|
استرداد الإسلام السني: جدلية القاعدة ضد الإخوان المسلمين
مائير هاتينا
الحوار المتمدن-العدد: 3865 - 2012 / 9 / 29 - 09:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
خلاصة تحدى ظهور القاعدة بداية التسعينات الخطاب الإسلامي الحديث بجلبه النزاع ضد " الصليبين الجدد" – الولايات المتحدة وأوروبا"- إلى المسرح المركزي. وبدافع من الشعور بالإحباط بسبب السجل الهزيل للتطرف السني في تحقيق تغيير سياسي حقيقي وملموس، وبسبب طموحها الخاص بالقيادة، خصت القاعدة حركة الإخوان المسلمين المؤثرة وللا عنفية واعتبرتها منافسها الرئيس والهدف الأول لجدليتها. أما الذي وفر الأساس التكويني لهذا الجدل فمقالة كتبها أيمن الظواهري ، بعنوان " الحصاد المر"، حوالي العام 1989. وتشكل هذه المقالة، التي لم يتم التعامل معها في أدبيات البحث حتى الآن، هجوماً قارصاً على الإخوان. فهي تقوض إرثهم التاريخي وتمضي بعيداً بذلك إلى حد تهشيم صورة مؤسس الإخوان صاحب الكاريزما، حسن البنا، أما على النطاق الواسع، فتكشف مقالة الظواهري عن وجود صلة بين الذاكرة التاريخية والسياسة، وتبين بوضوح الصدام الحاصل داخل الإسلام الحديث.
مقدمة قدم ظهور القاعدة بداية التسعينات بعداً جديداً للتطرف في الخطاب الإسلامي الحديث. وقد انعكس هذا، أولاً، في مصطلحات العلم الديني السياسي الذي يقدس الإخلاص والولاء لله وحده ( الولاء والبراءة) – علم ديني قابل للفهم والاستيعاب من خلال " الجهاد" المستمر والشهادة الخالدة. ثانياً، لقد ظهر وتوضح هذا التطرف في سيل من الهجمات التي وصلت إلى أبعاد عالمية، باستهدافه، أولاً وقبل كل شيء، العالم الغربي، لكن باستهدافه أيضاً حلفاء القاعدة في العالمين العربي والإسلامي الذين لم يطبقوا " الشريعة". هذه الهجمات أضفت على القاعدة صورة " الإسلام الهائج" أو "كتلة القوة"، الحاضرة والعاملة في كل منطقة من مناطق الصراع. وللاستفادة من العولمة إلى أقصى حد، حولت القاعدة الأموال، ونقلت التعليمات والمعرفة التكنولوجية من مكان إلى آخر بسهولة نسبية. كانت المنظمة، ومن دون وجود عملي حتى، موجودة في الوعي العام باستمرار عبر أشرطة تسجيل مصورة، ووسائل اتصالات عبر الأقمار الصناعية وخاصة الإنترنت. أما في المصطلحات السوسيولجية، فقد مثلت القاعدة " ثقافة محوَّطة" تتسم بافتقار تام تقريباً للحديث أو التواصل مع البيئة العلمانية المحيطة، التي كانت تعتبرها خطراً يهددها – سواء كانت البيئة أنظمة عصرية أم ثقافات بلدان مجاورة. هذا البعد الجديد للحدود بين العالم الإسلامي وعالم الهرطقة - الذي هو في نظر القاعدة يشمل الغرب الصليبي، الأنظمة المحلية وحتى الشيعة- كان موجهاً بشكل رئيس إلى الخطاب السني، هادفاً إلى كشف عيوبه، مرسياً قوانين وأحكام جديدة وبالتالي تقويض ذلك الخطاب. وكان هدف هذه المبادرة السجل المتواضع للحركات الإسلامية في الشرق الأوسط، التي تمكنت من كسب السيطرة السياسية في السودان فقط، وحتى مؤقتاً هناك. بالواقع، ومع انهيار الشراكة السياسية في العام 2000 بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين، كانت الحركة عرضة للقمع السياسي. من وجهة نظر القاعدة، بلغ السجل المتواضع للإسلاميين السنة درجة من التناقض الحاد في مقابل الانجازات المؤثرة لنظرائهم الشيعة في إيران، لبنان، والعراق. وكانت الأهداف الرئيسة لهجمات القاعدة الانتقامية " الدعوة" أو الحركات المجتمعية ( الطائفية) في قلب الشرق الأوسط، المتمثلة بالإخوان المسلمين في مصر، الأردن والسودان، ومجموعات مشابهة في لبنان، تونس، المغرب واليمن. وقد طورت هذه الحركات شبكات اجتماعية- سياسية ذات جاذبية عامة، ولذا فقد كان لديها إمكانية إحداث تغييرات في روح الإسلام والضغط لأجل خلق نموذج مجتمعي. في كل الأحوال، ومن وجهة نظر القاعدة، فقد خاب أملهم حيث أنهم سعوا للاندماج بنظام فاسد ومهرطق. فضلاً عن ذلك، فإن الحركات الإسلامية التي تبنت العنف السياسي بالفعل، كمنظمة الجهاد والجماعة الإسلامية في مصر، الإخوان المسلمين في مصر وجبهة الخلاص الإسلامي في الجزائر، قد تم التغلب عليها على يد القوى الأمنية القوية التابعة للدولة الحديثة وناضلت لأجل البقاء، كونها عرضة لانشقاقات داخلية. وفي حين لم تتضاءل الحماسة للجهاد وتم تبنيها، بحماسة، من قبل الجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين، فإن هذا الأمر لم يكن مدعاة لراحة كبيرة بالنسبة للقاعدة، التي اعتبرت بأن تلك الحركات تقاتل لطرد المحتل الكافر من أرضها، في الوقت الذي يتواجد فيه الشيطان الأكبر في الأنظمة المحلية. استرشاداً بهذا المنظور المتعلق بالضعف السني، اختصت القاعدة حركات " الدعوة" في الشرق الأوسط، خاصة الإخوان المسلمين، لتكون هدفاً