أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بيرم ناجي - نقد الأصولية الحمراء ...ملحق حول رسائل أنجلز في المادية التاريخية.















المزيد.....


نقد الأصولية الحمراء ...ملحق حول رسائل أنجلز في المادية التاريخية.


بيرم ناجي

الحوار المتمدن-العدد: 3867 - 2012 / 10 / 1 - 02:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


سألني أحد اصدقائي بعد أن نشرت " نقد الأصولية الحمراء..." ، وقبل أن يقرأه ، ان كنت ضمنت نقدا واضحا لرسائل أنجلزالأخيرة في المادية التاريخية في عملي أم لم أفعل.
قلت له ان ذلك كان سيكون ضروريا جدا لو انني لم أنقد ستالين العارف بأنجلز و كتاباته و الذي عاش وكتب كتابه" المادية الجدلية و المادية التاريخية" في القرن العشرين بل نقدت كتابات ماركس و انجلز فقط.
و لكنه قال لي: و ماذا لو ان ستالين لم يستفد جيدا من تلك الرسائل؟ الن يكون العمل ناقصا عندها؟

كنت قد احتفظت ، من حسن حظي، بفقرات من رسائل أنجلز، في وثيقة الكترونية اسجل فيها فقرات مختلفة من قراءاتي ، مأخوذة من مختارات رسائل ماركس و أنجلز صادرة عن دار دمشق.( بتعريب فِؤاد زكريا ان لم تخني الذاكرة).
أعدت قراءة مقطتفاتي وانتبهت ان نسخة من تلك الرسائل متوفرة و قابلة للتحميل بصفة حرة في الأنترنات ( و هي من ترجمة الياس شاهين و صادرة عن دار التقدم بموسكو) .قارنت الترجمتين فلم أجد فرقا بينا و لذلك فضلت ما عندي من فقرات لأنه أسهل علي استعمالها المباشر في الحاسوب .

***


تمثل رسائل أنجلز في أواخر حياته حول المادية التاريخية وثائق هامة يستعملها الماركسيون في نضالهم ضد منتقديهم ، و خاصة السطحيين منهم، و لكنها تعتبر في نفس الوقت اعترافا مباشرا من أنجلز بوجود مشكل في المادية عموما و المادية التاريخية خصوصا.
يعتبر الماركسيون ان انجلز عمق و دقق التحليل الماركسي المادي التاريخي في هذه الرسائل بالتعرض خاصة لما يسمى "مسألة الوسائط" بين الاقتصادي و غيره من الميادين و كذلك مسألة العامل المحدد أو المقرر.
و من جهة ما تعتبر هذه الرسائل تقدما نسبيا فعلا لكنها ،حسب راينا، ليست كافية لأنها لم تتساءل عن الأمر الأساسي الذي هو التصور الأنطولوجي و البنائي/الطوابقي و عن النزعات الطبيعية /الوضعية و الحتمية و التطورية .
ان ايضاحات هامة قد وردت في هذه الرسائل جعلت بعض الانتقادات الموجهة للماركسية تصبح لغوا فارغا، و هي ايضاحات تثري التحليل العلمي التاريخي ،و لكنها لا تكفي لأنها بقيت سجينة النسق الفلسفي المغلق كما سنرى.

