علاء الصفار
الحوار المتمدن-العدد: 3865 - 2012 / 9 / 29 - 16:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أرادة الشعب و الغدر
كنا نطالع الكلمات البسيط و الصور الغريبة ليوري غاغارين رائد الفضاء السوفيتي في مجلة المدار في زمن الصخب و الجنون و الهمجية, لتمتد يد المعلم على المجلة و تمزقها و صفعة على وجهي. فقد كان زمن صعود الفاشية للحرس القومي في العراق, و كاطفال نعرف اين تخبأ الكتب المحرمة لكن لا نعي خطورة التعاطي معها!
فصور السيارات و الطائرات و الدبابات هي ولعنا, ولم نعرف ان هذه المجلة ستكشف القريب او صديق العائلة او الجيران. فنحن كنا نداعب المجلة ببراءة, كما كنا نمسك القط و نداعبه بقسوة لنعرف ان للقط مخالب فهي ليست فقط وديعة جميلة العينين. هكذا كانت البدايات مع المجلات و الصور المحظورة, لتكون طريقا نحو الافكار العظيمة و الطموح في التوحد الانساني الحضاري, و بدءا من الشارع و الصف و المحلة و المنطقة و العاصمة و كل العراق.
كان يجلس بجانبي على الرحلة في الصف الرابع الابتدائي زميل جديد لا في الصف بل في كل المدرسة اذ جاء من منطقة اخرى بعد انتقال العائلة, ربما هربا من الارهاب. كان ذلك في حصة درس الرسم حين جاء به المدير ليقول لمعلمنا هنا( نديم) طالب جديد اتمنى ان يكون له مكان في الصف, فاشار المعلم ان هناك مكان بجانبي. و هكذا قال المعلم القاسي الذي مزق المجلة يوما ما, ان نرسم ما نريد او نرغب.
فشرعت بالرسم فكنت احب رسم الاكواخ و الطيور و العصافير و القطط وغيرها, و رسومي صغيرة منوعة في الصفحة, وبدأت التلوين و اعتنيت بتلوين الحمام بالاصفر و الابيض وهي ساكنة على الاكواخ المتواضعة الداكنة أو تصفق بجناحيها في السماء الزرقاء. لالتفت الى ما رسم نديم, زميلي الجديد. لقد رسم على كبر الصفحة نخلة طويلة و ضخمة الجذع و بسعف كبير احتلت الصفحة كلها, ارض و نخلة و سماء بيضاء. لون نديم الارض بالبني و الاسود و جذع النخلة باللون الجوزي الغامق و السعف بالاحمر.
لم أتمالك نفسي من الضحك المخنوق إذ معلمنا قاسي جدا و العصا تحت ابطه كأي شرطي. و ليصل المعلم الينا, في النظر و التعليق و تسجيل الدرجات رغم انه ليس اختصاص بالرسم. لكن كمرشد للصف يأخذ ايضا درس الرسم ربما للراحة, و تعذيبنا بحضوره القاسي. فما ان راى رسم نديم حتى ضحك عاليا مقهقها, ليقول ما هذا سعف احمر!
و قبل ان يجيب نديم الذي حاول يقول شيء, اضاف المعلم ربما قد طًفًرً دم الشيوعيين على سعف النخلة يا نديم. اذ كانت احداث 8 شباط باقية طرية في ذاكرة الناس. و سائل المعلم مكرر لمً بالاحمر؟
ليجيب نديم ببراءة, أن ليس لديه قلم اصباغ احمر!
انتهى الدرس و انطقبنا انا و نديم الى ساحة المدرسة, فالى الحانوت لنشتري ما نريد. لبلبي ام عمبة و صمون او حلويات, و جلسنا بعيدا عن الطلاب نتحدث. فقال نديم المرشد رجل قاسي, و اضاف عمي شيوعي في السجن. فقلت له لا تقل ذلك لاحد! و اضفت اخي شيوعي مختفي في بيت عمي. فقال لي لا تقل ذلك لاحد!
سائلني نديم هل انت مسيحي؟
قلت لا انا مسلم!
قال نديم نحن اخوة!
فرحت بنديم كثيرا!
و هكذا مضت السنين مسرعة و لنشب على كره الرجعية للشيوعيين في العراق.
ليأتي زمن الصبا و الشبيبة و الاحداث, و نلتقي مع الاصدقاء و الزملاء في الصف و المدرسة و الكليات و كل الوطن. لتمر السنين اخرى مسرعة, و نكون قد عرفنا ان للافكار غاية و ينبغي المعرفة المستمرة و المساهمة الجادة في كل مرافق الحياة, في الحي الشعبي حيث الناس الفقيرة الامية المهمشة و في صفوف الطلبة الاذكياء حيث يمكن ان يقدموا الكثير للبلد و الشعب لمكانتهم المرموقة في الوسط الاجتماعي. فالشباب, هو زمن العطاء و بناء التجربة. هكذا كانت البدايات بسيطة متواضعة حالمة طموحة صادقة, لا تعرف المراوغة و لا الزيف.