أولياً للجدلية والهجوم، وذلك لتعريتهم من بنيتهم التحتية المالية والبشرية لصالح " الجهاد" المرتكز على العنف. أما المحرض المركزي على هذا الجدلية فكان أيمن الظواهري ( مواليد 1951)، اليد اليمنى لأسامة بن لادن. فبسبب تأثره بالهزيمة العربية على يد إسرائيل في العام 1967، انضم الظواهري، المصري الولادة والفيزيائي عن طريق التدريب، إلى الإخوان المسلمين عندما كان شاباً. ومع نهاية السبعينات، أصبح الظواهري متطرفاً. لقد كان أحد قادة حركة الجهاد المصرية، التي برز منها قتلة الرئيس السادات في العام 1981، وسجن مع عدد من أصدقائه لتهريبه السلاح. وبعد إطلاق سراحه في العام 1984، انتقل الظواهري إلى ساحة أخرى، واعدة أكثر – أفغانستان- خلال فترة القمع التي مرت بها الحركة على امتداد الثمانينات على يد نظام مبارك. وانضم الظواهري ومناصريه إلى حركة المقاومة ضد الاحتلال السوفياتي ( كجزء من ظاهرة " الأفغان العرب"). وقد التقى ببن لادن للمرة الأولى في أفغانستان في العام 1986، وبعد عامين أصبح منخرطاً في تشكيلة القاعدة. وتدريجياً، أصبح الظواهري يرى في القاعدة قناة نشاط بديلة، وأكثر فاعلية، في ضوء انهيار الحركات الراديكالية في مصر، والتي أعلن بعض أفرادها لاحقاً عن استعدادهم لهدنة أحادية والرغبة بالاندماج بالحياة السياسية. جاءت المرحلة الأخيرة في تشكيل القاعدة في شباط 1998، مع التأسيس الرسمي للجبهة الإسلامية الدولية للجهاد ضد اليهود والصليبيين، والتي كان لديها عدد من الجماعات الإسلامية المنضوية تحت رعايتها، بما فيها تنظيمين مصريين – منظمة الجهاد، برئاسة الظواهري، والجماعة الإسلامية برئاسة رفاعي أحمد طه. ونتيجة لروابطه الوثيقة مع بن لادن، الموصوفة بعلاقة " الجسد والروح"، تم تعيين الظواهري أيضاً قائداً عسكرياً للجبهة، التي كانت مكرسة للنضال ضد نظام عالمي جديد بقيادة الولايات المتحدة، عقب انهيار الشيوعية والكتلة الشرقية. وكانت السيرة الذاتية السياسية للظواهري نمطية وعبارة عن سلسلة واسعة من الإسلاميين السنة – مصريين وآخرين – ممن بدؤوا ملحمتهم في صفوف الإخوان المسلمين، والذين انتقلوا إلى الكفاح والعنف ضمن جماعات راديكالية محلية ليجدوا في نهاية المطاف مكاناً لهم تحت مظلة القاعدة العالمية.
محاكمة الإخوان المسلمين تعزز الأساس الإيديولوجي لجدلية القاعدة المعادية للإخوان المسلمين بمقالة الظواهري ، "الحصاد المر"، التي نشرت، بحسب الظاهر، في أواخر الثمانينات أو أوائل التسعينات، في زمن وسعت فيه القاعدة من دوامة نشاطاتها عقب طرد القوات السوفياتية من أفغانستان في العام 1989. وحتى في هذه الحال، كانت القاعدة تخفي شعوراً عميقاً بالإحباط من دخول القوات الأميركية إلى السعودية، موقع أقدس الأماكن الإسلامية، عقب أزمة الخليج في 1990-1991. وفي ذلك الحين، كانت منظمة القاعدة ضعيفة بنيوياً وكانت أهداف نضالها متواضعة نسبياً والمعبر عنها غالباً بالعنف المفرط ضد "الجاهلية الجديدة" المتمثلة بالأنظمة العربية المحلية التي تجاهلت الشريعة واعتمدت على إيديولوجيات أجنبية. هذا الهدف كان بوحي من التفكير الثوري لأبي مصعب المودودي (توفي في 1979) في باكستان وسيد قطب ( توفي في 1966) في مصر. وتم إفراد بؤرتين جيوسياسيتين كأهداف مفضلة لنزع منهجي للشرعية: مصر والسعودية، اللتان اعتبرتا كنقطتيْ بداية للديناميكية الثورية في الشرق الأوسط. تناولت مقالة الظواهري بشكل مكثف، وحتى بهوس، مسألة إعادة تعريف الفصل بين " عالم الإيمان" و" عالم البدع" في حقبة العولمة والحدود الثقافية الضبابية، إضافة إلى ما يتعلق بترسيخ السيادة الحصرية لله ( التوحيد) في المجالين السياسي والتشريعين بصفتهما أعمدة الإيمان ( أصول الإيمان). " فالشرك بالله،هو أخطر فساد على وجه الأرض... إن نداءنا هو الدعوة لعبادة الخالق فقط، من دون الشرك به بأي شيء مهما كان عنصر الشرك هذا، بشري أم جماد". وكانت مقالة الظواهري إحدى المساهمات الرئيسة بالنسبة للقاعدة. وقد عملت أيضاً كمصدر وحي والهام للمدافعين الشباب، بمن فيهم الزعيم الراحل للقاعدة في العراق أبو مصعب الزرقاوي، الذي قتل على يد القوات الأميركية في العام 2006. وفي رسالة له إلى الظواهري وبن لادن، نعت الزرقاوي الإخوان المسلمين بـ " الكاذبين" و" المنافقين"، وبأنه ينبغي التعامل معهم على قاعدة الشك، حيث أنهم أضعفوا المسلمين المؤمنين عن طريق الحط من قيمة " الجهاد" وتغييرهم، على نحو متكرر، مفهومهم الديني رداً على الظروف السياسية. فضلاً عن ذلك، وفرت مقالة الظواهري جبهة جدلية للقاعدة في مقابل باقي الجماعات عبر الطيف الإسلامي؛ كما استخدمتها المنظمة أيضاً لدعم مكانتها واكتساب الشرعية والمناصرين. بالواقع، لقد اكتسبت المقالة، المنشورة بطبعات