيطرة فذة على خلق هذا الواقع الفنى الموازى للواقع المادى والمستقل عنه فى آن واحد ، فيذهب العقل إلى مدينته الآسرة ، إذْ أنّ سحرها يُغنى عن أى تفسير، فبعد أنْ استند البطل وصديقته على سورالكورنيش لاهثيْن ((انطفأتْ كل نشوتى . كان النهرهناك . أعرف أنه نفس النهرالذى تطل عليه قريتى ، بكل هيبته. بكل لامبالاته. بكل عمق الصمت فيه. لكنه كان هناك – تحت الهيبة واللامبالاة والصمت – رابضًا حيًا يعرف سرالمدينة. يعرف سرّنا ، يُراقبنا ، إنه يتحرّك ، تتوالى مُويجاته فى ملايين من النتوءات كالرؤوس الصغيرة ، تنظركل واحدة منها إلينا بازدراء ، وقبل أنْ تمضى تهمس إلى الرأس التى تليها بشىء عنا ، فتـُكرّرهى نفس الشىء مع التى تليها ، وتمضى فى إتجاه الشمال ، نفس إتجاه القطار. أين تراه وصل الآن ؟)) فى هذا المقطع يتوقف العقل عند بعض الرموزالصغيرة التى يلقيها المبدع بلا تعليق . يتوقف العقل لمحاولة إيجاد علاقة بين ربط الكاتب لإتجاه النهرإلى الشمال ، الذى هونفس إتجاه القطار، وبين نفس النهرالذى تـُطل عليه قرية البطل . ورغم أنّ المبدع لم يُفصح عن دلالة هذا الربط ، إلاّ أنّ العقل الناقد المـُتذوّق يستطيع أنْ يُدرك بسهولة أنّ نزول البطل من (قطارالشمال) فى مدينة صديقته هوتخاذل وتهرب من مسئوليته تجاه الناس المسئول عنهم ، وأنّ التخاذل والتهرب يـُذكرانه بقريته. أى أنّ أزمته تمتد إلى جذرالانتماء ، تمتد إلى المكان (تلك المدينة النابضة بالحياة ولابشر. المـُمتلئة بالمخابىء ولاحرب) فيجهزعليه تمامًا . وتكتمل دائرة الضياع ، وبذلك يـُشكـّـل المكان نسيجًا عضويًا فى بناء القصة ، تفتقد الكثيرلوجاء مهملا أوحتى مغايرًا . فإزاء المهمة الغامضة المـُكلـّف بها البطل ، يكون البناء الجمالى لتلك المدينة المـُغلـّفة بغلالة من السحر والغموض . ومع كل مظاهرالحياة تتردّد جملة (لا أحد) تأتى سريعة ومفاجئة كأنها خرجت رافدًا متمردًا من نهرالوصف السابق عليها . وكأننا إزاء طبقتيْن مختلفتيْن لهارمونى واحد ، وتأتى الحركة الأخيرة – نهاية القصة- منسجمة مع هذا النسيج الذى تتآلف فيه العتمة وكثافة الظلام بضياء الشمس وصفاء السماء (فى أكثرمن موضع فى القصة) إذْ جعل الكاتب العقل يلهث وراء البطليْن ، وهما يتسابقان لاهثيْن داخل نفقىْ محطة السكة الحديد ، إذْ تـُراوغ الصديقة البطل من نفق إلى النفق الآخر، وبعد تلاشى الضحكات وانتهاء اللعبة ((أصبحنا نـُشبه كل شىء فى المحطة والمدينة)) ثم السيادة التامة للصمت المعدنى ، فيتـّجه بصرالبطل إلى جهة الشمال حيث ينتظران ظهورالقطار. وبهذه الحركة الأخيرة – مشهد النفقيْن – يكون للمكان حضوره القوى الممتد حتى اللحظات الأخيرة ، مؤكدًا – المكان – وظيفته فى بنية القصة. 000 فى قصة (الزوايا) – لاحظ الاسم – ندخل مع البطل رحلة البحث عن (الدهمشاوى) ونفاجأ – قـُبيل النهاية- أنه لايعرف الدهمشاوى ولم يره من قبل . وفى ميدان الحسين ، حيث يرى كل يوم الحواة يبتلعون الأمواس ويشربون الجاز، ويُخرجون النارمن أفواههم ، يُفاجأ بجثة ملقاة عبر الطريق فيقول ((اليوم ليس ككل الأيام . فأنا أنتظرالدهمشاوى . وتمزّقتُ بين أنْ أذهب لأرى بنفسى الدهمشاوى المُسجى ، وبين أنْ أبقى على المحطة لأنتظرالدهمشاوى الحى)) إزاء هذا الغموض حول شخص الدهمشاوى ، يأتى المكان مـُلتحمًا بنفس النسيج ، مـُتجانسًا معه ، إذْ تبدأ الرحلة فى دروب خان الخليلى والدخول فى ((السكك الضيقة العتيقة)) و((سكة البادستان)) و ((سكة القبوة)) إلى آخرهذه الطرق المـُلتوية المـُعبّقة برائحة تاريخية مُميّزة . وحينما يصل إلى (الرَبْعْ) الذى يمتلكه الدهمشاوى ، نجد أنفسنا إزاء مجموعة من السراديب والدهاليزالمـُتعرّجة وحجرات ذات أقبية منخفضة وأعمدة حجرية ذات عقود ، وهى عقود متتالية تـُحدّد أضلاعه الأربعة)) ويستمرفى السيرعبْرهذه الممرات والأقبية حتى يصل إلى الطابق الثالث . ويواصل الكاتب تصويره للمكان للوصول لحالة شعورية يمتزج فيها المكان بالبطل ، الذى يجد نفسه مُحاصرًا بين جمع من الأقزام والعمالقة مـُتهمًا بالسرقة ، فلا يكون أمامه إلاّ الفرارهروبًا ، بالجسارة والمجازفة فى آن . ولاينسى الكاتب فى - كل قصصه تقريبًا – أنْ يُدخل ((كتل الظلام المتراكمة. وبُقع الضوء الساطعة)) فى المشاهد التى يكون المكان فيها نسيجًا فى البناء . 000 فى قصة (المملوك) يجلس البطل محاصرًا بين ((عشرات العيون والعوينات الزجاجية)) فى اجتماع سرى غريب ، حيث يُطالبونه بالكلام فيرفض ، فيطلبون منه أنْ يُسلــّمهم (الرسوم) فيرد ((إنها لاتخصنى وهى ليست معى)) وعندما يُصرون على تفتيش الحقيبة التى يحتضنها بقوة ، يرفض بإصرارصارخـًا فيهم ((إنّ فيها أسرارى الخاصة)) فيسأله أحدهم : وماذا يمنع أنْ نراها؟ فيرد بحزم ((وماذا يُفيدك أنْ تقرأ خطاباتى العاطفية ؟)) فإذا كان يرفض الكلام ويرفض تسليم (الرسوم) فلماذا حضرالاجتماع ؟ قال – والقصة على لسانه- (( لم تعد تشغلنى المشروعات الكلامية التى يشغلون بها أنفسهم ، وإنما جئتُ اليوم فقط لألتقى بنادية على أمل واحد أنْ تدلنى على عنوان نجوى)) نادية تحمل خطاباته التى سبق له أنْ أرسلها لنجوى طوال سنوات حبه لها . ونجوى تركته دون مُبرر، فلم تكن هناك خلافات تستوجب ذلك (( باستثناء تلك الخلافات التى كانت تدب بيننا بسبب انشغالى باجتماعات القلعة)) وفى نهاية القصة يتـّهم نادية قائلا (( أنتِ قلتِ لهم على ما فى الحقيبة)) وعندما لاترد يصرخ فيها (( لماذا يا نجوى ؟ )) وهذا الخلط بين نادية ونجوى نجده فى بداية القصة أيضًا ((فضّـلتُ عطرنادية الخانق . ملتُ نحوها . كانت قريبة جدًا منى . حرّكتْ فىّ أنفاسها الدافئة وبحة صوتها بعض النشوة . وكان ذلك يـُذكـّرنى بنجوى على نحوما)) ورغم ذلك فإنّ نادية تحضه على تسليم الحقيبة ((حتى لاتجعلهم يتمسّكون بها أكثر)) بل إنّ أحد المجتمعين صاح فى البطل ((نحن لانستبعد أنْ تكون هذه الخطابات وسيلة لنقل أسرارنا إلى الخارج ، خاصة وأنّ نجوى انقطعتْ عن حضوراجتماعاتنا)) البطل هنا محاصرمن كل جانب . فماذا يفعل ؟ لم يكن أمامه- مثل معظم أبطال عزالدين نجيب – إلاّ التسلح بالجسارة والمجازفة ، فوصف المبدع لحظة الانفلات (الخلاص) من هذا الحصاربلغة شديدة الدقة والحساسية فكتب ((خـُيم على القاعة صمت مشحون بالتآمر. ملأ الدم رأسى . قفزتُ فجأة بعيدًا عن المقعد والحقيبة فى يدى . اندفعتُ إلى المشربية. كنتُ قد لمحتُ – خلال مناورة الصمت – الفتحة الصغيرة فى جزئها العلوى . تسلقتُ قضبانها الخشبية. مرقتُ من الفتحة. أفزعتنى الشمس والارتفاع الهائل . أغمضتُ عينىّ على الوهج الأحمر، فاندلعتْ حزمة من شرارات سوداء)) فى مثل هذا الجوالمـُغلـّـف بستائرضبابية تلف شخوصه وموضوعه (يتم الاجتماع داخل إحدى القلاع بل فى أعلى مكان بالقلعة) يأتى المكان نسيجًا فى بنية القصة ، وصفـًا واختيارًا وهو- فى ذاته يخلق (حالة شعورية) موازية لحالة البطل النفسية والفكرية. وإذا كان من الصعب الجزم بأنّ الكاتب تعمّد خلق هذا الدورللمكان كنسيج ملتحم فى بناء بعض قصصه ، فإنه من اليسيرعلى العقل أنْ يكتشف درجة عالية من الوعى بهذا الدور، وهو وعى بقيم جمالية معينة يحتشد بها الفنان أثناء الخلق وتشكيل البناء . وهو وعى – كذلك – تفرضه طبيعة التجربة الفنية ولا يتبدى إلاّ فى زمن الإبداع ومن خلاله. ولعلّ اختيارعزالدين نجيب للعناوين الفرعية لقصة المملوك : القلعة / الطريق / النهر/ الميدان ، أنْ تـُـشيرإلى دلالة امتلاك المبدع ل (الوعى الفنى) الذى هو نقيض العمدية. فالحصارفى هذه القصة يكاد يُطبق على البطل (الذى هوبلا اسم كما فى معظم قصص المجموعة) من كل جانب ومن كل الأشياء . فهومحاصربالعيون والعوينات الزجاجية. محاصربالمشروعات الكلامية العقيمة. محاصربالبلادة وضيق الأفق ، باجهاض الحب ، بهروب نجوى لخوفها من السياسة. ببرود نادية وغموضها . ذلك الغموض الذى يتجلى من سلوكها ، وإيحات الكاتب غيرالمباشرة بأنها امتداد لنجوى ، أوهى نجوى أخرى أونجوى نفسها لوعادتْ ثانية. ثم يأتى المكان ليُعمّق ذلك الحصار. ليُؤكد انغلاق الدائرة ، وأنّ كل العوامل تتجمع لاستلاب حرية البطل – الذى هوبلا اسم – وإنما هو- فقط – (مملوك) لكل هذا الحصار. 0000 الغموض الفنى والاستغلاق المـُصطنع : ( الغموض الفنى ) تعبيرساحر، يتمنى كل كاتب أنْ يمتلك مفاتيحه وأسراره . يُفسّره البعض – كتابة- على أنه القصة التى لاتقول أى شىء ، بحجة أنّ الكاتب لايجب أنْ يعرف كل شىء ، وأنه قد انتهى زمن الكاتب شبيه الإله العارف ببواطن الأمور، وما تخفى الصدور. وفهمه البعض الآخر- كتابة واستيعابًا – على أنه لاتعارض قط بين أنْ تكتب فنـًا يشيع فى أجوائه ذلك الغموض الساحرالآسر، وبين أنْ يكون لهذا الغموض مفاتيحه الدالة ، التى تـُساعد القارىء على فك شفرات الغموض فى النص ، ويكون المعيارهوالصدق الفنى ، وبدونه ينتفى مُبرر وجود الفن ، إذْ يأتى بناءً من الكلام المرصوص بلا أنسجة وبلا خلايا تلضم وتـُلملم هذا البناء ، فيفتقد أهم أركان صموده ، كأى بناء هش غيرمتماسك . وكان الفنان عزالدين نجيب من بين ذلك العدد القليل من المُبدعين الذين لايكتبون إلاّ إذا توافرلديهم ذلك الصدق الفنى ، فجاء الغموض فى كتاباتهم جميلا ، دافئـًا بل (رغم المعنى اللغوى للغموض) تحس به أليفـًا ، على عكس الكثيرمما يُنشرمن نماذج القصة الحديثة. فى قصة (قطارالشمال) كان يسيرًا عليه أنْ يُحمّـل غموضه مفاتيحه الدالة الموحية. فالتناقض الحاد بين المدينة النابضة بكل مظاهرالحياة ، وبين خلوها من البشر، يـُقابله إحساس مُحدّد ب (وحدة الزمن) أوبتلك اللحظة التاريخية للمدينة المُحمّـل عليها الحدث . فالبطل بعد أنْ يفاجأ بخلو المدينة من الناس يقول (خطرلى أنه ربما حدثتْ غارة على المدينة. والجميع الآن فى المخابىء) هذا الخاطربالطبع لايكفى ، لأنه يدورفى ذهن البطل ، فتعقبه هذه الإشارة الدالة ((جذبتُ صديقتى نحومخبأ المحطة)) إذن ، فما كان خاطرًا فى ذهن البطل ، يؤكده الواقع الجاثم النافى لاحتمالات الظن . ولأنّ الغموض الفنى الجميل لايكون إلاّمن داخل العمل – لامن خارجه- فإنّ عزالدين نجيب يـُقدّم أكثرمن مثال فى هذه المجموعة على هذا الغموض الفنى الجميل . إنه- فى سطريْن – قدّم الغموض وإشارته الدالة ، كمن يـُقدّم الشفرة وحلها ، فبعد أنْ جذب البطل صديقته نحومخبأ المحطة قال ((هبطنا السلالم المؤدية إليه تقودنا الأسهم . وجدناه خاليًا تمامًا . أصبح للصمت فى المخبأ صوت غريب ، كأنه بقايا صيحات وهمسات الناس المذعورة حين كانوا مـُكدّسين فيه منذ لحظات)) فهنا نقلنا الكاتب – بصياغته الفنية