***
في رسالة من أنجلز الى ج .بلوخ بتاريخ 21-22-09-1890 اعترف انجلز قائلا:
" اننا ، ماركس و انا ، ملومان حتى درجة ما لأن الشباب يشددون احيانا على الجانب الاقتصادي أكثر مما يجب . فلم يكن لنا بد من التشديد على المبدأ الرئيسي حيال خصومنا الذين انكروه، ولم يتوفر لنا دائما الوقت أو المكان أو الفرصة كي نعطي العناصر الأخرى المشتركة في التفاعل حقها. لكنه حالما كان الأمر يتعلق بتقديم شريحة من التاريخ، يعني بتطبيق عملي، فقد كان الأمر يختلف، ولم تكن أدنى خطيئة يسمح بها."
و في رسالة الى ف.مهرينغ بتاريخ 14-08-1893 قال :
" ...وفيما عدا ذلك، فان نقطة و احدة اخرى ناقصة ، وهي على اي حال نقطة قصرنا ماركس و انا دائما في التشديد عليها بصورة كافية في كتاباتنا، ونحن جميعا مذنبون بخصوصها على قدر المساواة. و أقصد من ذلك ننا جميعا وضعنا ، ولم يكن لنا بد من وضع التشديد الرئيسي، في المحل الأول، على اشتقاق المفاهيم السياسية و الحقوقية و غيرها من المفاهيم الايديولوجية، واشتقاق الأفعال الحادثة بوساطة هذه المفاهيم ، من الوقائع الاقتصادية. بيد اننا حين فعلنا ذلك أهملنا الجانب الصوري (الشكلي) – الطرق و الوسائط التي نشأت بها هذه المفاهيم ،الخ- على حساب المضمون. و لقد أعطى هذا خصومنا فرصة ميمونى من أجل سوء الفهم و التشويه..."
ان هذه الاعترافات مهمة جدا ، فهي على الأقل تقر بأن الطريقة النظرية التي قدمت بها المادية التاريخية – و لكن ليس التطبيق العملي حسب أنجلز- أحادية، ركزت على "المبدأ الاساسي" و أهملت "العناصر الأخرى المشتركة في التفاعل" . ولكن يبدو أن الأمر يتعلق بمجرد اهمال "الجانب الشكلي" و "الصوري" لصالح المضمون ، لا غير.
ان أمرا مهما غاب في هذه الرسائل –كما سنرى- و هو العودة الى "المبدأ الأنطولوجي" اذ يبدو عند قراءة الرسائل الستة الأساسية التي جمعت مثلا في "الدراسات الفلسفية " الصادرة عن المطبوعات الاجتماعية في فرنسا (و هي خمسة فقط في النسخة العربية التي ذكرناها اعلاه و المعربة من قبل الياس شاهين –دار التقدم بموسكو- ) ان الأمر يتعلق بنقاش علاقة البنية التحتية بالبنية الفوقية و الوعي الاجتماعي دون ذكر واضح لثنائي "الوجود الاجتماعي" و "الوعي الاجتماعي" و دون تأكيد الربط بين الأولوية و الأسبقية الأنطولوجية و الزمنية و السببية.
ان الصيغة التي اصبحت مستعملة من قبل انجلز هنا هي صيغة "التفاعل" و لكن حتى في هذا الصدد يبدو ان الأمر يتعلق بتفاعل أمر جوهري مع أمور شكلية و صورية ، بين ميدان مستقل بذاته من ناحية و ميادين تابعة، لكن لها ردود افعال على الميدان الرئيسي و لها تأثير على أفعال "اشتقاقية" من خلال لعبها دور" الوسائط "كما لو أن السياسي ،مثلا، يتوسط بين الاقتصاد و الفعل الاشتقاقي هذا وقد يحدد" صورته" و "شكله " ، فقط ، بينما يحدد الاقتصاد مضمونه دائما.

يكتب أنجلز : " وفقا للتصور المادي عن التاريخ، فان العامل المقرر (المحدد) في التاريخ هو ، آخر الأمر، انتاج الحياة الفعلية و تكاثرها. ولم يؤكد ماركس أو أنا أكثر من ذلك قط. ولذا فاذا شوه بعضهم هذا الموقف بحيث يقول ان العامل الاقتصادي هو العامل المقررالوحيد فانه يحول تلك الموضوعة الى عبارة مجردة، فارغة، لا معنى لها . ان الوضع الاقتصادي هو الأساس و لكن العناصر المختلفة للبنية الفوقية (...) تمارس كذلك تأثيرها في مجرى الصراعات التاريخية و في كثير من الأحوال تحدد شكلها بصورة متفوقة. ان هنالك تفاعلا بين سائر هذه العوامل التي تنتهي الحركة الاقتصادية الى شق طريق لها فيها على اعتبارها ضرورية (...) اننا نصنع تاريخنا بأنفسنا، لكننا نصنعه في المحل الأول في ظل مقدمات و شروط محددة جدا. و من بين هذه المقدمات و الشروط تكون الاقتصادية منها حاسمة. بيد أن الشروط و المقدمات ، السياسية،الخ، بله الأعراف التي تراود الأذهان البشرية، تلعب دورا هي الأخرى، و ان لم يكن الدور الحاسم." ( رسالة الى بلوخ 09-1890)