مختلفة ( آخرها في العام 2005)، مكانة محترمة في مكتبة الشريعة للقاعدة عن طريق مهاجمة استراتيجية " الدعوة" التدريجية، التي نافست جهودها الخاصة في خلق قاعدة إسلامية في قلب العالم الإسلامي. وعلى عكس ما هو معتقد على نحو شائع، يعرض هذا الأمر إلى أن بروز القاعدة لم يتنبأ بتحول حاد من " الجهاد" الداخلي إلى "الجهاد" العالمي ضد الولايات المتحدة و" الصليبيين الجدد"، كما قد يستدل على ذلك من هجمات 11 أيلول 2001. فظهور القاعدة لم يلغ، ولا بأي حال من الأحوال، الوجود المستقل للمجموعات التي تضامنت لتشكل معاً " الجبهة الإسلامية الدولية". بالأحرى، لقد شكلت، وبشكل أكبر، منظمة جامعة ذات أجندة شاملة طورت " الجهاد" العالمي من دون نوع الشرعية عن أهمية الجهاد الداخلي والإقليمي، تحديداً في الشرق الأوسط، مهد الحضارة الإسلامية. أما خلفيات السير الذاتية لزعماء القاعدة، الذي عملوا في سياق إرهابي بلدان كالسعودية، مصر واليمن، فقد ساهمت أيضاً بالمفهوم الخاطئ الثابت عن قلب الشرق الأوسط. وقد أعلن الظواهري نفسه في العام 2001 عن أن النضال ضد التحالف الصليبي- اليهودي لن ينجح طالما أنه يفتقر لقاعدة إسلامية في الشرق الأوسط. برغم واقع كونها عنصراً ايديولوجياً وتاريخياً هاماً في تطور ونشوء القاعدة، لم تجتذب مقالة "الحصاد المر" أي دراسة منهجية لها في أدبيات البحث يتخطى الذكر العابر لهجومها اللاذع على الإخوان المسلمين، إلى جانب ترجمات لبعض الأجزاء منها. لقد كانت مزاعم الظواهري ضد الإخوان قاسية بالفعل، وكانت متجسدة في العنوان نفسه، " الحصاد المر"، الذي حافظ الظواهري فيه على حصاد فترة امتدت 60 عاماً أو أكثر. لقد عرض دوافعه لكتابة المقالة في البداية، كما فعل في كتابات أخرى ذات صلة. فالإخوان المسلمون، أكبر حركة إسلامية في الزمن الحديث، وأول حركة تتأصل في العالم العربي، انتشرت في مواقع جغرافية مختلفة، ونجت وبقيت برغم الصعوبات والعوائق التي وضعت أمامها. مع ذلك، ومن وجهة نظر الظواهري، هذا لا يخفي الحقيقة المؤلمة من أن الإخوان في الشرق الأوسط العربي كانوا يرتكبون الانتحار الإيديولوجي والسياسي بسبب استعدادهم للمساومة على مبادئ الإسلام لأجل تفاهم وتتعايش متبادل مع أنظمة مهرطقة، وأحياناً الاندماج بالمؤسسات الرسمية التابعة لتلك الأنظمة. وأن الحكم على هذه الأعمال لا ينبغي أن يكون أقل قسوة من ذاك الذي للخونة والفاسدين، بما أنهم يحولون الإسلام إلى خدعة ويقومون بتزويره. وقد رأى الظواهري بأن مهمته هي التحذير منهم وكشف وجههم الحقيقي بصفتهم " أهل الكذب والباطل". لم تكن الإدارة المخزية لقيادة الإخوان المجال التاريخي الوحيد الذي أكد عليه الظواهري، وإنما عكس واقعاً معاصراً أيضاً كان له تأثير مدمر على الجيل الأصغر سناً. فبحسب كلماته، " يثير الإخوان حماسة المسلمين الشباب لأجل تجنيدهم بخدمتهم، لكنهم بعد ذلك يقومون بتجميد هذه الحماسة. وبدلاً من تكريس أنفسهم للجهاد الذي يستهدف الطغاة، فإنهم يعقدون الجمعيات السياسية ويشاركون في الانتخابات". وقد أدى الثقل المصري المؤلم والمرير في سيرة الظواهري – التنافس الشخصي والتنظيمي مع الإخوان المسلمين في مصر، والقمع المنهجي من قبل النظام – إلى تركيز انتقاده على أرض النيل. في كل الأحوال، وكما أشار هو نفسه، فقد كانت اتهاماته قابلة للتطبيق على فروع أخرى للإخوان وعلى حركات مشابهة في الشرق الأوسط العربي، كالكويت، الأردن، اليمن، السودان، تونس، والجزائر. قبل تقديم مناقشته، طرح الظواهري نظاماً دينياً وشرعياً، محدداً المعايير المثالية للإدارة بالنسبة للمؤمنين المسلمين، مقسماً القواعد إلى ثلاث مجالات مترابطة: عواقب عدم تطبيق الشريعة؛ الديمقراطية كمفهوم أجنبي غريب عن الإسلام؛ آثار مساعدة أو تأييد المرتدين. وعلى أساس هذه القاعدة، المعتمدة بشدة على النصوص المقدسة ( القرآن والسنة) وعلى الأدبيات الأولى والمتأخرة، سعى الظواهري إلى تحديد شدة وخطورة انحراف الإخوان المسلمين عن الصراط المستقيم. هذا الفصل من المقالة ثنائي التفرع ومانوياً ( Manichean)، فلا يترك مناطق رمادية. في المقاربة التي اعتمدها الظواهري، يعتبر استبدال الشريعة برمز قانوني آخر، أو بتركيبة ما بينهما، هو أمر يعادل البدعة والسخرية من الله. إذ قيل بأن الديمقراطية، التي كانت تعتبر بمثابة عبادة وثنية و" ديناً جديداً" في الواقع، هي استبدال لحكم الله بحكم الناس وخلق فوضى أخلاقية بظل ورعاية قوانين وضعية. فضلاً عن ذلك، فقد شكل التسامح والتساهل مع المرتدين ضمن المجتمع الإسلامي تهديداً أعظم مما كان يشكله المهرطقون من غير المسلمين، بسبب قربهم من الإسلام. لقد جعل التسامح الانقسام بين " أصحاب الإيمان" و " أصحاب البدع" ضبابياً، انقسام هو