|
الله والعلم (2/2)
إبراهيم جركس
الحوار المتمدن-العدد: 3866 - 2012 / 9 / 30 - 10:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
((من الأمور السيئة أخلاقياً ألا يهتمّ المرء بما إذا كان شيء ما صحيحاً أم غير ذلك طالما يجعلنا نحسّ أننا على ما يرام تماماً، مثل عدم اهتمامنا بالكيفية التي نحصل بها على المال طالما حصلنا عليه بالفعل)) [إدموند واي تيل، 1952] ((العلم يثير إحساساً قوياً بالدهشة، ولكن هذا أيضاً ما تفعله الخرافة. فالجهود الضعيفة المشتتة لترويج العلم تتخلى عن المواقع البيئية التي سرعان ما تشغلها الخرافة. فلو فُهِمَ على نطاق واسع أنّ مزاعم المعرفة تتطلب دليلاً كافياً قبل أن يتمّ قبولها، فلن تجد الخرافة مكاناً لها)) [كارل ساغان] ((في غالب الأحيان، يجلب الجهل الثقة، أكثر مما تفعل المعرفة... فالذين يعرفون القليل، وليس من يعرفون الكثير، هم الذين يؤكّدون بقوة أنّ هذه المشكلة أو تلك لم يحلّها العلم أبداً)) [تشارلز داروين] ((الآلهة هي كائنات هشّة وضعيفة، إذ أنها قد تُقتَل من جرّاء نفحة من العلم أو جرعة زائدة من الحس العام السليم.)) [تشابمان كوهين]
بالنظر إلى الفكرة التي وردت معنا سابقاً، أي استخدام حالة الجهل الحالي كحجّة لإثبات وجود الله فإننا سنقع في فخّ التناقض الذاتي. دعونا نعود قليلاً إلى البداية لنراجع طريقة تأدية حجة صدفة السلحفاة. يجادل المؤمنون: ((ما أصل صدفة السلحفاة؟ لا أعلم. أنت لا تعلم. لذلك فإنّ الله هو الذي خلق صدفة السلحفاة)). وهذا القول يشبه فعلياً القول: ((ما أصل صدفة السلحفاة؟ أنا لا أعلم. أنت لا تعلم. وبذلك فإننا كلانا يعلم_ أنّ أصلها يعود إلى الله)). الإنسان الصادق والنزيه، عندما تتمّ مواجهته بأمر لا يعرف عنه شيئاً، فإنه سيعترف بذلك ويقول ((لا أعلم شيئاً عن الأمر)). الجدال بأننا لا نعرف كيفية ظهور شيء ما من الواضح أنه ليس جدال بأننا نعرف شيئاً يتعلّق بكيفية ظهوره. الجهل لا ينطوي إلا على جهل. إذا بدأنا الحجة من العلم من خلال فتراض موقف الجهل بالنسبة لوجود أسباب طبيعية كافية ووجود الله، عندها لا يمكننا الاستمرار إلى النتيجة التي تقول أنّ الله موجود. فالحجة لا تستطيع الانتقال إلا من جهل إلى جهل آخر. ولا يمكن الاستنتاج بأنّ الله موجود إلا إذا انطلقنا من تلك الفرضية. إنّ موقف الملحد إذن هو الموقف الوحيد الذي يتمتع بالنزاهة. فالملحد يعترف أنّه لا يعرف كيف تطوّرت صدفة السلحفاة حين لم يكن هناك تفسير للعملية، لكنه لا يستمرّ في التناقض مع نفسه بالقول أنّه يعرف أنّ لله يد في العملية. بأية حال، كما أشرنا سابقاً في مقالة (الله والإلحاد)، قد يقول الملحد أنّه يعرف أنّ الله غير موجود وذلك لعدم تقديم أسباب مقنعة وكافية تدعم الاعتقاد بوجوده. بالتأكيد، كما رأينا من قبل، الجهل ليس سبباً مقنعاً وكافياً للإيمان بوجود الله. تقوم حجّة الجهل بالأسباب الطبيعية على افتراض خاطئ. هذا الافتراض يقول أنّ معرفتنا بالطبيعة تتطابق بالضبط مع الطبيعة نفسها. لهذا (فالجهل بالأسباب الطبيعية) هو المكافئ الفعلي والحقيقي (لعدم وجود أسباب طبيعي في الأصل). لكن إذا كان هذا الافتراض صحيحاً، فإنّنا سنعرف كل شيء موجود للمعرفة. وبما أنّ المسألة ليست كذلك وبوضوح، فإنّ الافتراض خاطئ والحجّة القائمة عليه يجب أن تكون خاطئة. يجب أن نلاحظ هنا أنّه لو أخذ العلم بالقبول بالتفسيرات الكافية أو الملائمة لظاهرة محيّرة ما، عندها لن يكون الله سوى احتمال آخر من بين مجموعة كبيرة من التفسيرات المحتملة. إذن كيف لنا أن نقرّر بينها؟ على سبيل المثال، كان من الملائم أكثر تفسير ظاهرة الزكام أنها بسبب شياطين صغيرة غير مرئية تدخل أنوف البشر وتدغدغهم. الإنسان البدائي كان بارعاً ومبدعاً في تصوّر مثل هذه الخيالات. فقد كان يعتقد أنّ صوت الرعد ما هو إلا صوت أرواح غاضبة فوق الغيم ترمي رماحاً من البرق على بعضها البعض وتذرف الدموع نتيجة اقتتالها فيما بينها وهذا هو سبب هطول المطر. كما أنّه في زمن ما _وما زال حتى الآن_ يعتقد أنّ الشهب ما هي إلا رماح أو رجوم يرجم بها الله الشياطين والعفاريت التي تسترق السمع على أبواب السماء وتتجسّس على أحاديث الملائكة. إنّ استخدام هذه التفسيرات الكافية والملائمة يعتبر أساطير أو ميثولوجيا، وليس علماً. اليوم طبعاً بتنا أكثر تعقيداً وذكاءً من أسلافنا البدائيين. فلم يعد من المقبول رؤية المحاربين الغاضبين والمتجهّزين للحرب، فالعلماء اليوم يملكون السمعة الثقافية التي كان يتّسم بها المحاربون القبليون في زمن ما. فبدلاً من تفسير الأشياء ضمن سياق ميثولوجي يتضمّن الأرواح التي تترامى بالسهام، أو الشهب التي تطلق على الشياطين التي تسترق السمع على السماء، يميل المؤمن لتوظيف نظرة ميثولوجية أكثر حداثةً مخلوطة بصبغة علمية. يقول المؤمنون أنّ السلحفاة حصلت على صدفتها لأنّ هناك روحاً علمية عظيمة تسمى "الله" قامت بتصميم وهندسة الهيكل. أو أنّ الكون أخذ بالاتساع لأنّ هناك روح مهندسة عظيمة وضعت شحنة روحية من الديناميت الروحي وقامت بتفجيره روحياً، ومن يستغرب هذا الكلام ما عليه إلا أن يطّلع على كتابات هارون يحيى. إلا أني أودّ هنا أن أورد مقطعاً من كتاب "قصةّ الخلق من العرش إلى الفرش" لعيد الورداني لأبيّن مدى التضليل الميثولوجي الذي يعاني منه ويمارسه المؤمن المصاب بعدوى الإيمان: ((ولعل من أكبر الأمور عجبا وأعظمها غرابة أن يستطيع إبليس إقناع أكثر من خمسين ألف مليون من البشر هم سكان الكرة الأرضية على مدار قرن من الزمان بأن هذه الشمس التي يرونها بأعينهم تدور حولهم، والتي ظلت البشرية منذ فجر التاريخ وما قبل التأريخ، أي منذ وجود الإنسان على الأرض وهم متفقون جميعا على أن الشمس تدور حولهم، وعلى رغم قول الله في كتبه كلها أن الشمس تجري وتدور حول الأرض، وعلى الرغم من بعث مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ورسول إلي البشر، لم يقل واحد منهم بغير ذلك، إلا أن إبليس نجح نجاحاً منقطع النظير أن يقلب كل ذلك ويقلب فطرة كل سكان الأرض ويكذبوا أعينهم ويخالفوا ربهم ورسلهم وأسلافهم ممن عاش قبلهم على الأرض فيقولون أن الشمس هي مركز عالمهم، وأن الأرض التي يقفون عليها ويعيشون فيها هي التي تدور بهم وبمدنهم وقراهم حول الشمس، وكذلك كل الكواكب الدراري تدور حول الشمس التي سموها (أم) في آخر الزمن.)) [صـ 259]، وأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى من هذا النمط من التفكير الخرافي-الأسطوري. هؤلاء المؤمنون الذين يدركون سخافة وعبثية أساطيرهم وخرافاتهم يسعون دائماً لإضفاء المصداقية عليها ومنحها الاحترام المبالغ فيه عن طريق أعادة تعريفهم لله "كقوّة روحية" أو شيء آخر مبهم وغامض_ أي شيء طالما أنه لا يبدو كتضخيم واضح وصارخ للإنسان ورغباته. لكن تنبغي الملاحظة هنا أنّ الله يعتبر