لتمر بعض من السنوات الحالمة و الغنية بكل شيء من قراءة, سواء كان ادب و اسطورة و فلسفة و زيارة سينما و مسرح و نوادي ثقافية ام مقاهي بغداد المتواضعة حيث القراءة و التصفح في الجرائد و الكتيبات و النقاشات, حيث اللقاء هناك ياخذ ابعاد أكبر, إذ ممكن ان نلتقي مع رجال اصحاب خبرة و تجربة في الحياة من محامي كبير ام رجل اعمال معروف في بغداد او سياسي ذا تجارب و تاريخ كبير, كان معاصر لزمن الاحتلال الانكليزي للعراق, ليحدثنا عن شكل الحياة و كيف كانت بغداد و لم سميت المناطق و الساحات باسمائها مثلا. و من هي الشخصيات البغدادية الشعبية التي كانت ترتاد المقاهي التي بدئنا ارتيادها كشبيبة, و في أي المقاهي كان يجلس اليسار, و لتنطلق المظاهرات ضد النظام الملكي . و من خلال السفرات و جلسات سمر الاسبوعية تطورت الصداقات الواسعة ليس على صعيد بغداد بل على صعيد كل الوطن, و من خلال الدراسة الجامعية و مع الزملاء الذين حضروا الى بغداد للدرس.
يكبر الحلم و تزداد التجربة و تزهوه الدنيا في عين كل شاب عراقي احب شعبه و احب العراق. لتمر ايام صعبة جديدة حيث بات الحلم و العمل ينحرف تحت ضجة السطة و رجالاتها من وزراء و جلاوزة المخابرات. كانت بداية صادمة في يوم عادي من صيف عام 77 من القرن الماضي, حيث كنا نتجمع في مقهى بغداد الحديث التي تعودنا الحضور اليها في ساحة الميدان حيث تكون محطة لانتظار الاصدقاء للانطلاق منها سوية الى اماكن النشاط الثقافي من المسرح الهادف او الفلم الجيد. في ذلك اليوم كانا قد تجمعنا 6 الى 9 اصدقاء و كنا على علم بان يوجد مهرجان الاغنية السياسية على مسرح قاعة الشعب. و هكذا اتفقنا جميعا ان يكون لنا حضور لتلك الامسية للتمتع بالفن و الغناء الهادف للفرق العربية المساهمة.
كانت الجلسة عادية في البداية لكن بمرور الوقت حضر الكثير من اصحاب الشوارب العريضة و الرقبة الغليظة, و اخرعريض المنكعين يقف عند الباب متوتر و بنظرة ثاقبة كأي كلب حراسة يترقب الحضور, و لا يستمتع بالموسيقى و الغناء. و ما هي الا دقائق ليدخل قاعة الشعب وزير الثقافة, حينها كان طارق حنا عزيز و زيرا للثقافة. و كان المغني الهزيل فاروق هلال عريفا للحفل. بدأ المطربين و الفنانين و الفرق العربية المشاركة بفعاليتها من الموسيقى و الاغاني الجميلة. لم يقدم زوير الثقافة أي كلمة ذات معنى و مغزى للحفل و مهرجان الاغنية السياسية و للمشاركين.
ليجيء الدور الى الفنان الشيوعي فؤاد سالم ليعتلي المسرح و بعد اغنيته الاولى استوقفه عريف الحفل, فاروق هلال في حديث لا ينم عن ود و احترام للفن و لزميله الفنان او لمشاركته في امسية الاغنيه السياسية, و قد كانت مساهمته جميلة حانية احبها كل الاحرار من العراق و البلدان العربية المشاركة, و مساهمته كانت اغنية يا عشكًنة!
فقال الرقيع فاروق هلال! لفؤاد سالم بصلف و خبث السياسي الساقط. يا سيد فؤاد لم نسمعك يوما تغني للحزب و الثورة و رغم شعاراتها الثورية الكبيرة و التي صارت اغاني لكثير من المطربين. هنا صار الامر ليس احراج للفنان الشيوعي في القاعة بل صار احراج لجميع الحضور و خاصة عريض المنكعين كلب الحراسة, كان لا يزال يصوب نظراته الكلبية و بشفاهه المتهدلة لثقل الشارب العريض, و في الكراسي في المقدمة يجلس وزير الثقافة الاثول البطين.
استطاع او حاول الفنان فؤاد سالم يحافظ على هدوئه و ابتسامة مربكة على شفتيه, رغم السهم اللئيم لعريف الحفل المنهار الانتهازي طبال الدكتاتورية الصاعدة.
فاجاب فؤاد سالم اني ارى كل الحضور له مشاركة تتفاعل مع المهرجان و الامسية السياسية و كلمات اغنيتي هي غناء للشعب و الوطن و اعتقد انها ليست تعارض مع اهداف البناء في الوطن و كل اغنية في هذا الاطار اكيد هي تصب في مصلحة الوطن و الثورة. اكمل الفنان مشاركته لتلك الامسية.