ان أنجلز يوضح أمورا هامة هنا حول التفاعل و لكنه يتهرب مرة و يعود أخرى ليعترف بالتصور التقليدي الذي يدعي تصحيحه.
انه يتهرب للمرة الأولى عندما يعالج تأثير البنية الفوقية و الوعي الاجتماعي على "مجرى الصراعات التاريخية" في حين كان عليه ان يعترف بتأثيرها حتى على "الحياة الاقتصادية" نفسها.
بعد ذلك يعود ليقول ان الحركة الاقتصادية ضرورية ، بمعنى أنها مستقلة ، وكأن لها تاريخها الخاص المستقل عن غيرها من "الحركات". أن أنجلز يعبر عن هذا بكل وضوح في رسالته الى كونراد شميدت بتاريخ 27 -9-1890 قائلا ، عند تعرضه لعلاقة الاقتصاد بالدولة :
" يحدث تفاعل متبادل بين قوتين متفاوتتين: فمن جهة أولى الحركة الاقتصادية، و من جهة ثانية السلطة السياسية الجديدة التي تسعى الى أكبر قدر من الاستقلال و التي تكتسب، و قد انشئت مرة، حركة خاصة بها. و على العموم فان الحركة الاقتصادية تفرض نفسها ،لكنه لا بد لها كذلك أن تتحمل ردود الفعل من جانب الحركة السياسية التي أقامتها هي نفسها و التي تتمتع باستقلال، ردود فعل سلطة الدولة من جهة ، و حركة المعارضة(...) من جهة ثانية."
ان التفاعل المتبادل بين الاقتصاد و السياسة هنا واضح بشكل جيد لكن عيبه الاساسي هو في تصوير الاقتصاد لوحده كضرورة، تفرض نفسها أو " تشق على العموم طريقها لنفسها".
ان الحركة الاقتصادية لوحدها ضرورة، أما السياسة فهي وليدة الاقتصاد نفسه ، حتى لو استقلت نسبيا "فيما بعد" ، وان التفاعل بينهما يصبح فعلا من جانب الاقتصاد و ردود فعل من جانب السياسة.
ان تاريخ الحركة الاقتصادية يصبح تاريخا ضروريا مستقلا على العموم و له آلياته الخاصة المادية ( قوى و علاقات الاناج) بينما تاريخ السياسة - التي أقامتها الحياة الاقتصادية نفسها- ناتج عن الحركة الاقتصادية نفسها و لكنه يستقل عنها نسبيا و يمارس عليها ردود فعل.
قد يقول قائل: ان هذا مجرد جذلقة لفظية و عدم فهم للجدل اذ ان تعابير الفعل و رد الفعل ترتبط بالموقع الذي نتخذه عند التحليل و على العموم هنالك تفاعل متبادل معترف به.
ان المشكل الحقيقي هنا هو هذا الأمر بالذات ، هوما يمكن ان نسميه "التشكل السياسي " ( كيف تتكون السياسة و تتولد). ان السياسة تتشكل انطلاقا من الاقتصاد الذي هو متشكل ذاتيا، باعتباره ضرورة، و هو لذلك يمارس الفعل و يتلقى ردود الفعل في نفس الوقت.
ان الاقتصاد في التصور الماركسي قائم بذاته بوصفه يمثل ضرورة لوحده ، علاقات ضرورية محددة و مستقلة عن الوعي و الارادة أما السياسة ، أو الوعي الاجتماعي، فهما تابعان بنيويا و توليديا للاقتصاد، و لذلك فحتى لو استقلا نسبيا و مارسا ردود أفعال على الاقتصاد فيبقيان تابعين لحركته الضرورية و المحددة و المقررة و المستقلة عن الارادة.، في آخر التحليل.
ان عبارات استقلال السياسة أو الوعي هي عبارات متمحورة حول العامل المادي" المستقل و الذي يبقى يمثل المركز" او "القطب" في التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية و الذي تدور حوله بقية عوامل . ورغم الاعتراف بردود فعل لها و بحركة "دوران" خاصة نسبيا فانها كلها تبقى في تبعية، في آخر التحليل ، للعامل الحاسم المحدد ، ولكن ليس المؤثر الوحيد، على ما يبدو.
اننا نعود بالتالي الى التصور الأنطولوجي السابق الذكر: الاقتصاد أولي انطولوجيا و زمنيا و سببيا و له تاريخه المادي الخاص بوصفه ضرورة . اما السياسة و الوعي...فهي ميادين لاحقة و تابعة و لا تاريخ لها الا تاريخ انفعالها بالاقتصاد و ردود افعالها عليه او على بعضها البعض وفق ما يشترطه الاقتصاد نفسه ، في نهاية التحليل.
ان الماركسية، عبر المادية التارييخية، تجعل من الاقتصاد مادة، وهو ليس كذلك حتى لو عبرنا عنه بعبارة " مادة اجتماعية" .ان ماركس ، بسبب نسقه الفلسفي يخون أطروحته الأولى عن فيورباخ التي يعيب فيها على الماديات السابقة كونها لا تعرض " الشيء" و الواقع ..." الا بوصفه " موضوعا "... و " لا بشكل نشاط انساني حسي ، لا بشكل تجربة، لا من وجهة النظر الذاتية..."
ان الماركسية تعرض الاقتصاد بوصفه "موضوعا" ويقابل السياسة و الوعي الذين هما "ذاتيين "على ما يبدو. السياسة و الوعي ليسا" نشاطين انسانيين حقيقيين" كما هو حال الاقتصاد.انهما مجرد تمظهرات اما ذاتية و صورية للاقتصاد نفسه و لتاريخه.
ان أنجلز - ومعه الماركسيون- لم يتساءل السؤال التالي: هل يمكن منطقيا القبول بمبدأ الاستقلال النسبي للسياسة و الوعي دون الاستنتاج من ذلك منطقيا ان استقلال الاقتصاد هو بدوره نسبي بالضرورة ؟
ان أبسط منطق يقول ما يلي : بما ان الانسان كائن اجتماعي و سياسي و مفكر مثلما هو كائن اقتصادي فان الاستقلال النسبي للسياسة و الوعي – مثلا- يعني بالضرورة ان الاقتصاد نفسه غير مستقل. فاذا كان شيئان موجودين معا و متزامنين و أحدهما ، لنقل الثاني، له استقلال نسبي عن الآخر ، الأول، فهذا يعني ، طوطولوجيا تقريبا، أن الشيء الأول نفسه ليس له استقلال نسبي عن الثاني أيضا .
تبقى حالة واحدة تبرر المنطق الماركسي هي القول ان الاقتصاد سبق وجوده وجود السياسة و الفكر ،الخ و بالتالي كان موجودا لوحده ثم خلق و ولد السياسة و الفكر الذين يتبعانه "بنيويا " و "توليديا".
هل يمكن القول ان الاقتصاد له استقلال مطلق اذن عن الاجتماع و السياسة و الوعي الاجتماعي مثل استقلال الطبيعة عن البشر ؟
أليس هذا بالضبط هو تحويل الوجود الاقتصادي الضروري الى شيء مماثل لوجود مادي طبيعي ضروري كأنه مستقل عن البشر و سابق انطولوجيا وزمنيا و محدد سببيا للسياسة و المجتمع؟
ألا يعني هذا ان الاقتصاد وجد قبل التفكيرمثلا؟
ولكن ألا يتميز النشاط الانتاجي الانساني عن "عمل النحل" تحديدا بكون الانسان "يبني الخلية في دماغه قبل صنعها" حسب ماركس ؟
هنا يعود الخلط الناتج عن التناقض بين الجدل الواقعي الحي و بين النسق الفلسفي المتحنط.