بمثابة" رئة الحياة" للإسلام. وكان القصد من نقاش الظواهري المفصل والحاسم لهذه القضايا هو إعادة هيكلة الخطاب الإسلامي والتأكيد، من وجهة نظر إسلامية صحيحة، بأن السياسة لا تشكل قضية ثانوية خاضعة للتعليق، المساومة والجدل القانوني، وإنما هي أصل الإيمان. فقد كان الدور الحتمي للسياسة هو تحقيق وتفعيل سلطة وحكم الله على الأرض، بحيث أن الله وحده هو الذي يُعبد ويُصان. كان هذا أيضاً الحد الفاصل بين حركات كالإخوان المسلمين ومسلمين مؤمنين ومتحمسين للإسلام. في عنوان عريض واضح لما هو مسموح أو ممنوع من وجهة النظر الدينية والشرعية – خطوط عريضة مشبعة بمصطلحات ثقيلة مثل الشرك، الكفر، الرِّدة – قدم الظواهري معياراً قياسياً لتدوين الانحراف الديني للإخوان. ولم يكن جمهوره المستهدف مؤلفاً، بالضرورة، من مؤمنين نمطيين. لقد استهدف برسالته أولاً وقبل كل شيء الناشطين الشباب الذين كانوا معرضين لجو طنان ومتورم من المساومة والسلبية حاول قادتهم الأكبر سناً المنهكين جسدياً وذهنياً فرضه عليهم. وكانت مهمة الظواهري نزع قناع الرياء والنفاق عن هذه القيادة وكشف فراغها الإيديولوجي والسياسي للشباب في الإخوان المسلمين. هؤلاء الشباب كان يعتبرهم الظواهري جيل المستقبل، المجندون لأجل التغيير، الذين سيسرِّعون الخلاص الذي طال انتظاره، اعتماداً على الآية القرآنية: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ( السورة 13:11). في كل الأحوال، كان ينبغي أولاً تعزيز وعيهم الديني والحقيقة المؤلمة بشأن حركتهم المكشوفة ( الإخوان). عندها فقط يمكنهم أن يصبحوا جنوداً في خدمة الجهاد – ما يعني، التعبير عن الولاء للتيار الراديكالي والانضمام إليه. سعى الظواهري لترويج مشروعه التعليمي واستعادة وعي الإخوان الشباب عن طريق تعريضهم لمسح تاريخي للإخوان المسلمين في مصر منذ تشكيل الحركة في العام 1928 وحتى نهاية القرن العشرين. لقد تم تنفيذه من خلال أبعاد مكثفة لقضايا أساسية من نوع استخدام القوة، العلمانية، وتنفيذ الشريعة. وكان هدف هذا التحليل التاريخي الدقيق هو الإثبات بالأدلة اتهامات الكاتب المعادية للإخوان عن طريق الكشف عن طبقات تاريخية متتالية شكلت، وبالكامل، عن الانحراف والتفاهة والذي كان هدفها الوحيد زيادة رأسمال الحركة السياسي والمادي، حتى على حساب التعامل مع الضربة المميتة للإيمان. وحدد الظواهري دوره في هذا المسح التاريخي للإخوان بأنه موثق ومزود بالمعلومات، وبالتالي، فإنه استشهد بمواد نشرها الناطقون باسم الإخوان واقتبس من كتابات قادتهم وناشطيهم، ساعياً بالتالي لاكتساب المصداقية لاتهاماته ضد الحركة. كانت الفترة التاريخية الأساسية في حملة الظواهري لنزع الشرعية عن الإخوان هي الحقبة التشكيلية للحركة في مصر في الثلاثينات والأربعينات. ظاهرياً، قد يكون الظواهري قد قيد نفسه بحقبة ما بعد الثورة للسادات ومبارك الممتدة من السبعينات إلى ما بعدها، والتي تميزت بإلقاء الضوء على نشاط الدعوة للإخوان، وبالتالي على ذروة انحرافهم الإيديولوجي والسياسي، على الأقل من وجهة نظره هو. وكانت الأمثلة مع ذلك هي اعتراف الإخوان بنظام تعدد الأحزاب، تحالفهم مع أحزاب غير إسلامية ( حزبيْ الوفد والعمال)، المشاركة في انتخابات عامة، وتجنيد مقاعد برلمانية. وأدرك الظواهري قدرته على جمع رأسمال سياسي من تاريخ الإخوان الأخير، لكن طموحه كان تجسيد جدليته أكثر. لقد كان بحاجة إلى عمق تاريخي في دراسته لبدع الإخوان السياسية ومساومتهم مع النظام المصري المنحرف. وكلما غاص في التاريخ أكثر، كلما أصبحت صورة الإخوان باهتة أكثر. لم تكن مهمة الظواهري بسيطة، لأنه ركز على فترة من التألق عندما كانت إيديولوجية وسياسة الإخوان متطورة جداً، مع لعب الحركة لدور فعال في النضال ضد الاستعمار البريطاني وفي النضال ضد الصهيونية في فلسطين. لقد حدث ذلك كله بظل قيادة مؤسس حركة الإخوان المسلمين صاحب الشخصية الكاريزمية حسن البنا ( توفي في 1949)، وهو مجدد ومرشد ديني بالنسبة لدوائر إسلامية مختلفة، بما في ذلك راديكاليين انجروا إلى إرثه وتبنوه لتبرير نشاط قوي وفي نهاية المطاف مهاجمة خلفائه لتراجعهم. فضلاً عن ذلك، إن الحركات الإسلامية التي قدست روح الجهاد وضحت عن طريق صيغة " الانتحاري"، كحركتيٍ الجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين، احتفظت للبنا بمكانة شرف بسبب تصوره لموضوع " سنة الموت" التي تعطي الحياة بريقاً في هذا العالم وسروراً أبدياً في الآخرة. وقد تطلبت الفترة التشكيلية بالتالي هالة من القداسة في علم التأريخ للإخوان في مصر. مع ذلك فقد ظل الظواهري، المخلص لعقليته الثورية، ثابتاً لا ينثني وانطلق في طريقه لتهشيم هذه الأيقونة التاريخية الراسخة، ومعها تهشيم صورة البنا.