السلسة- من الخاطرة إلى الواقع ، إلى توحد الخاطرة بالواقع ، وبجمل سريعة وقصيرة ، وبلا أدنى تعسف أوتصنع . وفى موضع آخريكون القارىء قد تأكد لديه هذا الإحساس ب (وحدة الزمن) فى تلك اللحظة المحددة للمدينة. قال البطل ((لوأنّ هناك غارة لكنا قد سمعنا صفارات الإنذار)) هنا أيضًا فى جملة واحدة نشعربالغموض متفتحًا ، فعند هذه المرحلة من تجول البطل فى المدينة ، وبعد أنْ هبط هو وصديقته إلى مخبأ المحطة ، وبعد أنْ ربط بين اختفاء الناس ووقوع غارة على المدينة ، تكون (وحدة الزمن) أو لحظة الحدث قد تحدّدتْ بشكل قاطع ، فالمدينة فى حالة حرب أوكانت فى حالة حرب ، ولم نعرف – ولم يشأ الكاتب أنْ يُفصح – إنْ كانت قد انتهتْ أم لا. ومن هنا فإنّ الإشارة الفنية الدالة تدخل فى جدل مع الواقع الحى دون أدنى مباشرة ، فبالرغم من أنّ القصة كــُتِبتْ ونـُشرتْ عام 69 خصوصًا بعد أنْ انتهك الطيران الإسرائيلى مدن مصرية عديدة وارتكب العديد من المذابح من قتل العمال فى (أبوزعبل) إلى قتل الأطفال فى مدرسة بحرالبقرإلخ وهى المذابح التى أطلق عليها الإعلام الناصرى (حرب الاستنزاف) إذن فإنّ المبدع عزالدين نجيب – كما أنه يرفض الغموض المستغلق على نفسه- فإنه كذلك لايلجأ إلى الربط الآلى بين الدلالة الفنية والواقع ، لأنه- كأى فنان صادق – إنما يصنع (واقعه الفنى) ومن بين مفاتيح الشفرات نجدها فى شخصية الصديقة. فهى تختلط وتتشابه- فى ذهن البطل – بالمدينة فهوعندما سألها عن بيت الأسرة ، حدّثته عن ((عراقة أسرتها فى المدينة)) وأشارت إلى لافتة بشارع يحمل اسم جدها وإلى لافتات ضخمة لمحلات تجارية تحمل أسماءً لأفراد من أسرتها . وبدلامن أنْ تصحبه إلى بيت الأسرة (كما هوالمُـفترض) ذهبتْ به إلى كازينومهجور. وفى إشارة دالة عندما سألته عن رأيه فى مدينتها قال ((إنها تـُشبهك .. ساحرة ومراوغة)) هذه الشخصية المراوغة لايمكن الاقتراب منها إلاّفى ضوء مجموعة الإشارات الدالة الخاصة بطبيعة المهمة الغامضة المكلف بها البطل ، فبعد أنْ إتحد جسداهما وانسحبا إلى ((قاع دوامة عميقة محمومة)) وبعد أنْ انتشرالظلام فى المدينة ، انتفض فجأة وتذكرالناس المكلف بتوصيلهم فقال لها فى حزم ((إسمعى هيا نعود إلى المحطة)) فردّتْ عليه ((أنت مجنون . أنت تعرف أنه لن تأتى قطارات أخرى)) فى هذا الحواريحدث تصاعد فى تعميق الغموض وفى تفسيره فى آن واحد ، إذْ قال البطل ((لاتحاولى إقناعى . لقد تركتهم وتبعتك)) فردّتْ عليه ((أنا لم أرغمك . لقد نزلت بإرادتك)) أما البطل فإنه يراه من وجهة نظره شيئا مختلفا قال ((كنتِ تعرفين منذ لقيتك أننى سأنزل معك . كنتِ تسحبيننى إلى هنا دون أنْ أدرى . ببطء فى كل يوم كنتُ أفقد شيئا . كنتِ تعرفين . واليوم فى القطار.. حين نزلتُ معك .. فقدتُ آخرما تبقى لى)) فمن هى هذه الصديقة المراوغة الشبيهة بمدينتها الغامضة ؟ ومن هم الناس المكلف البطل بتوصيلهم ؟ وإلى أى مكان ؟ هنا تـُحيلنا القصة إلى إشارة دالة جديدة ، فإذا كانت المدينة بلا بشر فإنّ الصديقة تـُعلـّـق على تمسك البطل بالناس المسئول عنهم قائلة ((هاهم لايشعرون بك.. ولن يهتموا إذا نزلت)) والصديقة لاتـُغالى فى حكمها عليهم ، فالبطل نفسه يصفهم فى بداية القصة بأنهم ((كتل الأجساد التى تسد النافذة تمامًا . الكتل المتلاحمة الفائضة عن المقاعد والممرات . حتى المساحة الصغيرة المتبقية فى أعلى النافذة – بعد الأجسام والرؤوس المضغوطة فيها – سدّتها ستارة من الأقدام المتدلية من فوق أرفف الحقائب)) وعندما قال لها ((كيف أتركهم بعد أنْ قطعت معهم كل هذا المشوار؟ ردّتْ عليه ((أنت لاتعرف حتى أين سيلقون بهم)) وإذن فإنّ القارىء يستطيع أنْ يجمع هذه الإشارات الدالة المتفرقة فيجد نفسه إزاء لوحة تغمض وتشف ، يأسره تشكيلها الجمالى وتشده إشاراتها الموحية التى توحى ولاتـُحدّد شيئا بعينه. وعليك أنْ تتعامل مع هذه اللوحة فى كليتها ، فالبطل محاصربالاغتراب من جهتيْن : الناس الذين لايشعرون ، والناس الذين يختفون ، ثم استسلامه لهذا الاغتراب بالنزول فى المدينة / المتاهة ، ليدخل هوالآخرفى حالة الاغتراب العام ، الذى هواغتراب شعب فى وطنه. إنه بؤرة الشمس المنعكسة من مرآة مشاكسة. وما الصديقة إلاّتعميق لهذه الغربة. فتشبيهها بهذه المدينة لايعنى التطابق ، وإنما يعنى أنها جزء من النسيج العام (وهى تذكرنا بنادية ونجوى فى قصة المملوك) إنه النسيج الملتحم بالمكان فى بنية العمل والسابح فى الغموض والشفافية فى آن واحد . فى قصة (أغنية الدمة) نجد الأم التى لم تـُنجب ، ومع ذلك تعيش وهمًا جميلا بأنها صارت تمتلك طفلا حقيقيًا . فى هذه القصة المغلفة بالغموض – بل أشد الغموض – لايُقيم عزالدين نجيب بناءً هندسيًًا مغلقــًا . وإنما لأنه فنان صادق ، فإنّ رؤاه الجمالية تنبثق من رؤاه الاجتماعية والإنسانية ، لذلك تأتى الإشارات الدالة فى قصصه لتربط بين الواقع والمثال ، صانعة جسرًا – وإنْ كان خفيًا – بينها وبين شفراتها . فهذه المرأة (الأم) التى أقامت بناءً كاملا من الوهم استطاع الكاتب – الذى تخلقتْ على يديه- أنْ يـُـقنعنا بعالمها ، بل وجعلنا نعيش معها فيه ونـُـصدّق أنه عالم حقيقى ، وبعد القراءة فإنّ القارىء يُردّد لنفسه : نعم فهذه الأم التى لم تـُـنجب ، وإنْ كانت قد أقامت بناءً من الوهم – جعلتنا فى البداية- نـُصدّق أنه عالم حقيقى ، إلاّ أننا – فى النهاية- نـُـصدّق أيضًا أنه (حقيقة عالمها) ولا يمكن أنْ يكون لعالمها حقيقة أخرى . فالمبدع يتعامل مع الوهم هنا على أنه (حالة) وما المرأة (الأم) إلاّ وحدة الشعورأومركزالشعورداخل هذه الحالة. وكان لابد من إقامة بناء مقابل لهذه الحالة. فجاء البناء متسقــًا ومنسجمًا ، لأنه جاء من داخل التجربة الفنية وليس من خارجها . فهذه المرأة التى تعيش (الأمومة) كحالة وجدانية متواصلة ، أقامتْ بناء عالمها الخارجى موازيًا تمامًا ومتسقــًا تمامًا مع عالمها الداخلى . فالحضانة التى تقصدها لتبحث فيها عن طفلها ، ليست الحضانة الواقعية المتعارف عليها ، فهى تختارالمكان المتسق تمامًا مع حالتها الشعورية (1) وصف الكاتب أول انطباع لها عن هذه الحضانة هكذا ((وقفتْ أمام البوابة. رأتْ الاتساع الهائل للفناء الحالى ، إلاّ من بعض شـُجيرات يابسة تتناثرهنا وهناك . وبعد أنْ دخلتْ تسيرمُحتضنة الصندوق الذى يحوى الطفل الدمية ، ينبعث الصهد من التراب الساخن . يربض أمامها ظلها الأسود ولاترى إلاّ المساحات المترامية المجدبة الحشائش الجافة وأشجارالشوك ، وعلى الفور تتساءل : هنا يلعب الأطفال . ولكن أين هم ؟ أخيرًا لاحت أمامها واحة ظل تحت أكمة من الشجر. لمحتْ أطيافــًا بشرية تتحرك خلالها . استمدتْ من ذلك طاقة جديدة وأسرعتْ تعدو. خرجت من بين الأشجارمجموعة من النسوة الشابات . يتأوّدنَ شبه عاريات . لم تقع عينها على طفل واحد ، وعندما تسألهن عن الأطفال فإنهن يضحكن ضحكة طويلة منغمة ذات ذيول)) وإذْ تتواصل الضحكات تقول لهن ((كيف يأتمنونكن على الأطفال وأنتن بهذه القسوة ؟)) ارتفعت الضحكة الجماعية من جديد . فسألتْ هذا السؤال البسيط العميق ((هل أنتن الحاضنات أم الأمهات ؟)) وحيث تتكررالضحكات فهى تراها شيئا آخر((ليست تعبيرًا عن مرح أوسخرية أودهشة أوجنون. إنها تبدوكما لوكانت كلمات فى لغة خاصة بهن يتفاهمن بها وحدهن . ولولم تسمع فى النهاية- بعد أنْ خيم الصمت نسبيًا – إحداهن تسألها عن شكل الطفل ، لظنّتْ أنهن مخلوقات من كوكب آخر لا يعرفن لغتنا )) وتستمرفى إقامة البناء الخارجى الموازى لحالتها الشعورية حتى يمتزجا . فبعد أنْ عرضتْ عليهن الطفل الدمية ، رأتهن هكذا ((كأنما انقضتْ عليهن صاعقة. توقفتْ ضحكاتهن . فجأة جمدنَ فى أماكنهن مذهولات . أخذنَ يقتربنَ منها فى بطء وعيونهن على الطفل الدمية. عيونهن التى تبدّد منها أى أثرللعبث وتوهجتْ بحنان غريب . مدّتْ إحداهن يدها نحوالطفل الدمية فى تردد وهمستْ ((هل تسمحين لى أنْ أحمله لحظة ؟)) ناولتها الطفل الدمية غيرمـُـصدّقة. حملته المرأة بكل ما تملك الأم من رقة. قرّبته من وجهها المائل على كتفها ، تـُثبّتْ عليه عينيْن تفيضان أمومة. ولكن عندما تشتد الرغبة بهن جميعًا لرؤية الطفل الدمية. وعندما يتخاطفنه فيما بينهن ويتنازعن عليه. عندئذ يتغيربناء العالم الخارجى تمامًا ليتلاءم مع حالتها الشعورية ((جنّ جنون الأم وهى ترى طفلها الدمية يكاد يتمزق بين أيديهن . اندفعتْ نحوهنَ تصرخ . تشد شعورهنَ . تمد يدها ضارعة. لا أحد يلتفت إليها ، والطفل الدمية ينتقل من امرأة إلى أخرى ، وهى تدور بينهن ملتاعة. فجأة رأتْ احدى ساقيه مخلوعة فى يد امرأة . صرختْ مُروّعة. لكن الصراع بين النسوة استمرحتى تحوّل الطفل الدمية بين أيديهن إلى أشلاء ممزقة)) هذا البناء الخارجى الذى نسجته تخيلات ومشاعرامرأة (تعيش) حلم الأمومة المُتواصل ، لا يكتشفه القارىء إلاّ فى نهاية القصة. فمنذ نزولها من المترو، وتوجهها إلى الحضانة لتبحث عن طفلها ، ونحن نـُـصدّقها ونـُـصدّق ما قالته عن زوجها ، من أنه سبقها بالطفل إلى الحضانة. ولكنها عندما تعود إلى البيت وتتواجه مع زوجها وتلح فى السؤال عن (طفلها) فإنّ الزوج – بكلمات بسيطة- يفك عقدة هذا النسيج المـُـتشابك ، ويُعرى لنا حقيقة هذا البناء فنكتشف – لأول مرة – إنما هومن صنع تخيلاتها أو وهمها . قال الزوج فى السطورالأخيرة من القصة ((كان المترو كيوم الحشر. أين ذهبتِ ؟ لم أصدق أنكِ استطعتِ النزول من باب الجحيم . كدتُ أسقط تحت العجلات حيث أردتُ أنْ أقف خلفك . خفتُ عليكِ . إنكِ مازلتِ ضعيفة وقد أمرك الطبيب بالراحة)) واختتم كلماته البسيطة الجارحة الكاشفة بهذا السؤال ((لكن على فكرة أين الدمية ؟)) بعد أنْ هدم الزوج صرح البناء الوهمى الذى أقامته لعالمها الخارجى كموازٍ لعالمها الداخلى ، يكون هذا العالم الداخلى للمرأة قد تغلغل فى وجدان القارىء ، وبالتالى فإنه لاينشغل بأى تفسير- رغم التفسيرات العديدة والمتنوعة- بل يكتفى بالدخول فى (الحالة) التى تعيشها هذه (الأم) التى لم تـُـنجب ، ويُحاول إعادة إقامة البناء الذى سعتْ إلى نسجه. وإنْ كان يعلم أنه سوف يُهدم على رأسها . ويظل – القارىء – يُفكرفى مصيرها بعد وصف الكاتب لرد فعلها ، بعد كلمات الزوج فى آخرسطرين ((بنفس الوجه الصخرى تنهض . تفتح باب الشقة. تجتازالممرنحوالسلم . تهبط ببطء . درجة درجة. الدرجات مظلمة. تغوص . يبتلعها الظلام البارد)) فى هذه القصة- وغيرها من قصص المجموعة- يقتحم عزالدين نجيب ذلك العالم الأسر، عالم الغموض الفنى الجميل . وحقق باقتحامه هذا تلك المعادلة الصعبة التى فشل كثيرون فى تحقيقها . لأنّ قصصه وإنْ كانت