لاكتمال الصورة لا بد من كلمة حول معنى الضرورة كما يراها ماركس و انجلز.
في الواقع ان ماركس عندما حلل معنى الضرورة يدخل الارادة و لكنه يتعمد الا يذكر سوى "الارادة الفردية" ليقضي عليها تحليليا خدمة لنسقه "الموضوعي". انه يقول ان الأفراد و هم يمارسون تكون لهم ارادات فردية لكن بما ان كل تلك الارادات متنازعة يتكون عنها واقع موضوعي مخالف لها جميعا. و قد واصل أنجلز الفكرة في رسائله حول المادية التاريخية ليصل الى ما يلي في رسالة الى بلوخ في 21/22-8-1890.
" ...ذلك ان كل ارادة مفردة تعارضها كل ارادة اخرى، فاذا ما ينبثق شيء لم يكن أحد راغبا فيه. هكذا جرى التاريخ حتى الوقت الحاضر على طريقة عملية طبيعية و هو جوهريا خاضع لقوانين الحركة نفسها."
هكذا فان نزاع الارادات الفردية يكون ، حسب أنجلز، ما يسميه "المتوسط العام" و هو "حصيلة مشتركة فلا يجوز الاستنتاج انها مساوية للصفر.ان الأمر على النقيض من ذلك ، فكل منها تسهم في الحصيلة و هي ضمن هذه الحدود متضمنة فيها."
ان نموذج التحليل المادي التاريخي هنا هو "عملة طبيعية" و لذلك فان التاريخ هو "جوهريا خاضع لقوانين الحركة نفسها " التي تخضع لها الطبيعة.
ان هذه الصورة تؤدي الى التعامل مع مسالة الارادة بحدين لا ثالث لهما على الطريقة الرياضية – الهندسية التي تقول بأنه " ثمة عددا لا يحصى من القوى المتقاطعة ، مجموعة لا نهاية لها من متوازيات اضلاع القوى تؤدي الى حصيلة واحدة- الحدث التاريخي..."( نفس الرسالة السابقة).
هنالك ارادات فردية من ناحية و "متوسط عام " من ناحية ثانية، و لا حديث عن الارادات الجماعية و لا حتى الطبقية هنا الى درجة الاستنتاج بان الحصيلة التاريخية هي شيء "لم يكن أحد راغبا فيه".
ان التاريخ هنا يصبح "عملية طبيعية" و يبقى ان نتصور فقط كيف ان ما انبثق عن الثورة الفرنسية مثلا "لم يكن أحد راغبا فيه" أو كيف ان كل وضعية تاريخية ستصبح "مفارقة نتائج" (عبارة ماكس فيبر الشهيرة) أو نتيجة مفارقة لكل الارادات الفردية.
ان النتائج قد تختلف طبعا عما كانت الارادات الفردية أو الجماعية قد رسمته مسبقا ، لكن الاختلاف هنا لايعني ان النتيجة "لم يكن أحد راغبا فيها" تماما.
ان ماركس و انجلز يطبقان هذه الطريقة في التحليل على "الحدث التاريخي" عموما ولكن كتوسيع و تمديد لنفس التحليل على الحدث الاقتصادي بالتحديد بين المنتجين الأفراد و حصيلة الانتاج الاجتماعي . و لنا أن نتصور كيف ان كل بورجوازي فرنسي مفرد لم يكن راغبا في حدث "الثورة الفرنسية" و "في نتائجها" او كيف ان كل عامل روسي لم يكن راغبا في الثورة الروسية و في نتائجها.