و هنا تقدم الوزير طارق عزيز القذر الى المسرح, و بانفعال مجد الحزب و شعاراته و ليبدأ هجومه الواضح المباشر الموجه للفنان فؤاد سالم, و ليصرخ فاقد الاعصاب ناسيا انه مهرجان اغاني و امسية فنية و سياسية. ليقول ان الانسان الذي لا يغني شعارات الحزب و الثورة انسان سخيف.
صار الخروج من القاعة صعبا بوجود الوزير في المقدمة و البواب عريض المنكعين عند الباب, اذ الخروج, سيكون واضح عملية احتجاج, ثم الخروج فرادا يكون الواحد ضحية سهلة لعريض المنكعين و من يدري كم عريض منكعين ذووا عيون جلدية زجاجية مقيتة خالية من أي حياة تقف خلف الباب و تترصد في الشارع تلك الساعة!
هكذا اتفقنا على الاستمرار في الجلوس في تلك الامسية. فساد في داخلي صمت اعرفه ممل قاسي رغم الانغام و الحان عزف العود العذبة. عم في داخلي الصمت المكروه, لدرس الرسم و المعلم المرشد القاسي الذي مزق مجلة المدار يوم ما, و الذي لم يكن له اختصاص لا في الرسم و لا اختصاص في تربية الاطفال. هكذا أذن الوزير, وزير الثقافة طارق حنا في قاعة الشعب هو من سلالة الحرس القومي, اشر لنا تلك الامسية التي صارت انذارا لي في الارهاب للسلطة. ارهاب لا لطلاب في صف الرابع الابتدائي بل لكل الاحرار من حضر تلك الامسية في قاعة الشعب و لكل العراق. فكانت تلك الامسية بالنسبة لي قراءة, أختصرت كل السنين الحالمة لأقول في نفسي, و انا اهم العودة الى البيت, مودعا اصدقائي لارى في عيونهم ما كان يعتلج في نفسي. ان مخالب و انياب الفاشية البعثية برزت, فالى أي جنون وهذيان ستكون النهايات.
فتمزيق المجلة في زمن الطفولة كان, أو ترك اثر في وجداني, كانت قسوة كبيرة, كما اكتشفت ان القطة الوديعة ذات العيون الجميلة لها مخالب. لكن في تلك الامسية كان احساس اخر اعمق انضج, إذ حدث الامر في قاعة الشعب لا في الصف الابتدائي, و نحن شباب الان باحلام و طموح و امال و افكار التقدم و التحضر تملئنا. عرفت ان تهديد الثقافة و الفن و الاغنية السياسية الهادفة, لا يعني شيء اخر سوى صعود الفاشية, إذ الفاشية تهين و تقتل الانسان و تزهق الثقافة.
و الان و كأن الزمن و التاريخ يعيد نفسه, و ان مآسي الفاشية و حروبها لا تريد مبارحة الوطن و الشعب العراقي. فالهجوم على مراكز الثقافة, من اتحاد ادباء و مراكز ثقافية و نشاطات فنية و اغاني و افلام سياسية, و الى منع الكتاب في شوارع بغداد و خاصة في شارع المتنبي رمز الثقافة العراقية. لا تحمل الا صدى غثيان الحرب و الفاشية و الجنون!
إذ الفاشيون ترجموا افكارهم و صاغوها و مارسوها قولا و فعلا في التاريخ الحديث, عبر صعود رجالات الفاشية و الحروب العالمية. فالشاعر العظيم غاريسيا لوركا كان ضحية فاشية فرانكو, و بابلو نيرودا و فيكتور جارة كانا ضحية الفاشي بينو شيت في شيلي. عشرات من المثقفين و الادباء و الكتاب العراقيين كانوا ضحايا 8 شباط و الدكتاتورية الفاشية الحربية للدكتاتور صدام حسين, بطل الحروب و المعارك الخاسرة و الانسحاب التكتيكي و الحفر!
فالوزير النازي جوزيف غوبلز, وزير الدعاية السياسية في الدولة الالمانية الفاشية, في زمن هتلر له مقوله قذرة شهيرة " عندما أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي".و جسدها البعث الدكتاتوري الصدامي بممارسات وزير الثقافة في تلك الامسية لتكون بداية الخراب و الحروب و الدمار في العراق.
ماذا يأمل النظام الحالي و السادة السياسيين و قادة الاحزاب التي كانت في صف المعارضة, و التي اكتوت بنار القمع و تكميم الأفواه. قُتل الشاعر الكردي كوران في الشارع, وسحبت الجنسية من الجواهري و أعدم شفيق الكمالي و أغلقً صدام حسين فم باقر الصدر رجل الدين. كان موت و دمار لكن لم يسكت الشعب!
لا تسلكوا الدرب القذرة سيادة وزير الثقافة فالخطوة الاولى الداعرة هي بداية الغور في السفالة و العنف الدامي. و العواقب ستكون جدا وخيمة. امامكم تجارب جوزيف غوبلز و طارق حنا. فالمصير هو الحروب و الحفر!
#علاء_الصفار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