تحطيم صورة حسن البنا في مراجعته التاريخية لقيادة حسن البنا، أجرى الظواهري دراسة لمحورين أساسيين في إدارة الإخوان المسلمين بما يتعلق بالحياة السياسية المصرية في الثلاثينات والأربعينات – علاقاتهم مع البلاط الملكي، وعلاقاتهم مع حزب الوفد. وتجاهل الظواهري هذين اللاعبين السياسيين بصفتهما هرطقة بديهية من كل الجوانب، كما رفضهما كحاكمين بمقتضى دستور علماني، حيث أن أي شخص محتفظ باتصالات معهما كان يعتبر آثماً بسبب ارتباطه بهما، وبذلك لم يكن لينال أي تعاطف. بالنسبة للبلاط الملكي، أشار الكاتب إلى أن حركة الإخوان بظل زعامة البنا كانت ساذجة في علاقتها مع فاروق، بتتويجه كـ " مثال أعلى" و" حامي للقرآن" في منشوراتهم العامة. لقد اعتبروه بمثابة حجر الزاوية في النظام الإسلامي، ودعموه في ادعائه كرسي الخلافة، والحوا عليه في مسألة تعزيز السمة الدينية للدولة المصرية، برغم سلوكه الفاجر الذي برهن عنه في حياته الخاصة، وهو أمر كان معروفاً على المستوى العام. كما قام الإخوان بتمجيد اسم فاروق خلال حرب فلسطين في العام 1948، برغم فساده وتورطه بالرشوة في صفقة أسلحة تالفة ( ما يعني، إمدادات الأسلحة المعطوبة من قبل البريطانيين للجيش المصري، التي كانت السبب الرئيس بهزيمة المصريين بحسب ما زعم). وبالتالي، وحسب رواية الظواهري، لقد حول البنا الإخوان إلى " جنود في خدمة ملك مهرطق". أما الأصوات المحتجة داخل الحركة ( حركة الإخوان) ضد هذا الموقف الاسترضائي والمتملق تجاه البلاط الملكي فقد تم إسكاتها من قبل البنا ونظرائه، الذين وصفوا هؤلاء بأنهم أصوات صادرة عن " أقلية هامشية" في صفوف الحركة. كما قلل الإخوان من المقاربة الاسترضائية التصالحية تجاه حزب الوفد الحاكم عن طريق السماح لأعضائهم بخوض انتخابات برلمانية، برغم الممارسات الانتخابية الاحتيالية لحزب الوفد ومناوراته للتصدي للمرشحين الإخوان، خاصة البنا. وأشار الظواهري إلى أن البنا كان قد أعطى بالفعل مباركته للاتفاق الأنكلو- مصري في العام 1936، الذي شرعن في الواقع الوجود البريطاني في مصر، وتراجع عن العمل على إضعاف هذا الوجود حتى عندما انشغل الإنكليز بالجهود الحربية إبان الحرب العالمية الثانية. وبالتالي فإن الإخوان انتهكوا مبدأ الإخلاص والولاء المطلق لله، الذي ينبغي تفعيله بالقوة من خلال الجهاد وحرب إبادة. وكانت هذه القوة متوفرة للإخوان في شكل جناح مسلح سري ومخزون السلاح. مع ذلك، وكما وصف عبد السلام فرج، كبير الإيديولوجيين في حركة الجهاد في أواخر السبعينات، كانت هذه الأمور تستهدف العدو " البعيد" ( البريطانيين والصهاينة)، ولم تكن تستهدف أبداً العدو " القريب" ( النظام المصري). وبحسب الظواهري، فقد كان الإخوان مستعدين ومتحمسين في الواقع لإطلاق أجهزتهم السرية ضد شخصيات ومؤسسات مصرية، لكن البنا نفسه تصدى لهذه المبادرة ، رافضاً الشرعية الدينية للعنف السياسي. وفي رد فعل على جريمتي قتل القاضي خانزادهر ورئيس الوزراء فهمي النقراشي في العام 1948، نشر البنا آراءً يحذر فيها من استخدام العنف، قائلاً بأن المرتكبين ليسوا جزءاً من الإخوان ولا هم مسلمين حقيقيين، ولا يستحقون شرف حمل الجنسية المصرية. وبحسب الظواهري، فقد كان سلوك البنا هذا في صالح النظام حيث انه ساعد على سحب الاعترافات من السجناء، مما أدى إلى شعور الأعضاء الشباب في الحركة بالصدمة. أما البنا نفسه، الذي انتقد العنف ككل، فقد قتله عملاء الاستخبارات التابعة للحكومة في شباط 1949- درس مميت لم يستوعبه الذين خلفوا البنا أبداً، بحسب ما أشار الظواهري ساخراً. لم يتوقف الظواهري عند إدانة أوجه القصور لدى البنا كسياسي الذي بشر بإيديولوجية متخاذلة قادت مناصريه إلى الضلال. لقد تابع طريقه في تحطيم أساطير أخرى فيما يخص التاريخ التشكيلي للإخوان المسلمين، على سبيل المثال الأسطورة المتعلقة بمشاركة الحركة في حرب فلسطين عام 1948 أو بالمعارك ضد الإنكليز في قناة السويس في العام 1051. فبقصد منع قيادة الإخوان المسلمين في زمننا اليوم من إضفاء أفق إيجابي على ماضي الحركة، انتقد الظواهري هذه الأساطير من دون شفقة ولا رحمة. إذ قال بأن الإخوان لم يكونوا العنصر الوحيد المشارك في حرب فلسطين. فالتجنيد للحرب كان منتشراً، شاملاً الأحزاب السياسية، الأفراد والتنظيمات التطوعية. إضافة لذلك، كان الإخوان المسلمين تحت قيادة الجيش المصري، الذي كان هو نفسه تحت إشراف الإنكليز. أما الناشطون الإخوان الذين قتلوا في معركة وقدموا حياتهم لأجل غاية مقدسة فإن نصيبهم الجنة بالتأكيد، قال الظواهري. في كل الأحوال، لم تحسِّن شهادة أفراد كهؤلاء من الصورة السلبية للحركة. فمن وجهة نظره، كان الفصل الفلسطيني، مع ذلك، مؤشراً آخر على السذاجة السياسية للإخوان. فرغم أن المكائد الداخلية ومؤامرات القادة المصريين والعرب قد قادت إلى هزيمة 1948 