ان نموذج التحليل الطبيعي هو الذي ، بسحبه على المجتمع و التاريخ، و بتعميمه فلسفيا ، يعمي الباحث و يوصل الى أمر يكاد يكون مخالفا لأبسط مبادئ الحس السليم ناهيك عن العلم ، بما في ذلك الماركسي نفسه، الذي يقول بأن تاريخ المجتمع "منذ المشاعية البدائية هو تاريخ صراع الطبقات" . فاذا كان الحدث التاريي هو "وسط عام " و اذا كانت نتائجه غير مرغوب فيها من جميع الأفراد فكيف لن يكون ذلك "المتوسط العام" صفرا؟ بل و كيف يحصل صراع الطبقات نفسه ان لم يكن هنالك تنسيق ارادات ؟ و لماذا سيحصل بما ان الارادة ينظر اليها على انها ارادة فردية و لا يقع حتى تصنيف الارادات الفردية حسب الطبقات، مما يؤثر على نتائج الحدث التاريخي، فيجعلها مرغوبا فيها اجمالا حتى لو لم يكن احد يتوقع حدوثها كما حدثت بالضبط و بذات التفاصيل و كل الدقائق والصفات.
ان رسائل أنجلز في المادية التاريخية تعمق أزمة الماركسية بوصفها نسقا فلسفيا مغلقا و لا تنقذه.
ان ما يستنتج مما سبق هو التشديد المبالغ فيه حول استقلال العامل الاقتصادي الكبير عن العوامل الأخرى باعتباره يشبه "العملية الطبيعية" المستقلة عن البشر، الضرورية، التي لها قوانين خاصة موضوعية لا يمارس البشر عليها سوى "الانعكاس" و "ردود الأفعال" فيعونها و "يذهبون بتناقضاتها الخاصة الى نهايتها".
ان الماركسية تكاد لاتدرس الاقتصاد كممارسة اقتصادية –اجتماعية ذاتية متموضعة لبشر لهم ارادة ووعي...بل كشيء شبيه بالنظام الطبيعي تقريبا. و هذا ما قاله ماركس نفسه في ملحق الماني للكتاب الأول من "رأس المال" بخصوص استحسانه لتعليق كاتب روسي حول نظريته الاقتصادية اعتبر فيه هذا المعلق الطريقة الماركسية في البحث "المادي التاريخي" مساوية لطريقة بحث العلوم الطبيعية.
و رغم اعتراف انجلز المتكرر في رسائله الأخيرة باستقلال الميادين السياسية و الفكرية ، شكليا، يعترف أنجلز أيضا ، جوهريا ، بالقناعات الماركسية الأصولية و يقول في رسالة الى مهرينغ بتاريخ 14-08-1893:
" ...و يرتبط بذلك المفهوم الأبله للايديولوجيين القائل اننا ، نظرا لأننا ننكر أي تطور تاريخي مستقل لمختلف المجالات الايديولوجية التي تلعب دورا في التاريخ، ننكر أيضا أي فعل لها في التاريخ..."
ان هذا يعني ان الاقتصاد و حده له "تطور تاريخي مستقل " في الحقيقة و هذا يبين بوضوح حدود "الاستقلال النسبي" للبناء الفوقي السياسي و الوعي الاجتماعي.
ان الاقتصاد ، حسب أنجلز، يمثل الميدان الوحيد الذي له وجود مستقل و" تاريخ مستقل" وهو يخلق السياسة و الوعي و يشترط و يكيف تاريخهما و ردود فعلهما عليه و لايترك لهما امكانية " تطور تاريخي مستقل " حقيقي على ما يبدو.
ان صيغة الاعتراف بمايسمى " الفعل " في التاريخ مع انكار "التطور التاريخي المستقل" هي صيغة ملتوية اذ كيف لميدان ان يمارس تأثيرا مستقلا خاصا اذا لم يكن له وجود و تاريخ مستقلين و لو نسبيا؟
اننا ذهبنا هنا بعيدا في التجريد ربما و للعودة الى أصل الموضوع المتمثل في النزعة الاقتصادوية المبالغ فيها نعود الى الرسائل.
في واحدة من أواخر رسائله الموجهة الى بورخيوس بتاريخ 25-01-1894 عاد أنجلز من جديد الى المادية التاريخية و قرر أن يجعل الاقتصاد يبتلع كل شيء تقريبا. لنقرأ:

أولا : جوابا على سؤال أول لبورخيوس يقول أنجلز : " ..."تقنية الانتاج" تحدد "العلاقات الاقتصادية" بما في ذلك "أسلوب التبادل و طريقته " و "توزيع المنتجات" و "الانقسام الى طبقات" و "معها الدولة و السياسة و القانون،الخ."
ان "نظرية قوى الانتاج" تبدو جلية هنا ، و هي ليست ابتداعا كاوتسكيا كما يحاول الماركسيون اللينينيون الايهام ، انها ،على الاقل، واحدة من القراءات الممكنة و الشرعية للماركسية بسبب نسقها الفلسفي المادي- الاقتصادي.

ثانيا: يكتب أنجلز :" تشتمل العلاقات الاقتصادية على القاعدة الجغرافية (...) و البيئة الخارجية التي تحيط بهذا الشكل الاجتماعي."
ان الاقتصاد هنا يبتلع الجغرافيا و البيئة الطبيعية الخارجية المحيطة بالانسان.ان الطبيعة تصبح موضوعا اقتصاديا فقط و ليست حتى فضاءا ماديا عاما للحياة في عمومها . بمعنى آخر ان علاقة الانسان بالطبيعة تلخص هنا في العلاقة الاقتصادية لا غير و هذا يضر بامكانية التمييز بين المادي و الاقتصادي من ناحية و بين الأشكال غير الاقتصادية لعلاقة الانسان بالطبيعة مثل تمثلها الجمالى الفني أو غيره. يبدو هنا ان الاقتصاد يصبح كل شيء تقريبا و لا يحدث شيء الا بوساطته على الأقل.