تفسيراً ملائماً فقط طالما أنّه يشبه الكائنات البشرية، على الأقل بأنه يمتلك عقلاً مثلها. يصرّ المؤمن ويؤكّد دائماً بأنّ الأسباب العمياء أو العشوائية لا يمكنها تفسير الكون. وأنّه لابد من وجود عقل مدبّر خالق وقادر على خلق هذا الكون. المؤمن سيعمل جاهداً لتفادي الدخول في موضوع العلم أيضاً. فالدليل الذي يقدّمه العلم في الواقع يعارض اللاهوت التقليدي. على سبيل المثال، الإله المسيحي من المفترض أنّه إله حكيم ومخطّط بارع، وغير قاسي أو متجبّر. الآن نحن نعلم أنّ الحيوانات العاشبة ستستنفذ قريباً مخزونها من الغذاء إذا لم يتمّ تحديد نسبة تكاثرها. الحيوانات اللاحمة تأكل هذه الحيوانات مخفّضةً أعداد النوع لتبقى ضمن حدود المخزون الغذائي. وهكذا تتمّ المحافظة على توازن الطبيعة، وإذا كان هناك وجود لأي مخطّط إلهي فإنّه موجود هنا. فعندما يتدخّل الإنسان في التوازن الطبيعي من خلال قتل الحيوانات اللاحمة، على سبيل المثال، فإنّ فرائس تلك الحيوانات تتكاثر متخطّية حدود المخزون الغذائي المتوفر لها. والنتيجة مجاعة واسعة ونقص شديد في الغذاء. والآن إذا كان من المعقول رؤية خطّة إلهية في المثال السابق عن التوازن الطبيعي، فإنّه من المعقول رؤية خطّة إلهية في المثال التالي: الجراثيم والفيروسات التي تقتل أطفال البشر، إذا بقيت غير مراقبة، فإنّ مستوى الوفيات في الأطفال يبقى أعلى وهكذا يقلّل من التكاثر الفعّال وهذا ما يمنع الإنسان من تخطّي حدود أمنه الغذائي. وعندما يتدخّل الإنسان في هذه الخطّة الإلهية _على شكل إنجازات طبية_ مخفّضاً مستوى الوفيات بين الأطفال، وهذه الإنجازات غير مصحوبة بوسائل تحديد النسل أو عملية إنتاج أمثر فعالية للغذاء، هذا ما يؤدي إلى الانفجار السكاني ويسبّب مجاعة ونقص في الموارد الغذائية على نطاق واسع. إنّ المؤمن يرى خطّة إلهية في هذا التوازن الطبيعي، ويشير إلى أنّ الكوارث الطبيعية قد تكون نتيجة لتدخّل الإنسان في الخطة. لذلك، على المؤمن أن يرى الخطّة الإلهية في مجموعة من الأمراض والأوبئة المريعة والمسؤولة بشكل رئيسي عن الوفيات بين الأطفال. إنّ الموت المؤلم للأولاد يجب أن يكون مخطّطاً إلهياً وضعه الله عن قصد. أضف إلى ذلك حقيقة أنّ المعدّل الطبيعي للولادات _شكل من أشكال تحديد النسل المصمّمة من قبل الله_ كان يمكن أن يحقّق التوازن الطبيعي بأسلوب أكثر كفاءة وأقل وحشية، وعندها كنا سنرى مدى براعة الله في التخطيط.
#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الله والعلم (1/2)
-
الله والإلحاد
-
اختلافات التجربة الإلحادية: بول كليتيور
-
الإله: الفرضية الخاطئة
-
فيروس الإله [4]
-
فيروس الإله [3]
-
فيروس الإله [2]
-
فيروس الإله: مقدمة
-
فيروس الإله [1]
-
القرآن في الإسلام (بحث في معصومية القرآن وموثوقيته)
-
لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 3 ترجمة: إبراهيم جركس
-
لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 2
-
لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 12 ترجمة: إبراهيم جركس
-
المأزق الأخلاقي للحروب
-
القرآن المنحول [1]
-
التاريخ النصي للقرآن (أرثر جيفري)
-
الله: فيروس عقلي مميت [2]
-
الله: فيروس عقلي مميت [1]
-
قفشات -أمّ المؤمنين-: هنيئاً لكم
-
الفكر الحر في العالم الإسلامي ونظرية صراع الحضارات
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|