الحارقة، فقد اختارت الحركة التعاون معهم بدلاً من المطالبة بالمحاسبة. فاليهود، بحسب ما أشار الظواهري ساخراً، كانوا لا زالوا في فلسطين، ولم يرفع الإخوان إصبعاً لطردهم من هناك بعد العام 1948. أما بما يتعلق بالحرب المناهضة للإنكليز في قناة السويس في العام 1951، فقد أشار الظواهري إلى أن حسن الحديبي، خلف حسن البنا، وسيد الإذعان السياسي، كان معارضاً بشدة لها. وكان وجود للناشطين الإخوان في منطقة القنال نتيجة لما اعتبره الظواهري مبادرة فردية تستحق الثناء، ولم تكن تعكس موقفاً رسمياً لقيادة الحركة، المشبوه غالب الأحيان. باختصار، لقد كان الجهاد ضد العدو الخارجي أمر غير هام بأساسه، ما شكل ورقة تين القصد منها تغطية قيادة مترددة تفتقر للمعرفة الدينية، متجاهلة، على نحو متكرر، الوصية الأساسية: " النهي عن المنكر". إبان فترتها التشكيلية، قال الظواهري مؤكداً، بأن قيادة الإخوان المسلمين البائسة، وحتى الخائنة، كانت نتيجة طبيعية لتسوية مع النظام الموجود. فقد اعتمدت على نظام تمثيلي له دستور وانتخابات وبرلمان، الأمر الذي لم يقدمه البنا على أنه لا يتعارض مع الإسلام فحسب، بل اًقدمه حتى بصفته نموذجاً للحكومة الأقرب إلى الإسلام. أما واقع إعلان البنا بأن فصولاً معيناً من دستور 1923 بحاجة للتوضيح وبأن بعضها بحاجة للتطوير لحماية المبادئ الإسلامية بشكل أفضل، فهذا لم يكن ليبرئه. فوجود الدستور الوضعي نفسه جسد روح الإنكار لسيادة وحكم الله وللسلطة الحصرية للشريعة. وشكل كل هذا، مع البراءة المطلقة من مسألة استخدام القوة، الإرث الذي تركه البنا لخلفائه. وبالتالي، فإن ما يدعيه السنة الراديكاليون من أن السلوك الإصلاحي للإخوان كان انحرافاً عن المبادئ التوجيهية للبنا لا أساس فعلي أو تاريخي له. فالبنا نفسه، بحسب ما حدد الظواهري، كان مصدر الانحرافات التي التصقت ببعض أتباعه، كحسن الحديبي، عمر التلميساني وحميد أبو التصر. كالبنا، تخلى هؤلاء الذين خلفوه أيضاً، عن مبدأ الجهاد والتزموا فقط بالوعظ والارشاد في وجه القوى الطاغية.وإتباعاً منهم لخطوات زعيمهم الموقر، استمر هؤلاء بتقديس الدستور المصري، الذي حل محل السلطة الإلهية في السيادة على الناس، في الوقت الذي احتفظوا فيه بالدين كأداة سياسية واستخدم الملك الإخوان كوسيلة وأداة لمهاجمة حزب الوفد. كما استخدمهم جمال عبد الناصر لتوسيع قاعدته الشعبية الداعمة في ثورة تموز 1952، لكن ما أن استقر وضعه حتى قام بحظر الحركة ( في 1954). وجند السادات الإخوان لضرب الناصريين واليسار. أما مبارك فقد استغلهم لكبت التوجه الجهادي ولتلويث سمعة أتباعهم بصفتهم مهرطقين وخارج حدود الإجماع العام. وبسبب إدارتهم البائسة، تسبب الإخوان بتراجع الحركة الإسلامية وشرذمة صفوفها، بحسب استنتاج الظواهري. وقد أثبت سجلهم التاريخي ما لا يحتاج إلى برهان، تحديداً أن: الحوار والتنازلات في مقابل قوى استبدادية لا يزيد انتصار الإيمان والعقيدة ولا يصلح النظام العالمي". مع ذلك، هل كان هناك نقاطاً مضيئة في التاريخ الطويل الملوث للإخوان المسلمين في مصر؟ كانت إجابة الظواهري إيجابية، برغم أنها محدودة ومتجسدة بشخص سيد قطب، " المشبع إيماناً وطهراً"، الذي استعرض موقفاً ثابتاً من النظام الناصري المهرطق وتم إعدامه بسبب معتقداته في العام 1966. في كل الأحوال، وبدلاً من الحزن على خسارته والثأر لموته، سعى زعيم الإخوان في ذلك الحين، حسن الحديبي، إلى وضع حد للجدل حول العنف ضد الدولة لصالح شعار " دعاة لا قضاة"، الذي كان أيضاً عنوان الكتاب الذي نشره في أواخر الستينات. ولم يمثل سيد قطب الضوء الوحيد فقط في إرث الإخوان، وإنما مثل الرابط الثالث والأخير في السلالة الإيديويلوجية للظواهري وراديكاليين آخرين تضمنتهم القاعدة. وكان المبدع الأول ابن تيمية ( توفي في العام 1328)، عالم الدين الذي عاش في القرون الوسطى والذي قدس الحق بالثورة ضد الحكام المسلمين بالإسم فقط. أما المبدع الثاني فكان محمد ابن عبد الوهاب ( توفي في العام 1817)، والذي أسس الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية نهاية القرن الثامن عشر، الذي دافع عن عقيدة التوحيد. واستكمل قطب هذه القائمة الحصرية بانتقاده الشديد لعقيدة " الجاهلية الجديدة"، التي لطخت المجتمع الإسلامي الحديث. بالمقابل، كانت فلسفة البنا لا يمكن مسها ونجسة لأنها كانت تعتبر بغيضة ولذا فلا يمكن لها أن تعمل كمصدر إلهام أو تقليد للسنة العصريين الذين سعوا إلى إحداث تغيير شامل في المحيطين العربي والإسلامي. فهل عفا الزمن على الإخوان وأصبحوا ميؤوساً منهم؟ ليس بالضرورة، بحسب اعتراف الظواهري، لكن مطالباته لهم مرتفعة السقف. فالشرط البديهي لعودتهم إلى الحظيرة الإسلامية يشتمل على التوبة والانفصال التام عن الأنظمة الموجودة، حيث أنها تصنف جميعاً في خانة عبادة الأصنام.