لاتـُـفصح فهى تومىء وتوحى . والغموض يأتى – بناءً وعالمًا ولغة- من نسيج التجربة الفنية وليس مقحمًا أو دخيلا ، وبالتالى يكون ميسورًا للكاتب أنْ يُحمّـل الغموض فى إبداعه مفاتيح شفراته. إنّ الوردة لاتقول شيئا مُحددًا ، ولكنها تحمل مـُـكوّنات الكائن الحى ، فلها لون مُحدد ورائحة مميزة . إنّ ما يُميّزعزالدين نجيب هواستيعابه لروح الحداثة من جهة- وعدم انسياقه لشكلها الأوربى من جهة ثانية (2) وتلك المعادلة لايمكن الوصول إليها إلاّ إذا انتبه الكاتب – أى كاتب – لمجمل الفروق الحضارية بين الشعبيْن المصرى والأوربى . وهذا ما دمغ مجموعة (أغنية الدمية) بحداثتها المتفرّدة . قال أ. ادوارالخراط فى ندوة عنها بإذاعة البرنامج الثانى أنها (( كــُتبتْ فى إطار الأسلوب الحديث الذى أعتقد أنّ الكاتب يعرفه ويملك ناصيته بشكل كبير)) ومع ذلك فإنّ عزالدين نجيب لم يكتب (القصة الرمادية) التى لاتقول أى شىء وبهرت كثيرين . وإذا كان بعض الكتاب يترفعون . وآخرون يستحيون أنْ يكون للعمل الفنى (معنى) فإنّ المعيارهو(الصدق الفنى) وهذا الصدق الفنى لايأتى لأى كاتب إلاّ بتوافرشرطيْن لازميْن : المعرفة بأساليب الكتابة والثانى المعرفة بالعالم الذى يكتب عنه. فى هذه المجموعة فإنّ القصص التى تتسم بالغموض الفنى ، نجد أنّ العالم الذى تعاملتْ معه- أوالفضاء القصصى كما يحلوللنقاد تسميته- يتمحورفى ثلاثة تنويعات أساسية : الأول : عالم فانتازى ونجده فى قصة واحدة (مشهد من وراء السور) على النحوالموضح فى بداية هذه الدراسة. العالم الثانى : عالم كابوسى كما فى قصة (أغنية الدمية) حيث المرأة التى (تعيش) حلم الانجاب ، كرمزللعطاء ، ولكن حلم الأمومة يُجهضه العالم المحيط بها . فالمكان الذى تتوقع أنْ ترى فيه طفلها (الحضانة) كابوسى المعالم . والمشرفات على الأطفال عابثات ، فجاءتْ صورتها عن الطفل متسقة مع هذا العالم . فهذا الطفل هوثلاثة أطفال يتبادلون المواقع : فهوطفل حقيقى أوهمتنا به فى بداية القصة. وهوطفل مُــشوّه تصوّرتْ أنّ الممرضة وضعته فى سريرها بعد أنْ سرقتْ طفلها الحقيقى . ثم هوالطفل الدمية. وهوالحقيقة الوحيدة المؤكدة كما جاء على لسان الزوج ، فكان من الطبيعى لشخصية مثلها ، شخصية ترفض العالم المحيط بها والمُجهض لأحلالمها ، وفى نفس الوقت لاتجد سبيلا للمقاومة إلاّ الدخول فى حالة من الوهم الكامل ، كان من الطبيعى أنْ تفتح باب الشقة وتخرج كى ((يبتعلها الظلام البارد)) الثالث عالم المتاهة : ويتمثل فى خمس قصص (قطارالشمال) ، (المملوك) ، (الزوايا) ، (الحارس) ، (طريق الكثبان الرملية) فى هذه القصص نجد أنّ (الضياع) هوالطائرالجريح المُحوّم فوق رؤوس أبطالها . والمُـلفتْ للنظرأنه قدرمشترك بين الأبطال الذين لهم أهداف مُحددة ، ولكن يتم إبعادهم عنها . والأبطال الذين بلا أهداف ويسعون فى البحث عنها . وهذا الضياع ليس قدرًا ميتافيزيقيًا وإنما هوانعكاس للواقع بمستوييْه : الإنسانى (أى علاقة الشخصيات بعضها ببعض) والاجتماعى (وفق لحظة تاريخية مُحددة وبكامل معطياتها) وهذا الضياع أخذ صورًا عديدة من المراوغة لإجهاض حلم الشخصيات أوحتى مشروعات أحلامهم . فالبطل فى قصة (طريق الكثبان الرملية) له هدف محد ، فهويرى أنّ الخلاص بعد كارثة بؤونة / يونيو67هوالمجابهة مع العدو، ولكن القوة المصرية المرابطة عند الحدود تمنعه ، بل وتحتجزه للتحقيق معه لمجرد أنه لايحمل بطاقة هوية. وتدع زملاءه يعودون سالمين لأنهم تنكروا للمهمة المتفق عليها ، بل وأنكروا معرفتهم بالبطل . ولأنهم – أخيرًا – يحملون بطاقات هوية. والملاحظ أنّ عالم المتاهة أوالعالم الكابوسى أوالفانتازى ، مــُــغلف بروح عبثية ، ومن هنا نجد أنّ ثمة ضرورة لأنْ يعرف القارىء تواريخ كتابة هذه القصص ، فهى كــُــتبتْ فى الفترة من عام 68- 72 فترة (اللاسلم واللاحرب) فترة الضباب والتوهان والضياع ، بين شعارات العسكرالطنانة والواقع النقيض . بين استعداد شعبنا المصرى للتضحية والواقع المُجهض . ولأنّ قصص (الغموض الفنى) فى هذه المجموعة تعاملتْ مع هذا العالم الكابوسى السراديبى ، ولأنّ أبطالها مهمومون بقضايا الإنسان والوطن ، ولأنّ أحلامهم المشروعة- حتى البسيط منها – مُجهضة. ولأنهم يكتشفون أنّ الواقع واقعان . وأنّ الزيف هوالسائد ، فكان طبيعيًا أنْ يُدركوا أنّ ثمة عبثية تنخرعظام عالمهم . وكان منطقيًا للقارىء أنْ يُدرك أنّ تلك العبثية لصيقة بعالم أبطال القصص ، وأنها خرجتْ منه وأحد إفرازاته. اللغة فى نسيج العمل : وماذا عن اللغة عند عزالدين نجيب كفنان يعى العلاقة بين الألوان والزوايا والخطوط . والأهم أنه يعى جدلية هذه العلاقة فى نسيج اللوحة. اللغة فى قصص مجموعة (أغنية الدمية) رغم بنائها الجمالى لاتأتى زخرفة أوحلية ، وإنما الملاحظ أنّ المبدع يحرص على أنْ تكون اللغة مستوى من مستويات البناء فى قصصه. فهى – فى كل قصص المجموعة- متشابكة ومتداخلة مع النسيج العام للقصة. والكاتب حريص على توظيف اللغة فى نسيج البناء ، سواء وهويصف وجهًا أوصوتــًا أورائحة أومكانــًا أوحوارًا بين الشخصيات . وسأكتفى ببعض الأمثلة. فالتوظيف البنائى للغة- فى هذه المجموعة- من الأمور التى يسهل على أى قارىء مـُتمرّس أنْ يكتشفها . وهذا التوظيف البنائى للغة يشترك فى صنعه الإبداع والوعى الخلاق (أوالخلق الواعى) وهى مقدرة لاتكتمل بدونها موهبة أى أديب . فى قصة (مشهد من وراء السور) وصف ذلك الكائن الخرافى قائلا ((وكانت هناك الكتلة الصغيرة المستطيلة الداكنة. اللامعة أحيانـًا . السابحة فى الفضاء بغيرصوت . الدائرة حول نفسها كالبريمة. المتجهة إلى الجنوب وإلى أسفل ببطء لكن بإصرار)) وفى قصة (قطارالشمال) عندما يجوس البطلان داخل المدينة التى اختفى منها البشر، وبعد أنْ يدخلا المخابىء ويخرجا منها ، فإنهما يضحكان ويسمعان صدى الضحكات فى الشوارع الصامتة. ثم يختطف يدها وينطلقان جريًا ، يضحكان ويصرخان . وفجأة ((تلقت عيناى صفعة ضوئية عنيفة من فوق سطح النهر الذى يلتمع كالسيف تحت الشمس الأصيلية)) هنا لوحة بالكلمات للصمت المعدنى السميك الذى تغزوه الضحكات ، ثم صدى الضحكات والصراخ ، ثم ظلمة المخابىء تتبعها ((صفعة ضوئية عنيفة)) وهذا نموذج جميل لخلق (بناء مشاعرى للمكان) من خلال اللغة. وفى قصة (الزوايا) بعد اللهاث المـُـضنى للبطل وسط الممرات الضيقة والأعمدة الحجرية والأقبية المنخفضة بحثــًــا عن الدهمشاوى الذى لم يره من قبل ، فإنّ البشرالذين يـُصادفهم البطل ليسوا أقل غرابة من المكان . فقد رأى خليطــًا من كل الأعمار، وأطفالا فى العاشرة بجوارشيوخ يصعب تحديد أعمارهم . هؤلاء هم العمال المـُستغـَـلون فى ذلك المكان الغريب ((لم أرتجف من شىء قدر ارتجافى من منظرعيونهم ، كانت فجوات فارغة أوبقع من الحبرفوق ورق نشاف . تنظرنحوى حقــًا لكن دون أنْ ترانى . ثم تغوص من جديد فى كتل القارالأسود التى تطرق فوقها رقائق النحاس . أما الرجل الذى يستقبل البطل (مديرأعمال الدهمشاوى) فكيف يراه البطل بعد هذه الرحلة من الرعب والفزع ؟ ((كان شابًا ممتلىء الجسم ، له وجه منحوت من الصلصال .. عيناه فى عينىّ .. عيناه المـُـشعتان كعيون القطط فى بقعة وجهه المعتمة)) وتتغلغل اللغة فى نسيج البناء لتصنع المعادل الموضوعى / الشعورى ، فهى (اللغة) عندما تصف هذا الوجه الصلصالى فهى إنما تعكس مشاعرالبطل الراوى . فبعد المقابلة الجافة المـُتجهمة ((ضغط بإصبعه على زرمصباح فوق المكتب ، فتدفق نورقوى فوق الأوراق البيضاء وفوق قميصه وفوق الزجاج اللامع الذى عكس الضوء – مع المساحات الأخرى البيضاء – على صفحة وجهه ، فظهرتْ مليئة بالحفر، وانعكس الضوء على ملامحها ، فأصبحتْ منيرة من أسفل الذقن والأنف والجفنين . غارقة فى الظل أعلى الأنف والخديْن والجبهة. فبدا لى وكأنه تمثال قديم مقلوب)) صورة لايُغالى المرء كثيرًا إنْ قال أنها (نحت بالكلمات) ومع ذلك فهى ليست زخرفية أومجرد وصف لغوى جميل ، وإنما هى – إضافة لجمالها – تدخل فى نسيج القصة لتنقل ذلك النفورالذى أحسّه البطل ، وهونفوريأتى مكملا لرعب المكان وشخصيات الأقزام والعمالقة وإتهامه بالسرقة. وكل ذلك بديلا عن لقائه بالدهمشاوى الذى يبحث عنه والذى لم يره من قبل ولن يراه أبدًا . فى قصة (التفاحة والسكين) كيف وظف الكاتب اللغة ؟ لنستمع إلى البطل وهويصف الضابط الذى يُساومه ليكون عينـًا (= جاسوسًا) على أصدقائه ((كان الضوء فوق رأس الضابط يلقى على المكتب ظلا كظل هذه التفاحة. لا. إنه لايُشبه أى ظل آخر. لاينتج عن ضوء المصباح فوقه. إنما ينبثق من صلعته المصقولة. وينحدرفق ملامح وجهه الناعمة. ويسقط فوق المكتب ، فيسيل على الزجاج ، لينسكب منه بلزوجة. قطرة قطرة)) والبطل يتذكركل ذلك أثناء زيارة صديقته له والتى جاءتْ لتأخذ ملابسها وهويُطمئنها أنه سيترك لها الشقة. وإذْ كان هومشغولا بملاحقة المباحث له ، فهى تنظرإليه من منظورشعورها نحوه ، فهى تـُناجى نفسها قائلة عنه ((صرتَ ذليلا . هذه هى الكلمة. فمنذ زمن طويل مات الحكيم . بالتحديد يوم وقف أمام باب الشقة بظهره وقال لى : لن تخرجى . فأزحته بتصميم وخرجتُ . وحين كانت الشقة تدوى بصرخاته ، كنتُ واثقة من أنه أيضًا يعرف أنّ الحكيم مات حتى من قبل ذلك . منذ كفّ يائسًا عن محاولات الفراش اللاهثة)) بهذه اللغة المكثفة الموحية تتجمع ذكريات وتجارب فى بؤرة وعيها . يدوركل ذلك بينهما - بالصمت والحوار- وهما يتبادلان تأمل التفاحة والسكين على المائدة . فكيف رأى البطل التفاحة ؟ وبأى لغة تصفها العينان ؟ ((مضى يتأمل التفاحة الذابلة المعطوبة. الأحمرالباهت المحروق ، فوق أبيض المفرش الناصع . منفية عن مجموعة (الطبيعة الصامتة) أمامه فوق جزيرة صغيرة من الظل الرمادى القاتم ، تحت الكشاف الكهربائى المـُسلط بقوة)) وعندما يرن جرس التليفون وترد هى ، يتركزالشك حولها . فلأول مرة يكون هناك صوت على الطرف الآخر. ويزداد الشك عندما ترد عليه قائلة ((ألو.. لا.. ليس موجودًا.. لا أعرف .. مع السلامة)) قبل هذا التليفون مباشرة وضعهما الكاتب فى موقف مؤجج مشحون بالعاطفة ((كانت قريبة منه. تقف بإشعاع دافىء . زاخرة . دانية وبعيدة . اقترب منها . أفعمته رائحتها . أصبحتْ السنتيمترات الفاصلة بينهما مشحونة بشحنتىْ جذب وطرد متعادلتيْن . لم يُدرك أنه يرتجف فعلا إلاّ حين مدّ يده يتخلل شعرها بأصابعه ثم أغرق فيه وجهه. ومن خلف أذنها تشمّم رائحتها الخاصة. بحثتْ شفتاه المحمومتان عن شفتيها . راوغته طويلا قبل أنْ تــُسلمهما له. وبحثتْ أرجلهما المـُتخبطة عن الكنبة حتى وجداها فارتميا عليها ، لكن جرس التليفون انفجر صاخبًا وراح يُدوى بإلحاح)) لغة حادة وجميلة تضع النقيضيْن : العاطفة المصعدة إلى ذروة الرغبة. ثم رنين التليفون بإلحاح ، فكان رد فعلها طبيعيًا ، إذْ أنكرتْ وجوده . وكان رد فعله طبيعيًا ، إذْ اتهمها بالتآمرعليه. وأنهم (= المباحث) هم الذين أرسلوها إليه (كتأكيد جميل لتغلغل الرعب إلى كل ذرة فى كيانه) ولأنّ الفنان عزالدين نجيب لايُقدّم – فى كل قصصه- شخصيات باهتة. شخصيات بلا موقف ، فإنّ هذه الصديقة التى أوجزالكاتب شخصيتها فى تعبيرها الشعورى عن البطل الذى صارذليلا بعد أنْ مات الحكيم فيه. لابد أنْ يأتى رد فعلها على ذلك الإتهام متسقــًا مع شخصيتها . فماذا كان رد فعلها ؟ ((أوقفته صفعة مفاجئة على وجهه)) وبلغة شديدة الرهافة والحساسية وصف الكاتب تلك المعركة المحتدمة بينهما ، فتبدأ بيدىْ البطل المرتعشتيْن تستهدفان عنقها ، فتفلت منه. وفجأة ((جذبتْ بصرها ومضة الصلب فى سكين الألوان . اختطفتها وأشهرتها فى انتظاره)) ثم تدورالمعركة بينهما حول السكين ، هى تـُريد الطعن ، وهو يـُريد انتزاعها . فلننظرإلى تلك اللوحة الفنية ولندقق فى اللغة التى صاغها ((أزاح بقدمه المنضدة الصغيرة التى تحمل أدوات الرسم وعاود التقدم ببطء . لم تعد تفصله عنها غيرخطوة . تراجعتْ بظهرها . تقدّم أكثر، وكلما خطا خطوة تراجعتْ حتى أوقفها الجدار. مضى نحوها بيديْن لا ترتعشان وعينيْن مليئتيْن بالتصميم . دارتْ عيناها حولها بسرعة تبحثان عن مخرج ، لكنها كانت محاصرة بجسمه القريب ، المخيم الضاغط بلا توقف . رفعتْ يدها بالسكين. سدّدتها نحوه . وجدتْ يده الهائلة تدنومنها . ارتعشتْ يدها وسقطتْ منها السكين من قبل أنْ تقبض عليها يده . أصبح وجهه فى وجهها تمامًا . عيناه فى عينيها. ترك يده ، فخفّ رعبها قليلا . اختلط لهاثهما المرتفع . كانت أنفاسها حارة لافحة على صفحة وجهه. ورائحتها البرية تفعمه وتثيره أكثر مما كانت فى أى يوم مضى . حاولتْ أنْ تنفلت من تحت ذراعه فسبقها وسدّ عليها الطريق . راح يبحث عن شفتيها وهى تراوغ . وفجأة التقتْ عيونهما فى ومضة باهرة متوهجة باكتشاف مندهش ثم أخذا ينزلقان على الجدارالأملس . جــِسْمًا متلاحمًا . لم يستطع أنْ يشطره جرس التليفون حين انطلق يُدوى ، دويًا ظلّ يتكاثرفى الصمت المرعوش فى ملايين الموجات من الطنين المعدنى النابح . قبل أنْ يصمت فجأة فى أنّة واهنة ، تاركــًا صمتــًا مبهورالأنفاس)) هذه لغة يمتزج فيها المادى بالشعورى حتى ينصهرا فى بوتقة واحدة برشاقة ويسر، فيخرج الإيحاء منها كاشفــًا لكل شىء وأحيانـًا – كما فى هذه القصة- فاضحًا لكل شىء . الواحد قد يساوى الصفر : تنتهى المجموعة بقصتيْن من التيارالواقعى وأنّ كتابتهما لاحقة على باقى القصص . وهذه الملاحظة تفيد أنّ الكاتب لايتقيــّد بتيارمعين ، وإنما هويترك نفسه لطبيعة التجربة الفنية. ويكون المعيار واحدًا فى كل الأحوال (قيمة جمالية + درجة التوصيل + صدق التعبير) والقصتان يتوفرفيهما ذاك المعيارإلى حد كبير. وسوف أختارإحدى القصتيْن وهى قصة (كونشرتوالناى) الرواى سجين سياسى فى زنزانة انفرادية. تضع إدارة السجن معه طالبًا صغيرالسن . يجلس فى ركن الزنزانة منزويًا مرعوبًا أقصى درجات الرعب . يحاول الراوى أنْ يُبادله الحديث ، فينكمش على نفسه أكثر. ثم يبدأ فى الصراخ . وشيئا فشيئا نتعرّف على سبب الرعب (لاتتركونى أموت هنا) ومع تصاعد الرعب تتغيرالحالة الوجدانية لصرخاته ((أريد أنْ أرى أمى قبل أنْ أموت . مضتْ ثلاثة أيام وهى لاتعرف أننى هنا)) وبالتدريج يذوب الجليد بينه وبين الراوى ، فتخفتْ الصرخات وتصيرمصارحة تنتهى إلى المكاشفة. إذْ يتمركزالرعب فى إحساس عميق بأنه سيلقى نفس مصيروالده ((حين توقف ذراعى منذ قليل أحسستُ أنه جاء . هكذا جاء لأبى أيضًا . كان وحيدًا وغريبًا فى زنزانة كهذه . رفض أنْ يصرخ . جنّ جنونهم . صاحوا : قل أنا امرأة . لم يقلها . ألقوه فى الظلام وأغلقوا الباب . عند ذلك فقط انفجريصرخ . فى الصباح وجدوه مشلولا. ولم يعش بعدها غيرأسابيع)) مشكلته إذن أنه يخشى الشلل الذى يسبق الموت والذى يعقب الصراخ . لذلك فهويسأل الراوى عن الشلل بأكثرمن صيغة. فى لحظة يسأله ((هل تظن أنه سيجيىء ؟)) وفى لحظة أخرى يقول عنه ((يصطادهم فرادى وغرباء . دائمًا بأرض غريبة)) ورغم هذه الصياغات المختلفة فإنه لايذكرالشلل صراحة ولانعرفه إلاّ عندما حكى بالتفصيل عن تجربة والده ، الأمرالذى يؤكد أنه يتعامل معه (= الشلل) كحقيقة مـُسلـّم بها . هذا الشاب المرعوب ينتهى إلى حالة من (الانجذاب المشاعرى) نحوالراوى فيتدفق واصفـًا لحظة اقتناصه هو ورفاقه من الشارع ، فإذا به يـُدخل والده فى قلب اللحظة ((فى ذلك الفجر رأيته فوق احدى عمارات الميدان يُحلق وئيدًا . هائلا يملأ السماء الفجرية. أخذ يقترب ويقترب حتى أصبح بوسعى أنْ أناديه. وكان يبدوكما لوكان يريد أنْ يقول شيئا لى . وحتى عندما يتقدم الجنود ببنادقهم فى صفوف متراصة. يدبون على أسفلت الميدان فى خطوة سريعة. يزأرون بصيحة الحرب)) فإنّ أباه فى صميم اللحظة ((أردتُ أنْ أستنجد به فاختنق صوتى)) وفى نهاية هذا التدفق المشاعرى قال ((كنتُ أعرف أنهم قد يعدموننا فى الميدان دون شهود . لكننى كنتُ أعرف أنّ أبى يشهدنا . وما أنْ وضعونى وحدى فى زنزانة حتى شلنى الرعب ولاحقتنى أمى باللوم والتأنيب ، لأننى تركتها مع أخواتى وحدهنَ . ثم أخذ ذلك الإحساس يتسلط علىّ بأنه سوف يأتينى وحدى تمامًا كما جاء لأبى)) كيف أنهى المبدع ذلك الموقف المعقد لذلك الشاب الذى يُلاحقه الإحساس بمصيرالأب (الموت فى زنزانة وحيدًا بعد أسابيع من الشلل) ؟ تأتى خاتمة القصة على لسان الراوى بعد أنْ أفصحتْ المكاشفة عن جوهرالرعب ((ظللنا صامتيْن . أصغينا لصوت الريح يـُـصفرفى الممر، ولصوت غناء خافت يتسلل إلينا من زنزانة بعيدة . لم تمض لحظات حتى كانت بقية الزنزانات تجاوبه فى صوت جماعى . ارتعشتُ : كان هذا هوالنشيد الذى اعتدنا ترديده فى الشوارع وفى ليالى السجن . قفزتُ إلى جوارالنافذة وأخذتُ فى الغناء . شعرتُ بالصوت الجماعى العريض سحابة مضيئة تتجمع فوق سماء القلعة. تحملها الريح لتطوف بها فوق المدينة. وفجأة التفتُ إليه : كانت شفتاه تتحركان بلا صوت . وعيناه تلمعان من بين الإحمرارالقاتم . واصلتُ الغناء دون أنْ أنظرإليه. إلاّ أنّ أذنى كانت معه. تلتقط بصعوبة طرف الخيط الحريرى المبلل : صوته الذى بدأ يتسلل واهنـًا ، مـُشاركـًا الغناء)) هذا الدخول فى الجماعة- بالمشاركة فى الغناء – رغم حالة الرعب التى لازمته منذ دخوله الزنزانة ، لم يأت مقحمًا أودخيلا أومفتعلا ، فنحن هنا إزاء كاتب يعى مفردات فن القصة. والفنان الحقيقى هوالذى يُبدع فنـًا بقدرما لديه من صدق . فهذا التحول الأخيرفى موقف الشاب ، نجده مبثوثــًا فى ثنايا تدفقه الوجدانى بعد أنْ ذاب الجليد بينه وبين الراوى ودخل معه فى حالة من (الانجذاب المشاعرى) إنه يصف للراوى تلك اللحظات الأخيرة قبيل اقتناصه من الشارع هو ورفاقه ((هبّ رفاقى واقفين . تلاحمتْ أذرعنا . وضعنا بصدورنا جدارًا أمام البنادق . كنتُ أرى الموت يطل من فوهاتها لكننى لم أكن منهارًا كما كنتُ اليوم حين تصلب ذراعى . كنتُ ساعتها أشعربسلام يسرى فى عروقى كالتنميل مع الدفء الذى انتقل إلىّ من أذرع زملائى . وحين أخذونا كنا نهتف وصوتنا يوقظ المدينة النائمة)) فالإحساس بالجماعة لدى هذا الشاب ، الإحساس بأنه لايوجد إلاّ وسطها ، الإحساس بتلاشى الخوف وهومعها ، إحساس أصيل . كما أنّ رعب الوحدة فى زنزانة شعورإنسانى ، وجاءتْ تجربة الأب فعمّقتْ هذا الشعور، وتجيىء النهاية فيبرزالأصيل على العابر، ويدخل فى نشيد الجماعة. فيصيرالناى (العزف الفردى) كونشرتو له خصائص الهارمونى . هذا التعدد فى المستويات قدّمه الكاتب من خلال لغة فنية بسبطة وعميقة ، بحيث تظل القيمة الجمالية هى الجوهر، رغم المؤشرات الدالة. 000 إنّ مجموعة (أغنية الدمية) تؤكد أنّ عزالدين نجيب الفنان والناقد التشكيلى هوأيضًا كاتب قصة متميز، ليس فقط لامتلاكه أدوات فن القصة ، وإنما لما أضافه إليها ، فإذا كان هذا هو إبداعه القصصى ، وهولايقل أهمية عن كثيرمن الكتابات التى تحظى بثناء النقاد ، فكيف نفسر تجاهل الحركة النقدية له بهذا الشكل المـُـلفت للانتباه ؟ وكاتب هذه المجموعة له موقفه السياسى والنضالى المنحازلصالح الإنسان والوطن . ولكنه عندما يكتب القصة فهويُقدّم فنـًا ، تتراجع المواقف والآراء لتكون الصدارة والروح للفن وحده . وتلك المعادلة- الصعبة بحق – هى ما سعى ويسعى إليها الفنانون العظام : أنْ يطرح الكاتب رؤاه الفكرية والاجتماعية. ولكنه يُقدّم فنـًا ولاشىء غيره . والفنان الذى يضع يده على تلك المعادلة هو الذى تبدأ عملية الخلق عنده من لحظة تفجرالخيال ، يُطلقه ما شاء له الانطلاق ، انطلاق مدموغ بطين الواقع ولكن على أجنحة الخيال . قال الكاتب الأرجنتيى (بورخس) ((إنّ أعظم ما يمتلكه الإنسان هوالخيال) وقال ماركيز(( الخيال هوفى تهيئة الواقع ليُصبح فنـًا)) وقال أيضًا ((الغرائبى يأخذنى ولايبقى من الواقع إلاّ أرض القصة)) والخيال فى مجموعة (أغنية الدمية) هوالذى حوّل الواقع إلى فن . تقرأ القصة فتــُحلق فى عوالم شتى ولكن يظل صدى الواقع يُلاحقك . ــــــــــ (1) ينطبق على هذه القصة الدورالعضوى للمكان فى بناء القصة. وفى أغلب قصص المجموعة. وبصفة خاصة قصص (قطارالشمال) ، (مشهد من وراء السور) ، (الزوايا) ، (المملوك) وعن أهمية دورالمكان فإننى أحيل القارىء إلى كتاب (جماليات المكان) تأليف جاستون باشلار- ترجمة غالب هلسا – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر- بيرت – لبنان . (2) خاصة وقد انتهت فى أوروبا نفسها .
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسماء المصريين بين المُعلن والمسكوت عنه
-
قصة للمرحوم بيومى قنديل من مجموعته أمونه تخاوى الجان
-
ميريت آمون - قصة قصيرة
-
فى نص الليل - قصة قصيرة
-
العودة إلى العتمة - قصة قصيرة
-
سندريلا مصرية وليست أوروبية
-
نقد الفن بالكلمة خيرٌ وأبقى
-
أفغانستان بين الاستعماريْن الإنجليزى والروسى
-
الليبرالية المصرية بين الفشل والنجاح
-
لويس عوض و(إلحاد) الأفغانى
-
جمال الدين الأفغانى فى الثقافة السائدة
-
العلاقة بين الشعر والفلسفة
-
شخصية فى حياتى : بورتريه للسيدة ن. ن
-
الأصولية تلاحق الشاعر أحمد شوقى
-
الدم العربى فى قصور الوحدة العربية
-
المواطنة من المنظور الأصولى الإسلامى
-
أسلمة الدولة المصرية
-
التنوع الثقافى فى إطار الوطن الأم
-
الوجه الإنسانى - قصة قصيرة
-
عيون بلا ذاكرة - قصة قصيرة
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|