ثالثا: حول العلم و التقنية يقول أنجلز :" اذا كانت التقنية وقفا حتى درجة كبيرة ،كما تقول، على حالة العلم ، فالعلم يتوقف بصورة أعظم من ذلك أيضا على حالة التقنية و متطلباتها. فاذا كان المجتمع يتطلب حاجة تقنية فان هذا يساعد العلم في التقدم أكثر مما تفعل عشر جامعات..."
ان أنجلز يتعمد الخلط هنا بين التقنية نفسها و بين "حاجة المجتمع الى التقنية" و الأمران مختلفان تماما.
كما انه يحاول أن يبين ان ارتباط العلم بالتقنية وتبعيته لها أعظم من ارتباط التقنية بالعلم و تبعيتها له.
انه يتناسى أن يذكر "حاجة المجتمع الى العلم" أيضا. اذ ان المجتمع لا يحتاج الى التقنية بهدف اقتصادي فقط فهنالك تقنيات عديدة نحتاجها في ميادين غير الاقتصاد.
كما ان المجتمع عندما يحتاج الى العلم ، لا يهف الى تلبية الحاجيات التقنية فقط أو حتى الحاجيات التقنية –الاقتصادية، بل انه يحتاج الى علوم قد لا تكون لها علاقة بالتقنية أصلا مثل بعض العلوم الانسانية و الاجتماعية .
ان أنجلز يوجه القارئ هنا نحو نسقه الفلسفي المادي - التقني- الاقتصادي ليبرر ان "أدوات الانتاج" هي "المحرك الأول" لكل شيء.