الظواهري والمنتقدين له أصبحت مقالة الظواهري الجدلية " الحصاد المر" التي لطخت، من دون أي خجل، صورة البنا التاريخية ومكانته الرفيعة في سلالة الإسلام الحديث، جزءاً لا يتجزأ من خطاب القاعدة. لقد أثارت جدلية حادة مساوية صادرة عن الإخوان المسلمين، وأغضبت دوائر سنية أخرى أكثر راديكالية كان البنا مرشدها الروحي ونموذجاً يستحق التقليد. رفض الإخوان، تحديداً في مصر، مقالة الظواهري جملة وتفصيلاً بصفتها مشوهة ومثيرة للنزاع والشقاق بين المؤمنين. وفي نفس الوقت، حددوا تأثير " الدعوة" – الوعظ والإرشاد، التثقيف والإقناع – على أنها وحدها بإمكانها توسيع تأثير الإسلام، خاصة عبر المجتمعات الإسلامية في أوروبا والولايات المتحدة. وكانت " الدعوة" أيضاً المفتاح والأساس بالنسبة لمرونة الإخوان وبقائهم المطول، وبالتالي مؤشر إضافي على هامشية أخصامهم. فالدفاع الذي قامت به الحركة أبرز قائدها التاريخي البنا على أنه شخصية بطلة وأسطورية أرست أسس الإحياء الإسلامي واستشهد لاحقاً. وهناك تاريخان احتفاليان يخدمان أكثر مسألة تقديم الإجلال والاحترام للبنا وبالتالي تعزيز مركزية الإخوان المسلمين في الخطاب الإسلامي الحديث: الذكرى المئوية لولادته ( 2006) والذكرى الستين لمقتله ( 2009)، وتميزت المناسبتان بمقالات ومؤتمرات تكريماً له. أما الناطقون باسم دوائر سنية أخرى، بما في ذلك أخصام الإخوان، فقد ظلوا على قولهم بأن مقالة الظواهري ركزت، حصرياً، على الجوانب السلبية لتاريخ الإخوان الطويل، في حين تجاهلت الجوانب الإيجابية. اندمج الانتقاد السني لقذف وتشهير الظواهري بالإخوان مع نقد عام للقاعدة، خصم سياسي جديد ومتحدِ في الساحة الإسلامية. فقد اتهم الإصلاحيون والراديكاليون، على حد سواء، القاعدة بتلطيخ إسم الإسلام في نظر الخارج، الذين صنفوه كدين تطرف وقتل عشوائي، ما عرَّض المجتمعات الإسلامية في الغرب إلى أعمال عدائية وقيود وأضعف قدرة الإيمان على مواجهة تحديات الحداثة. ورداً على منتقديه، نشر الظواهري مذكرات في العام 2001، بعنوان " فرسان تحت راية النبي"، برعاية رسمية من القاعدة وأعضائها الإيديولوجيين. واعترف الظواهري فيها بأن مقالته "الحصاد المر" ليست معفية من النقد، وبأنه كان عليه تبديل بعض المقاطع أو تلطيفها، مثل قضية مشاركة الإخوان المسلمين في حرب فلسطين 1948. في كل الأحوال، لقد كرر زعمه الأساسي، حتى بعد مرور عقد ونصف على نشره الكتاب، بأن الإخوان لا زالوا يرتكبون خطايا مميتة سيحاسبهم الله والمؤمنون الحقيقيون عليها. فبالجوهر، لقد كانوا يحدثون " فقهاً جديداً" غريباً عن الإسلام، شرَّعوا الأنظمة المهرطقة واعترفوا بتساوي مكانة غير المسلمين بالمسلمين بكل ما يتعلق بالحقوق المدنية والسياسية. وكان هذا الأمر واضحاً في مصر تحديداً، التي عرَّفها الظواهري على أنها قلب العالم الإسلامي، وبالتالي البلد الحاسم للدفع قدماً بأية تغييرات أساسية في المنطقة. وفي مقالة أخرى، ظهرت في العام 1999 على موقع الكتروني رئيس للقاعدة، بعنوان " مصر المسلمة بين سياط الجلادين وعمالة الخائنين"، وضع الظواهري قائمة بجرائم النظام المصري بالتفصيل: اجتثاث الإسلام من الميادين العامة؛ إفساد الأخلاق والشباب؛ خلق نموذج مزيف من الديمقراطية التمثيلية؛ وأخيراً، مساندة أعداء الإسلام، تحديداً الولايات المتحدة وإسرائيل. وبذلك يكون قد ألقى الضوء على حجم انحراف الإخوان عن الصراط المستقيم، مبرراً بذلك هجوماً أمامياً ضد الحركة. وأكد الظواهري على أنه بدلاً من تبني نموذج القرن السابع للمسلمين الأوائل في شبه الجزيرة العربية، الذين كانوا على استعداد لتحمل الصعوبات الجسدية والمادية لنشر الرسالة الإلهية، فقد اختار الإخوان سبيل الإذعان والمساومة السهل مع أعداء الإيمان والدين. أما بما يتعلق بزعيم الإخوان حسن البنا، فقد وصفه الظواهري بأنه شخصية تاريخية ليست محصنة من النقد، وبأنه ينبغي تقييمه من دون خوف أو محاباة، خاصة بما أن الذين خلفوه قد قاموا بتمجيد إرثه لتبرير انحرافاتهم. وحذر الظواهري في مناشدته المتكررة للإخوان من جيل الشباب – هذه المرة تحت عباءة الجهاد الأممي- من الوقوع أسرى التأكيدات الفارغة لقادتهم. بدلاً من ذلك، لقد أصر عليهم كي يأخذوا المبادرة لتعزيز إحياء الإسلام في مجتمعاتهم، التشبث بالوصايا الثابتة للشريعة، ودعم نظرائهم المجاهدين في كل مكان. فمن وجهة نظره : ينبغي للإخوان المسلمين الشباب أن يدركوا بأن الهجوم الصليبي الجديد لن يكون مسروراً منهم إلا إذا انضموا إلى عقيدة الكفار وبأن كل الحيل السياسية والتهدئة لن تنجح. من الأفضل للشباب المسلم حمل السلاح والدفاع عن دينهم بعزة وكبرياء بدلاً من العيش بذل قي إمبراطورية النظام العالمي الجديد.
