|
ما الاعتدال وما التطرف في الشأن السوري؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3859 - 2012 / 9 / 23 - 19:52
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تميل المقاربات الخارجية للشأن السوري إلى تصور أن هناك طرفين متصارعين، أحدهما سيء، والآخر سيء أيضا. وليس المقصود بالخارجية هنا غير السورية، بل أية مقاربات انطباعية، تنظر عن بعد أو من عل إلى الصراع السوري، ولا تحيط بغير خطوط عريضة من مقدماته وعملياته ودينيامياته. قد تصف هذه المقاربات الحال في سورية بأنه حرب أهلية، انقسم فيها "الأهل" السوريون إلى أهلين متحاربين، يقتل هؤلاء من أولئك وأولئك من هؤلاء، ويتمثل الحل، تاليا، في وقف الطرفين إطلاق النار وإعادة الأهلين أهلا واحدا، وصون وطنهما الذي يسيئان إليه معا. وهو ما يقتضي تنازلات متبادلة من الطرفين المتحاربين والوصول إلى حل وسط يقع على مسافة متساوية أو متقاربة من مطالب الطرفين. هذا هو الاعتدال. غير ذلك تطرف. لكن في هذا التشخيص الذي يبدو أن السيد الأخضر الإبراهيمي يفكر بالأوضاع السورية على هديه كل الضلال، ولا يمكن للمعالجات التي تبنى عليه أن تكون عادلة أو حتى ممكنة. وإذا تعذر على المقاربات الدولية والعربية أن تثمر أي شيء طوال عام ونصف فلأنها تفكر في الوضع السوري كأزمة سياسية عنيفة، أو كصراع داخلي بين طرفين متكافئين أو يكادان، لا كثورة اجتماعية ضد الطغيان. لا بأس باعتبار الثورة حربا أهلية، لكن فقط بالمعنى الذي تكون فيه جميع الثورات حروبا أهلية، دون أن ينال ذلك من كونها ثورات تواجه أنظمة سياسية واجتماعية ميتة ومميتة، ويتعين تغييرها كي تتدبر هذه المجتمعات مصاعب حياتها. الثورة السوري حرب أهلية بهذا المعنى، صراع بين سوريين، لكن ليس صراعا بين أهلين متساويي الشرعية والعدالة، ولا هي صراع طائفي كما هو مضمر في التداول الشائع لعبارة الحرب الأهلية. ليس هناك طرفان في سورية أكثر مما كان هناك طرفان في مصر أو تونس أو ليبيا، وليس هناك وجه للدفع نحو حل وسط بين الثورة في سورية والنظام الأسدي أكثر مما كان هناك وجه للتسوية في أي من البلدان الثلاثة بين طغاتها المزمنين وبين الثورات عليهم. ليست فكرة تسوية أو حل وسط في مثل هذه الشروط هي الموقف المعتدل والعادل، بل هي الموقف الذي يكافئ القوي المعتدي على عدوانه. وأن لا تتمخض الثورات عن أوضاع ناجزة أفضل من سابقتها، وهو ما لم يحصل في أي مكان من العالم قبلا، لا يغير من الأمر شيئا. الموقف المعتدل في سورية اليوم هو الموقف العادل والإنساني: مساعدة السوريين على التخلص من النظام الأسدي اليوم قبل الغد. أما الموقف المتطرف فهو ذلك الذي يأخذ مسافة متساوية بين القوي المسلح بالطائرات والدبابات والأسلحة الكيميائية والذي لا تكف روسيا وإيران عن تسليحه ودعمه، وبين حركة مقاومة ضعيفة التنظيم والتسليح، تقاتل بالكلاشينكوف، ولا يكاد يتوفر لها الآر بي جي. ولا تكف دول العالم القادرة عن إعلان رفضها تسليحها. ما يقرر الاعتدال والتطرف ليس الانطباع الخارجي، بل تحليل الوضع العياني والإحاطة بالسياق التاريخي والنظر في المضمون الأخلاقي للصراع. ليس هناك حل وسط بين إسرائيل والفلسطينيين في الضفة الغربية، والعدالة والاعتدال معا يقضيان بانسحاب إسرائيلي كامل ونهائي منها، الآن، بل يقضيان بما هو أكثر من ذلك بكثير. لكن النظرة الخارجية التي تناسب إسرائيل وحلفاءها هي أن هذا موقف متطرف، وأن الموقف المعتدل هو أن يتفاوض الطرفان، ويترك الحل لتحدده موازين القوى بينهما. لكن مهلا. متى قبل النظام الأسدي بالتفاوض والتسوية السياسية أصلا؟ متى اعترف بوجود مشكلة وطنية عامة؟ متى أقر بوجود أطراف سياسية غيره في البلد، بما في ذلك تلك التي لا تكف عن التمسح به؟ متى قال إنه مستعد لحل وسط؟ هناك طرف واحد في سورية يرفض جذريا وتكوينيا الحل السياسي وهو النظام. هناك طرف واحد لم يقل أبدا، ولا يقول اليوم، ولا يبدو أنه سيقول يوما: لنجلس على طاولة المفاوضات ونتداول في شؤون وطننا ونوقف هذا النزيف اليومي. وهذا الطرف هو النظام الأسدي. وتطرف هذا النظام بنيوي وأصلي، نابع من كونه في الجذر طرف اجتماعي خاص يحتل الدولة العامة. وعبارة "سورية الأسد"، أي تجيير سورية، بلد الجميع، لأسرة وطرف اجتماعي وسياسي، دلالة على هذا التطرف الخارق. مرة أخرى، الاعتدال ليس الوقوف في المنتصف بين نظام عدواني وبين ضحاياه. هذا موقف لا أخلاقي، وفوق ذلك غير عملي، ويمتنع أن يتأسس عليه حل مستدام. ليس مصادفة أن تتعثر التسوية بين إسرائيل والشعب الفلسطيني. إنها ممتنعة لأن العدل ممتنع، ومن يمنع العدل هو الأقوى الإسرائيلي وحلفاءه الأقوى عالميا. ولن ينجح الإبراهيمي فيما أخفق فيه سابقوه إن كان يبدأ من حيث بدؤوا، ويسعى وراء حل وسط بين السكين والعنق. فإذا كان لا يستطيع أن يقول ما يجب قوله، وهو أن العدل يوجب تخلص السوريين من النظام القاتل، فإن قول شيء آخر هو خطأ ولن يثمر. هذا إن لم يكن تواطؤا مع المجرم. وماذا إذا لم يتحقق العدل بزوال النظام؟ واحد من أمرين: بقاء الأسد، أي العبودية السياسية المضمنة في برنامج "سورية الأسد"، وهي مزيج من الطغيان والفساد والطائفية؛ أو "حرق البلد" إن بدا للأسديين أنه بقاء الأسد ممتنع. أي أن خيارات السوريين تنحصر بين خراب عاجل لبلدهم أو خراب طويل الأمد، إن لم يفرض المبدأ الأخلاقي والوطني البسيط نفسه: التخلص من المجرم الآن. لكن ألا يمثل هذا النظام قطاعا من الشعب السوري، قد يسأل وسيط دولي؟ وبواقعية ربما يضيف أليست "الأقليات" معه؟ ألا تتماهى به أكثرية العلويين؟ عدا أن هذا الوضع لا يتولد من طبيعة الأقليات، وهو ذاته مصنوع ومتعوب عليها سياسيا، فإن النظام الأسدي لا يتوفر على أي حل للمشكلة التي تفاقمت في ظله من أوضاع أقل سوءا بما لا يقاس، كي لا نقول أفضل بكثير. كي لا نقول أيضا إنه لا مسوغ للخوف على الأقليات، بما هي كذلك، أكثر من الخوف على أي كان في سورية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فقدت الحياة القديمة
-
ما يستقيم وما لا يستقيم في معالجة -الأزمة السورية-
-
حوار حول الثورة والمثقف والسجن
-
الثورة السورية إلى أين؟
-
ما قصة روبرت فيسك؟ ماذا يريد؟
-
-الصورة واضحة-: مؤامرة خارجية وإرهاب داخلي!
-
سياستان موضوعيتان وسياسات ذاتية للثورة السورية
-
المسألة السورية والنظام الدولي
-
نظام الإبادة: من الإبادة السياسية والأخلاقية إلى القتل الجما
...
-
بخصوص الثورة السورية والأخلاق
-
في الجذور الاجتماعية والثقافية للفاشية السورية
-
الدولة الظاهرة والدولة الباطنة في سورية
-
حلب
-
حوار حول مشكلة الطائفية وسياسة الأقليات
-
مشاهد سورية الجديدة وملامحها
-
تكوين الثورة وعمليات تشكل سورية الجديدة
-
حقوق الأقليات أم جمهورية المواطنين؟
-
فصل رابع من الصراع السوري
-
على درب القيامة الكبرى في دمشق
-
لماذا، وضد من يثور السوريون؟
المزيد.....
-
المافيا الإيطالية تثير رعبا برسالة رأس حصان مقطوع وبقرة حامل
...
-
مفاوضات -كوب 29- للمناخ في باكو تتواصل وسط احتجاجات لزيادة ت
...
-
إيران ـ -عيادة تجميل اجتماعية- لترهيب الرافضات لقواعد اللباس
...
-
-فص ملح وذاب-.. ازدياد ضحايا الاختفاء المفاجئ في العلاقات
-
موسكو تستنكر تجاهل -اليونيسكو- مقتل الصحفيين الروس والتضييق
...
-
وسائل إعلام أوكرانية: انفجارات في كييف ومقاطعة سومي
-
مباشر: قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في
...
-
كوب 29: اتفاق على تقديم 300 مليار دولار سنويا لتمويل العمل ا
...
-
مئات آلاف الإسرائيليين بالملاجئ والاحتلال ينذر بلدات لبنانية
...
-
انفجارات في كييف وفرنسا تتخذ قرارا يستفز روسيا
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|