رابعا: في نفس الرسالة يذكر العامل العرقي و يقول:
" اننا نعتبر العلاقات الاقتصادية على انها هي التي تقرر، آخر الأمر، التطور التاريخي. بيد أن العرق هو بحد ذاته عامل اقتصادي..."
هنا يفقد أنجلز كل توازنه المنطقي تقريبا و ينسى واحدة من الفقرات الرائعة التي كتبها ماركس في "راس المال و العمل المأجور" ثم أعادها في "راس المال" و التي قال فيها ما معناه تقريبا " ان آلة غزل القطن هي مجرد آلة و لا تتحول الى راس مال الا في ظروف اقتصادية و اجتماعية محددة . كما ان الانسان الأسود هو فقط انسان أسود و فقط في ظروف اقتصادية اجتماعية معينة يصبح عبدا."
ان العرق ليس عاملا اقتصاديا بل هو خاصية طبيعية في الأعراق البشرية ترتبط باللون ، رغم ان انقسام البشر الى أعراق استغل طبعا ووظف اقتصاديا لممارسة العبودية مثلما استغل الاختلاف الجنسي بين المرأة الرجل في التقسيم الجنسي للعمل ،الخ.
ان توظيف الاختلاف العرقي (أو الجنسي) في الاقتصاد لا يعني قطعا ان العرق (أو الجنس) هو " بحد ذاته عامل اقتصادي"، هذا لا يقبله أي عاقل.
هكذا اذن ، ان الصورة العامة التي يقدمها أنجلز في رسائله حول المادية التاريخية هي صورة تحافظ جوهريا عى نفس التصور بل وتصل في بعض الحالات الى التراجع عن ابجديات التحليل المنطقي العادي خدمة للنسق الفلسفي.
انها صورة غريبة أحيانا لا تترك أي مجال لأي تمييز بين مختلف أبعاد الحياة الانسانية لأن الاقتصاد يلتهم كل شيء و يصبح كل شيء و بالتلي و – لأن الشيء اذا وصل الى حده انقلب الى ضده- قد يصبح "لا شيء" تقريبا.
يمكن القول، دون خوف من المبالغة، ان أنجلز هنا أسوأ من ستالين و يمكن التخمين ان ماركس كان سينزعج ربما بما يكتبه أنجلز في بعض هذه الرسائل و قد يكرر ما ذكره أنجلز نفسه في رسالته الى شميدت بتاريخ 05-08- 1890 التي ذكر فيها قول ماركس الشهير احتجاجا على بعض مناصريه من الفرنسيين :
" أنا أعرف شيئا واحدا فقط هو أنني لست ماركسيا ".

***

يقول ماركس في أطروحته الحادية عشرة حول فيورباخ:
" ان الفلاسفة لم يفعلوا غير ان فسروا العالم بأشكال مختلفة و لكن المهم هو تغييره."

انطلاقا من هذه الأطروحة كان الماركسيون كأنهم يعتبرون دائما ان فلسفتهم المادية الجدلية و المادية التاريخية قد أنهت تقريبا تفسير العالم و انه لم يبق سوى مهمة الاسترشاد بها لتغييره ثوريا . و لكننا نعتقد انه عليهم ان يعيدوا التفكير تماما في كل شيء حتى لا تعمي الفلسفة العقل ولا يعمي العقل الانسان فيثور و لكن على الطريقة الملحمية و لكن لينتهي النهاية المأساوية.



#بيرم_ناجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجبهة الشعبية في تونس : مساندة نقدية. ( رسالة مفتوحة الى ال ...
- نقد الأصولية الحمراء : نحو تجاوز مادي و جدلي للماركسية.
- الاسلاميون و المقدس الديني:نقد الاستبداد المقدس ( تونس مثالا ...
- تونس : من أجل جبهة جمهورية ديمقراطية مدنية وتقدمية.
- حركة النهضة الاسلامية التونسية: دراسة نقدية.
- ضد التيار في تونس: قوة ثالثة جديدة صعبة و لكنها ممكنة ( رؤية ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...
- الاسلام و علوم الاجتماع : محاولة في الدفاع عن العلم ضد -المن ...


المزيد.....




- دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك ...
- مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
- بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن ...
- ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
- بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
- لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
- المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة ...
- بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
- مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن ...
- إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بيرم ناجي - نقد الأصولية الحمراء ...ملحق حول رسائل أنجلز في المادية التاريخية.