ملاحظات ختامية إن تأكيد الظواهري المتكرر في " الحصاد المر" وفي مقالات أخرى على ضرورة الجهاد الداخلي ضد الأنظمة المحلية يشير إلى تعقيدات الاستراتيجية السياسية للقاعدة، التي تتداخل وتتشابك فيها الأفكار والمواضيع الحدودية، الإقليمية والإسلامية. إن تقديم الجهاد العالمي على أنه الحصيلة الكلية لإيديولوجية المنظمة ونشاطها هو بالتالي أمر مضلل. لقد ساهمت الخلفية للسيرة المبكرة لزعيميْ القاعدة المهيمنيْن في هذا التعقيد أيضاً- بن لادن الذي عمل في المجال السعودي، والظواهري في المجال المصري. لقد هدفت جدلية الظواهري ضد الإخوان المسلمين إلى تشريع الجهاد والشهادة – بدلاً من الدعوة- بصفتهما مسار العمل الأجدر بالنسبة للمسلمين. أما النقاط الأساسية في هذه الجدلية فهي مستوعبة ومتشربة في خطاب القاعدة، وذلك بصب صورتها المتمايزة كلاعب إسلامي شرعي يدعي قيادة الإسلام السني. ففي كتابات، وإعلانات وأعمال لها، عرض زعماء القاعدة صورة حازمة جريئة ورائدة للحركة، مكرسة لتسريع نصر المسلمين على " مملكة الشيطان" المنتشرة عالمياً، برئاسة الولايات المتحدة . وباستخدامنا المصطلحات السوسيولوجية لـ " ماكس ويبر"، القاعدة عبارة عن حركة جسدت الأخلاق والغايات النهائية، وحركة متسمة بتطلعات أحادية متصلبة كانت تعتبر محقة. بالانتقال من النص إلى السياق، ومن الرؤية إلى الواقع السياسي، كشفت حاجة القاعدة لإعلان " اختيارها" وتفوقها، بالأساس، عن شعور بالتخلف. وقد انعكس هذا، أولاً، في هدف تحقيق خضوع الولايات المتحدة، أو تدمير النظام العالمي الذي يعمل بظل رعاية الغرب وإشرافه – هدف لا يمكن اعتباره واقعياً، حتى من قبل الناطقين باسم القاعدة. ثانياً، ورغم القوة الهائلة المستعرضة للقاعدة، فإنها لا تشكل منظمة متجانسة أو مركزَّة. بالأحرى، لقد كانت متحولة ومنقسمة، ذات دوائر واسعة ونائية ومستقلة تستمد الإلهام الإيديولوجي من نواتها أكثر مما تستمد السلطة والتوجيه. ثالثاً، وليس بأقلها أهمية، افتقرت القاعدة للبنية التحتية المدنية أو السياسية في المجتمع العربي المسلم الأمر الذي كان يمكن أن يقدم لها عمقاً نوعياً أكبر ويساعدها على إحداث تغييرات على نطاق واسع في النظام السائد. وقد اعترف الناطقون باسم القاعدة بهذا عندما أكدوا على أن العمل الجهادي ينبغي أن يكون مترافقاً مع اندماج مكثف في المجتمع – كسب ولاء الناس وحبهم من خلال الإرشاد، توفير الخدمات التعليمية والرعاية الاجتماعية للمحتاجين، وتجنب الأعمال التي تثير الاشمئزاز والخلاف. وكانت مسألة الحصول على الدعم الشعبي، بحسب ما أعلن الظواهري، أقوى ذخيرة بالنسبة للمجاهدين والمَعْلَم الحاسم لأي نصر أو هزيمة. وعلى عكس القاعدة، هناك بنية مجتمعية مدنية راسخة تطورت على مدى عقود عن طريق حركات الدعوة، تحديداً الإخوان المسلمين، بناء على استراتيجية التدرج، الإقناع، والبراغماتية. هذه القاعدة المدنية تعززت بداية "الربيع العربي" 2011 والمطلب الشعبي بالحريات السياسية، ما أعطى الإخوان مكسباً هاماً على حساب جماعات المعارضة الأخرى في التنظيمات السياسية. وبنوع من إعلان النصر لطريقتهم المتبعة، نعى الإخوان القاعدة كلاعب إسلامي وصل دوره إلى النهاية في مقابل خلفية من الدعم الشعبي والدولي لثورات لاعنفية على امتداد العالم العربي. إن الحد الذي بلغه تبني استراتيجية الدعوة للمساومة والتسوية في المثل الدينية موضوع مناقشة منفصلة. مع ذلك فإن من الواضح بأن الجدلية الجارية التي قامت بها القاعدة ضد الإخوان المسلمين وجماعات مشابهة قد عكست اعترافاً بقوتهم المجتمعية المتفوقة وبأنها محاولة لتسخيرها دعماً لاستراتيجية الجهاد. إن مناشدة الظواهري القوية للإخوان الشباب في الشرق الأوسط العرب إشارة، في الواقع، إلى أن القاعدة بحاجة لهم أكثر مما هم بحاجة لها.
#مائير_هاتينا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
وزيرة داخلية ألمانيا: منفذ هجوم ماغديبورغ له مواقف معادية لل
...
-
استبعاد الدوافع الإسلامية للسعودي مرتكب عملية الدهس في ألمان
...
-
حماس والجهاد الاسلامي تشيدان بالقصف الصاروخي اليمني ضد كيان
...
-
المرجعية الدينية العليا تقوم بمساعدة النازحين السوريين
-
حرس الثورة الاسلامية يفكك خلية تكفيرية بمحافظة كرمانشاه غرب
...
-
ماما جابت بيبي ياولاد تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر
...
-
ماما جابت بيبي..سلي أطفالك استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
سلطات غواتيمالا تقتحم مجمع طائفة يهودية متطرفة وتحرر محتجزين
...
-
قد تعيد كتابة التاريخ المسيحي بأوروبا.. اكتشاف تميمة فضية وم
...
-
مصر.. مفتي الجمهورية يحذر من أزمة أخلاقية عميقة بسبب اختلاط
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|